موسى راكان موسى
الحوار المتمدن-العدد: 4795 - 2015 / 5 / 3 - 17:48
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
[2] - ((الطائفة)) : (( نقد الطائفة عند الديري )) :
و في تحديد مفهوم الطائفة يتخبط الديري يمنة و يسرة , و على عكس الدولة , فهي من المغضوب عليهم عند الديري : { الطائفة نظام إجتماعي و ديني و دنيوي مركب } (ص 46) , و ليس في ذلك ما تقدمنا به نقدا مستعجلا , إنما منه بالآتي نستفتح تناقضا عجيبا ! : { و إذا كنا سنقبل على مضض مؤقت أن الطائفة أمر مقدس , و الطائفية أمر مدنس , فإننا لن نقبل أن يكون تنظيم الطائفة أمرا مقدسا . و نعني بالتنظيم هنا الآليات التي تحكم بها الطائفة و تدير من خلالها جماعتها , و تنشئ سلطتها عليهم , و هذا المدخل هو ما أرى من خلاله مفهوم الطائفة , و منه يأتي إشتقاق الطائفية , و فيه تتقاطع إرادات القوة و الهيمنة و المصلحة و الإنفتاح و الإنغلاق و الرغبة في التسلط و الإستئثار } (ص 47) , و إن بدا ذلك على مستوى موضوعي فقط _أي تنظيمي_ لا فكري , إلا أن الديري لا يقف عند هذا الحد : { الطائفية ليست مشتقا لغويا من الطائفة فقط , بل مشتقا فكريا منها , من نظام سلطتها الدنيوية } (ص 47) , فالديري كما لو أنه يحاول القول لنا : الطائفة هي ليست الطائفية لكنها الطائفية ! , و لا نجد في ذلك ما نعذر به الديري .
{ أنت إما أن تكون داخل الطائفة أو أن تكون خارجها . لا يمكنك أن تكون الإثنين معا و لا يمكنك أن تكون على الحدود . أن تكون داخل أي من هذه الحاويات (الطائفة , القبيلة , المدينة , الدولة , المجتمع) فأنت في حمايتها . و أنت في الوقت نفسه محدود بحدودها . مقاوم لما هو خارجها (خارج حدودها) , فما دمت داخلها , فأنت خارج خارجها } (ص 23) , يستعمل الديري جملة متعصبة في ذلك ((لا يمكنك أن تكون الإثنين معا و لا يمكنك أن تكون على الحدود)) , لا نستنكر الجملة بذاتها إنما نستنكر موقعها من الحاويات , فصحيح أن : { الإنسان يفكر من خلال مخططات مجازية . أحد أنواع هذه المخططات , هو مخطط الإحتواء } (ص 23) , إلا أن وضع هذه الحاويات (الطائفة , القبيلة , المدينة , الدولة , المجتمع) كما لو أنها متضادة فيما بينها (تضاد الند أو التقابل) فيه من التعسف الكثير , فالدولة كما سلف و تناولنا يمكنها أن تكون (دولة طائفة) و (دولة قبيلة) و (دولة مدينة) و كذلك يمكن أن تكون (القبيلة طائفة) و العكس صحيح _و إن كان في ذلك بعض من السفسطة_ , فالحاويات حاويات .. و الحاوية لا تنقض حاوية , لكن [الشخص] المستخدم للحاوية هو من يصارع الأشخاص المستخدمين للحاويات (أو حتى من لا يستخدمها) ليحقق مصلحته أيا كانت , و أيا يكن إسلوبه في الصراع , و الجدير بالإنتباه أننا (أو البعض منا) في صراع الحاويات هذا نخلق لنا حاوية بمسمى اللا حاوية (فاللا حاوية تتحدد كحاوية حسب موقعها : أي تتحدد كحاوية حين تكون في مقابلة الحاويات الأخرى) , و من المثير حقا للأسف و الشفقة أن يظن الإنسان أنه حر و يتغنى بالحرية و هو ليس كذلك , و ذاته ينطبق على المحاطين بهالة الحاوية (اللا حاوية) _و المدهش أننا كذلك لا ننفك نرى أو نسمع أحد المنتمين لطائفة بعينها بين الفينة و الأخرى إلا و يتغنى بالحرية و يعتقد حقا أنه حر و قد نال السلوان الأعظم_ .
و من خلال هذه اللا حاوية [الحاوية] يحاول الديري أن يُفهْمِنْ الطائفة [الحاوية] و يذوّتها , مطلقا على هذه الحالة مسمى ((الخروج)) : { (أنا خارج طائفتي) هي صيغة مفهومية , أحاول عبرها أن أقرأ إطار الطائفة في تكوين الذات } (ص 49) , و للتوضيح أكثر : { صيغة (أنا خارج طائفتي) أراها تتيح لي أن أرى ذاتي بشكل مختلف , و أرى مواطنتي بشكل مختلف , و أرى تاريخي بشكل مختلف , و أرى دولتي بشكل مختلف . و الإختلاف حق لا يمنحك أياه أي تشكيل و لا أي إطار و لا أي برنامج , عليك أن تخرج و تأخذ حقك بعقلك , عليك أن تهندس لك طريقا يريك الأشياء خارج طائفتك } (ص 49) , يزعم الديري أنه من خلال ((خارج الطائفة)) يمكنه محاولة قراءة ((الطائفة)) , لكن يبدو أنه غفل عن نقطة كون أن ((الطائفة)) هي من تقر له ((الخروج)) , بمعنى آخر أن موقعه أو صيغته المفهومية إنما هي مستمدة من ((الطائفة)) , بل إن خروجه لا يكون قبل أن تكون الطائفة ! , و على ما يبدو أن الخروج إنما هي صيغة عقلانية ((عليك أن تخرج و تأخذ حقك بعقلك)) , و ليس أي عقلانية : { الخروج يحتاج إلى هندسة أيضا } (ص 48) , لكن يا ترى : { ما معنى أن أكون خارج طائفتي ؟ } { يعني أن تكون طائفتي موضوعا أشتغل عليه , لا إطارا أستند إليه } (ص 29) , و على الرغم من أن نظرة من هم في ((الداخل)) : { الخروج من إطار الطائفة هو سقوط في جحيم العمى , و الضلال , و الضعف , و الهلاك } (ص 30) , إلا أن الديري نوعا ما يتفق معهم : { فأنا خارج طائفتي (...) بمعنى أن لا نجاة لي و لا قوة } (ص 30) , لكنه يتفق معهم ظاهريا ليس إلا , فإن نجاة الديري و قوته تكمن له بالذات في ((الخارج)) لا في ((الداخل)) _لاحظ إستعمال [في] لكل من ((الخارج)) و ((الداخل))_ .
و من الجدير بالإنتباه أن كل من ((الداخل)) و ((الخارج)) هما جزء من كلّ أكبر حاوي لهما , إن [الطائفة] حاوية لهما من حيث لا يشعر الديري , فإن كان من الواضح أن ((الداخل)) واضح العلاقة الرابطة له ب [الطائفة] إلا أن ((الخارج)) ليس كذلك ظاهريا _لكنه كذلك حقيقة : أي علاقة رابطة_ , و هو ما يوقع البعض (كالديري) في وهم التحرر من الطائفة أو ((الخروج)) من الطائفة , و لعل المفارقة ها هنا تكمن في حقيقة ((الخارج)) أو ((الخروج)) , فأنت إن كنت خارج الطائفة حقا فلن تكون ضمن تحديد المسمى [خارج الطائفة] , فالهندسة الحقة ليست في الخروج كما يقرها الديري , بل في تجاوز [الطائفة] ككل سواء ((الداخل)) و ((الخارج)) .
و يعلل الديري تهجمه على الطائفة , أو بالأحرى هو يهاجم ((الداخل)) : { الطائفة تربيك تربية القصور (...) لا بد أن تسد قصورك بالرجوع إليها } (ص 43) , فأنت داخل الطائفة إذا أنت قاصر و بها تكتمل , و لكن : { بقدر ما تخرج تصبح قدرتك على هندسة حياتك و قراراتك بعقلك الفردي } (ص 44) , لكلمة [الهندسة] عند الديري معنى أشبه بالتخطيط الواعي فمن ((هندسة الخروج)) إلى ((هندسة الحياة)) , و كذلك [العقل] عند الديري له مكانة عظيمة , لكن ألا يجد الديري في تفاؤله و مثاليته تطرفا في غير محله ؟! , لا تحتاج إلى وعي (أي هندسة) أو عقل لكي تكون خارج الطائفة [حقا] , و كذلك ليس شرطا أن تكون [خارج الطائفة] _أو كما نميل لأن نسميه [طائفة الخارج]_ لكي تهندس حياتك و قراراتك بعقلك الفردي , و قبل كل ذلك بقدر ما يتأكد دور العقل و الوعي الذاتويين .. تتأكد حركة الموضوع المستقلة و المنفصلة عن كل عقل أو وعي ذاتويين , فلو كانت حريتك موضوعية فسواء أوعيتها أو لم تعيها أنت حر _دون التعمق في مفهوم أو ماهية الحرية_ , لكن العكس ليس صحيح : أي لو كانت حريتك ذاتوية فهي ستكون حقيقة إن تطابقت مع المُقرر [الموضوع] فإن تناقضت مع [الموضوع] فليس وعيك و عقلك للحرية إلا وهم , و لعل لنا في ذلك مفارقة أخرى مضحكة : فمن يعي عبوديته يبدأ بوضع نفسه على طريق التحرر الصحيح , لكن من لا يعي عبوديته و يعتقدها حرية فهو لم يبلغ شيئا من الحرية : فإن كان من في ((الداخل)) يعتقدون أنهم ليسوا أحرارا فوضعهم أفضل ممن هم في ((الخارج)) و يعتقدون أنهم أحرار , و المؤسف فيما لو هندس من في ((الداخل)) _على حد وصف الديري_ تحرره أو خروجه ليكون مع من في ((الخارج)) ! , فبقدر ما يتحرر المرء من الداخل إلى الخارج تتأكد [الطائفة] و تتأكد عبوديته .
و يكمل الديري هجومه : { و تبقى الطائفة وحدها التي يتحصن بها الجميع و يتذرعون . حتى إنها غدت وفق التعبير الإنجليزي (ملجأ النذل) } (ص 47) , يقول صمويل جونسون الإنجليزي : ((الوطنية هي الملاذ الأخير للأوغاد)) , فلو قسنا أن الطائفة كما الدولة [حاوية] يمكن القول بتماثل كل من الطائفية و الوطنية , و كلاهما ملاذ للأوغاد ك [حاوية] سواء أإختلف الأوغاد فيما بينهم أو لا , و يضيف الديري : { الإضافة إلى الطائفة صارت آلية تبرير في تقرير المظنونات و إسكات الإعتراضات و تحويل الآراء إلى بديهيات غير قابلة للنقض } (ص 47) , لا أظن أن الديري كان ليظن أن الطائفة كانت لتكون لولا ما تمثله من قوة أو بالأحرى ما تمثله ك [حاوية] يتم اللجوء لها , هي لولا ذلك أو بعض ذلك لنفت ذاتها بذاتها (قصدنا بما تمثله للغير لا لذاتها) .
{ قف وحيدا خارج طائفتك , لا تستند إليها لتعطي شرعية لقولك و فعلك , شرعيتك يعطيك أياها الميدان العام المشترك الذي هو مجال لحركة حريتك } (ص 44) , بغض النظر عن الغواية الكلامية التي برع فيها الديري إلا أنه كما يبدو يضع لنفسه حدودا (و لغيره أيضا) لعلها خشية من هجوم مضاد ما من ((الداخل)) : { ((أنا خارج الطائفة)) ليس إعلان براءة كما قد يفهمها كثير من المتلقين , بل هي إشكالية معرفية , و وجودية , و إجتماعية , و سياسية , و أحاول أن أفهم من خلال هذه الإشكالية ((أنا خارج الطائفة)) أناي و مجتمعي و دولتي , و جماعاتي التي أعيش معها } (ص 32) , و يكمل كما لو بدت أنها توضيحات لمبادئ ((الخروج)) ! :
(1) : { و هي ليست براءة , لأن البراءة تتطلب قطيعة وجودية و إجتماعية عن كل ما يتصل بطائفتك } (ص 50) .
(2) : { و هي ليست تمردا , لأنها خروج من الطائفة و ليست خروجا على الطائفة } (ص 50) .
(3) : { و صيغة (أنا خارج طائفتي) ليست عقدة و لا إستنكافا , لأن العقدة تتطلب نقصا نفسيا , لا نقصا معرفيا . في النقص المعرفي أن تستكمل ذاتك بفتح مغلقاتها و أطرها على مصادر معرفة جديدة , و في النقص النفسي , أنت تهرب مما يعيبك و تتبرأ منه و تستعيض عنه بتقليد الغالب } (ص 51) .
و بعد كل هذا التخبط و الترقيع لنصرة ((طائفة الخارج)) , نختم بكلمة للديري الواثق : { يمكنني أن أعتبر (أنا خارج طائفتي) كوجيتو الذات الخارجة , كما هي صيغة ديكارت (أنا أفكر إذن أنا موجود) كوجيتو الذات الموجودة و المفكرة و الحرة و الفردية و الحديثة } (ص 52) .
أنا ((خارج الطائفتي)) إذا أنا موجود ! , هل ستكون [الطائفة] التي أنا خارجها [طائفتي] ؟! , إن الكوجيتو إنما يقول ((الطائفة موجودة إذا أنا موجود – سواء في الداخل أو في الخارج)) , و لا وجود لي دون وجودها , بل إن قوتي من وجودها سواء أكنت في داخلها أو خارجها : ففي داخلها أنا في ظل حمايتها و في خارجها أنا أبدو (إن لم أكن الأقوى بإعلاني الخروج) الأجرأ و الأشجع .
و بعد أن إنتقلنا من الدولة إلى الطائفة عند الديري , يتبقى لدينا أخيرا الإنتقال إلى (( المثقف )) : (( نقد المثقف عند الديري )) .
يتبع ,
#موسى_راكان_موسى (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟