أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - العلاقة بين التحضر والتراث الإنسانى















المزيد.....


العلاقة بين التحضر والتراث الإنسانى


طلعت رضوان

الحوار المتمدن-العدد: 4796 - 2015 / 5 / 4 - 23:27
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


العلاقة بين التحضر والتراث الإنسانى
طلعت رضوان
أعتقد أنّ التراث الإنسانى أدى دورًا ملحوظــًا فى ترسيخ قيم العدل والحب بين البشر، بغض النظر عن جنسياتهم وأديانهم ومذاهبهم. والتراث الإنسانى الذى أقصده يشمل الفنون (الفن التشكيلى من رسم ونحت والموسيقى وفن السينما رفيعة المستوى) كما يشمل الأدب وكافة العلوم الإنسانية مثل الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم الأنثروبولوجيا وعلم الآثار وعلم الفولكلور. ويذهب ظنى أنّ هذا التراث الإنسانى ساهم فى ترسيخ قيم (الأخلاق) النبيلة التى تنبذ العنف والتعصب والتطرف والفكر الأحادى، وتبنى قيم التسامح والاعتدال والتعددية.
وعلى سبيل المثال فإنّ قصة حياة هيلين كيلر، درس غاية فى الأهمية عندما حوّلت السينما قصة حياتها إلى فيلم غاية فى الرقى والتحضر، حيث اعتمد السيناريست والمخرج على مذكراتها.
وقصة حياة الأديبة الكبيرة هيلين كيلر (1880- 1968) رمزٌ أصيلٌ للإرادة الإنسانية. تلك الإرادة التى تسعى لتوظيف الطاقة الكامنة داخل ذات الإنسان ، نحو الخير. بينما نجد أنّ كثيرين من البشر (ليست بهم عاهات جسدية تعوق حركتهم) يوظفون طاقاتهم نحو الشر. ومن هنا تتجسّد أهمية قراءة تاريخ مشاهير الفكر الذين قستْ الطبيعة عليهم وحرمتهم من البصر أو السمع أو النطق أو القدرة على السير (الشلل الكامل منذ الطفولة) إلخ . تتلخــّـص الإرادة الإنسانية فى كلمة واحدة (التحدى) سواء تحدى (الإعاقة) الجسدية أو تحدى الظروف الاجتماعية مثلما فعل كثيرون أمثال عميد الثقافة المصرية (طاها حسين) وهيلين كيلر.
هيلين عاشتْ طفولة بائسة بكل معنى الكلمة. إذْ كان قدرها أنْ تـُصاب بالعمى والصمم منذ الثانية من عمرها. وبينما القدر خبـّأ لها هذا المصير المُعتم ، كان والدها يتوسّم لها مستقبلا مُشرقــًا ، واختارتْ لها أمها اسم جدتها (هيلين) الذى كان سائدًا ومشهورًا عند الشعب اليونانى ، نتيجة أسطورة يونانية قديمة ، جاء بها أنّ (هيلين) أجمل نساء العالم وآية فى الجمال منذ طفولتها.
عرض السيد كيلر آدمز(والد هيلين) ابنته على أكثر من معهد متخصص فى علاج الحالات الشبيهة بحالة ابنته. باءتْ كل محاولاته بالفشل . إلى أنْ شاء (القدر) التدخل لإنقاذ حياة الطفلة هيلين ، التى بلغتْ سن الثامنة وهى تعيش حالة (بوهيمية) بكل معنى الكلمة ، إذْ كان تمردها أشبه بالعاصفة المُدمّرة ، فلا تستجيب لأى تعليم ، حتى تعليم (آداب السلوك) فكانت تـُحطم الأطباق وتلقى بالطعام على الأرض وترفض ارتداء مريلة الصدر أثناء الطعام إلخ. ورغم أنّ الأب تردّد على أكثر من معهد فإنه لم ييأس وواصل البحث والسؤال . نصحه أحد الأطباء بمقابلة العالم جراهام بل الذى نصحه بدوره بالذهاب إلى مؤسسة (بركنس) فى بوسطن لعلاج المكفوفين. وهناك تعرّف على الآنسة آن سوليفان (1866- 1936) التى شاء سوء حظها أنْ تـولد لأسرة فقيرة وتـُعامل معاملة قاسية. وكادتْ تموت من سوء الحالة الصحية وفرط الإهمال. وفقدتْ بصرها تقريبًا لولا أنّ عينيها تحسّنتا فيما بعد بالقدر الكافى الذى مكــّنها من القراءة. وعندما بلغتْ 14سنة دخلتْ مؤسسة (بركنس) وفيها تعلمتْ (أبجدية الأيدى) ثم قراءة النصوص المكتوبة بطريقة برايل . ونظرًا لأنّ والد هيلين ميسور الحال (نسبيًا) لذا فضــّـل أنْ يصطحب سوليفان إلى منزله لتتولى تعليم ابنته. ذهبتْ سوليفان معه وكان عمرها فى ذاك الوقت 18سنة.
دار صراع بين إرادتيْن : إرادة الطفلة المُتمرّدة الرافضة للعالم الطبيعى ، فكانتْ تـُمزق فستان العروسة اللعبة وتكسر كل اللعب. وإرادة المُعلمة (الشابة) التى أصرّتْ على كسر أسوار السجن الذى تعيش فيه الطفلة وتحطيم كل أوهام العجز. بدأتْ سوليفان خطتها بالأسلوب الوحيد الناجح فى هذا الشأن : التقرب إليها بإقامة (علاقة إنسانية) قبل (العلاقة التعليمية) فلما نجحتْ العلاقة الأولى وأثمرتْ ، بدأتْ خطتها الثانية. فكانتْ تمسك كف هيلين وتضعها على الأشياء المحيطة بها ((هذه شجرة)) ، ((هذه زهرة)) ، ((هذا كتاب)) و((هذا ماء)) ومع كل لمسة تضع سوليفان يدها على حنجرة هيلين ومساعدتها على نـُطق اسم ما تلمسه بأصابعها. نجحتْ الخطة (ربما العفوية بحكم القلب الذهبى الذى كانت تمتلكه سوليفان) ومن هنا صارتْ العلاقة بين الإثنتيْن علاقة (صداقة) بكل ما تحمله الكلمة من معنى ، وليستْ علاقة مربية بتليمذتها.
سوليفان هى البطلة الحقيقية فى قصة نجاح الأديبة الكبيرة هيلين ، خاصة لو علمنا أنه فى الأيام الأولى دارتْ معارك عنيفة بينهما ، ولكن بطاقة (الحب) الكامنة فى نفس سوليفان انهزمتْ طاقة (التمرد) داخل الطفلة ، فتحوّلتْ من العنف إلى الاحترام والطاعة. وكان من ذكاء المُعلمة الشابة أنها اشترطتْ على الأب والأم عدم التدخل فى أسلوبها مع هيلين. كما أصرّتْ على الحديث معها بأسلوب طبيعى كما لو كانت تتعامل مع طفلة (طبيعية) ولذا كان أسلوبها هو نطق الكلمات بطريقة صحيحة. وألزمتْ أسرتها على التعامل مع هيلين بنفس الأسلوب. وبعد 9شهور فقط أجادتْ هيلين الكتابة.
كتبتْ هيلين تجربتها فى البداية فى شكل مقالات ثم جمعتها فى كتاب عام 1902وهى مازالت طالبة فى الجامعة. وقد تخرّجتْ فى كلية كليف بمرتبة الشرف عام 1904. وحرصتْ على مساعدة الأطفال المُعاقين ، فكانت تـُقيم حفلات شاى وتطلب من الأثرياء التبرع لمساعدة المكفوفين أو فاقدى القدرة على السمع أو النطق.
كتبتْ هيلين عن معلمتها ((كانت الآنسة سوليفان تشرح لى دور الشمس والمطر فى نمو النباتات. وكيف تبنى الطيور أعشاشها. وأنْ أشعر بالجمال فى شذى الغابات وفى حنايا كف أختى الوليدة. لقد جعلتْ الطبيعة جزءًا لا يتجزأ من أفكارى المُبكرة. فجعلتنى أشعر بأننى قريبة من الأشياء المفعمة بالحياة المحيطة بى ، فشعرتُ أننى أكثر سرورًا وأكثر اعتزازًا بهذا العالم)) وعندما كانت هيلين فوق شجرة هبّتْ عاصفة رعدية فكادتْ تسقط على الأرض ((وإذْ بيد معلمتى تمتد فجأة لتمسك بى وتساعدنى على الهبوط . لقد تعلمتُ درسًا جديدًا ، فالطبيعة ليستْ دائمًا هادئة بل هى متقلبة وشرسة أحيانــًا)) وعن العلاقة الروحية التى نشأتْ بينها وبين مُعلمتها كتبتْ : ((الآنسة سوليفان هى ولا شك الشخص الوحيد الذى تمكــّن من النفاذ إلى أعماق نفسى وروحى . لقد دأبتْ منذ وصولها على أنْ تـُظهر لى الجمال الماثل فى كل شىء . وسعتْ دائمًا إلى ملء حياتى بالحب والمرح والبهجة. والأهم أنها بثــّـتْ فى نفسى أنْ أكون مواطنة مفيدة لمجتمعها لا عالة عليه.. ولولا معلومات الآنسة سوليفان وحبها وسعة صدرها وجهودها المتواصلة ، لما كان بوسعى التقدم وتحقيق النجاح فى تعلم (نـُطق) الكلام بصورة طبيعية مثل سائر البشر. وبعد مرور عدة سنوات من تعلمى الحديث ، كانت معلمتى تــُـلفتْ انتباهى إلى بعض الأخطاء التى كنتُ أقع فيها فى نـُطق بعض الكلمات. وحين كنتُ أقرأ شفتىْ معلمتى كنتُ أعتمد كلية على أصابعى ، إذْ كان يتعيّن علىّ أنْ أستخدم حاسة اللمس فى التعرف على اهتزازات الحنجرة وحركات الفم وتعبير قسمات الوجه. وفى بعض الأحيان كنتُ أنهار تحت وطأة الشعور بالإرهاق والاحباط ، لكننى سرعان ما كنتُ أستعيد شجاعتى وأتشبث بطموحى . وعندما كان علىّ أنْ أكتب دروس الهندسة والفيزياء والجبر، كنتُ فى بعض الأحيان أفقد شجاعتى وأعبّر عن مشاعرى بطريقة عصبية. وكنتُ أخشى أنْ يُحسب ذلك ضد الآنسة سوليفان ، بينما هى الشخص الوحيد من بين كل الأصدقاء الطيبين التى ساعدتنى على فهم أمور الدنيا وطبائع الأشياء))
جراهام بل (1847- 1922) مخترع التليفون والموجات الكهربية والتلغراف والجرامافون وجهاز (الفوتوفون) الذى يُرسل الحديث بالأشعة الضوئية وكذا القياس السمعى والميزان التأثيرى الذى يُحدّد موضع الأشياء المعدنية فى جسم الإنسان والاسطوانة الشمعية التى سجّل عليها ودرس أسباب الصمم وطبيعته وأسباب توارثه. وصمّم مرصد الطبيعة الفلكية. كان من حـُسن حظ هيلين أنْ تلتقى مع هذا العالم الكبير المفطور على حب البشر، فذكرتْ أنها رغم طفولتها كانت تشعر بنفس الدفء الذى جعل كثيرين يحبونه ((وأجلسنى د. (بل) على ركبته حين كنتُ ألعب بساعته وأفحصها. فجعل الساعة تدق من أجلى . فهم هذا العالم الكبير إيماءاتى . وأدركتُ ذلك مما جعلنى أحبه. ولم أكن أحلم أنّ تلك الزيارة ستكون الباب الذى أمر منه من الظلام إلى النور. ومن الوحدة إلى الصداقة والحب والمعرفة)) وفى سنة 1893ذهبتْ هيلين مع سوليفان ود. (بل) لزيارة المعرض الدولى بواشنطن . وعن تلك الزيارة كتبتْ ((كل أنشطة الحياة البشرية كانت تمر تحت أناملى . وقد منحنى رئيس المعرض إذنــًا خاصًا بلمس كل المعروضات . رأيتُ (بيدى) أسواق الهند ونموذجًا لمدينة القاهرة بمبانيها فريدة الطراز. وكان د. (بل) يُرافقنا وبطريقته الخاصة الباعثة على السرور وصف لى الأشياء المُـثيرة ، ففى جناح الآلات الكهربية قمنا بمعاينة التليفونات والاختراعات الأخرى، ومضى يشرح لى كيف يُمكن إرسال الرسائل عبْر الأسلاك إلى مسافات بعيدة. كما ساعدنى على (رؤية) الحضارات القديمة مثل الأدوات الحجرية التى صنعها هنود المكسيك . وأثارتْ المومياوات المصرية إهتمامى)) وبعد عدة سنوات زارتْ د. (بل) فى الحقول القريبة من الشاطىء ((رحتُ أعاونه فى إطلاق طائرته الورقية ، التى أعدّها من أجل الاستعانة بها فى اكتشاف قوانين الطبيعة اللازمة لتطوير المناطيد . كان د. (بل) يبدو فى بعض الأحيان مرحًا وفى أحيان أخرى حالمًا كالشعراء. وهو يُحب الأطفال حبًا جمًا ويشعر بسعادة لا توصف حينما يرى طفلا أصمًا بين يديه))
معنى كلمة (حب) :
ركــّز الفيلم على علاقة هيلين بمُعلمتها خاصة عندما سألتها عن معنى كلمة (حب) إذْ عندما قدّمت لها بعض الأزهار، حاولتْ سوليفان تقبيلها فرفضتْ هيلين فأحاطتها سوليفان بذراعيها برقة وأمسكت أصابعها وقالت لها (بلغة الأصابع) : ((أحبك يا هيلين)) فسألتها ((ما هو الحب؟)) فجذبتها إليها وقالت (بالأنامل) : إنه هنا. وأشارتْ إلى قلبها. تحيّرتْ هيلين فسألتْ ((هل الحب هو رائحة الأزهار؟)) وبعد عدة أسئلة مشابهة لمستْ سوليفان وجه هيلين وحدثتها بأصابعها بصيغة فعل الأمر (فكرى) فكتبتْ هيلين ((وفى ومضة مفاجئة عرفتُ أنّ الكلمة اسمٌ لما يدور فى رأسى . وكانت تلك المرة الأولى التى أتفهم فيها بوعى تام اسم شىء معنوى لم يكن باستطاعتى أنْ ألمسه بيدى))
فى عام 1894 دخلت هيلين مدرسة (رايت هوماسون) من أجل تعلم فن قراءة الشفايف وتحسين القدرة على الكلام . وفيها درستْ الحساب والجغرافيا واللغتيْن الفرنسية والألمانية. وفى 1896دخلتْ مدرسة كمبردج . وكانت سوليفان معها أثناء الدروس وتتهجى على كف هيلين ما يقوله الأساتذة. وكانت المواد المقررة فى السنة الأولى : التاريخ الإنجليزى والأدب الإنجليزى واللغتين الألمانية واللاتينية. والتعبير بهما. وكان أول امتحان لها فى عام 1897وشمل اللغات الألمانية والفرنسية واليونانية واللاتينية والإنجليزية والتاريخ الإغريقى والرومانى . ونجحتْ فى كل هذه المواد وحصلتْ على درجة الشرف فى اللغتيْن الألمانية والإنجليزية.
000
ولأنّ المُبدعين فى أمريكا وأوروبا يهتمون بالمشاهير، فى المسرح أو السينما أو الرواية ، لذا فإنّ الفيلم الأمريكى عن قصة حياة هيلين، يُعتبر واحدًا من كلاسيكيات السينما العالمية، وكان من حُسن حظى مشاهدته. وأتوق إلى تكرار مشاهدته نظرًا للمتعة الفنية التى امتزجتْ مع الأبعاد الإنسانية وجدلها السيناريست والمخرج فى ضفيرة واحدة. رأى صـُناع هذا الفيلم أنّ المدخل لفهم قصة حياة هيلين، هو مُعلمتها سوليفان . وأنه لا يمكن فصل إرادة الإثنتيْن عن بعضهما. كما جسّد الفيلم الصراع الذى دار داخل وجدان هيلين ، عندما صوّر لها خيالها أنّ ثمة قصة حب بينها وبين مراسل إحدى الصحف ، الذى أحبّ سوليفان . وعندما اكتشفتْ هيلين الحقيقة ، إذا بوجدانها النقى ينتصر للواقع ويرفض الاستسلام لتهيؤات النفس.
تعرّضتْ هيلين وسوليفان لأزمة مالية. استغل صاحب (سيرك) تلك الأزمة وعرض عليهما فكرة تخصيص فقرة لهما على خشبة السيرك . تبادلتْ الفتاتان الدهشة المعجونة بالاستنكار. شرح الرجل الفقرة : واحد من الجمهور يسأل سؤالا. سوليفان تـُترجم السؤال بأصابعها لهيلين التى ترد على السؤال بأصابعها. وافقتْ الفتاتان . صنع السيناريست والمخرج مشهدًا خالدًا فى تاريخ السينما العالمية (مستمد من واقعة حقيقية) سأل واحد من الجمهور هيلين ((لو عُرض عليكِ أنْ تختارى بين الشفاء من العمى أو الصمم فماذا تختارين؟)) فكان ردّ هيلين غير المتوقع ((أختار الصديق قبل الطريق)) وسألها آخر ((أىُ العاهتيْن أشد إيلامًا : العمى أم الصمم؟)) فكان الرد المذهل ((يؤلمنى أكثر الاستماع إلى الحمقى)) مشهد لا يمكن أنْ تمحوه عشرات السنين ومئات المُتغيرات والتجارب من الذاكرة. الفيلم جمع عمالقة فى الفن السينمائى ، من السيناريست إلى المخرج إلى مصمم الديكور، ومصمم الموسيقى التصويرية إلى الممثلين ، خاصة الممثلتيْن اللتيْن أدتا دور كل من سوليفان وهيلين ، وكأنهما هما الشخصيتيان الحقيقيتان ولكن بروح الفن ، حتى الطفلة التى أدّتْ دور هيلين فى فترة طفولتها البوهيمية.
000
من مؤلفات هيلين التى نالت شهرة عالمية (قصة حياتى) ، (العالم الذى أعيش فيه) ، (نشيد الجدار الحجرى) و(ديانتى)
000



000
وكما فعلتْ السينما العالمية مع هيلين كيلر، فعلتْ مع فولفجانج أماديوس موتسارت (1756- 1791) الموسيقار النمساوى الذى أطلق عليه مؤرخو الموسيقى (وكذلك معاصروه) الطفل المعجزة. وسبب ذلك التعبير أنه كتب أول كونشرتو وهو فى الرابعة من عمره ، وكتب أول سيمفونية وهو فى الخامسة ، وكتب أول أوبرا كاملة وهو فى الرابعة عشرة. ورغم الاختلاف بين مؤرخى الموسيقى على بداية تأليفه للموسيقى المجردة ، فهناك اجماع بين عدد كبير من المؤرخين على أنه كتب أول سيمفونية وهو فى الثامنة من عمره، وأكــّـد بعضهم على أنّ أول أوبرا كتبها كان فى سن الحادية عشرة وليس الرابعة عشرة. طاف به أبوه على العديد من الدول الأوروبية مثل فينا وميونخ وباريس ولندن وإيطاليا ، ليعزف (الطفل المعجزة) على مسارح تلك الدول ، فاكتسب شهرة عالمية. ولكن موهبته العبقرية التى أمتعتْ كل محبى الموسيقى الكلاسيكية ، كانت وبالا عليه ، إذْ تعرّض لموقفيْن (من بين عدة مواقف) أحدثا شرخـًا فى حياته المعيشية : الموقف الأول عندما تمّ تعيينه سنة 1766 رئيسًا لفرقة الموسيقى لدى حاكم مدينة سالزبورج ، وكان المُشرف على موتسارت رئيس الأسقفية الذى بالغ فى الإساءة إلى الشاب اليافع (25سنة) ولم يكتف بالإساءة وسوء المعاملة وإنما بخل عليه براتب عادل يتناسب مع انتاجه الموسيقى ، فاضطر موتسارت إلى الهروب منه ومن مدينة سالزبورج . ثم الموقف الثانى عندما عمل كموسيقى فى بلاط امبراطور النمسا . وشاء سوء حظه أنْ يكون رئيسه (موسيقار البلاط الملكى) هو الموسيقى نصف الموهوب (أنطونيو سالييرى) الذى أقنع نفسه (كما كتب مؤرخو حياته) أنّ موهبة موتسارت تعنى جملة واحدة : القضاء عليه وعلى كل مؤلفاته. وأنّ الأجيال القادمة ستذكر اسم موتسارت بالحب ، بينما لن يتذكر أحد اسم سالييرى ، وإنْ تذكره أحد فبالاشمئزاز. وكما أنّ عشاق الحرية يتذكرون اسم الفيلسوف سقراط ويقرأون ما كتبه عنه تلميذه أفلاطون ، فإنّ أحدًا لا يذكر (بل لا يعرف) أسماء من حكموا عليه بالإعدام .
ورغم أنّ سالييرى (بحكم تخصصه فى الموسيقى) كان شديد الاقتناع بموهبة موتسارت ، إلاّ أنه كان يُعلن فى كل مكان أنه محدود الموهبة وأنّ أعماله مضجرة ومملة. وظــّفَ سالييرى كل مواهبه الشريرة لاغتيال موتسارت معنويًا قبل القضاء عليه نهائيًا. كان الراتب الذى يحصل عليه موتسارت من القصر لا يكفى متطلبات حياته المعيشية ، خاصة بعد أنْ تزوّج وأنجب ، وكان سالييرى فى يده زيادة راتبه ولكنه لم يفعل. وكان أمثال موتسارت (فى ذاك الزمن) يعتمدون على الدخل الإضافى من خلال إعطاء دروس خصوصية فى الموسيقى لبعض الميسورين ، وجاءتْ الفرصة عندما أعلنتْ الأميرة اليزابيث أنها تحتاج إلى مدرس موسيقى . ولكى يذهب أى موسيقى من القصر، فلابد من موافقة سالييرى ، الذى رفض بشدة وبكل إصرار ترشيح موتسارت ، وعندما رجته زوجة موتسارت (لدرجة التذلل) أنْ يمنح هذه الفرصة لزوجها ، أصرّ على موقفه. وعندما بالغتْ فى الإلحاح أقنعته نفسه الشريرة بأنْ ينتقم من موتسارت فى شخص زوجته ، فساومها على شرفها . رفضتْ عرضه بكل شموخ وتركته. ولكنها توسّمتْ فيه الخير، فعادتْ تـلح على إنقاذ حياة أسرتها من مذلة الفقر. فساومها سالييرى من جديد على شرفها. وهنا اختلف النقاد : البعض قال إنها رفضتْ عرضه واحتقرته. والبعض قال إنها وافقته ، ولكنه كمزيد من الإذلال (بعد أنْ تهيّأتْ للفعل) طردها ، وهوّ ما جسّده (بيتر شافر) مؤلف مسرحية (أماديوس) الذى اعتمد على كل الكتب التى أرّختْ لحياة موتسارت وكل ما كتبه المؤرخون عن شخصية سالييرى ، الذى رشـّح شخصًا آخر بلا موهبة ليُعلم الأميرة اليزابيث الموسيقى ، حتى بعد أنْ طلب الامبراطور من سالييرى أنْ يذهب موتسارت إلى الأميرة ، وهنا لجأ إلى الأسلوب المنحط أخلاقيًا فقال للامبراطور إنْ موتسارت تدور حوله وشايات كثيرة عن علاقاته النسائية. فاقتنع الامبراطور، وضاعتْ الفرصة على موتسارت . وهكذا تستمر المؤامرة ضد موتسارت ، بدأها سالييرى بمعركة (التجويع) وأنهاها بأنْ وضع له السم فى الشراب ، وفق ما جاء فى المسرحية التى كتبها بيتر شافر. فهل أراد المؤلف تجسيد مأساة موتسارت بهذا القتل ؟ وهل ما فعله سالييرى حقيقة استقاها من التاريخ أم من وحى الخيال ؟ ولكن الحقيقة المؤكدة أنّ موتسارت مات صغيرًا (35سنة) وهنا أرى أنّ (شافر) وظــّفَ الموت المأساوى لموتسارت دراميًا على لسان سالييرى الذى قال يُخاطب موتسارت بعد وفاته (( أنا أنطونيو سالييرى . عشر سنوات من الكراهية. قد سمّمتك حتى الموت)) وفى مشهد الدفن قال لنفسه ((الآن أشعر بالارتياح وأشعر بالشفقة على الرجل الذى ساعدتُ فى تدميره)) لكنه فى ختام المسرحية قال ((سأعيش حتى أرى نفسى منطفئــًا ولا ذكر لى . كل الرجال حولى يطلبون الحرية للجنس البشرى ، أما أنا فكنتُ لا أطلب سوى العبودية لنفسى)) ثم قطع حنجرته. تدور أحداث المسرحية بعد 30سنة من وفاة موتسارت ويجلس سالييرى على كرسى ذى عجلات ويحكى فى شكل (اعتراف) أشبه بالاعتراف الكنــسى . وكان أبلغ اعتراف عندما قال لموتسارت ((أنا مُسمّم بك . وأنتَ مُسمّم بى))
000
يهتم المبدعون فى أوروبا بحياة المشاهير من أهل العلم والفن والفكر، سواء فى الرواية أو المسرح أو السينما. كما حدث مع قصة حياة كل من هيلين كيلر، فان جوخ ، جاليليو، دارون إلخ . ولأنّ بيتر شافر الكاتب المسرحى الموهوب استطاع أنْ يُجسّد مأساة حياة موتسارت دراميًا ، لذا فإننى أحرص على قراءتها كل بضع سنوات ، خاصة الترجمة الدقيقة المُمتعة التى قام بها المترجم والأديب المرحوم شوقى فهيم . أعود إلى قراءة النص المسرحى كلما أخذنى الحنين لمشاهدة الفيلم السينمائى المأخوذ عن المسرحية. وهو الفيلم الذى حصل على سبع جوائز أوسكار عام 1985 وذلك بعد أنْ قدّمها المسرح القومى فى لندن ولاقتْ نجاحًا كبيرًا . ومن الأمور ذات الدلالة أنّ مؤلف المسرحية (بيتر شافر) إنجليزى واشترك فى كتابة سيناريو الفيلم مع المخرج التشيكى الأصل الأمريكى الجنسية (ميلوش فورمان) وهكذا نجد البُعد الإنسانى المُتمثل فى تجسيد قصة حياة موتسارت (النمساوى) فيكتب عنه مؤلف (إنجليزى) مسرحية. ويتحمس مخرج سينمائى لصناعة الفيلم (تشيكى الأصل أمريكى الجنسية) فأبدعوا فيلمًا سينمائيًا خالدا توفرّتْ فيه كل عناصر (الهارمونى) ليس على صعيد الفن فقط ، وإنما على الصعيد الإنسانى أيضًا ، كأنما أرادوا تحقيق (الهارمونى) الذى كان موتسارت يسعى إليه فى حياته وفى موسيقاه الخالدة ، ذلك العبقرى الذى كتب أوبرا (زواج فيجارو) و(دون جوان) وعشرات السيمفونيات وروائع الكونشرتو. وعندما كتب موسيقى (الفلوت الساحر) أو(الناى المسحور) عن أسطورة إيزيس وأوزير، أقبل عليها الجمهور الأوروبى بكل حب وشغف ، فصرخ الشاعر والأديب (الألمانى) جوته (1749- 1832) فى حنق وغيظ قائلا ((أى إيزيس وأوزيريس .. لو إنى أستطيع التخلص منكما ؟)) وكان تعليق عالم المصريات أدولف إرمان (الألمانى) الذى ذكر تلك الواقعة (( ولكننا نحن الذين نعرف هذه الأسطورة من مصادرها القديمة. وهى أقدم ما فى العالم من أساطير، فإننا ننظر إليها نظرة مختلفة. كما نستطيع أنْ نبتهج بها فى غير تحيز)) (ديانة مصر القديمة- ص 101) وهكذا تحقق الهارمونى الإنسانى الذى سعى إليه موتسارت .
وإذا كان فن السينما (الأفلام رفيعة المستوى وقد شاهدتُ العشرات منها) أحد تجليات التراث الإنسانى الذى اهتمّ بتعظيم الأخلاق والنبل فى التعامل مع كافة الكائنات الحية، مثلما قال بوذا (إذا مررتَ على شجرة فلا تقطف كل ثمارها ، اترك بعضها للإنسان العابر وللطير المُهاجر)) أو كما قال الحكيم (آنى) لابنه ((إذا دخل عليك إنسان أكبر منك سنـًا ، عليك أنْ تقف له ، حتى لو كنتَ أعلى منه منصبًا)) إذا كان هذا هو دور الفن السينمائى الراقى ، فكيف يكون التخلص من تـُجار (سينما) الاسفاف والترويج للعنف والابتذال والانحطاط الأخلاقى؟
***






#طلعت_رضوان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نبذ التعصب فى موسوعة للشباب
- فصل فى التحريم : قصة قصيرة
- اليسار المصرى والعروبة
- الغزالى وابن رشد
- نصر أبو زيد : الواقع والأسطورة
- نوبار الأرمنى : عاشق مصر
- الأرمن : صراع الإبادة والبقاء
- شركات السلاح والمؤسسات الدينية
- تقدم الشعوب وتخلفها ونظرية التكيف
- العلاقة بين العروبة والإسلام
- خصوم لويس عوض والعداء للغة العلم
- الصهيونية أعلى مراحل اليهودية
- آفة الولاء السياسى والدينى
- الهوان العربى والفكر الأبوى
- اليمن بين الماضى والحاضر
- العروبة والجحيم العربى
- الشخصية القومية والدين (3)
- الشخصية القومية واللغة (2)
- الثقافة واللغة والدين والشخصية القومية
- الجثة : قصة قصيرة


المزيد.....




- -أزالوا العصابة عن عيني فرأيت مدى الإذلال والإهانة-.. شهادات ...
- مقيدون باستمرار ويرتدون حفاضات.. تحقيق لـCNN يكشف ما يجري لف ...
- هامبورغ تفرض -شروطا صارمة- على مظاهرة مرتقبة ينظمها إسلاميون ...
- -تكوين- بمواجهة اتهامات -الإلحاد والفوضى- في مصر
- هجوم حاد على بايدن من منظمات يهودية أميركية
- “ضحك أطفالك” نزل تردد قناة طيور الجنة بيبي الجديد 2024 على ج ...
- قائد الثورة الإسلامية يدلى بصوته في الجولة الثانية للانتخابا ...
- المقاومة الإسلامية في العراق تقصف 6 أهداف حيوية إسرائيلية بص ...
- -أهداف حيوية وموقع عسكري-..-المقاومة الإسلامية بالعراق- تنفذ ...
- “بابا تليفون.. قوله ما هو هون” مع قناة طيور الجنة الجديد 202 ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - العلاقة بين التحضر والتراث الإنسانى