أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد رفعت الدومي - خمسون درجة من الرمادي.. أو.. رماد النور!















المزيد.....

خمسون درجة من الرمادي.. أو.. رماد النور!


محمد رفعت الدومي

الحوار المتمدن-العدد: 4780 - 2015 / 4 / 17 - 08:09
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


مع تنامي وطأة الديكتاتورية في مصر لم يعد ثمة سبيل لتطويق الجلاد إلا استئناف الثورة حتي سحقه لآخر نبضة أو التواري مجددًا في ظلاله، ما من حلول أخري، من قال لك غير هذا الكلام فهو كاذبٌ أو مضلل، فالمعركة صارت صفرية فعلاً، كما أن المهادنة، ومحاولات التنقيب عن نقاط نائمة لتنشيطها والتقاء الخصوم عندها باتت خيارًا تجاوزته تداعيات النزاع وارتفعت عنه فوق الأرض بآلاف الأميال!

وإنني، لا أجد تعليلاً لسعار الأيام الأخيرة أكثر عدالة من أن النظام قد استوعب تمامًا جسامة المأزق الذي هو الآن فيه، بحماقاته الخاصة لا بإبداع الثوار وإدراكهم المواطن الصحيحة لركل مؤخرته من كل جانب!

كان إحراق مجموعة من الكتب في فناء مدرسة "فضل الحديثة" آخر هذه الحماقات الكبيرة!

وما من شك في أن الاحتفال بذلك الطقس الذي تجاوزه الزمن بالشكل الذي رأيناه وتركيز كل تلك الأضواء المسيسة علي حواف الحادثة يفصح بوضوح عن أنها مرتبة ومعدٌّ لها قبليًا، كما أن وجود كتاب "إلاسلام وأصول الحكم" بين الكتب التي الآن صارت رمادًا يقتل كل مساحة يتحرك فيها المتشككون في أن أيًا من الذين قيل لهم علي عجل أن يقترفوا تلك الجريمة قد قرأ أياً من تلك الكتب ولا لديه علم بمن يكون الشيخ "علي عبد الرازق" ولا بتلك الأفكار التي انطوي عليها كتابه " الإسلام وأصول الحكم"!

لذلك، لابد أن تولد من غرابة الحادثة وسذاجة تنسيقها عدة أسئلة مشروعة:

ما هي مؤهلات من يديرون مصر؟ هل نالوا قسطًا وإن ضئيلاً من التعليم؟ هل قرأوا كتابًا واحدًا في حياتهم؟ بل، هل يجيدون القراءة والكتابة؟ هل يدركون أن موكب الإنسانية يتسكع الآن في طرقات العام 2015 بعد ميلاد المسيح؟

وفي العام 1925 بعد ميلاد المسيح، نزف ذهن الشيخ "علي عبد الرازق" فكرة علي حزمة هزيلة من الورق دون أن يدور بباله عند الفراغ منها أنه كان مقدمًا علي إلقاء حجر في ماء آسن سوف تثور له عما قليل كل السواحل البعيدة!

لقد ملأ الدنيا وشغل الناس، وأهاج الضجيج في كل مكان، وأشعل معارك دينية وسياسية ربما لم يهدأ غبارها حتي يومنا هذا!

لقد سفه الشيخ الأزهري فكرة الخلافة ورأي أن مدنية الدولة هي الآن التعبير المحميُّ لبناء دولة يمكن الانخراط في العالم الكبير..

وكالعادة، جاء تعقيب هيئة كبار علماء الأزهر عصبياً، لقد قضت بمصادرة الكتاب وطرده من زمرة العلماء ومن العمل في القضاء الشرعي!

حدث هذا بتحريض من الملك "فؤاد الأول" الذي كان يطمح في أن يكون خليفة للمسلمين بعد سقوط الخلافة في مركزها، تركيا، ولقد عصف ذلك المعمم بحلمه من الأمام ومن الخلف ومن الجانب الآخر، وربما، لفداحة الصفعة، لم يستطع عقاب هيئة كبار العلماء أن يمتص غضبه!

لذلك، هو، من وراء حجاب، أصدر أمرًا ملكياً بالبدء في اندلاع حملة مسعورة ضد الشيخ وكتابه، وكالعادة، تحمس لها عدد كبير من شيوخ السلطان لعل أشهرهم تونسي الجنسية "محمد الخضر حسين"، أول شيخ أزهر في عهد العسكر، فأضاف إلي المكتبة العربية كتابه "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"!

علي الجانب الآخر، جعل الكثيرون من أقلامهم ومواقفهم دروعًا تحمي الشيخ "علي عبد الرازق" من غارات المعممين العصبية، كان "د.محمد حسين هيكل" واحدًا من هؤلاء، "عباس العقاد" أيضًا، و "سلامة موسي"، كما استقال "عبد العزيز باشا فهمي" من وزارة العدل تضامنًا مع الشيخ المفكر!

هذا بعض ما كان من صدي لهذا الكتاب الذي أربك آفاق التلقي لسنوات طويلة وأحرقه الذين يغازلون اليهود والكنيسة برغبتهم في إشعال ثورة علي النصوص التي يقدسها المسلمون!

من الجدير بالذكر أن حرق الكتب للأنظمة الديكتاتورية عادة مشهورة، علي طول التاريخ وبعرض التحفظ الصحِّي، والسبب شديد الوضوح، فمثل هذه الأنظمة لا يمكن أن تعيش إلا علي حواف وسط مظلم تسكنه قطعان بشرية تعتبر العقول مجرد زوائد لحمية مثلها مثل الوحمات أو الدمامل وتؤمن إيمانًا طليقًا بأن بالخبز وحده يحيا الإنسان!

لا صوت يعلو فوق صوت الديكتاتور ولا ضوء يندلع لقراءة الواقع فيه إلا الضوء الذي يقننه!

والديكتاتور يعيش دائمًا علي الحواف كعادة الغجر، ومتي أيقظ القهر في صدور القطيع شدوًا مريبًا أسلم قدميه للريح المذعورة لا يلتفت إلي عزيز، فهو لا يحرس الإخلاص لوطن إلا حقيبة السفر!

ومتي قرأت أو سمعت رواية عن إحراق الكتب في بلد ما، وفي أي لحظة زمنية ما، فتأكد أن سكان هذا البلد كانوا آنذاك في أتون معركة حقيقية مع الغزاة انتهت بسحقهم، أو، كانوا يخوضون معركة مذهبية أهلية، أو، كانوا منهكين بالقمع تحت وطأة نظام ديكتاتوري، وكل الدروب بعد ذلك لا تصل!

هضابٌ من الرماد الذي كان ذات يوم بعيد مجرد هواجس تتردد في أذهان ممتازة تعمل علي اصطيادها حارة في لحظةٍ مجردة، والأمثلة كثيرة!

قبل ميلاد المسيح بحوالي ستة قرون، عندما سحق البابليون الآشوريين واستولوا علي عاصمة ملكهم "نينوي" كان أول ما فعلوه هو أن أحرقوا مكتبة "آشور بانيبال"!

وقبل ميلاد المسيح بحوالي 213 سنة، كان يحكم الصين الامبراطور "تشين شي هوانج"، مؤسس أسرة "تشين" ومؤسس الصين الموحدة وسورها العظيم، ولقد أفرط ذلك الديكتاتور في اضطهاد الكونفوشيوسية، وبدد أيامًا من حياة الصين لإحراق 100,000 كتاب من كتب مفكريها، وليس هذا كل شئ، فعندما احتج 400 عالم من الكونفوشيوسيين أمر بدفنهم أحياءًا!

وقبل ميلاد المسيح بحوال خمسين عامًا، تعقيبًا علي خطأ بعض جنوده، أحرق "يوليوس قيصر"، مكتبة الإسكندرية، كان قد أمر بإحراق السفن خشية الاستيلاء عليها فامتدت ألسنة اللهب إلي المكتبة فدمرتها، ويؤكد بعض المؤرخين الذين يهتمون بمخاطبة الحواس وإضفاء ظلالٍ من الأدب علي التاريخ أن "قيصر" كان آنذاك يمارس الجنس مع "كليوباترا" علي الأضواء الناجمة عن الحريق!

ومكتبة الإسكندرية مرة أخري..

بعد ميلاد المسيح بحوالي 640 سنة، استولي "عمرو بن العاص" علي الإسكندرية، وهناك، تعرف علي عالم لاهوت مسيحي قديم العمر اسمه "يوحنا فيلوبونوس"، حدث أن اشتبك ذات يوم معًا في جدال عقائدي كان التثليث محوره، فسأل "يوحنا" في النهاية القائد المنتصر الحفاظ على الكتب الموجودة في مكتبة الإسكندرية، عندما ارتاب "عمرو" في حرص الرجل علي الكتب إلي هذا الحد سأله عما فيها، فقص عليه قصة المكتبة منذ تأسيسها، لكن "عمرًا" رأي أن يستشير الخليفة "عمر بن الخطاب" قبل أن يحسم أمره فيها، وأرسل إليه رسالة يستشيره، وجاء الرد، للأسف، مخيِّبًا للآمال، قال في بعضه:

"وأما الكتب التي ذكرتها فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنه غني، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة بنا إليها"!

وامتثل "عمرو بن العاص" لأمره وأمر بدوره بتوزيع الكتب على حمامات المدينة لإستخدامها في إطعام النيران التي تحفظ دفء الحمامات!

هذه الحادثة مثار جدل كبير، حتي أنني، وأن أحدًا أياً كان لا يستطيع أن يؤكدها أو ينفيها، مع ذلك، لقد أكد "القفطي" في "تراجم الحكماء" صحتها، كما أكد أيضًا أن إحراق كل الكتب قد استغرق حولي نصف العام، كذلك فعل "تقي الدين المقريزي"، وهو أسطوري أكثر منه مؤرخ، ومشهور بالوقوف علي حافة الإختلاق!

"ابن خلدون" أيضًا، ذهب إلي صحتها بالقياس علي حادثة أخري مؤكدة كان "عمر بن الخطاب" أيضًا محورها، عندما أمر "سعد بن أبي وقاص" بإلقاء كتب الفرس في الماء والنار، وقال كلامًا يكاد يتحد بكلامه لـ "عمرو بن العاص":

"إن يكن ما فيها هدي فقد هدانا الله بأهدى منه وإن يكن ضلالا فقد كفانا الله"!

وفي بدايات العقد الثامن من الهجرة أمر الخليفة "سليمان بن عبدالملك" بحرق مخطوطات ورد فيها ذكر الأنصار في غزوة بدر!

وفي عصر الدولة العباسية أفرط الخليفة "المهدي" في استنطاق النوايا ورجم الكثيرين بالإنتماء إلي المانوية واتهامهم بالزندقة وإحراق كتبهم وإزهاق أرواحهم، كان المفكر "عبد الله بن المقفع" أحد ضحايا تلك الحملة الشعواء، كذلك، كان الشاعر الكبير "بشار بن برد" من ضحاياها!

ولم تمض عقود طويلة علي تلك الحملة المسعورة حتي بدد المغول تراث الدولة العباسية المكتوب كاملاً!

وجيوب التاريخ مفعمة بالكثير من الروايات عن حرق "صلاح الدين الأيوبي" لكتب الفاطميين!

في السياق نفسه..

في الأندلس، يوم 16 فبراير عام 1198، بتحريض من بعض شيوخ السلطان، جمع العوام كل الكتب التي في مكتبة "ابن رشد" وأحرقوها في الساحة الكبرى بـ "إشبيلية" وهم يهللون ويكبرون!

لكن "ابن رشد" كان في ذلك الوقت قد نجا، لقد اقتحمت أفكاره كل أسيجة أوروبا فطربت لها صدور الأوربيين، ولأول مرة، بفضله، فهموا "أرسطو" كما ينبغي، وقدروا قيمة الشك فحلقوا في مطلق غير مطلق آبائهم!

لقد أدركوا أنهم سوف لا ينتهون من الدوران في الفشل ما لم يتجاوزوا آبائهم ويتجاوزوا أوروبا التي يبني قطيعها منظومة معرفته علي كتاب واحد، ويوجه خطواته عقل كعقل البابا "جريجوري التاسع" الذي طلب من الملك "لويس التاسع" عام 1242 إتلاف كل نسخ التلمود في "باريس" فاستجاب له!

لكل ذلك، كان يجب أن تحدث عما عقود من محرقة فكر "ابن رشد" أكبر محرقة للكتب في التاريخ، قيل!

إنها محرقة "غرناطة" التي سقطت، عندما أمرت الملكة الاسبانية "إزابيلا " و "فيرديناند" ملك "آراجون" بحرق أكثر من مليوني كتاب، قيل، وهو عدد مبالغ فيه جدًا في اعتقادي، مع ذلك، كانت هي تقريبًا كل تراث المسلمين في الأندلس، وكان من بين تلك الكتب كتاب "في الفلسفة" لـ "ابن رشد" وكتاب "طوق الحمامة" لـ "ابن حزم" ودواوين "ابن زيدون"!

وفي اعتقادي الخاص، لولا إحراق كتب "ابن رشد" في دولة ملوك الطوائف لما كانت محرقة "غرناطة"!

لو أن المسلمين قد انتبهوا لقيمة الرجل، ألا ليتهم فعلوا، ذلك أن مجتمعات اللون الواحد هي مجتمعات عقيمة ومحكوم عليها بالنحافة كلما تقدمت في العمر، وبحتمية سقوطها في نهاية المطاف!

وأحرق الإسبان أيضًا كل مخطوطات المايا، كما قامت محاكم التفتيش هناك بإحراق كل النصوص اليهودية والعربية!

وقامت محاكم التفتيش في إيطاليا القرن 14 بإدانة "كيكو داسكولي" بالهرطقة، وأحرقوه تعقيبًا علي كتابه "دي سيفيرا"!

وفي بداية القرن الـ 15 أقر البرلمان الإنجليزي قانون "حرق المهرطقين"، وهو قانون يقضي بجمع كل الأعمال التي تنظر إلي الحياة من زاوية غير زاوية السلطة الروحية للمملكة وحرقها أمام العوام..

وفي عام 1624 أحرق الكاثوليك ترجمة "مارتن لوثر" الألمانية للإنجيل فأحرق "لوثر" من جانبه المراسيم البابوية..

كما أن المهاجرين الأوائل حملوا معهم عادة حرق الكتب إلي الولايات المتحدة، غير أن الروح الأمريكية لفظت هذه العادة، مع ذلك، هناك علي الدوام شئ رقيق للغاية ودقيق للغاية يضيع، فللولايات المتحدة في حرق الكتب حضور ضئيل، وفي القرن الـ 17، عندما ظهر كتاب "ثمن تضحياتنا المستحق" للكاتب "ويليام بينشون" مفعمًا بنقد التطهيريين وتسفيه أحلامهم حظرته السلطات وأحرقت كل نسخة منه استطاعت الوصول إليها أمام العوام!

كما أن "أنتوني كومستوك" الذي كان رئيس جمعية نيويورك لمكافحة الرذيلة عندما أقنع الكونجرس الأمريكي بتمرير قانون الدعارة الفيدرالي عام 1873، اتخذ حرق الكتب طابعًا رسميًا، ذلك أن الختم الذي كانت الجمعية تستخدمه يظهر علي أحد جانبيه شرطيٌّ يقود مجرمًا إلي السجن، ورجلٌ يشعل النار في الكتب علي الجانب الآخر!

وبطبيعة الحال، فعل ذلك الذي لا نشك في أنه يفعلها، "هتلر" طبعًا!

لقد اعتبر وزير دعايته "جوزيف جوبلز" كل كتاب لا ينسجم مع أفكار "هتلر" كتابًا مفعمًا بالروح غير الألمانية حرقه واجب وطني، كما اعتبر كل كتابٍ ينطوي علي تبجيل الليبرالية أو الماركسية وقودًا مشروعًا، ولقد وقعت كل أعمال "سيجموند فرويد" تحت طائلة النار في احتفال "برلين"!

كما واجهت المصير البائس نفسه كتب حزمة من العقول الممتازة مثل "بيرتولد بريخت" و "ليون فويشتفانجر "و "ألفريد كيروكان"، وكان تعقيب "فرويد" علي تلك الجريمة ساخرًا ومفعمًا بالمرارة في الوقت نفسه، قال:

- التقدم الذي وصلنا إليه أنه في العصور الوسطي كانوا سوف يحرقونني أنا، أما الآن، فقد اكتفوا بحرق كتبي!

من الجدير بالذكر، أن كل ديكتاتور في كل مكان وزمان غبيٌّ يثير الشفقة والسخرية، وأيًا منهم حتمًا يفكر بنفس طريقة الآخرين، وكلهم، يحملون علي الدوام عقولاً بسيطة أشبه بعقول الكائنات الأولية، ولا يمتلكون خيالاً، ولا يرون أبعد مما تري عيونهم..

في ستينيات القرن الماضي زار "نيكيتا خروتشوف" معرض "مانيج" للفن التجريدي فوصم كل الفنانين بالعار، ووصف إحدي اللوحات في لهجة تنم عن استعلاء غير مبرر، كأنه "بيكاسو" مثلاً، قائلاً:

- إن الحمار يرسم بذيله أفضل منها!

ووصف لوحة أخري قائلاً:

- إنها غازات في المعدة!

وقال لأحد الفنانين بدون مواربة:

- لو ذهبت إلي القبر لكان خيرًا لك من تبذير وقتك في رسم مثل هذه اللوحة!

فرد عليه الفنان الشاب قائلاً:

- لحسن الحظ يا سيدي أننا تجاوزنا المرحلة التي كان القبر فيها يقوم مقام الطبيب!

ولم يستوعب "خروتشوف" بكل تأكيد تلك الأطراف الحادة لكلمات الفنان..

إحراق كتاب جريمة كبري، لكن، لكل قصة جانب آخر، فلا أعتقد أن إنسانًا آخر علي سطح الكوكب تضاهي بهجته بهجة الكاتبة البريطانية "إي أل جيمس" يوم الخامس من نوفمبر من كل عام، وهو يوم "جاي فوكس" تكريمًا لما يعرف في أدبيات الإنجليز بـ "خيانة البارود"!

في الخامس من نوفمبر عام 1605 تلقت الشرطة البريطانية رسالة مجهولة المصدر تفضح مؤامرة علي حياة الملك، ضُبط علي إثر ذلك "جاي فوكس"، وهو أحد الكاثوليك الضالعين في مؤامرة لاغتيال "جيمس الأول" ملك بريطانيا البروتستانتية، كان يحرس كومة من المتفجرات زرعها المتآمرون في نفق أسفل مجلس اللوردات!

ابتهاجًا بنجاة مليكهم أشعل العوام النيران في أنحاء مدينة لندن، ويبدو أن ردود أفعال العوام حازت إعجاب الملك فأصدر مرسومًا بتقنين الإحتفال في الخامس من نوفمبر من كل عام كأحد أعياد الإنجليز الرئيسية، لكن، مع تقدم الحادثة في العمر، اتخذ العيد شكلاً ترفيهيًا لا ينخفض إلي علة العيد نفسها، حتي الكاثوليك أيضًا يحتفلون الآن مع البروتسانتيين بـ "جاي فوكس"، وكلنا يعرف حتمًا "جاي فوكس"، وكان له في ثورة 25 يناير نبض واضح، فهو المصدر الجذري لقناع "Vendetta"!

لكن ملجأ النساء المُعنفات في بريطانيا يحتفل بيوم "جاي فوكس" بطريقته الخاصة، فهو بالنسبة إليهم يومٌ عام لإحراق رواية "خمسون درجة من الرمادي" للكاتبة "إي أل جيمس"، وهي رواية تنبض بالكثير من مشاهد الإغراء العارية جدًا، وبالكثر من الممارسات الجنسية التي تبجل العبودية والخضوع والماسوشية والتواري في ظلال السيد، أذابها مؤخرًا المخرج "سام تايلور جونسون " حتي آخر قطرة في فيلم يحمل نفس الإسم "خمسون درجة من الرمادي" أيضًا!

لكن، لماذا كل هذه العصبية من أجل إحراق حزمة من الكتب، فهل فوق أنوار قديمة صارت رمادًا؟

يجب أن نرثي للجناة لا للكتب المحترقة، ولعل في هذه القصة العزاء:

بكى أحد تلامذة "ابن رشد" وهو يري العوام يحرقون كتب معلمه، فالتفت إليه "ابن رشد" وقال له:

- إذا كنت تبكي حال المسلمين فاعلم أن بحار العالم لن تكفيك دموعًا، أما إذا كنت تبكي الكتب المحروقة فاعلم أن للأفكار أجنحة وهي تطير لأصحابها!

نعم، للأفكار أجنحة، لذلك لم يستطع جلادٌ عبر التاريخ الإنساني كبح تحليق فكرة ما في مطلق ما، كيف حدث هذا لا أدري، لكن، بكل تأكيد، للفكرة الطليعية امتداداتها التي تخصها، والتي بمقدورها أن تجعل الزمن دائريًا، وهي أيضًا كالوردة ولا تُسأل الوردة عن عطرها، أو هكذا أظن!..

ابكِ عليهم، أو، ابشر باقتراب غروبهم، فمتي وصل إرهاب الجلادين إلي درجة الإرهاب الفكري تأكد أنهم علي مشارف العقاب، فما استهان أحد بكتابٍ ونجا، لذلك، سوف أسمح لنفسي أن أحرف شطر بيت "المتنبي":

وخيرُ جليس ٍ في الزمان كتابُ

ليصبح في هذه الجملة الاعتراضية الركيكة التي الآن يفشل في إعرابها تاريخ مصر:

وخيرُ بشير ٍبالخلاص كتابُ

رحم الله كل أصحاب الأنامل الثرية التي وقفت وراء إبداع كل خيوط النور التي الآن صارت رمادًا في فناء مدرسة "فضل الحديثة"، رحم الله الشيخ "علي عبد الرازق" بشكل خاص!

محمد رفعت الدومي



#محمد_رفعت_الدومي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- واذكر في الكتاب إسماعيل!
- وديارٌ كانت قديمًا ديارا
- أمان يا لاللي .. خنفس عُصْملِّي!
- فتِّش عن (الهوسبتاليين) في ليبيا!
- “إيج نوبل” ل “عبد العاطي”.. أو.. استثمار العار!
- جُزُر البحَّار -حمد-!
- العائلة / الجناح السري ل (فرسان مالطا) في مصر .. أو .. غزال ...
- محمد الجوادي - كونت فلاندرز!
- الحسّونة - صباح.. من وادي شحرور إلي الخلود!
- تونس .. ابعدي عني هذه الكأس!
- سوداء العروس!
- بيت النتَّاش
- ماجدة الرومي .. لهذا اكتشف أجدادك الغوريلا!
- تناذر إسكتلندا
- داعش = (1.618) × داحس ÷ الرجل الفيتروفي!
- أحمد رجب .. أوراق الغرفة (53)
- نوستالجيا .. برائحة البخور و صخب القداس
- تعيس صالح .. ذلك الممثل الفاشل!
- مؤخرة ميريام فارس .. مقدمة ابن خلدون !
- وليٌّ بلا جنود


المزيد.....




- بعد ظهوره بفيديو يركل ويجر صديقته.. هل ستوجه التهم للمغني شو ...
- الجيش الكونغولي يحبط محاولة انقلاب ضد الرئيس ويعتقل عددا من ...
- تعرض مروحية ضمن موكب الرئيس الإيراني لحادث إثر -هبوط صعب-
- أنباء عن تعرض مروحية رئاسية لـ-حادث- وغموض حول تواجد رئيسي ع ...
- وسائل إعلام إيرانية: -هبوط صعب- لمروحية الرئيس إبراهيم رئيسي ...
- لافروف يرد على مزاعم سوناك وشولتس بأن روسيا أوقفت إمدادات ال ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل -عنصر بارز- في -حماس- في غزة وينش ...
- الرئيس الجزائري يؤكد أن سنة 2027 ستكون حاسمة بالنسبة للبلاد ...
- جنرال بريطاني يسرد معلومات صادمة عن جيش بلاده
- لافروف: حان الوقت كي يدرك نظام كييف الحقائق على الأرض


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد رفعت الدومي - خمسون درجة من الرمادي.. أو.. رماد النور!