|
انعكاس الثقافة القومية على الاحتفالات الشعبية
طلعت رضوان
الحوار المتمدن-العدد: 4715 - 2015 / 2 / 9 - 19:33
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تختلف الشعوب فى احتفالاتها (سواء فى المناسبات القومية أو المناسبات الدينية) والسبب الوحيد للاختلاف بين شعب وشعب هو (الثقافة القومية) لكل شعب ، والثقافة القومية – وفق تعريفها العلمى – تعنى مجموع أنساق القيم التى أبدعها شعب من الشعوب عبر تاريخه الممتد ، والتى تتجسّد فى عاداته : من سلوك يومى ومن طقوسه وأساطيره أو حتى من خرافاته ، ومن نظرته للمرأة (مدى احترامه لها أو العكس) وطريقة استقباله للضيوف ، وطريقة دفنه لموتاه ، وفلسفته نحو الحياة والموت الخ. ولكن تلك الثقافة القومية ، أحيانـًا تتعرّض للهجوم عليها ، كما حدث فى مصر بعد غزو التليفزيون لعقول شعبنا ، حيث تغير الكثير من العادات والسلوكيات ، وكان أبرز معالم هذه التغيرات ، الجنوح إلى تبنى قيم نقيضة لأنساق القيم التى توارثها شعبنا عبر آلاف السنين ، مثل الوأد الاجتماعى والمعنوى للمرأة ، ومثل تكفير الكثير من المنتج الثقافى القومى (فرض تحية واحدة ضد تعدد التحايا المصرية ، تحريم الاحتفال بسبوع الطفل ، تحريم خميس وأربعين المتوفى ، فى اللقاءات العائلية تجلس النساء فى غرفة والرجال فى غرفة أخرى إلخ – مجرد نماذج) ورغم هذه التغيرات السلبية المعادية لثقافتنا القومية ، ظلّ الأميون المصريون ، على رأس خط الدفاع الأول عن خصوصيتنا الثقافية ، حتى فيما يتعلق بالاحتفال بالمناسبات الدينية ، التى يراها الأصوليون أنها ضد تعاليم الإسلام ، مثل ظاهرة الاحتفال بأولياء الله ، وهى ظاهرة شديدة الأهمية لدى الباحث صاحب العقل الحر، لأنها الدليل الساطع سطوع شمس بؤونة على وحدة شعبنا ، فهذا الولع بالاحتفال بالأولياء اشترك فيه المسلمون والمسيحيون ، لسبب بسيط وهو أنهم أبناء ثقافة قومية واحدة ، تعود جذورها إلى الاحتفال بالآلهة المصرية. والمصريون المسلمون يحتفلون بمولد الرسول (ص) بينما العرب لا يحتفلون بهذه المناسبة ، ويرى الأصوليون أنها بدعة ضارة ، وحجتهم أنّ الرسول لم يحتفل بعيد ميلاده ، وهذا عكس ثقافتنا القومية التى عرفتْ تعدد الاحتفالات، ويكفى أنْ نعرف أنّ عيد رأس السنة من إبداع الحضارة المصرية. وأنّ جدودنا المصريين القدماء كانوا يحتفلون بمناسبة عيد ميلاد الطفل ، بعد مرورعام من مولده ، وأنّ هذا التقليد أخذه اليونانيون من مصر ثم انتقل إلى أوروبا . والعقل الحر يتساءل : لماذا يكون احتفال شعبنا بشهر رمضان مختلفًا عن استقبال العرب لهذا الشهر؟ إبداع يأخذ أشكالا متعددة ، بدءًا بتعليق أوراق الزينة فى الحارات الشعبية ، وكثرة الاضاءة وإبداع فانوس رمضان ، والزيارات المتبادلة بين الأسر، وإبداع المواويل والرقصات إلخ وهى كلها مظاهر لم يعرف العرب إلاّ بعضها مؤخرًا تأثرًا بثقافتنا القومية. وعن تجربة شخصية (منذ طفولتى وحتى الآن) عرفتُ بعض الأسر المصرية مسيحية الديانة ، كان بعض أفرادها يصومون معنا فى شهر رمضان ، وعرفتُ سيدات مصريات مسلمات يشاركن جاراتهنّ المسيحيات فى صيامهن ، وعرفتُ سيدات مصريات مسلمات ينذرنّ النذور للسيدة مريم العذراء ، وعرفتُ سيدات مصريات مسيحيات ينذرنّ النذور للسيدة زينب . وما لمسته وعايشته بنفسى أكد عليه عالم الاجتماع الكبيرد. سيد عويس فى أكثر من كتاب من كتبه. فإذا انتقلنا إلى الاحتفال بعيد الفطر عقب نهاية شهر رمضان ، نجد ظاهرة غاية فى الأهمية والخصوصية فى نفس الوقت ، ألا وهى ظاهرة (كعك العيد) فهذه الظاهرة تحمل فى طياتها الدليل الآخر على وحدة ثقافتنا القومية ، حيث يشترك فيها المسلمون والمسيحيون ، كجزء من الاحتفال بنهاية شهر/ شهور الصوم عند المسيحيين والمسلمين . المظهر الثانى فى ظاهرة الكعك ، هو أسلوب عمل الكعك ، حيث أنّ النقش الذى يتم على قرص الكعكة ، هو قرص الشمس (رمز الإله رع) مثلما كان يفعل جدودنا فى مصر القديمة. كما أنّ تعدد الأصناف من بسكويت وغريبة وقراقيش و(منين) إلخ هو امتداد لتعدد صناعة الخبز والحلويات فى مصر القديمة ، لدرجة أنّ بعض علماء علم المصريات وعلم الآثار، وجدوا أنّ جدودنا المصريين القدماء صنعوا ستين شكلا لرغيف الخبز (فرانسوا دوما- حضارة مصر الفرعونية- ص745) المظهر الثالث فى الاحتفال بنهاية شهر/ شهور الصوم عند شعبنا (مسيحيين ومسلمين) هو(طلوع القرافة) للترحم على أمواتنا ، ولا تكتمل زيارة المقابر إلاّ بحمل القفف والسلال الممتلئة بأقراص الكعك والشريك والمنين التى أبدعتها يد المصريات ، لتوزيعها على الأطفال فى المقابر. والباحث الحر يبتهج عندما يقرأ فى كتب علم المصريات أنّ تعبير (الرحمة) الذى يستخدمه شعبنا عند توزيع الكعك والبلح ، هوالترجمة العربية لذات التعبير الهيروغليفى الذى كان جدودنا المصريون القدماء يستخدمونه عند زيارة المقابر. فى اليوم الأول للعيد ، وبعد الافطار، يكون الطقس المقدس ، أى تناول الكعك والبسكويت مع الشاى بالحليب ، وهو طقس مصرى لا علاقة له بالدين. وبعد الانتهاء من زيارة المقابر، تنطلق الأسر للاحتفال بالعيد الذى يأخذ العديد من الأشكال : الذهاب إلى الحدائق العامة ، ركوب المراكب فى النيل ، زيارات عائلية بين الأسر ذات المستوى الاجتماعى الواحد ، الأسر ذات الثراء المادى تزور الأسر الفقيرة وتقديم الهدايا. ولعلّ ظاهرة (العيدية) التى نشأنا عليها منذ طفولتنا ، أى المبلغ النقدى الذى يحصل عليه الطفل من أبيه ومن عمه ومن خاله إلخ هى ظاهرة تكاد تكون مصرية 100% وربما لا يكون لها أى مثيل فى أى مجتمع آخر. وإذا كان الإسلام يعتنقه الكثير من الشعوب ، وكذلك الديانة المسيحية ، إلاّ أنّ الظاهرة التى يتجاهلها كثيرون، هى أنّ المسلمين والمسيحيين المنتشرين فى العالم ، يختلفون فى طقوس احتفالاتهم . فما دلالة هذه الظاهرة الساطعة سطوع شمس أبيب ؟ الدلالة المؤكدة هى أنّ لكل شعب خصائصه القومية ، المجسدة فى أنساق قيمه ومجمل عاداته وطرائق تفكيره إلخ . يؤكد ذلك أنّ الشعب السعودى يحتفل بعيد الفطر وعيد الأضحى ، بالذهاب إلى المناطق الصحراوية ونصب الخيام وشى اللحوم . هذا هو المظهر الوحيد للاحتفال بالعيد ، والذى عبّر عنه الأديب الكبير سليمان فياض فى روايته البديعة (لا أحد) إذن فكما أنّ الشعب السعودى له خصوصيته القومية ، كذلك نحن المصريين لنا خصوصيتنا القومية ، خصوصية تأسّستْ على التعددية ضد الأحادية ، على تبجيل الطبيعة ، على البهجة لمقاومة الانكسار، على الاستفادة من خبرة تواصل الأجيال (زيارة المقابر نموذجًا) هذه الخصوصية القومية هى التى أبدعتْ الكثير من أشكال الاحتفالات ، مثل الاحتفال بمقدم فصل الربيع (شم النسيم) والاحتفال بموسم الفيضان (وفاء النيل) والاحتفال بأولياء الله. والاحتفال ب (طلعة رجب = يوم 27 من شهر رجب) والاحتفال ب (نُص شعبان) إلخ ورغم أنّ المناسبات الأخيرة دينية ، فإنّ الكثير من الشعوب الإسلامية لا تعرف الاحتفال بها كما يفعل شعبنا. ونفس الشىء نجده عند تعدد احتفالات المصريين المسيحيين ، ولعلّ أبرزها تعدد الاحتفال بالقديسين ، والتى يحضرها مسلمون مع المسيحيين ، بل إنّ تعدد مناسبات الصيام عند المصريين المسيحيين ، لا مثيل له عند بعض الشعوب الأخرى المؤمنة بالديانة المسيحية. إنّ ما ذكرته من أمثلة قليلة، يؤكد على حقيقة أنّ لكل شعب خصائصه الثقافية القومية. وأنّ الثقافة السائدة فى مصر تحاول محو خصوصية شعبنا ، سواء من خلفيات أيديولوجية سياسية ، أو من تعصب عرقى أو من دوافع عاطفية ، وكل هذا ضد لغة العلم الذى ينفر من أية أيديولوجيا، ويستبعد العواطف عند رصد المظاهر الاجتماعية. ***
#طلعت_رضوان (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاعتزاز القومى وأسماء الأشخاص
-
رواية (ما باحت به ساره) والوحدة العربية
-
تاريخ الجزية : وصمة عار على كل الغزاة
-
التماثل الطوباوى بين البشر
-
الفلسفة المثالية والفلسفة المادية
-
الإمام محمد عبده : ما له وما عليه
-
مصطفى كامل ولطفى السيد
-
انتفاضات شعبية بلا نتائج ايجابية
-
رفاعة الطهطاوى : ما له وما عليه
-
نماذج من رموز الفكر المصرى (5)
-
نماذج من رموز الفكر المصرى (4)
-
الإدارة الأمريكية وتوظيف الدين
-
نماذج من رموز الفكر المصرى (3)
-
نماذج من رموز الفكر المصرى (2)
-
نماذج من رموز الفكر المصرى (1)
-
أوروبا تدفع فاتورة مغازلة الإسلاميين
-
استباحة السيادة الوطنية
-
إسماعيل أدهم ودوره التنويرى
-
حرب الاستنزاف بين الحقيقة والوهم
-
كتابة التاريخ بين الرأى الشخصى والواقع
المزيد.....
-
تنامي الإسلام الراديكالي في بنغلاديش
-
مصر تقضي بسجن إسرائيليين اثنين 5 سنوات للاعتداء على موظفين ب
...
-
محافظ السويداء: الاتفاق مع وجهاء الطائفة الدرزية ما يزال قائ
...
-
إيهود باراك يقارن بين قتال الجيش الإسرائيلي لحماس وقتاله لجي
...
-
مصر.. سجن إسرائيليين بسبب واقعة -أحداث طابا-
-
المصارف الإسلامية تحقق نجاحات كبيرة على حساب نظيراتها التقلي
...
-
-الأقصر ولكن الأفضل-.. الرئيس الأوكراني يعلق على اجتماعه مع
...
-
مصر.. فتاة ترفع الأذان داخل مسجد أثري يشعل نقاشا دينيا
-
خطوات تثبيت تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 TOYOUE EL-JANAH
...
-
برازيليون يحولون نبات يستخدم في الاحتفالات الدينية إلى علاج
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|