أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سميرة المانع - العنز والرجال















المزيد.....

العنز والرجال


سميرة المانع

الحوار المتمدن-العدد: 4753 - 2015 / 3 / 19 - 11:43
المحور: الادب والفن
    



لم تمتْ بسهولة، وكم كانت صعبة لحظات مخاضها ذاك المساء. لقد هرول كل من في البيت على لوعة صراخها وقرقرة اللهاث. نزل محمود من غرفته مشدوها بفردة نعال، وطقطقت زكية بقبقابها مسرعة، وكان الوالد واقفا عند رأسها وعلى استعداد. لم يجد علاجا لها، ولم يستطع أي منهم ردع الموت وهو متبطن في عنزتهم الولود المحمومة، عنزتهم القهوائية ذات العيون الواسعة. ظلوا متكتفين حولها يرون نصف الجنين والموت فيها جاد. وبضمة نفس عميقة شربت العنزة هواء الارض، ثم سقط جنينها فاستدارت عنه ببوزها ونامت اجفانها بأعياء. كان الجنين لحمة دبقة بعيون دامعة وقوائم متراخيات، علقت به ذريرات التبن والتراب حال أن تسلمته الارض فتمرغ قربها قطعة مبللة قذرة واشتعل البيت أسفا، لقد ماتت العنزة، ماتت العنزة واأسفاه. جاءت جارتهم مع ثلة من صبيانها راكضة حين سمعت النبأ، وكانت خبيرة في عسر الولادات، حاولت فحص الروح الميتة، وجسَّ منابت الوعي منها، إلا أن العنزة أبتْ الحياة بعناد التيوس والخرفان.. خلال هذا أُكتُشف أن جنس المولود ذكر.إنه سخل. عنز، لا غير، وهي عنزة سخية، كريمة الدسم معطاء. لقد قتل السخل عنزتهم، وقد فقدوها بسببه، فما أتعسه مولودا غير جدير بقتل الحياة. مَن يجني سخلا بلا والده ؟! سخلا يعيش على لبن الناس! وعندما يكبر لن يدفع ديونه، بل لن يدفع شربة لبن واحدة، وكيف يدفع من كان بلا اثداء؟! لقد قتل والدته هذا العنز العاقّ وهومطروح قربها وكأنه البريء الخائف من العقاب. لا زالت فيه رائحة الدماء حارة تذكرهم، فيهمل أيما إهمال.
شُيعت العنزة بكل ما يَليق بها من احترام، ووضعت فوق صندوق القمامة بعد أن غطيت بحصير أجرب خوفا من الذباب. عاد الوالد مهموما للدار، كما صعد محمود لغرفته متباطئا، وظلت زكية تكنس وتغسل البقعة المدماة، قريبا من ولدها الذي كان آخر عطاياها. كانت عيناه سوداوين حزينتين، بطنه يرجف كبطن جبان خواف، انطوتْ ساقاه تحته وسال جسده بارتخاء. تجنبت زكية أن تبله بالماء وفكرت لو تجلب له غطاء، أو تأخذه معها إلى الغرفة قرب النار. عليها أن تنظف أقذاره بعد أن تنتهي من كنس المكان وتمسح ما عليه من آثار. جلبتْ خرقة وظلتْ تمسحه بها فظهرتْ بشرته القطيفة اللامعة ورأسه الصغير ووضحتْ اذناه. كان صغيراً جداً، ولكن كل صغير يكبر، وسيكبر سخل عنزتهم في يوم ما. سيشرب الحليب .ستطعمه زكية الحليب بالملعقة حتى يتعود على شربه في الإناء. ربما يكون جائعا الآن ، فلماذا لا تطعمه ؟ فرحت قليلا، وهذه أول مرة تفرح بعد موت عنزتهم، وكانت عزيزةعليها ، وقد بكتْ حين أخرجت ميتة من الدار، تماما كما أخرجت امّها من البيت قبل ثلاثة اعوام. صاحت زكية وبكت ولم ترد عليها الاثنتان. اعتادتْ على حلبها بعد وفاة والدتها كل صباح ومساء. كان عمر زكية عشر سنوات وسرعان ما تآلفتا وباتتا وحيدتين في البيت بعد أن يخرج أبوها صباحا لعمله مناديا في مزاد السوق. وكثيرا ما تغيّب أخوها محمود الجندي في الثكنة. لديه عطلة يوم واحد في الاسبوع غالبا ما يتغيبها مع اصدقائه قي المقهى يلعبون الطاولة ويشربون الشاي. كانت العنزة أليفة ، طيبة مطيعة، لا يجأر صوتها إلا وقت تأخر برسيمها عنها، وهي تعرف أوقاتها في الغذاء. لم تجد زكية مشقة وهي صبية جاهلة طباع الحيوان. بقعتها في الحوش مملوءة بها والمكان أنيس بنفسها وهي حية من الأحياء. آثارها لا زالت موجودة في البرسيم والشعير المبعثر هنا وهناك. مسكينة امها لم تترك شيئا بعد وفاتها سوى ثيابها وقد وُزّعتْ على الفقراء.. وسوى زكية ومحمود في البيت وليتها كانت باقية لتلد لهم اخوة وأخوات. ستسميهم زكية اسماء جديدة، اسماء من هذا الزمان. تود لوتسمي مثلا (هناء) أو ( وفاء) وليس كاسمها ، اسما عتيقا تكره نفسها به في بعض الاحيان. ستعطي هذا العنز آسما مناسبا له. إن اسمه ( شوقي). والتفتت زكية نحوه متسائلة، ما رأيك في ( شوقي) ها؟ ضحكت على نفسها، فقد تصورت ان العنز قد لمظت شفتاه الناعمتان.
ليت لها أختا صغيرة، لخاطت لها الملابس المكركشة عندما تكبر وتأخذها معها في الزيارة عند بعض الصديقات. لن تدع احدا يقص شعرها، ‘نها تحبه طويلا كي تجعل منه ضفائر على الاذنين معلقات. كم تود البنات الصغيرات، لكن لا مانع من أن يكون هذا العنز ولدا. ستضع له شريطا أخضر في رقبته، وربما جرسا وخلخالا في الاقدام. وعندما يكبر سيشرب الحليب بنفسه وياتيها إلى المطبخ جائعا يمأمئ انه قد جاع. سيأكل البرسيم وهو شيء متوفر ورخيص في ناحيتهم الزراعية، وستوصي اباها كي يجلب له كل يوم باقة أو باقتين. ستطلب منه أن يجلب الشعير ونوى التمر ايضا، فكل شيء في ناحية ( أبي الخصيب) كثير للحيوانات.
عندما استيقظت صباحا وجدته على حاله متلملماً في الغطاء، عيناه تبلبصان من تحته عسى أن يعرف أحدا منهم الآن. انشغلت بامور الفطور، وشرب والدها الشاي الاحمر خاليا من الحليب، متذكرا الحليب الذي افتقدوه بعد موت العنزة وبسبب هذا السخل الذي لا يساوي ربع دينار. صمتت زكية وكانت تدري أنه لن يبقى على هذه الحال ، ومع قليل من الصبر سيساوي أكثر، ولكن لماذا ُيباع.
قبل أن يخرج الوالد اشار عليها ان تشتري حليبا وان تطعمه كي لا يموت من الجوع، الحيوان. هذا ما فكرت به ايضا. ما أصدق الرأي. لكن الوالد رماه بنظرة مساوما قدره :
_ وسنذبحة بعد اسبوعين أو ثلاثة. نذبحه قبل أن يموت ان شاء الله.
يبست شفتاها : - ولكن لماذا ؟! والبارحة قد جاء !
_ لماذا؟! لان لا فائدة منه، عنز ما الذي وراءه ؟
تشجعت زكيه : - ولكن أريد أن أربيه.
قهقهه الوالد مستهزئا:
_ تربينه ؟! إلى متى ستبقين أنت في عقل النساء؟!
صمتت زكية ولم تخبره ان اسمه ( شوقي) اسم اختارته له من دون الاسماء. وإلا لكانت مهزلة ولتحدث عنها أبوها وعن عقلها في السوق وعند الاصحاب، ولتندر عليها في البيت ردحا من الزمن. هرع الوالد خارجا صافقا الباب وراءه، تاركها واياه.
+++++++++
ستربيه اسبوعين أو ثلاثة ، هذا ما حكم به أبوها وستعايشه لكي تنتظر موته ولا شئ سواه. لا تستطيع أن تتمنى له شيئا ، أن تعلق في رقبته جرسا، أو تمنحه اسما وما فائدة الاسماء.؟ جاءت له بالحليب ، فلم يستسغ شربه بالملعقة، متكبكبا على حافتيْ شفتيه، وفمه مطبق مزموم ، لا فائدة من الاقناع.
بصبر وأناة حاولت إطعامه. كان يجب ان يأكل طعامه منذ الليلة الماضية ، لكنه رافض ممتنع باشمئزاز. يلوي راسه عنها ذات اليمين وذات الشمال. أيكون قد عرف مصيره؟ ما أتعس هذا؟ لقد سمع والدها وهو يتحلفه. ولكن يجب أن تذوق شيئا ، حاولْ أن تتطعمه، خذْ ملعقة واحدة فقط، واحدة رجاء.
وخلال اليومين التاليين لم يذق العنز شيئا، وفي اليوم الثالث جلب والدها له ثديا من المطاط، ناولها اياه معلما :
_ اطعميه الحليب به، سيعتاد عليه بعدئذ.
استبشرت زكية. ربما غيّر والدها رأيه. لن يذبحه ولقد جلب له ما سوف يعتاد عليه بالغذاء. مصّ العنزالحليب مطمئنا، مغمضا عينيه بتلذذ متدفئا بالشبع حتى انهاه. فاته أن يفرق بين الثدي المطاطي البارد عن ثدي أمه الدافئ الذي لم يذق طعمه على الاطلاق. انتهى من وجبة أكل وتلاها أخرى .. سيكبر ويترعرع. سُرّتْ زكية به ، متمنية الرعي له في البستان المجاور، إذا ما كبر وحاله كحال بقية الخرفان .
بعد أيام قلائل ارتفعت قوائمه، نما عوده وسمنتْ فيه لحمات. بات يشمشم بفضول في الارض، كأنه يأكل بخياشمه شيئا من حشاش التراب وزكية تراعيه تطل عليه بين فترة واخرى ، تداعبه تحادثه مستلطفة متوهمة بُعْدَ الموت عنه ولم يخالجها شك من جدوى وجوده قربها.
+++++++
في صباح الاسبوع الثالث، أمسك والدها كوب الشاي والحليب بين كفيه، متطعما المذاق، غير ناسٍ ذم الحليب الذي جاءهم من غير عنزتهم الحلوب الميتة. متذكرا سخلها الذي عليه ذبحه هذا النهار، فهناك وليمة بالمناسبة ينوي أن يدعو اليها اصحابه ، ومن بينهم ( الشيخ ضاري) وابنه (غزوان) وقد يأتي معهم ( تقي) و ( رحيم) والعنز أصبح كافيا، على ما يعتقد، كي يأكل منه خمسة أو ستة اشخاص. شارحا لزكية طريقة شيه بالتنور بعد أن يُملأ بطنه رزا وبهاراً. ولقد سال لعابه وهو يؤكد :
- زكية، عليك بالتوابل، لا تنسي التوابل، إنها سرّ نجاح الطبخ الذي كانت تطبخه أمك المرحومة وجارتنا أم جبار.

صمتت زكية، ثمّ تساءلت : - أتريد كوبا آخر؟
ردّ والدها :
- لا ، لا، لقد آكتفيت، أريد أن أعرف فقط هل ستبيضين وجهي غدا أمام الزوار؟
تذكرت زكية الدجاجات الذي ذبحها والدها عندما يأتيهم في العادة زوار. كيف يُمسك أعناقها بعد أن يضع جناحيها تحت قدميه كي لا ترفرف فينتشر دمها منقطا كل مكان. وحين ينتهي من ذبحها يرميها على مسافة منه وقد انتهى من الأمر القليل الشأن. كان يذهب للصيد في مزارع شط العرب القريبة منهم ويأتي محملا بالطيور، متباهيا بدقته في التهديف ومهارته في معرفة مكان العشوش والاوكار. سيمسك السخل اليوم، وبسهولة أيضا ويذبحه بدقة ونجاح. لكن هذا العنز تعرفه. رأت عينيه الصغيرتين الحزينتين حين جاء. رُبّيَ عندهم ورأت والدته من قبل آنذاك. ما ضرّ لو بقي العنز في البيت تذكارا لها ومثل اشياء أخرى ؟ّ لكنها خافت أن تقول لوالدها شيئا لئلا يغضب آو يضحك ويجعلها نكتة مليئة بالسخافات. تمنت لو ينصحه محمود أخوها، ليت محمود يتدخل كي يمنع عملية القتل معارضا بالكلام. لكن محمود بقي صامتا يأكل فطوره حتى أنهاه. ودعهما مهمهاً : - في أمان الله.
علا صوت الوالد بعده :
- زكية، أحضري السكين والحبال. السكين الحادة ولا تجلبي سكينة المطبخ فهي عمياء.
ناولته زكية السكين والحبل ، ولم تشأْ إخباره أنها ذاهبة إلى بيت الجيران.
______________



#سميرة_المانع (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل تدلني على بيتي ؟
- الميثاق مرة اخرى
- ميثاق 91
- الحرية، الحرية ، من فضلكم
- قصة ( ما علمتم وذقتم )
- من دفع للمزمرين ؟
- المرأة بضاعة وزخرفة
- هل تدلني على بيتي؟
- ما قلت وداعا أبدا
- نساء
- خروج أديب من قرونه الوسطى
- ما يقال عن المرأة في الادب العربي
- الاعتداء
- العيش في سلام
- التواطؤ الثالث بالسياسة
- التواطؤ الثاني بالجنس
- التواطؤ الاول بالفنون
- البحث عن الموجود
- العاقلة جدا
- بداية حملة السرقة


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سميرة المانع - العنز والرجال