أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كريم مرزة الاسدي - 3- 4 - ذكريات الجواهري بين العمامة..و..أزحْ عن صدركَ الزَّبدا















المزيد.....


3- 4 - ذكريات الجواهري بين العمامة..و..أزحْ عن صدركَ الزَّبدا


كريم مرزة الاسدي

الحوار المتمدن-العدد: 4750 - 2015 / 3 / 16 - 09:17
المحور: الادب والفن
    


3 - 4 - ذكريات الجواهري بين العمامة..و..أزحْ عن صدركَ الزَّبدا

كريم مرزة الأسدي

ودّعتك على أمل اللقاء بك وعداَ , ووعد الحرِّ دينً عليه , هذا " ذكرياتي" بين يدي , قلبت ورقة الإهداء , فإذا بصورة الجواهري أبان مطلع شبابه تصافح عيني , بجبته وعباءته ونحافته وعمّته , واقفاَ بإعتدال قامته الشامخة , سابلاّ يده اليمنى على كرسي بجواره , وواضعا يده اليسرى عليها , لا تبدو على ملامحه نظرات التحدي , وتعبيرات التصدي ,وإن كان في شعره غيره في صورته , مما يعطيك انطباعاً , أن الرجل في الأصل طبعه الهدوء والسكينه والوداعة والألفة الطيبة , والعلاقة الحميمة , وما الثورة والتمرد والهيجان الا حالات عابرة تنتابه بين حين و آخر , إثر موقف جماهيري , وصدمة قوية , أو عقبى انفعال شديد وحادث جلل , وغالبا ما يسكبها شعرا مبدعا , أو يكتبها نثرا رائعا , وعندما يأتيه الإلهام الشعري " أشبه الى الوحي" فيضاً , ينعزل منفردا , ويغضب على من يأتيه قاطعا , حتى أنّ أروع قصائده ( يا دجلة الخير ) نظمها في ليلة براغية واحدة !! . وقبل أنْ أقلب ورقة الصورة المعممة , تأملت قليلا متسائلا عن سرِّ اختيار هذه الصورة من بين آلآف الصور التي أخذت له كشخصية شهيرة , طيلة عمره المديد , ألم يقل ذات يوم بحقها ؟! :
قال لي صاحبي الظريف وفي الكفّ ***ارتعاشٌ وفي اللسان انحبــاسه :
أين غــــادرتَ "عمّة ً" وأحتفاظــــاً ***قلت : إنّي طرحتها في الكناسه
عضضت على شفتي , وقلت ربما الأمر عابر , وورد على باله خاطر , لا بأس الصورة معبّرة و عابرة , وله ما يشتهي ويتشهّى , غلقت الكتاب , فوقع نظري على غلافه الأخير , فإذا بصورة ثانية للجواهري المعمم تحتله كاملاً , وهذه المرّة واضعا نظارته على عينيه , واقفا بشموخه المعتاد , ويبدو أكثر هيبة ووقارا , وأكبر عمرا , قلت مع نفسي لآتصفح الكتاب , فوجدت صورة ثالثة على الصفحة 173 تشغل حيزها تماما , إذن الأمر مقصود لرغبة نفسية جامحة عارمة , تنطلق من اللاوعي المكبوت , وربما يدعمها وعيه بحدود , ولا اعرف بالتأكيد ما كان يدور في مخيلته أبان طفولته المبكرة , إذْ تتراكم العقد في العقل الباطن للإنسان , فهل كانت العمامة لديه ترمزالى وقار أبيه , أو علم جده صاحب الجواهر , أو جذور عائلته , أم انّها تمثل عمائم عمالقة الشعر , عمامة المتنبي العظيم , وعمامة العبقري الخالد ابن الرومي , وعمامة أبي العلاء الشاعر الفيلسوف العتيد؟ ولم أذكر عمامة الشاعر الشاعر الفنان المبدع البحتري , لعلمي أنّ الجواهري يعشق شعر الأخير , لريشته الفذة , وزجالته الرائعة , ويكره شخصيته لإنتهازيته الفجة , المهم لا يهمني كثيرا ما قال , أو ما لم يقل الجواهري بهذا الشأن ! فانا لا أعيد " ذكرياته" , وإنّما أسجل انطباعاتي على أعتابها , ولكن بالتأكيد هذا التغيير في لباسه , سيان لعمامته بطاقيته , أوغترته - الوشاح الأبيض الطويل الذي ارتداه أبان فترة سجنه - أم لعباءته و جبته بطاقمه ورباط عنقه ... لا يعبرعن دهاءٍ سياسيٍّ, ولا عن نفاق ٍ اجتماعيٍّ , ولا هم يحزنون , لأن ببساطة القول الشاعر العملاق لم يخلق لهذه الأشياء , فهو أكبر منها , وأعرف بها , والبيتان اللذان قالهما في مدح الملك فيصل الأول , ليشير فيهما الى حسن تمرسه في السياسة , و ألمعيته في الدهاء - وهما يحملان الضدين المدح والقدح - لا ينطبقان على الجواهري نفسه , بأي شكل من الأشكال , أو حال من الأحوال , اقرأ معي وتمعن ! :
لبّاس أطوار ٍيرى لتقلب الـ **أيّـام ِ مُدّخراً سقاط ثيابِ
يبدو بجلبابٍ فإن لم ***** ينزعهُ منسلاً إلى جلبابٍ !!
لم تفتني الأبعاد المجازية , والصيغ البلاغية للبيتين ,كما تتوهم , بل ألعب اللعبة نفسها , رجاء تابع معي , الرجل خلع عمامته , لا كرهاً لها , ولا سخطاً عليها , ولا تخلصا منها , وله أن يطرح صورتها المزيفة في الكناسة بجلسة عبثية , وإنـّما ابتعادا عنها , نشداناً لحريته , وتكيفاً لبيئته , واحتراماً لخلفيته , والا فهي مخبؤة في دمه , مزروعة في وجدانه , فاعادها إلى مقامها , وارجعها إلى هيبتها , متباهيا بها , فهي الشعر وإصالته , والتاريخ ومهابته , والكلام وبلاغته ,هذا ما تقوله لي أعتاب " ذكرياتي" , وإنْ خُفيت الأمور على الجمهور :
أجب أيها القلبُ الذي لستُ ناطقاً إذا لم أشاوره ولستُ بســـامع ِ
وحدّثْ فأنّ القومَ يدرونَ ظــاهراً ***وتـُخفى عليهم خافيات الدوافع ِ
وفجّر قروحاً لا يطـاقُ آختزانها *** ولا هي ممـــــا يتقى بالمباضعِ ِ
تلفـّتُّ أطرافي ألمُّ شتــــــــــائتاً *** من الذكرياتِ الذاهباتِ الرواجع ِ
تحاشيتها دهراً أخافُ آنباعثـها ***على أنّها معدودة ٌ مــن صنائعي
الآن قلبت ورقة الصورة , ووصلت الى ورقة تحمل عنوان ( المقدمة ) , والبيتين الموجعين :
أزحْ عن صدركَ الزّبدا ***ودعهُ يبثُّ ما وجدا
وخلِّ حطـــــامَ مَوْجدةٍ *** تناثرُ فوقــــهُ قصَدا
البيتان من قصيدة ما بعدها قصيدة في الروعة !! فإنْ كانت (يادجلة الخير ) رمزالحنين والشوق ومناجاة الأوطان , و(أخي جعفر) عنواناً لجرح الشهيد , ودم الثائر ..., أمّا هذه فهي منتهى صدق ما تبثُّه النفس البشرية من مكنونات أليمة مكبوتة , تقطع نياط القلب , بجرأة متناهية في عصر ٍلا يرحم ! قال عنها الجواهري نفسه هنا ( الجواهري ينتصر للجواهري ) ! , وكتب الى مجلة الديار اللبنانية , التي نشرتها في عددها المؤرخ (15 - 21 أذار 1976) ,قائلا : " آخر ما لدي , ومن أعزُّ قصائدي إلي " , حصل من خلالها الشاعر على جائزة ( اللوتس ) العالمية لسنة 1975م , فاقامت جمعية الرابطة الأدبية في النجف الأشرف حفلاً تكريميا له بالمناسبة ,وذلك مساء الخميس ( 2 / 11 /1975م) في قاعة الاجتماعات التكريمية , وألقى الشاعر قسماً منها , فعدد أبياتها (124) بيتاً, فإليك عدّة أبيات ونعقب :
ولا تحفلْ فشــقشـــــقة ٌ**مشتْ لكَ أنْ تجيش غدا
ولا تكبتْ فمِــــن حقبٍ *** ذممتَ الصبرَ والجــلدا
أأنتَ تخافُ مـــن أحدٍ *** أأنــــــــتَ مصانعٌ أحدا
أتخشى الناسَ أشجعهمْ ***يخافك مغضبـــــاً حردا
ولا يعلــــــوكَ خيرهمُ *** ولستَ بخيـــــرهمْ أبــدا
ويدنو مطمحٌ عجـــبٌ *** فتطلبُ مطمحا بَـــــــعدا
ويدنو حيثُ ضقتَ يداً ** وضعتَ سدىً وفاتَ مدى
أفالآنَ المنى منــــــحٌ *** وكانتْ رغـــــــوة ً زبدا؟
وهبكَ أردتَ عودتــها ***وهبكَ جُهــــدتَ أن تجـدا
فلستَ بواجدٍ أبـــــــداً ***على السبعين مــــــا فقدا
صفق الجمهور هنا كثيرا, ودعوا له بطول العمر , أريدُ منك أنْ تتساأَل معي , وتساعدني على الإجابة, لماذا كان يكبت الجواهري , ويصبر حتى ذمم صبره والتجلدا؟! وممنْ كان يخاف شيخنا فيصانعه حتى سكب لوعته مستنكرا حردا على نفسه؟! ومن هو أشجع الناس الذي كان يخاف الجواهري إذا غضب؟! ومن هو خيرهم الذي لا يعلو شاعرنا منزلة ؟!!
والقصيدة طويلة , ولا أريد أن يغلب شعرُهُ مقالثي , وينجرف القارىء الكريم معها , ويتركني منفردا ,وينسى في غمرة النشوة لذة الفكرة ! ديوانه متوفر وافر , والقصيدة من مجزوء الوافر ( مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن) , عروضتها صحيحة , وضربها مماثل لها , ويعتري أبياتها جوازات الوافر , ومعظمها من زحاف القضب , وهو حسن ,تتحول فيه ( مفاعلـَتن) الى ( مفاعلـْتن) , بإسكان الخامس , فتصبح التفعيلة (مفاعيلن) , واختار الجواهري , أو انطلق - على الأصح - من اللاوعي , هذا - أو من هذا - البحر السريع المتلاحق - يأتي في المرتبة الثانية بعد الكامل في سرعته - لبث همومه المتراكمة كسيل جارف للأحقاد و الإعلام الزائف , وما ألف إطلاق قافيتها الاّ دليل الشموخ والانطلاق للمارد العملاق !
أزحْ عن صدركَ الزّبدا***وهلهلْ صادحاً غردا
وخلِّ البـــومَ ناعبــــة ً ** تقيء الحقدَ والحسدا
بمجتمــع ٍ تثيرُ بـــــهِ *** ذئابُ الغابـــةِ الأسدا
بهمْ عــــــوزٌ إلى مددٍ ***وأنتَ تريدها مــــددا
كفى من القصيدة مددا , وبعد انتهاء الحفل العائلي النجفي , والتكريم المعنوي , وكعادة أهله الأصيلة , ورفقته العريقة , دهدى بيتين من الشعر ,كأنهما عند سامعيه جوهرتان من الدرّ:
مقــــامي بينكمْ شكرُ **ويومي عندكمْ عمرُ
سيصلحُ فيكمُ الشـّعرُ** إذا لـم يصلح ِالعذرُ
ونحن نعتذرإليك , ونرجو أن يصلح الأمر , ففي الإطالة مللٌ , وفي الترقب أملٌ , والجواهري لا يمُلُّ , ولله الأمر من قبلُ ومن بعدُ ...







4 - الجواهري
على أعتاب "ذكرياتي"...أزحْ عنْ صدركَ الزّبدا


مرّ عليك في حلقتنا الأولى عن جواهرينا أنّ ولادته الميمونة كانت في (26 تموز 1899م / 17 ربيع الأول 1317هـ) , وعلى أغلب الظن ما دوناه هوالأصح , رغم ما نقل الدكتور عبد الرضا علي وغيره عن (فرات الجواهري) النجل الكبيرللشاعر الأكبر, أنّ الأخير فتح عينه للحياة في " 23 /7/ 1895م وكلُّ ما عداه ليس صحيحاً " (1) , ولماذا رأينا الأصوب ؟ لئنَّ ولادة أخ الشاعر الأكبر عبد العزيز , الذي يزيده تسع سنوات عمراً , كانت في (1308 هـ / 1890م) , وفق ما ثبتها السيد جعفر الحلي الشاعر الشهير (توفي 1315 هـ /1897م) في بيتيه الآتيين اللذين توجه بهما الى والده الشيخ عبد الحسين الجواهري ( 1281 هـ / 1864م -- 1335 هـ / 1916م) :
بشراكمُ هذا غلامٌ لكمْ***مثل الذي بشر فيهِ (العزيزْ )
سمعاً أباه أنّ تاريخه ** أعقبتْ يا بشراكَ عبد العزيزْ
ومن الجدير ذكره أنّ الشيخ علي الشرقي الشاعر الشهير , هو ابن عمّة الجواهري , تربيا معاً في بيت واحد بداية حياتيهما , ويعتبر الأخ الأكبرللجواهري , ولد أيضا سنة (1890 م) , بعد عبد العزيز بعدة أشهر , والجواهري يزعم أنه أصغر من أخيه (العزيز) اثنتي عشرة سنة (2) , وهذا أيضا غير دقيق , والدقيق ما دونه الباحث القدير الشيخ جعفر محبوبة في (ماضي النجف وحاضرها) بالتاريخ الهجري , وحوّلناه الى التاريخ الميلادي ,و اعتمدناه بعد جهد وتدقيق , خلف الشيخ عبد الحسين الجواهري أربعة أولاد وبنت واحدة , وحسب التسلسل العمري , من الكبير الى الصغير : عبد العزيز - محمد مهدي (الشاعر) - هادي (المنتحر 1917م) - أختهم المدفونة في السيدة زينب - الشهيد جعفر (ت 1948).
ثم ماذا..؟ نعود والعود أحمد ! لماذا رصع شيخنا هذين البيتين المعبرين بادئاً ذي بدء ,
تعال معي لنتحادث خاطفا , والحكم لله ... يرى الجواهري أنّ مابين عمامه أجداده وجذوره الدينية ,وعراقة عائلته النجفية وتطلعه الأدبي - والاّ لم يكن هو سوى معلم بسيط - وبين " ملف..ساطع بك " يقصد ساطع الحصري (1) وبعض الملتفين حوله , أزمة كبرى , طرقت أبواب عصبة الآمم , وكتب عنها مَنْ كتب من كبار السياسيين والكتاب , بما فيهم الحصري نفسه , لذلك يقتضي الرد عليها , بل الأفاضة فيها , فأطال ونعتهم بوصف قاس ٍمرير , نتركه لـ (ذكرياتي), فالرجل متأزم منها حتى الممات , أمّا الشعرة التي قصمت ظهر البعير , والسبب الذي أدلع نيران الحرب بينهما بيت شعر ورد في قصيدة مشحونة بالحنين الى العراق أبان زيارته الثانية إلى إيران (1926م) مطلعها :
هبَّ النسيبُ فهبتِ الأشـــــواقُ***وهفا إليكمْ قلبُهُ الخفـّــــاقُ
والبيت القضية ,أوالأزمة المستعصية يقول :
لي في العراق ِعصابة ٌ لولاهمُ *** ما كان محبوباً إليَّ عراقُ
وهل العراق الا بأهله؟ وهل الإنسان الا بالإنسان ؟ ! ألم يقلْ قيس ليلى من قديمٍ :
مرررّتُ على الديار ِديار ليلى****أقبلُ ذا الجدارا وذا الجدارا
ومـــا حبُ الديار ِ شغفنَ قلبي *** ولكنْ حبّ مَنْ سكنَ الدّيارا
وأيضاَ الأستاذ (ساطع الحصري) , لم ينسَ المشكلة حتى وفاته , وذكرها في ( مذكراته ) الصادر سنة 1967م , ما كان لهذه القضية التي تقاذف بها الطرفان بتهمتي الشعوبية والطائفية , أنْ تأخذ هذا المدى الواسع , لولا الجذور التاريخية المريضة لحالة العراق والأمة الإجتماعية ,وتطرق إليها العالم الإجتماعي الدكتورعلي الوردي في العديد من مؤلفاته القيمة.
وربّ ضارة نافعة , وربَّ نافعة ضارة ! دفعت هذه المشكلة الشيخ (جواد الجواهري ) , أن يفاتح الشخصية النافذة في الحكم و البارزة في المجتمع السيد (محمد الصدر) لحلحلتها , فتدخل لدى الملك (فيصل الأول ) , وتمّ تعيين الشاب المعمم النحيف , والأديب اللطيف , ابن الثامنة والعشرين - وإنْ ذهب الشاعر للتصغير ! - في البلاط الملكي , وذلك سنة 1927م , وهذه المرحلة ربما يراها شيخنا جديرة بالتدوين , وفاءً لصاحب الجلالة , ومباهاة ً بزهو الإنتصار, وانتقالا لواقع حال ٍجديد فوجد نفسه بين دهاليز السياسيين , ومجالس الأنس , ومنتديات الأدب , العمامة على رأسه , وبين يديه كأسه , رمى العمامة وركب الهول :
وأركبُ الهول في ريعان ِ مأمنةٍ*** حبّ الحياة بحبِّ الموتِ يغريني
نعم مرحلة مهمة في حياته , وضعته بين بين , وعلى مفترق الطرق , بين إرضاء الحكّام ونزواتهم , أوالوقوف مع إرادة الجماهير وتطلعاتهم , معادلة صعبة , وتوازن رهيب , ولحظات حرجة , تارة ً يعترف بتقصيره :
تحوّلتُ من طبع ٍ لآخرِ ضدهُ ***من الشيمةِ الحسناءِ للشيمةِ النكرا
ومرات يتمرّد على نفسه, وينتفض طافرا لسبيله :
وليس بحرً مـــنْ إذا رامَ غايـةَ ً***تخوّفَ أنْ ترمي بهِ مســـلكاً وعـرا
وما أنتَ بالمعطي التّمرّدَ حقـهُ *** إذاكنتّ تخشى أنْ تجوعَ وأنْ تعرى
وهلْ غيرّ هذا ترتجي من مواطن ٍ**تريدُ على أوضاعها ثورة ً كبـــرى
فمن ثورته الجواهرية الكبرى قصيدته (الرجعيون) التي نظمها سنة (1929) , إثر المعارضة المتشددة لفتح مدرسة للبنات في مدينته , مدينة النجف الأشرف,ونشرتها جريدة (العراق) , ولم يُرعبها ( لصوصٌ ولاطة ٌ وزناة ُ) , وبعدها ( جربيني ) من (ضد الجمهور... في الدين ) إلى (بداعة التكوين) , و (النزغة) من (أصفق كاسه ) حتى ( يُملي " طباقه !" و " جناسه" ) , ما هكذا العهد بين الطرفين , وشتان بين (البلاط) و( الملاط) !!
فما كان ( الثائر) بقادر ٍ على الترف المقيد ,و العرف المزيف , فطفر من البلاط الملكي اللطيف الى الصراط الصحفي المخيف ,فطغت عليه صحيفته (الفرات ) ( منتصف 1930) , ولم تتجاوزعشرين عددا منها حتى غلقت أبوابها أمامه, وبعد الفوات لم يرَ نفسه الا بين المحاكم والغرامات ,والمشاحنات والعداوات ,ومهنة المتاعب والتيارات حتى أوائل الستينات , وما بينهما عاش الفاقة والحصار لثلاث سنوات , إذْ ضمّه ( جلالته) تحت رحمة قائمته السوداء ! :
فمن عجب ٍأنْ يمنح الرزق وادعٌ ***ويمنعهُ ثبت الجنان مغامرُ
وما هذا بعجبٍ, وإنمّا سنـّة الخلق , وطبيعة الحياة , ولا تذهب بك الظنون - أنت أيّها القارىء الكريم - إلى أنّ الصحافة وحدها سبب هذا البلاء , صاحبنا الشيخ الكبير كان يحركه دافعٌ غريزي قوي للعيش بلذة على حافة الخطر , وهاوية القدر,فهو على هذا الحال , يركض نحو الأهوال , فينظم (حالنا اليوم أو في سبيل الحكم) , وهي قصيدة قاسية ومريرة ضد الحكم القائم حينذاك , عندما إندلعت نيران المعارك المؤلمة بين عشائر الفرات الأوسط بتحريض من الساسة الكبار عام 1935م , إذْ كانت وزارة (ياسين الهاشمي) الثانية في أوج عنفوانها :
ولم يبقّ معنى للمناصب عندنا***سوى أنها ملك القريبِ المصاهر ِ
وكانتْ طباعٌ للعشائر ترتجـى *** فقدْ لوّثتْ حتى طباع ُ العشــــائر ِ
بالرغم من أنّ السيد الهاشمي كان مؤمناً بحرية الصحافة , وصراحة القول - والحق يقال - , ولكن ربما لإضطراب الأوضاع ,وخشية من تأجيج الأوجاع ,غُلقت الصحيفة الناشرة (الإصلاح) , وأُقيمت الدعوى على الشاعر الثائر , وصاحب الجريدة العاثر , وبإيعاز ملعوب أجلت القضية ,ومن ثم أُلغيت الدعوى, و استدعى الهاشمي الجواهري ليساومه على عضوية مجلس النواب , مقابل دعم الأخير للأول ,أو سكوته على الأقل , ورفض دولة الرئيس طلباً للشاعر بإيفاده للخارج بإلحاح ٍ فامتناع ! , ولم يعلن اسمه كمرشح للمجلس , ولم تتم الصفقة , ولا إيفاده المعشوق إيفاد , ضيع المشيتين , وبعد يوم من إعلان اسماء المرشحين , يعلن الفريق ( بكر صدقي ) إنقلابه على (الهاشمي ياسين) ( تشرين الأول 1936م) ,ويُصدر شيخنا الشاب صحيفته ( الإنقلاب ) مناصرة , بل ناطقة بلسان الإنقلاب , فجبلته بُنيت لمساندة كل تمرد عادل ,أو انتفاضة وطنية محقـّة , أو ثورة شعبية صادقة , فحسَبَ الجماعة المنقلبة من العادلين المحقين الصادقين , ولم يخفت ظنـّه الحسن من بعدُ, حتى قال في ثورة ( 14 تموز ) :" جيش العراقِ ولم أزلْ بكَ مؤمنا " , وما ( لم أزلْ ) الا استمرارية (لما مضى ) , لو كنتم تعلمون !! فلكلّ جديد لذة ورنـّة , وبأنـّه " الأملُ المُرجى والمنى " !
ثمّّ أنـّه عدَّ صاحبه الهاشميَّ قد نكث العهد معه , وغدر به , فواحدة بواحدة ! وكان ممن مدحه سابقا بقصيدة مطلعها :
عليكم وإنْ طال الرجاء المعوّلُ***وفي يدكمْ تحقيقُ ما يُتأملُ
وأنتمْ أخيرٌ فـــي ادّعاءٍ ومطمعٍ ٍ** وأنتمْ إذا عُدَّ لميـامين أولُ
ويبدو لك من العجيب , قد رثاه أيضاً بعد وفاته , ومما قال:
ناصبتُ حكمك غاضباً فوجدتني ***بأزاءِ شهم ٍ في الخصام ِ كريم ِ
كمْ فترةٍ دهتِ العـــراقَ عصيبة *** فرّجتها بدهائــــــــــكّ المعلوم ِ
ومن المعلوم أنَ (ياسين الهاشمي ) ,غادرالعراق أبان إنقلاب بكر صدقي , متوجهاً إلى بيروت , وتوفي فيها سنة 1937م , ثم نقل جثمانه إلى دمشق , ليدفن جنب ضريح صلاح الدين الأيوبي , وربما جاء الرثاء لرد الإعتبار أو شبه اعتذار , أو كما قيل :
دعوتُ على عَمْر ٍفلما فقدتهُ بليتُ بأقوام ٍبكيتُ بكيت على عَمْر ِ
و( عَمرو ) تـُحذف واوها في الشعر عند تنوينها , فحذفتها , وحركتها , المهم الحقيقة أنَّ الهاشمي ياسين - كان أخوه طه الهاشمي رئيساً لأركان الجيش في عهده , وأبان الإنقلاب كان في زيارة للأردن - رجلٌ سياسي داهية باعتراف الجواهري نفسه , يسيره عقله باتزان محسوب , واللحظات الآتية مخطط لها من قبل , والشاعر لحظة الإلهام الشعري , يكون تحت هيمنتها تماما , لا تخطيط مسبق , ولا هم يحزنون ولا يفرحون !!لذلك هو صادق دائما في شعره مع نفسه , ومع مجتمعه , إنْ عذر أو عذل , إن مدح أو هجا , إنْ سخط أو رضى , وهذا ليس بتبرير ,ولكنه تحليل , ولك أنْ تأخذ منه ما تشاء . وأنا ذاهب للعشاء ,عشية ليلة قمراء , بعد عدة أيام من السنة الميلادية الغراء ( 2012م) , لقاؤنا في الحلقة الخامسة إن شاء الله , والسلام !
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) موقع المثقف الأحد 7 /8 /2011 - الشاعر الذي قهرت حافظته الشيخوخة - مقال بقلم عبد الرضا علي
(2)عبد نور داود عمران : البنية الإيقاعية في شعر الجواهري (مشروع رسالة دكتوراه - ص 7 - 8 .
(3) راجع الشيخ جعفر محبوبة : ماضي النجف وحاضرها ج2 ص 36 .



#كريم_مرزة_الاسدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصيدتي عن الجواهري والذكريات ، وعلى أعتاب - ذكرياته - !
- 4 - رائدا شعر الكدية : أبو الشمقمق وأبو فرعون الساسي
- هذا أنا كما أنا ، حمودي الكناني يحاورني
- مَا فَاقَ قَوْمٌ تَنَاسُوْا عِزَّ وَحْدَتِهِمْ
- 3 -أبو الشمقمق بين الجاحظ وابن المعتز والعسكري وبيني !!
- 2 - أبو الشمقمق بين المنصور وشعراء عصره وإعرابيه
- العراقُ العريق - ودعاة الأقلمة والتمزيق ...!!
- لغتنا الجميلة بين الشعر والشعراء،والتمرد والتجديد
- 1- أبو الشمقمق بتمامه : بين وجودية فقره ، وخلود ذكره
- قصيدتي ( يا عيدُ) والناقدتان أ.د. نعوم و أ.د.الصيداوي
- الشعر : نظامه المقطعي وعروضه الرقمي ، وقصيدة نثره ، وسرعته
- ما أشرفَ الأقلامَ ! أنْ تتلطفا
- الزحافات والعلل وما يجري مجراهما ومتعلقاتها
- 2- أ.م.العالمة الأديبة الناشطة نجلاء حسون انتصاراً للمرأة ال ...
- 4 - تماضر الخنساء أجملهم ، الشعراء الجاهليون يندبون !!
- غطّتْ جفونَكَ، ياريمَ الفلا ، رشقٌ
- تشكيل التفاعيل العروضية، وما يطرأ عليها زحافاً وعللاً
- هلْ ياعراقُ تعيدُ أيّامَ المنى ؟!!
- الإيقاع ، ومراحل تطوره في الشعر العربي - الفصل الأول -
- مالتْ عليكَ الحادثاتُ وتبدعُ ...!!


المزيد.....




- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كريم مرزة الاسدي - 3- 4 - ذكريات الجواهري بين العمامة..و..أزحْ عن صدركَ الزَّبدا