أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - ابراهيم محمود - -سردية بلا ضفاف- سليم بركات في رواية : ثادريميس















المزيد.....


-سردية بلا ضفاف- سليم بركات في رواية : ثادريميس


ابراهيم محمود

الحوار المتمدن-العدد: 1322 - 2005 / 9 / 19 - 04:53
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


يبدو أن سليم بركات يشده حنين البدايات باستمرار إلى ما أثاره من تصورات تخص كتاباته السابقة: الروائية منها بشكل خاص، رغم أن من المستحيل الفصل بين ما هو شعري وروائي عنده، لا بل استحالة محاولة الفصل بين أي نص مستقل أو سواه، طي هذين النوعين الأدبيين، وأي عمل أدبي آخر كتبه، ولعل فعل الحنين هذا، يكتسب أهميته من خلال المفهوم الدائري الذي يزداد اتساعاً وعمقاً وحتى غموضاً وإثارة بالمقابل، كلما برز أثرجديد له. لكأن الكاتب في سباق وصراع ابداعيين وزمنيين مع ذاته، لا بل ومع مجمل ما كتبه، عبر ميكانيزم التناص الشديد الوضوح والتجذر في نصوصه المختلفة( أعني مجمل ما كتبه)، وحتى مع قارئه بالذات، ذاك الذي ما أن يدفع به خطوة إلى الأمام في عمل جديدله، حتى يشده بذاكرته إلى نصوص سابقة حاضرة في ذهنه، حيث العلائق قوية، وهو بذلك يقيم في تاريخ متخيل له من جهة، وتاريخ آخر، ذاك الذي يتابع حيثياته باهتمام، ليمارس تفكيكاً فيه من موقع كونه باحثاً في مغزى حراكه، ومن يتدون باسمه، وترددات صوته ككائن مختلف( كردي هنا) فيه، وليكون بالتالي إشراك القارىء معه، محاولة لتفعيل القراءة بوصفها نتاجاً موازياً لفعل الكتابة الإبداعية، وباعثاً على الإقلاق المستمرمن جهة أخرى، طالما أن نقطة بداية أو نهاية ما محددة للمدوَّن هنا، وهنا بالذات يبرز الدور الكبير للسرد بوصفه الزمن المعتمد اللامحدود داخل زمن عام، تأكيداً على الامكانات الهائلة للزمن الأول، بوصفه لاتناهي احتمالات وتعددية مسارات، ووفق المتخيل الابداعي للكاتب، فتتشكل هنا سردية بلا ضفاف.
لقارىء رواية سليم بركات الجديدة( ثادريميس)، منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1/ 2005، وفي ثمانين صفحة ونيف من القطع الوسط، ملاحظة ذلك.
بركات الشاعر والروائي والناثر وهو كل واحد كتابةَ، يبتكر فعله الزمني، عبر ابتداع سرد يستحضر في متضمنه الورقي أو التخيلي كلاً من التاريخ والأسطورة والدين والمعتقد والفن، لتكون الحصيلة رواية الكائن الإنسي قراءة، ولكنه الكائن الذي يتمثل كل ما هو حي وجامد استنطاقاً أو دفعاً به لإبراز المدى الهائل والرائع معاً لفعل الكتابة وجلجلتها، أعني لسلطة السرد في اللعب بالمفارقات الحياتية، ومآلاتها المفتوحة ثمئذ.
أي سردية بلا ضفاف في رواية( ثادريميس): الاسم الغريب، والواقع الغرائبي، وما الملمَّح فيهما أو بهما؟
شرف الاسم الفني الكوني
تبدأ مخيلة الكاتب ببناء الرواية، من خلال مشهد طبيعي يكون الموت حاضراً فيه، وقد برز داخل المشهد اثنان معنيان بإدارة مصائر الآخرين، لتتوقف المخيلة تلك، حيث تنتهي الرواية مع مشهد طبيعي آخر، يكون البحر هو المفردة ذات المعنى، لتعيد الطبيعة دورة حياة أخرى في أناس آخرين، ربما يكون الموت هو المحرض للكثير مما يتفكرونه، مثلما هو الباعث على الكثير مما يريدون الوصول إليه، أو التوقف عنده.
بين بداية يتبدى الموت جلياً مقلقاً للقارىء، ونهاية مفترضة باعثة على أكثر من تساؤل ومساءلة للقارىء ذاك، يكون فعل السرد الروائي البركاتي جامعاً بين الحد الأقصى من الخلائط لإبراز مقوماته الفنية( حنكته وحبكته) والحد الأقصى من الحقائق التي تطال قائمة الموجودات، يتشكل سؤال الأدب الروائي الكبير: وماذا بعد؟
وكما هو الموت الغرائبي يتخلل رواية( كهوف هايدراهوداهوس)، ومن خلال الأمير ثيوني الذي كان يشكو باستمرار الملل والضجر، فكان الموت المخطَّط بالتالي دواء له، حيث الخلائق المشاركة تكون نصف آدمية ونصف حيوانية( أحصنية: قنطورية)، وكما جاء في لوح أورسين القدري، من خلال اللون المرفوض: اللون الحقيقة، هكذا يبدو الموت، أو يتراءى في مشهده الغرائبي، غرابة مايحصل، وما كان له أن يحصل، ومن داخل اللون: الحقيقة، كما هو مسجل في اللوح المحفوظ، حيث الحياة لم تعد قابلة للاستمرار بكائنها، إنما من خلال أثريات المكان التي تشهد على فعل الانسان في ذاته، كما تقول منحوتاته تماماً.
الغرائبية لا تكون ميتافانتازيا، إنما هي من صلب الواقع، كما سميتها، ويكون السرد هو الحد العملي لواقع يستحق تدوينه، إفصاحاً عن واقع فقد شهية المعنى فيه، الغرائبية هي فعل سردي فائض نام ٍ، لتأكيد مفارقات الواقع.
يجيء السرد كما هو النسج الحي للحائكات بنات الدهر، كما هو فعل نول للقاضي يورابات، قاضي ثاروس، ليكون للغة المتخيلة بهاء الواقع المتخيل، أعني ما يعانيه الروائي، وينغمر بمؤثره.
ربما كان بركات مساوياً لسرده الموغل في لعبة المتخيل، ليكون أقصى المتخيل أقصى الواقع الذي لا يشار إليه في بعض منه، كي يبقى السرد خارج أي متحدَّد، أي بلا ضفاف، طالما الواقع قائم بمفارقاته المروّعة.
هنا ربما كان بمستطاعنا مقاربة نوعية الحياة التي يعيشها الكاتب: الروائي والشاعر، وهو على تخوم اللامفكر فيه، معنَّى ومأخوذاً بقلق واقع لا حول له ولا قوة إلا باستحضاره، تحقيقاً لمعادلة الكائن في البقاء، الرواية هي ذات متخيلة من ذوات بركات، إنما دون أن يكون بركات مرئياً داخلها، كما لو أنها متفكَّره اليومي.
أشير هنا إلى الخيال وكيفية تجليه اللافت في السرد في وضع روائي مقلق وخصب كالذي نحن إزاءه هنا حيث ( للتنوعات الخيالية في الميدان السردي شرط أرضي لا مهرب منه أفقاً لها) كما يقول بول ريكور، لأتحدث عن بركات بوصفه مبتدع الرتم الفني لعمله الأدبي المتخيل، وباعتباره الخارج عن الجو الخانق لعمله هذا، والذي يعادل في بعض أثير ٍ منه، ما هو معاش، إنما على نحو آخر مجازياً في الجانب الآخر من حياة ينهمَّ بها.
فهو إذ يجرد الكون من كل حضور آدمي، إنما يدع الطبيعة تمارس سلطتها بعد رؤية رغوة الدم الهائلة، الدم المراق بفعل من لم يعد معنياً بما يفعله، وهو يعرّف بنفسه سيد الكائنات، والطبيعة ضمناً،إنه يكتب، يروي حدثاً متخيلاً، وهو حدث لا وجود له على الإطلاق، لكنه فعل السرد الحصيف هو الذي يعزز دورة الكائن الذي يجب أن يكون، طالما أن ثمة حياة تعاش وقائعها، ما كان ينبغي لها أن تتم، لئلا يقع المحظور، لكأن بركات يتخذ مبدأ المقايضة في الكتابة على طريقته: إن واقعاً مسدود الأفق، أو يلوح هكذا، يقابله اعتراضاً: واقع مفتوح الآخر، أو هكذا يتبدى، وكأن السرد الروائي وفق استقصاءاته يحض على استقدام زمن آخر، نشداناً لحياة أفضل.
وليس توجه بركات إلى عالم يظهر بعيداً عن المتناول البصري، وربما يعود إلى آلاف السنين، في أرض يونانية، كما هو المناخ الأدبي الذي تمسرح روائياً في ( كهوف هايدراهوداهوس)، إلا لأن إيعازاً بصرياً بالمقابل يجري التحضر له، أو التفكير فيه بكامل القصدية، وهو يستشرف البعد اللجي للجو التراجيدي اليوناني، إنما على سبيل الاستعارة والاستدارة تماماً، تجاوزاً لواقع مستسلم لموت أو لحياة يتخللها موت بأسباب، وإلا لأن ثمة فعل رغبة حدّية يرتئيها في واقع منهوب رمزياً، ليبرر ذلك التحوير والتحوير في كائناته/ مخلوقاته الروائية بالتالي!
ويكون المتخيل نفسه فعل مقاومة من الداخل، وهو الفعل المقلق للذين يتهيبونه تاريخياً ورمزياً في وسطنا.
تتراءى البداية كما لو أننا إزاء مشهد فلمي جار ٍ تصويره بكاميرا واسعة المدى ( امتلأت العراءات، حول الهضاب الثماني في أرض ثاروس بالجثث. ص 5).
يفتتح السرد المجال المنتقى له، وفق تصور مدروس، حيث العرائية، إن جاز التعبير، تذكرنا بتلك الشفافية المفترسة، بانكشاف ما كان يجب الكشف عنه، وحيث طرفان يريدان معاً توقيف الزمان، احتكاره، لم يعودا قادرين على دفع استحقاقات الحياة، ليكونا جديرين بها، وهي ثنائية تضادية مألوفة في اللعبة الروائية، في استمالة المعنى، في اصطناع المواجهة بين نقيضين، وصولاً إلى إرباك القارىء بالذات، بأن ثمة شيئاً يجب المساءلة حوله، وتبرز المرأة عبر تمثالها البرونزي، وهي تحمل اللوح: التدوين لما جرى ويجري شهادة المستجد، أو تمثال المرأة البرونز، ليكون تهشم اللوح بعد وقوعه عن كتفها ( في الوحل المدمى) إفصاحاً عن نهاية وخيمة، ومعها مجموعة التماثيل الأخرى( بخطى بطيئة عبرت التماثيل السهب المعشب، شمالاً، ثم توارت خلف صفوف الكروم الفاصلة- كشك خفيف- بين معاقل الأرض ومعاقل السماء. ص11).
وفي الوحل( المادة الشديدة الوطء دلالة سلبية) جرت نهاية من أرادا توقيف الزمن( مينادي هيكو، وديامين ثاروس)، حيث كان تمثال المرأة البرونز سبباً لمواجهة احترابية بينهما، وللمصير الفجائعي للطرفين، والتمثال بالأصل يخص أهل هيكو، حيث كان مرغوباً فيه، لقدرته على نحت الكائنات، أي تخليد من يتم نحته. لكن ميزة التمثال، هي في كون المرأة البرونز ذات عينين كتيمتين خاليتين ( من نقش البؤبؤ والحدقة في العيون. ص 15).
إنه الصراع على مستقبل أعمى، على مصير مميت، طالما أن الرغبة في الحياة بكل دفقها المنشود مفقودة.
تحال المرأة إلى دالة حياة، مثلما تحال وقد تجسدت في تمثال عصية على بث الروح في من يفتقدها، في من يستجدي خلوداً وهو ليس أهلاً له، إن فقد العيون إبراز للطريق المسدود وليس العكس، أعني أن خفق الروح يأتي من جهة الكائن الحي، جهة الانسان، وليس بتوسل من تمثال يفتقر إلى هذه الخصلة، فـ( بيجماليون) مواز للفنان، لنفسه، لقدرته على الإبداع، لنوع الفعل الحياتي فيه، وتمثال المرأة يقابل الذين يطلبون حياة هم أنفسهم يفتقدونها.
أهل ثاروس الأكثر اندفاعاً للبحث عمن ينحت صورهم، يبدون بعيدين عن فاعلية اللون، فَهم لعبة الحياة، الثمن الذي يطلبه اللون ليتجلى، والتمثال، ليتم الارتقاء إلى مستواه رمزياً، وحدها التقلبات قادرة على إلغاء كل مشروع حياتي، طالما التماسك الداخلي منتفىً( كل يوم يختار الفرد الواحد، الناضج في ثاروس، إلهاً مختلفاً، بالميل الذي في مزاجه ذلك اليوم. قد يختار المرأة، أو الباب، أو الخاتم، أو الهواء، أو الرمل، أو الماء، أو الظل، أو الصوت، أو الشخص الأقرب إليه... الخ. ص 23).
بالمقابل، يظهر ميناذي قاضي هيكو مندفعاً للنيل من أهل ثاروس، ومن قاضيها يورابات، وهو الذي يريد تأكيد جسارته( سنجعل أحياء ثاروس يخالون أنفسهم نباتاً. ص 73).
ولا يبرز في النهاية، وعلى مد النظر سوى البحر ( الشسع الأزرق، الساكن، السحيق: بحر هيلا كريتوثينيس.ص87).
ينفتح البحر على ماقبل تشكل الكائن، على البدء المهيّء لتكوين لاحق، على حقيقة كونية مفروضة على كل كائن يعرّف بنفسها خارج منطوقها، فكما هو العراء هو المشهد المهان بشرياً، هاهو البحر المشهد المبجل طبيعياً.

ثادريميس الضاجة بالمعاني
كماهو اللون في تعزيزاته القيمية واختلاف مراتبه، وتنوع أبعاده، بوصفه جماع حقائق، فإنه يحيل المشهد البصري: اللون الضاج بإيقاعاته، إلى مشهد بصائري، يكون المكان والزمان كائني الرواية الأكثر تجسيراً للتقاطعات والتداخلات والثغرات الظاهرة وكذلك ما هو طاف على السطح الخارجي للأحداث، لتتم لوحة متخيلة متعددة الأبعاد والأشكال، كما هو الفعل المرئي واللامرئي المعتمد من قبل السارد روائياً.
البداية والنهاية المفترضتان تكونان بثادريميس! لماذا هي؟ أهي المحور المركزي للرواية، لتكون الرواية بالطريقة هذه كلاسية، حولها، ومنها وإليها تتتالى الأحداث، وفيها يكون العالم متشكلاً ومقروءاً أو مؤولاً، أم ماذا؟ أي تكون ذات الاسم اسماً لعالم افتراضي، تخيلي، كما هو العالم الذي يتبدى خارجاً حقيقة غير محتكرة!
ثادريميس المسرودة ابتكار روائي بركاتي، لكنها تعيد إلينا المرأة، وما كانته في وظيفة كبرى من وظائفها، ما كانته دلفي المتنبّئة، ماكانته باندورا، ماكانته ميدوزا، وحتى ما كانته زرقاء اليمامة ذات يوم، إنها نساء متمايزات يتملكن القوة في توقع ما يمكن أن يجري لاحقاً، والقوة في تدمير ما هو مرسوم له، بالقدر الذي تستحضر نساء الميثولوجيا الكبرى المزدوجات المهام: عشتار، عستارت، إنانا، نيخبت، أرتميس، السيرينيات ، الجورجونات، شيفا... الخ، ربما لأن هؤلاء، ومن خلال تشبيههن بالطبيعة كن يلخصن خاصية الطبيعة في عطائها وفنائها، مثلما يمتلكن أسرار الكون، طالما أنهن ينتمين إليه في الأصل.
وأن تكون ثادريميس يونانية، وأورسين بالذات مقررة المصائر، كما كانت في ( كهوف...) يونانية، ويكون مسرح الأحداث يونانياً من خلال الأسماء المكتوبة، فلأن في مضمار التراجيديا اليونانية ذلك التحول الممكن تتبعه، من خلال مكاشفات الأخطاء القاتلة للانسان بالذات.
ثمة ظل هوميروسي يتخلل رواية بركات، حالة تناصية، سرد مقارب، لما أبدعه هوميروس في إلياذته، بخصوص ذوي القدرة الهائلة كما في حال الإلهتين الفائقتي القدرة" أثينا، هيرا " مثلاً، ولكن ثادريميس تكون تمثالاً مجسداً ومن برونز، وفي الآن عينه يبرز مؤثراً في سير الأحداث كما رتقتها أو حرتقتها مخيلة الكاتب فنياً، مقابل ذلك الخواء الذي تجلى به كل من ثاروس وهيكو، وعلى أساس اللون المهدور، اللون: الكلمة المتكررة في الرواية( ص: 22-40-43-51-56... الخ)، تأكيداً على لا نجاعة أي إجراء يمارَس، لأن ثمة تدنياً هائلاً في إرادة الحياة.
تقول عن أهل ثاروس( أأنتم بلا قلق في أرض ثاروس، أيها الرسول جاجيليو؟ ص 16)، مثلما تخاطب خازن الفوؤس ديامين( سأعيدك ذاكرة نسياناً في النحت، ياديامين، النسيان ذاكرتك..... في هذا الرسم الحجر تعود إلى خيالك منسياً. أنت مفقود ، ياديامين. سينتحر رسمك الحجر من شدة حريته. ص 48).
مثلما تقول مخاطبة ميناذي الهيكوي( أنتم خلائق الخوف- أيها القاضي ميناذي- محترفو تدبير الخوف.. ص 17).
لعبة المفارقات داخلاً وخارجاً تسم الرواية بدايةَ ونهاية: ثاروس هضابية، زراعية، وهيكو قلعة الطين، صانعة التماثيل المعدنية والحجرية، حيث يتبدى عالمان متغايران، وفي التغاير يمارس العنف وظيفته الكبرى، حيث النتيجة إما تغليب طرف على آخر، أو ذهاب الطرفين من خلال ممارسة الحد الأقصى من العنف، كما رأينا.
وثاروس المنقسمة على نفسها، فجاجيليو الرسول الأبله مخدوع بالرسالة من قبل ابنة قاضيه، وفي غفلة منه، مثلاً، وهيكو تظهر فاقدة تماسكها الداخلي، من خلال تلك الثقة المفرطة بالذات، وما يحصل من تغافلات ضمناً.
لا حيادية في توجيه مسار اللعبة، إذ أن بركات لا يكون خارج مشاهده المنتقاة، ولا توجد مصادفات( فالروائي لا يختار موضوعاته، بل هي التي تختاره)، كما يقول ماريو بارغاس يوسا، وهو قول حكم، كما يبدو، قول يرتكز إلى ذخيرة خبراتية مضمونها المأثور الأدبي والفني والحياتي للكاتب بالذات، وبركات الذي عاش في قبرص طويلاً، لا ينأى في حبكته الفنية عن عالم التراجيديا اليونانية( الإغريقية)، عن السرد بوصفه زمناً مفعَّلاً في زمن لامتناه، ولكنه الزمن الذي يتلمس القارىء ما يثيره ويستثيره، مثلما أن بركات غير بعيد عن العالم الذي يكتنزه في ذهنه وهو الخارج من أرض شبه طريد، وما عليه سوى أن يمارس صياغة تكوين خاص به، إنما بمتخيل يغوي بالمتابعة، وعبر مغامرة السرد، ومدى قدرته في جعل المسرود مأخوذاً بفتنة القول المروي فيه.
هنا أتذكر ما قاله الأرجنتيني ارنستوساباتو إن( إحدى مهام الأدب العظيم إيقاظ الانسان السائر صوب المقصلة).
وما أعتقده هو أن بركات يسعى إلى ممارسة هذا الفن السردي بفعل مركب: الفعل الذي يؤكد به ذاته كانسان، وفي الوقت نفسه، يخاطب من يهمه أمره، دون أن يؤدي دوراً رسالتياً، لأن مسرود الأدبي لا يعتمد المباشرة، ليكون مضمونه مكشوف الهدف، وما يترتب على الفعل، من خلال كتابة خاصية تتمرجع فيه، يسعى قارئه إلى البحث عن الآخر فيه، مثلما يكاشف العالم المحيط به، وتصارع الحياة والموت بمختلف تجلياتهما فيه.
ولعل المرأة التي اضطلعت بدور لافت في المضمار الروائي، تعيد القارىء إلى التاريخ الذي مضى، وهومازال يمضي فينا تباعاً، ليكون السرد في تمترسه الأنوثي مقلقاً لراحة الذين يعتمدون الذكورة في ممارسة سلطاتهم المختلفة، مثلما يجذر الطبيعة في الفعل الأنوثي، رغم أن هذه الأنثى المبتكرة بطريقة ما هي بركاتية علامةً.
ثمة انتقام من الذكورة بأنوثة مضادة، عبر متواليات سردية، تبدأ بحدث تاريخي طبيعي مولَّف يضعنا في صلب الأحداث الماضية، وأجوائها الفلمية، مع تصحيح الفقرات المتعلقة بالكائنات التي ارتضى لها أن تكون شخصياته المخلوقة، وكما يريد لها أن تكون، وهي مزيج هائل من الطبيعي والتاريخي والديني والرمزي، كما ذكرت، وفي صلب العمل الفني، ولكن اعتماد الأنثى لا يكون على طول الخط، فثمة تفاوت بين نساء العمل المحبك هنا، أي أن بركات هو نفسه يقود حرباً داخله بين أطراف عالمه، بين كائناته، بوصفه مبتدعها والشاهد عليها ومرجعها.
عدا عن ثادريميس نفسها لا تبصر، وهي مفارقة كبرى، وهي تقرر مصير من تشير إليهم، لتكون حالة موازية لحالاتهم، حقيقتهم التي تنبع منهم، وترتد إليهم وتفارقهم كذلك. .
مثلما ثمة انتقام من فعل السرد المعمول السائد، وهو يسعى ليس إلى تجاوزه فقط، إنما إلى العمل خارج المألوف فيه، إنه تحدي الكاتب مع السائد ذاك، كما هو تحديه مع التاريخ الذي أوجد السرد داخلاً، كما تحديه مع النظام المعرفي الذي يوثق السرد، أي يقيده بمتتابعات متلفزة، لا تتطلب جهداً فكرياً، لتفكيك آليات المأثور الفني فيه.
الرواية تعود إليه كمعمار بذخي يراد لها قيمومة معنى مختلف، كما بدأت به، كونه السارد المسيطر على مجمل أحداثها وشخوصها، حيث أن السرد كان ممسوكاً بزمامه، ولا يمكن قراءة أي كلمة بوصفها تخيلاً لا يفارق الواقع بأي شكل، مهما كانت تقنية الحبكة الروائية فائقة الوصف فانتازياً، خارج الاستحكامات الرؤيوية للكاتب، كونه يقدم أوراق اعتماد ما لجامعة الأدب، لا ليُنظَر فيها وتقدير مدى أهليتها، بقدر ما تقدَّم، ليعيد المعنيون بالأمر، كسلط قيمية ورادعة رمزياً في الوسط المقروء، فيما هم فيه، وفيما يعتبرونه نظاماً قيادياً للأدب.
وفي الحالة هذه، تبدو واقعية بركات ذات شأن خاص، إلا أنها تتجاوز ذاتية الكاتب، من خلال وساعة أفقها، وفي الوقت ذاته، من خلال شواغل الكاتب بالذات، ولعبته في بناء صوره، واستحداث أشكاله، ومعاناته بسبب ذلك، كونه لا يدع روايته وشأنها لحظة الانتهاء منها، بقدر ما يتابعها، بوصفها مشروعاً ما، حربه على رموز ما برموز تخصه، أعني بكرديته، مهما بدت رحابة أفقه الروائي لاغية للحدود، إذ لا رواية ممكنة القراءة خارج حدود معينة: تاريخاً وجغرافيا وأجناساً بشرية، وثقافات تتجاذب أطراف المعاني المتصادمة هنا وهناك.
ثادريميس سردية بلا ضفاف، ولكنها لا تفتقد ضفافها الزمكانية، وإلا لما كانت سرداً، أعني رواية في المطلق!



#ابراهيم_محمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إبراهيم اليوسف الكردي الممنوع من الصرف
- رسالة عزاء إلى الارهابيين ومن معهم من إرهابي مضاد ... على خل ...
- بين حجب الموقع وحجب الانسان
- سلامات يامحمد غانم ولكن
- من يثير الدولة في سوريا:في ضوء أحداث القامشلي؟
- القامشلي،وحدث القامشلي
- محمد غانم يأكل من خبزالتنور الكردي
- عزائيات لكاوا والأم الكرديين
- من يحدد مصير الشعوب؟
- فتنة المثقف الصدامي


المزيد.....




- أحد قاطنيه خرج زحفًا بين الحطام.. شاهد ما حدث لمنزل انفجر بع ...
- فيديو يظهر لحظة الاصطدام المميتة في الجو بين مروحيتين بتدريب ...
- بسبب محتوى منصة -إكس-.. رئيس وزراء أستراليا لإيلون ماسك: ملي ...
- شاهد: مواطنون ينجحون بمساعدة رجل حاصرته النيران داخل سيارته ...
- علماء: الحرارة تتفاقم في أوروبا لدرجة أن جسم الإنسان لا يستط ...
- -تيك توك- تلوح باللجوء إلى القانون ضد الحكومة الأمريكية
- -ملياردير متعجرف-.. حرب كلامية بين رئيس وزراء أستراليا وماسك ...
- روسيا تخطط لإطلاق مجموعة أقمار جديدة للأرصاد الجوية
- -نتائج مثيرة للقلق-.. دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت
- الجيش الإسرائيلي يعلن استهداف أهداف لحزب الله في جنوب لبنان ...


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - ابراهيم محمود - -سردية بلا ضفاف- سليم بركات في رواية : ثادريميس