هشام الطوخى
الحوار المتمدن-العدد: 1304 - 2005 / 9 / 1 - 08:54
المحور:
الادب والفن
فى المرات التى ذكرت فيها هذه الحكاية أعدنى الجميع مجنوناً ، اذ أننى كنت أرويها من باب سرد الوقائع التاريخية لعائلتى - والتى لا تقبل أى تشكيك - .
الا أننى - حين أحكيها لكم الآن - مضطر لأسبابى الخاصة لاعلان تشككى فى ايمانى المطلق بها ، ولأن أحذف منها بعض التفاصيل المهمة حتى تصير أحداثها موائمة لما كان يدور فى تلك الأيام .
والحكاية كما تعلمون مدونة بخط اليد فى السجلات القديمة التى صارت ميراثى الوحيد من أحد أعمامى الكبار ، وهى متاحة مجاناً لمن يريد الاطلاع .
فى العام 1763 أعلن أنه ( قد توفى القيصر بطرس الثالث بمشيئة الرب القدير اثر نوبة من المرض العضال الذى لازمه طويلاً . رحمه الله وألهم شعب روسيا العظيم الصبر على هذا المصاب الجلل ) .
والذى تعلمونه أن بطرس المغدور قد مات بمشيئة " كاترين العظمى " زوجته القديرة اثر نخب من الفودكا المعطرة بالزرنيخ .
أتعلمون من خادمه المطيع الذى قدم له الكأس فى تواضع وتذلل ؟ انه جدى الكبير " ألكس بيترهوف " نفسه ، والذى كان قبل ذلك بأيام قليلة مع القيصر كأحد ضباط حرسه المقربين .
بعدما نجحت المرأة النمساوية - بمعاونته - فى اغتصاب العرش اثر المحاولة الرابعة ، عرف أخيراً مصيره ، فانطلق هائماً على وجهه باتجاه الجنوب .
الحوادث التالية - من حياة جدى - بعد فراره الكبير مبهمة تماماً ، وكل ما يعرف الآن أنه قد شوهد بعد فترة فى مصر المحروسة يتذلل فى بلاط " على بك الكبير" - " كتاجر من القوقازيين الطيبين باسم " عزيز الدين التبليسى .
عندما غادر الرجل القصر كان الأمير قد علق فى ذراعه امرأة ، هى زوجة أحد ضباطه المقتلوين فى حرب الشيخ " همام " - الحاكم البدوى للصعيد - أعطاها له الأمير كزوجة وأورثه أيضاً ماله وسيفه .
بقى " ألكس "أو " عزيز الدين " فى فراشه شهراً ، وفى أحد الصباحات الهادئة أيقظته المرأة الشابة قائلة أنها تشعر ببطنها تتحرك . نظر فى وجهها طويلاً ، ودون أن يقول شيئاً ارتدى ملابسه ونزع السيف المعلق على الحائط وخرج .
عندما استقر بين يدى " محمدأبو الذهب " قائد جيوش " على بك "رشق سيفه فى الأرض وركع .
فى المساء كان على رأس فرقة من الجنود ينتهب قصر أحد المماليك المارقين ، وفى الأيام التالية أغار على العربان وذبح بعض الرجال وسبى النساء واستلب أموالاً كثيرة .
بعد مدة انقلب " على بك " على رجله المفضل ، وفر " أبو الذهب " الى الصعيد ، ثم استجمع قواته وهاجم المحروسة ففر " على بك " شرقاً ، وامتطى " ألكس " أو " عزيز الدين " جواده ليلحق بسيده الكبير ، لكنه ما ان عبر النيل عند " المنصورة " حتى أحاطه بعض العربان ، فقاتلهم حتى أصيب ، وألقى بنفسه الى النهر .
حين أفاق وجد نفسه تحت خيمة تسد مدخلها " حصيرة " من سعف النخيل ، حاول النهوض فآلمته طعنات فى جسده ، بقى راقداً ينصت الى خرير النهر المجاور وأصوات حيوانات الحقول القريبة .
بعد ساعة حضرت امرأة من الغجر ، غسلت جروحه وجاءت بطعام فى قصعة وأكلت معه ، عندما شبعا عزفت على كمنجة .
فى اليوم التالى بعد أن غسلت جروحه وأكلا وعزفت ضربت على دربكة .
فى اليوم الثالث خلعت عباءتها وبقيت بقميص بلا أكتاف و ارتدت بين أصابعها زوجين من الصنوج وقامت لترقص . تمنى كأساً من الفودكا وقال فى نفسه هذه هى المرأة التى أريد .
فى اليوم الرابع نزعت قميصها فسكر ، ثم اختفت .
بحث عنها فى الجوار وجاب المدن والقرى والكفور ، وعبر الترع ومصارف المياة والصحراوات ، وطاف بالخيام ، وفتش وجوه النساء .
فى تلك الأيام سمع أن " على بك " قد أسر عند العريش وأعيد الى المحروسة ، فمات مسموماً .
الذين رأوه بعد ذلك قالوا أنه كان ككلب ضل عن سيده ، وأنه كان يتحدث عن شخص يتبعه ليقتله ، فكان يتخفى وينادى على غجريته ، ويدعوها كى تجيئ فتنقذه ، ويبكى ويصرخ ويلهث .
عجوز من طائفة " الهواك " المشعوذين استطاعت أن تبقيه لفترة هادئاً . كان يمشى بين يديها كطفل .
فى ليلية ما بلا قمر قادته الى " القرافة " فنبشا قبر عذراء دفنت صباحاً ، دفنا تحت رأسها رأس هدهد ودجاجة سوداء وخمس ريشات من جناحى بومة ، ثم أشعلا شمعتين صغيرتين فى فتحتى أنف الميتة ، وجلسا يطوحان رأسيهما أربعين مرة وهما يرددان : ( الغجرية تعود لعزيز الدين والذى يتبعه يموت ...الغجرية تعود لعزيز الدين والذى يتبعه يموت ......( .
لم تعد الغجرية ولم يمت الذى يتبعه ، والمعروف أن حالته ازدادت سوءاً فكان يرتجف ويفرمذعوراً من بعض الناس ، ثم اختفى ولم يره أحد .
فى الأسابيع التالية راجت الاشاعات حول شبح يظهر ليلاً فى الحقول ، يجرى و هو يصرخ بلغات غريبة ويطوح بسيف ، ثم يختفى بين الأشجار ، ومن يراه يصيبه العمى أو الطاعون .
وبدأ الفلاحون الذاهبون الى حقولهم فى الصباح يعثرون أحياناً على جثة مقطوعة الرأس ملقاة بين الأشجار ، وسرعان ما ازداد عدد الجثث ، حتى أنه لم يبق فلاح واحد يستطيع أن يدعى أنه لم يتعثر بواحدة ، وازداد الرعب فى القرى ولزم الناس ليلاً دورهم وهجر الفلاحون الأرض فبارت .
وجاء كتبة البيك الأقباط ليجمعوا ضريبة " الميرى " فلم يجدوا شيئاً سوى حكايات الأشباح ، فكانوا يرسمون علامة الصليب ويعودون الى وكيل البيك ليس معهم الا الخوف و الحيرة .
بعد أيام انتشر المماليك والعسكر فى الحقول وعاد الفلاحون الى الأرض يزرعونها ويدفعون " الميرى " ويتسامرون ليلاً حول الحطب المحروق بحكايات الشبح الخرافية .
أما هو - الشبح نفسه - " ألكس بيترهوف " أو " عزيز الدين التبليسى " - جدى الكبير - فقد انقطعت أخباره ، وبعد عام واحد لم يعد هناك من رآه أو سمع به من قبل وكأنه لم يكن يوجد أبداً فى يوم من الأيام .
#هشام_الطوخى (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟