|
المجاذيب
هشام الطوخى
الحوار المتمدن-العدد: 1326 - 2005 / 9 / 23 - 08:52
المحور:
الادب والفن
الشيخ داوود قال : اذا أُذن للعصر فاغلق القاعة ، ويوميتكم على الجنازة . كان هذا أمراً شاذاً ، فالشيخ الذى جاوز التسعين من العمر وقد صار شبه مقعد قد امتنع منذ سنوات طويلة عن اتباع الجنازات ، وفضلا ً عن تعطيل العمل فقد يجيئ زبون فى تلك الساعة ، والشيخ ونحن -عماله - أحوج ما نكون الى زبون جديد منذ بارت تجارة الكليم اليدوى . لكن من ذا الذى يقدر أن يقاوم موجة الهذيان التى أغرقت مدينتنا القديمة منذ أشيع موت " رمانة " ؟ منذ الصباح والناس يتجمعون جماعات وفرادى فى الميدان المواجه للقاعة أمام المسجد الكبير وهم اما يكذبون النبأ أو يتنبأون بحدوث أشياء غريبة . قيل أنه حين تمر الجنازة بشارع النحاسين سترتجف الأرض وتُدك البيوت والدكاكين القديمة . وقيل سوف تُمطر السماء ويفيض النيل ، وسوف يطير النعش فوق الرؤوس - وتلك أشياء جربت من قبل ولا يجوز انكارها أو التشكيك فى احتمال حدوثها -وقيل ستحدث أشياءُ أكثر عجباً . لكن أكثر ما أثار القلق والاضطراب فى النفوس الضعيفة هو ما راج سريعاً عن اجتماع رؤوس عائلة الحجارين ، واحضارهم جفنةً مملوءة بالدم ، وغمسهم أيديهم فيها ، وقسمهم بأن يموتوا جميعاً دون أن تمر الجنازة أمام بيوتهم وحوانيتهم فى شارع النحاسين ، ورغم عدم وجود عادة الثأر أو التنازع الدموى بين العائلات الكبيرة - منذ عقود طويلة - فى مدينتنا الواقعة فى أقصى الشمال من دلتا النيل فقد أُخذ الأمر بكل الجدة حتى أن البلدة امتلأت بعربات الأمن المركزى وجنود مكافحة الشغب . سألت الشيخ : هل أُحضر لك " تاكسيا" ؟ قال : أنا لا أعرف ركوب هذه الأشياء . - لكن المسافة الى القبور طويلة يا مُعلم . سكت وأخذ يتفرس طويلاً فى وجهى المجدَّر ثم قال : الولد حسن سوف يأتينى بركوبة . أدرت وجهى وأنا أبتسم . عندما خرج النعش من المسجد ساد هرج شديد وبصعوبة بالغة انتظم الناس وبدأت الجنازة تمضى فى طريقها . كان حجمها غير مشهود ، الشيخ كان راكباً بغلة، ونحن - عماله - نسير عن يمينه وعن يساره نستقص من بعضنا نوادر الميتة ، نكتم ضحكاتنا ، نرسلها ثم نستغفر . سأل حسن الشيخ مداعباً : ألم تنل صفعةً من رمانة يا مَعلم ؟ انفعل الشيخ وقال : كيف؟ أوكانت تجرؤ ؟ الا أنا ... الا أنا . استدرك حسن بنبرة اعتذار : لا أقصد هذه الأيام بل أتكلم عن الماضى يا معلم . تفرسه الشيخ كما لو كان يطالع أبلهاً وقال : لقد كنت معلمها ... كانت تشتغل عندى فى " الكَرَارى " يا بن الجاهلة . انتهزت الفرصة وسألت : حقاً يا معلم ؟ وهل كانت تفهم ؟ أجاب : وهل تظن أنها ولدت مجنونة ؟! ... رمانة ؟! ... لقد كانت ست البنات .... هيييه.... دنيا !!! ، عندما أحضرها أبوها الشيخ يوسف الحجاج أيام العز كانت فى نحو العاشرة ، وكانت تجلس وسط البنات خلف باب القاعة الكبيرة التى كانت فى " الرَّبع " تحل " كرارى " الغزل وتغنى ، كان لها فى كل يوم أغنية ، وكان البنات يحفظن عنها و يغنين معها ، وفى اليوم التالى كانت تجيئ بأخرى جديدة ... رمانة ؟!!! ... لقد كانت وردة الربع ... حين صار عمرها خمسة عشر سنة جاءها عشرون خطيباً ، ولولا أننى كنت قد تزوجت لصرت الواحد والعشرين ، لكن أبوها وعدها لابن عمها جعفر . فى هذه الأيام جاء الى البلد " برنس " قريب للملك و" خواجة " فرنسى وجماعة من رجال الآثارات ، لم يمكثوا طويلاً ، سرعان ما رحلوا كلهم تاركين " أفندى " معجبانى ، يبدو أن البنت قد أحبته سراً ، وعلى كل حال فهو لم يبق سوى أسابيع ، لكنه حين رحل الى الأبد لم يكن فى البلدة من يعمل ، بل لم يكن هناك طعام ليؤكل ، الأسواق كانت خاوية . أما الشوارع والبيوت والدكاكين فلم يكن يوجد بها موضع بقى على حاله . البلدة صارت آباراً ورديماً ، الكلُّ كان يحفر من أجل الكنز . قلت : أى كنز ؟ قال : اسكت يا بن الجاهلة ... لم يكن هناك كنز . لم يجد أحد شيئاً ، لكن رمانة حين حفرت وجدت قنديل وقنديل وجد رمانة ... هيه ... أستغفر الله العظيم ... يا كفرة !! جعلتونا نخوض فى سيرة الأموات .. الله يرحم الجميع . ...................................................................................................... - يا معلم ....؟ - نعم ؟ - ألم تحفر أنت أيضاً ؟ - لا يا بنى ، لكنَّ أبى - رحمه الله - حفر فى قاعة " التكيَّة" . لم يجد الاَّ سرداباً متهالكاً ، كان خاوياً ... لم يكن هناك شيئ؟. - ما حكاية السرداب ؟ ... هل عرف أحد حكاية هذا السرداب يا معلم ؟ ضحك الشيخ وسعل ثم استغفر - وهل هناك أحد لم يعرف ؟! يرحم الله " طربوش " .... لقد ظلَّ الى أن مات يهذى ... لم يبق كلبٌ فى هذه البلدة لم يعرف الحكاية . - الشيخ " طربوش" ؟ - الشيخ ماذا؟!!... لم يكن شيخاً ولا ركعها فى حياته مرَّة . - أليس هو الشيخ طربوش صاحب الضريح يا معلم ؟ نظر الينا فى شفقة ثم قال : اسمه قنديل ... قنديل الحجَّار ، كان يتاجر بأوانى النحاس المسروقة . دكانه كان فى شارع النحاسين ... تماماً فى المكان الذى دفن فيه . هييييييييييييييييه !! ... طربوش ككل الباقين صدَّق حكاية الكنز ، ظلَّ أسبوعاً يحفر أرض دكانه ، حين تمكن منه اليأس رمى معوله فى غيظ ، اهنزت الأرض تحت قدميه وحدث انهيار وظهرت فجوة ، اختلَّ توازنه فسقط طربوشه ووقع فيها ، أسرع يغلق الدكان وعاد الى بيته يفكر ، فى اليوم التالى واتته الجرأة فأحضر جوالاً و" نبوتاً " ونزل الى الحفرة فوجد نفسه داخل السرداب . كانت العتمة حالكة ، أخذ يتحسس الجدران الرطبة فاهتزت بين يديه وعفره التراب ، تردد ، بقى ساكناً ، عندما انتظمت أنفاسه استرد شجاعته وتوغل بطيئاً فى السرداب ، لم يستغرق وقتاً طويلاً قبل أن يدرك أنه متشعب الى شعب كثيرة ، رأى شيئاً يلمع فى احداها فعزم أمره ومضى ، ومع كل خطوة يخطوها كان اللمعان يزداد قوة ، تحول اللمعان الى ضوء باهر ، وبدأت حوائط السرداب فى الانكشاف ، والضوء يزداد قوة ، تسمر فى مكانه يرتجف ، وبدا له أن ظلاً يتحرك فى اتجاهه ويتضخم سريعاً ، انقطع نفسه وتيبست عضلاته وهوى الى الارض ك" زكيبة " ، وفجأة رأى عفريتاً فوق رأسه ، وشمعة تطير فى الهواء ، وسمع صراخاً هائلاً ، ثم هوت فوق صلعته ضربة ، صرخ مرعوباً ، وبقيا - هو والعفريت - يتجاوبان بالصراخ . لم يكن العفريت الا رمانة ... هييييييييييييه !! ... كانت البنت قد تسللت الى قاعة "التكية " واكتشفت أمر السرداب الذى حفره أبى ، فعزمت أمرها وأشعلت شمعة ، وحملت " نبوتاً " وخاضت فى السرداب . منذ تلك اللحظة أصيب الاثنان بلوثة ، وحبس قنديل نفسه فى شارع النحاسين أمام دكانه ، لا ينطق الاَّ بكلمات عن السرداب والعفاريت وطربوشه الذى لو لم يسقط من رأسه الى داخل الحفرة لما حدث له ما حدث ، ثم كفَّ عن الكلام ، واحترف جمع الحيوانات الميتة ، يسلخها ثم يلقى بها فى تجويف دكانه ، بقى هكذا عدة سنوات حتى مات دون أن يدرى به أحد ، وتحللت جثته وفاحت رائحته ، فعرف الناس ، ولم يجرؤ أحد منهم على اخراج الجثة لدفنها ، فقرر الحكماء أن يبقوه حيث مات ، وسدُّوا باب دكانه بالطوب وكتبوا عليه " الفاتحة " ، أما رمانة فقد هامت على وجهها فى المدينة ، تصرخ فى وجوه الناس وتصفعهم ، تأكل النفايات وتنام فى الخرابات ، وتقضى حاجتها فى كل مكان ، لكن شارعاً واحداً كانت تتجنبه ، أو قولوا مُنعت عنه هو شارع النحاسين حيث اعتكف طربوش . بقى من حكايتها شيئ واحد غير مفهوم ، ذلك أنها بعد خروجها من السرداب ظلت بطنها تنتفخ ، وبعد سبعة شهور بالتمام وضعت البنت ولداّ ميتاً ، لم يُعرف أبداً أبوه ، قيل أنه طربوش ، وقيل بل ابن عمها جعفر ، وقيل بل هو عفريت من السرداب ، وأكبر الظن أنه ذلك الأفندى المعجبانى الذى جاء مع " البرنس " .... هيييه !! ... ذلك شيئ يعلمه الله . كنا على مشارف شارع النحاسين حين تبدَّدت الهمهمات وابتُلعت الأنفاس وساد الصمت وامتدت الأعناق فى توتر و ترقب ، ثم سُمعت صرخةٌ مرعبة ، وتخبط السائرون وهاجوا وسقط بعضهم وداستهم الأقدام الهاربة . قيل أن النعش طار عن أكتاف حامليه ، وقيل بل دار حول نفسه رافضاً التقدم الى الأمام ، وقيل أن الأرض زُلزلت ، وقيل أن ضباباً خرج من ضريح الشيخ طربوش ، فأدمع العيون وأعمى بعض الناس ، وقيلت أشياءٌ كثيرة غير مؤكدة . الشيئ الأكيد هو أن النعش بقى ملقىً فى الطريق ثلاثة أيام لا يجرؤ أحد على الاقتراب منه أو حمله الى المقابر ، تَلاوَمَ الناس وخافوا اللعنة ، وخطب الامام فى المسجد وعمَّمَ الاثم على الجميع ولم يستثن أحداً ، وأبرأ ذمته الى الله . لكن النعش بقى على حاله ، وفاحت رائحته فى كل الشوارع المحيطة وملأت البيوت فهجرها الناس ، و فى أحد الأيام جاء بعض الصيادين من المدينة الواقعة على الشاطئ الآخر من النيل ، فسحبوا الجثة الى النهر ووضعوها فى قارب صيد وداروا حول المدينة ورسوا عند المقابر ، دفنوا الجثة فى أقرب مقبرة وجدوها ، ثم عادوا الى بلدتهم واختفوا . بعد أيام أُشيع فى مدينتنا القديمة أن رمانة قد دفنتها الجن ، وقال الصالحون منا : لا ... بل الملائكة !!!
#هشام_الطوخى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العبور الى المستقبل ... الطريق الى حافة الجسر
-
الزرنيخ
-
أهل الكهف
-
انتخابات عصر التحنيط
-
المصريون : شرعية الحاكم المقدس
-
العقل الأبوى : موت العقل العربى
-
نحن والتطرف : الصمت شريعتنا والمجد للصامتين
المزيد.....
-
زاخاروفا تشير إلى شهرة الأغاني الروسية رغم محاولات الغرب -تغ
...
-
منسق اتحرك محمد العبسي لـ”صدى الشعب” المقاطعة بدأت تكرس ثقاف
...
-
-بنات ألفة- التونسي.. أفضل فيلم وثائقي في جوائز جوثام للسينم
...
-
لماذا تترسخ القضية والثقافة الفلسطينية في تشيلي؟
-
لماذا يفضل سكان موسكو مشاهدة باليه -كسارة البندق- في غرب سيب
...
-
إيران ودول منظمة معاهدة الأمن الجماعي تؤيد تأسيس -الأوسكار ا
...
-
-منشور قديم- يكشف عن العلاقة بين براد بيت وابنه بالتبني
-
أبوابٌ تُفتحُ لمرّةٍ واحِدة --
-
-الإمارات في معجم العين- معرضٌ للمصور البحريني عبد الله الخا
...
-
الشارقة للفنون تُعلِن المشاريع الفائزة بمنحة النشر 2023
المزيد.....
-
عد إلينا، لترى ما نحن عليه، يا عريس الشهداء...
/ محمد الحنفي
-
ستظل النجوم تهمس في قلبي إلى الأبد
/ الحسين سليم حسن
-
الدكتور ياسر جابر الجمَّال ضمن مؤلف نقدي عن الكتاب الكبير ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال وآخرون
-
رواية للفتيان ايتانا الصعود إلى سماء آنو
...
/ طلال حسن عبد الرحمن
-
زمن التعب المزمن
/ ياسين الغماري
-
الساعاتي "صانع الزمن"
/ ياسين الغماري
-
الكاتب الروائى والمسرحى السيد حافظ في عيون كتاب ونقاد وأدباء
...
/ السيد حافظ
-
مسرحية - زوجة الاب -
/ رياض ممدوح جمال
-
الكاتب الروائى والمسرحى السيد حافظ في عيون كتاب ونقاد وأ
...
/ مجموعة مؤلفين عن أعمال السيد حافظ
-
أنهارٌ من زنبق: النهر السادس
/ دلور ميقري
المزيد.....
|