أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - خميس بن محمد عرفاوي - ماذا يبقى من الثورة التونسيّة؟ دراسة آنية واستشرافية















المزيد.....



ماذا يبقى من الثورة التونسيّة؟ دراسة آنية واستشرافية


خميس بن محمد عرفاوي
(Arfaoui Khemais)


الحوار المتمدن-العدد: 4700 - 2015 / 1 / 25 - 21:37
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


ماذا يبقى من الثورة التونسيّة؟
دراسة آنية واستشرافية (1)

بقلم: خميس العرفاوي

انقضت أربع سنوات كاملة منذ اندلاع ثورة 17 ديسمبر 2010- 14 جانفي 2011 ولا يزال وهجها في تونس متّقدا وانعكاساتها في العالم متواصلة ومنذ ذلك الوقت مرّت الثورة بمراحل وتعرّجات عديدة وكشفت في كلّ مرّة أعداء جددا لتونس ولشعبها.
ونظرا إلى أنّ هذا المسار الثوري يجري أمام أعيننا ويشارك فيه كلّ واحد من هذا الموقع أو ذاك وبهذه الدرجة أو تلك فإنّ الباحث في التاريخ المعاصر مطالب في نظرنا بأن يعيش هذه اللحظات كاملة إن أمكن مثلما عاشها الكثير من مؤرخي الثورات والأحداث التاريخية الكبرى ومحلّليها(2). ويبدو لنا أنّ الثورة التونسية مثّلت واحدا من الأحداث التّي لم تؤثّر في الوطن العربي فحسب بل في مجالات أوسع من العالم. وعلى الارض التونسية نعيش أيّاما قد تحدّد مصير وطننا الكبير خصوصا وأنّ التونسيين يتطّلعون إلى مرحلة جديدة تتأسس على أنقاض مرحلة قديمة بآلامها وعذاباتها، مرحلة تطرح عليهم فيها مهام جديدة ويؤسسون فيها نظاما سياسيا جديدا. ومما لا شكّ فيه أنّ الاستعداد للمستقبل يحتاج إلى تقييم الماضي القريب وإلى النقاش وتبادل الآراء حول التطوّرات الجارية وإمكانيات تطّور الأوضاع من أجل الفعل فيها. وفي هذا السياق مكنّتنا مساهمتنا في الأحداث ومواكبتنا للمواقف المختلفة من تشكيل رؤية سنسعى إلى تقديمها في هذا العمل الذي نعتبره بحثا في تاريخ الزمن الراهن واستشرافا للمستقبل اهتداء بأستاذ الاقتصاد والكاتب الفرنسي "جاك أتالي"(3).
وفي الواقع فإنّ اهتمام الباحثين في التاريخ بالثورة التونسية والكتابة حولها ليس جديدا بل إنّها تحتلّ الصدارة في المواضيع المطروحة على بساط البحث. ولا نعتقد أنّنا سنفي المؤلفات حول الثورة التونسيّة حقّها ونقتصر على الإشارة إلى أنّ دار الكتب الوطنية خصّصت لها فضاء على حدة(4). كما تعدّدت الملتقيات والندوات في تونس حول نفس الموضوع ولكن لا تزال أعمالها غير منشورة(5). وزيادة على ذلك نشرت المجلاّت العلمية والفكرية مقالات لا حصر لها وخصّصت أعدادا كثيرة للثورة التونسية إن لم تكن للثورات العربيّة(6). ونشير إلى أنّ الظرف الحالي يطرح قضايا جديدة منها تقييم السنوات الأولى من الثورة(7) والوقوف عند دلالات انتخابات 2014 ومآلاتها. ولعلّنا نكون قد لخّصنا كلّ هذا في التساؤل التالي: ماذا يبقى من الثورة التونسيّة.
إنّنا لا نزعم أنّنا سنأتي بما لم تأته الأوائل، وكلّ ما سنسعى إليه هو تقديم بعض الأفكار المتداولة في مختلف المنابر ولكن بخلفية المؤمنين بالثورة والمؤيدين للمسار الثوري. ونبدؤها بالتعريف بالثورة وبأهدافها لننتقل في ما بعد إلى الإنجازات ونختم بالرهانات.

أهداف الثورة

قبل الحديث عن الأهداف يجدر بنا أن نتساءل هل أنّ ما وقع ما بين 17 ديسمبر 2010- 14 جانفي 2011 يمكن أن نسميه ثورة؟
سنبدأ في الإجابة عن السؤال بالردّ على الذين لا يعتقدون أنّ ما حدث ثورة. أولاهم هم الذين يريدون الالتفاف على الثورة إذ أنّنا نجد من ينفيها ويعتبرها انقلابا عسكريا مدبّرا من الخارج. وهناك الراكبون على الثورة ممن يدعون أنّ الثورة حقّقت مهامها برحيل بن علي وكفى الله المؤمنين القتال. ونجد أيضا بعض الأطراف المناضلة والكتّاب التقدميّين يتحدثون عن انتفاضة(8) والحال أنّ هذا الشكل الثوري محدود في الزمن.
ومن البديهي أنّ كلمة الثورة فرضت نفسها على الإعلاميين منذ الأيّام الأولى لأحداث 17 ديسمبر 2010- 14 جانفي 2011 وأطلق عليها بعضهم تسميّة ثورة الياسمين وذلك من باب تعويم أهدافها. ويستعمل أغلب اليساريين من مستقلين وقوميين وماركسيين (حزب العمّال الشيوعي التونسي ثم حزب العمال(9) وحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد(10)) نفس الكلمة لاعتبارات سنأتي على ذكرها ويطلقون عليها تسمية ثورة الحريّة والكرامة.
ويبدو لنا أنّ وجهة النظر هذه مهمة وقابلة للدفاع عنها إذ أنّ الثورة يمكن أن لا تحقّق أهدافها بالكامل أي يمكن أن تحقّق بعض الأهداف الجزئية التّي تسمح بها موازين القوى بين الطبقات. وفضلا عن ذلك فإنّ الثورة مسار يمكن أن يستمر ويعرف تقدّما كما يمكن أن يتوقّف أو يفشل. فعلى سبيل المثال ثورتا 1830 و1848 في فرنسا اللتّان فشلتا ولكن كلّ الأدبيات تطلق عليها صفة الثورية. فالثورة الأولى نجحت في عزل الملك ولكنّها أخفقت في تحقيق هدفها وهو الجمهورية وعادت الملكية من جديد مع لوي فيليب. هذه الملكية سقطت إثر ثورة 1848 التّي كانت تهدف إلى إقامة الجمهورية الاجتماعية ولكنها انتهت بانقلاب لوي نابليون يونابارت الذي أعلن نفسه امبراطورا. ونفس المسار تعرّضت له ثورة 1905 الروسية ذات الطابع الديمقراطي التي انقلبت عليها الرجعية القيصرية رغم ما حققته من نجاحات في البداية. ويمكن القول إنّ أغلب الثورات الوطنيّة وقع احتواؤها من طرف الاستعمار الجديد. ولم تشذّ الثورة الإيرانية (1979) عن هذا المسار. فقد كانت ثورة شعبيّة ذات طابع ديمقراطي تمكّن الملالي بقيادة الخميني من السيطرة عليها وإقامة نظام دكتاتوري يتغلّف بالدّين(11). ومن ثمّ ليس من باب المبالغة إطلاق صفة الثورية على ما حدث في ما بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011. فهذه الثورة كانت لها أسباب موضوعية: الاستبداد والفساد وتفاقم الفوارق الاجتماعية والجهوية والتبعية. كما كانت لها أهداف ومبادئ عامة لخصها شعار "شغل، حريّة، كرامة وطنيّة". وقد فتح إسقاط رأس النظام الباب لمسار ثوري شهد تطورات وتعرجات عديدة وكانت له تأثيرات كبيرة على مستوى قومي وعالمي. لقد كادت الثورة التونسية تغيّر العالم.
وكانت الثورة شعبيّة شاركت فيها الشرائح الاجتماعية المتضرّرة من النظام الدستوري بدرجة أو بأخرى. فعلاوة على الطبقة العاملة والشرائح الكادحة نجد أيضا الشرائح الوسطى كما نجد بعض الفئات من البورجوازية الكبيرة ذاتها التّي كانت متضايقة من تصرفات ابن علي وعصابته. كما اكتست الثورة طابعا مدنيّا ديمقراطيّا واضحا من خلال الاطراف الفاعلة فيها (يساريون، نقابيون، حقوقيون، طلبة، شباب، معطّلون عن العمل، فنّانون، الخ) ومن حيث الشعارات التّي رفعتها مثل:
استقالة استقالة.. يا حكومة العمالة
نــــــعم سنـــموت و لكننا.. سنــقتلع القــــــمع من أرضنا
اعتصام اعتصام.. حتى يسقط النــــظام
التشغـــيل استحقـــــاق.. يا عصـــــابة الســـرّاق
يا نظام يا جبان.. يا عــــــــــميل الأمريكان
يسقط حزب الدستور.. يسقط جلاد الـــشعب
الــــــــشعب يــــريد إسقاط النظام
محاكمة شعبية.. لعصابة الطرابلسية
تونس تونس حرّة حرّة.. و الـتجمع على برّة
وباختصار لم تكن الثورة التونسية ثورة طبقيّة ولم تقدها طبقة ثوريّة مثلما كانت بالأساس الثورة الفرنسية وثورة 1917، وإنّما كانت ثورة سياسية في بدايتها، قامت ضدّ الاستبداد ومن أجل الحريّة والكرامة. وهذا ما يتجلّى في الإنجازات الفعليّة التّي تحقّقت.


I- ماذا تحقّق من الأهداف؟

بعد الإطاحة ببن علي تمكّنت الثورة من فرض الحريّة السياسية بما تعنيه من حريّة التعبير والتنظيم والتظاهر، ومن حلّ "التجمع الدستوري" وجهاز البوليس السياسي ومجلس النواب ومجلس المستشارين والمجالس البلدية ومن تعطيل العمل بدستور 1959 وفرض انتخاب مجلس تأسيسي لصياغة دستور جديد.
ولكن لأسباب ذاتية وموضوعية مثّلت نتائج انتخابات 23 أكتوبر 2011 خطوة إلى الوراء إذ أفرزت تحالفا ثلاثيا حاكما سرعان ما انقلب على مطالب الثورة وسعى إلى تركيز نظام استبدادي وهدّد التونسيين في حياتهم وفي مكتسباتهم المدنيّة والديمقراطية ومصالحهم الاقتصادية والاجتماعية. وهكذا أخّلت الترويكا بقيادة النهضة بكافة التزاماتها وأوصلت البلاد إلى أزمة خانقة على كافة المستويات وإلى سلسلة من الاغتيالات. ولذلك تشكّلت »جبهة الإنقاذ»، وهي التقاء واسع جمع عدة مكونات سياسيّة وجمعياتيّة، ودعت إلى التعبئة الشعبيّة التّي كان لها الدور الحاسم في مغادرة الترويكا السلطة وصياغة دستور 27 جانفي 2014 الديمقراطي وإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسيّة قبل موفى نفس السنة.
الدستور الجديد متميّز على أكثر من صعيد. فهو تقدّمي إذ أنّه قام على أسس مدنيّة ولم ينصّ على أنّ الدّين مصدر للتشريع ويعترف بحريّة المعتقد. كما أنّه أكّد المساواة بين المرأة والرجل أمام القانون وفي القانون. ومن ناحية أخرى كرّس الدستور استقلالية القضاء بشكل واضح وثبّت الاقتراع الحرّ كآلية لانتقال السلطة حسب فترات مضبوطة وعدد محدود من النيابات. وأخيرا رَسَّخَ حريّة الصحافة. وبذلك أرسى الدستور العناصر الأساسيّة للديمقراطية السياسية.
لكن ما هي المطالب المستعجلة التّي تعهّدت بها حكومة المهدي جمعة ؟ نذكر منها أساسا مراجعة التعيينات وحل رابطات حماية الثورة وتحييد المساجد وكشف الحقيقة عن الاغتيالات واستمرار العديد من المساجد بين أيدي المتطرفين وتحييد الخطاب الديني في فنائها وتحقيق العدالة الانتقالية واستقلال القضاء وإرساء الامن الجمهوري. لم يتحقّق من هذه المطالب إلاّ القليل.
وبصفة عامة لم تحقّق الحكومات المتعاقبة أهداف الثورة في الشغل وتنميّة الجهات المحرومة والتحكّم في الأسعار وإرساء قضاء مستقل وأمن جمهوري وإصلاح التعليم بمختلف مراحله إلخ. كما أنّها واصلت نفس السياسة الاقتصادية الليبرالية التّي انتهجها ابن علي والتّي لم تفض إلاّ إلى الفشل بل عمّقت التوجّهات المعادية للفئات الكادحة.

هل انتهى المسار الثوري؟

هناك إقرار بأنّ الثورة لم تكتمل. فهي بالنسبة إلى القوى الثوريّة لم تتمكن من حسم مسألة السلطة المسألة المركزيّة في كلّ ثورة. فالسلطة بقيت بين أيدي الشريحة العليا من البورجوازية ولم تنتقل إلى القوى التّي قامت بالثورة، أي إلى الطبقات والفئات الكادحة والشعبيّة(12).
ومن بين الأسباب التّي تفسّر هذا القصور ضعف العامل الذاتي. فالثورة التونسية افتقدت إلى قيادة وطنية، مركزية، تكون معروفة لدى أوسع الجماهير لتسلّحها ببرنامج وبخطط تساعدها على إسقاط النظام القديم وبناء نظام جديد. ورغم ذلك لم تكن الثورة عفوية تماما بحكم وجود نوايات واعية كانت حاضرة في مختلف المحطّات والجهات ولكنّها كانت مشتّتة. وبرز دورها في الشعارات والقيادة الميدانية للتحرّكات.
واصطدمت الثورة بالقوى الرجعية الأصولية والليبيرالية الرافضة لها والتّي سعت إلى التحالف من أجل الالتفاف عليها تعاضدها القوى العالمية وبلدان عربية وإسلامية رجعية. وقد جنّدت هذه القوى أموالا طائلة من الداخل والخارج ووظّفت المساجد ووسائل الإعلام وشنّت حملات تكفير وافتراء وتشويه ضدّ القوى الثوريّة واغتالت بعض قياداتها،إلخ. وقد ساعدها على ذلك تخلّف الوعي السياسي لقطاعات واسعة من الشعب انجرّت وراء المغالطات والوعود الكاذبة وقبلت الهدايا المسمومة.
ومن ناحيّة أخرى وقفت الترويكا ونداء تونس وراء عودة رموز النظام السابق بقوة للساحة السياسية، في حين كان من المنطقي أن تمنع العدالة الانتقالية لو تمّ تطبيقها عودة ظهور أغلبهم إضافة إلى محاسبتهم.
ورغم كلّ هذه المناورات الهادفة إلى الالتفاف على الثورة فإن النضال الشعبي لم يتوقّف واستمرّ بطرق ووسائل مختلفة على نحو يؤكّد استمرار جذوة النضال والثورة لدى قطاعات عريضة من العمال والفلاحين ومختلف الشرائح الاجتماعية ضدّ القوى السياسية التّي تعاقبت على الحكم.
فما هي الاتجاهات الممكنة لتطور الأوضاع؟
أوّلا- في المجال الاقتصادي
هناك نظرتان:
- نظرة الأوساط الماليّة: نجد أفضل ترجمة لها في تقرير البنك العالمي(13). فتلك الأوساط ترى أنّ جميع الشروط متوفرة كي تكون تونس "نمر المتوسط". وانطلاقا من تشخيص حالة الاقتصاد ترى أنّ النظام الاقتصادي المعتمد في عهد ابن علي لا يزال قائما. فهي تحمّل المسؤولية لنظام ابن علي وترى أنّ أسباب الشلل الاقتصادي تكمن في العراقيل الموضوعة أمام المنافسة (مثل النظام الحمائي ومجلّة الشغل) وفي البيروقراطية المفرطة المؤديّة إلى المحسوبيّة والفساد.
وجاء في التقرير المذكور توصية بإعادة النظر في نمط التنمية الاقتصادية وإنجاز إصلاحات كبرى من أجل "تسريع وتيرة النمو وتحقيق الرخاء الذي يشترك الجميع في جني ثماره، وخلق فرص عمل جديدة، وتعزيز التنمية الجهوية"(14). كما توصي بإطلاق المنافسة وتبسيط التشريعات والإجراءات المنظمة للحياة الاقتصاديّة وإصلاح القطاع النقدي.
وبصفة عامة توصي المؤسّسات المالية العالمية بانتهاج سياسة تقشّف تتمثّل أهم إجراءاتها في:
- الضغط على المصاريف العمومية مثل الضغط على الأجور وتقليص الانتدابات.
- مزيد تحرير التجارة الخارجيّة.
- تحرير ملفّ الطاقة وتشجيع الاستثمارات الأجنبيّة في هذا المجال.
رسملة البنوك العموميّة والتفويت في ما تبقى منها لفائدة الخواص الخ.
إعادة هيكلة الصناديق الاجتماعيّة وإنقاذها من الإفلاس بالترفيع في سنّ التقاعد.
- دعم المؤسسات الاقتصادية والتشجيع على الاستثمار الخارجي، مراجعة مجلّة الشغل في اتجاه إسباغ أكثر مرونة على العلاقات الشغليّة.
- التفويت في ما تبقى من مؤسسات عموميّة(15).
وهذه التوجهات تعكسها برامج الأحزاب التّي تمثّل الأغلبيّة الساحقة في مجلس نواب الشعب والتّي على ما يبدو ستتشكّل منها الحكومة وخاصة حزب نداء تونس وحزب النهضة. فهما يتّفقان على الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى التي تتلخّص في تحرير الاقتصاد وفي الانخراط في العولمة الليبرالية من موقع تابع والتعويل على الاستثمار الأجنبي والقروض الأجنبيّة وعلى أولوية التصدير.
نظرة ثانية تتبنّاها القوى الثوريّة:
ما تحتاجه تونس الآن هو اقتصاد وطني ينهض بالقطاعات المنتجة وبالخدمات الأساسية (خاصة التعليم والصحة) ممّا يلبي حاجات التونسيين والتونسيات ويوفر لهم مقومات الحياة الكريمة(16). وما تحتاجه تونس أيضا هو الاعتماد على الذات في المقام الأول وتنويع الموارد المالية الداخلية دون اللجوء إلى مزيد الاقتراض خاصّة الاقتراض المشروط الذي لا يخدم مصالح البلاد. وعلاوة على الاستثمار الخاص فإنّه لا يمكن الاستغناء عن الاستثمار العمومي. فدور الدولة أساسي لضمان استحقاقات الثورة وتحقيق التنميّة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنهوض بالجهات الداخلية وتطوير البنية الأساسية. وهناك حاجة أيضا إلى مراجعة النظام الجبائيّ في تونس ومحاربة التهرّب الضريبيّ وخصوصا من أصحاب الشركات ورؤوس الأموال(17).
ثانيا: في المجال القضائي
تحقيق العدالة الانتقالية
تجنبت الحكومات المتعاقبة فتح الملفات وإن فتحت حكومة الترويكا بعضها فمن أجل الابتزاز واستمالة التجمعيين. ومن جهة أخرى فإنّ حكومة نداء تونس ستركّز على ما يبدو على المصالحة دون المحاسبة.
وينتظر التونسيون اليوم فتح الملفات الأساسية (مثل ملفات الفساد والتعذيب وضرب الإعلام والثقافة) من أجل معرفة ما حصل وكيف حصل ومن المسؤول عما حصل حتّى لا يتكرر مستقبلا. وكلّ من ارتكب جناية تتطلب عقابا يحال على القضاء. ولا يمكن لأي شعب أن ينظر إلى المستقبل دون أن يصفّي حساباته مع ماضيه أي مع الأخطاء والنقائص.
- إرساء قضاء مستقل
لقد سعت أحزاب الترويكا إلى تركيع المؤسسات في شتّى المجالات، كالقضاء، لتوظيفها. فالحزب المهيمن أيّ النهضة لم يكن أعضاؤها يؤمنون باستقلالية القضاء وبالفصل بين السلط. وقد أدّت سياسة الترويكا إلى توتّر العلاقات مع القضاة.
ورغم ما تحقّق في الدستور فإنّ بعض ممثلي القضاة يطالبون بإدخال تعديلات على تركيبة المجلس الأعلى للقضاء التّي تجمع بين قضاة وبين مختصين من خارج سلك القضاء وتجمع بين طريقة التعيين وطريقة الانتخاب. فالمطلوب أن تكون التركيبة متكونة من قضاة منتخبين وأن تكون النيابة العمومية مستقلة استقلالا فعليّا عن السلطة التنفيذية. ولكن بصفة (عامّة) المنظومة القضائية مقبولة إلى حدّ كبير.
مّما لا شكّ فيه أنّ هناك أشواطا مهمة لم يقطعها التونسيون التوّاقون إلى إنجاح ثورتهم لتضمين مبادئ الدستور في قوانين واضحة وللنضال سواء في قاعات المحاكم أو في واجهات النضال المدني من أجل قضاء مستقل بصفة فعلية.

ثالثا- على مستوى التشريعات
من مهام المجلس الجديد سنّ تشريعات تنظّم بعض مجالات الحياة العامة وفق ما ينصّ عليه الدستور: مجالات الصحافة والأحزاب والاجتماعات والتظاهر والاستثمار والبنوك والأمن والديوانة الخ. وفي هذه المجالات ستكون هناك دون ريب تباينات بين الأطراف وتحديدا بين توجّهين، توجّه يسعى إلى التضييق تحت عناوين مختلفة على الحريّات العامة والفردية وإلى توجيه النظام المالي والقطاع البنكي في خدمة الرأسمالية العالمية والمحلية ويوظّف مؤسسات الدولة في خدمة المصالح الخاصّة مثل العهد السابق، وتوجّه يكرّس أهداف الثورة التّي سبق ذكرها.
رابعا- على المستوى الاجتماعي
ينتظر التونسيين عمل جبّار من أجل تشريعات اجتماعية تقدميّة نذكر منها تطوير مجلة الأحوال الشخصية ومجلّة الشغل وإصلاح التعليم وإصلاح المنظومة الصحيّة الخ. وفي هذه المجالات أيضا سيكون التباين واضحا مع التصوّرات الرجعية والليبرالية المهيمنة على المجلس.
خامسا- على المستوى الأمني
لا يزال في انتظار التونسيين الكثير من العمل في هذا المجال الحسّاس. وتطرح هنا الأسئلة الملحّة التالية: هل يمكن في ظل الوضع الدولي والإقليمي القائم وفي ظل الاختراقات التّي شملت أجهزة الامن والجيش وانتشار السلاح والخلايا الإرهابيّة أن ننتصر على الإرهاب؟ وهل سيحاسب كلّ من له علاقة به؟ وهل سيتمّ كشف المسؤولين عن اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي تخطيطا وتنفيذا؟ نترك الإجابة لتطوّر موازين القوى بين الثورة والثورة المضادة.
وتجسيدا لمبادئ الثورة يجدر التفكير في بلورة عقيدة أمنية تحتكم إلى القانون وإلى حيادية المؤسسة الامنية وحماية حقوق الإنسان. وسيصطدم هذا المطلب لا محالة بالعادات الأمنية القديمة والتوظيف الأمني والنزعة المعادية للحركات الاجتماعيّة. ولكن كلّ هذا الإرث بيّن حدوده في السابق ولا يبدو اّن الشعب مستعد للعودة إلى الوراء.

الخاتمة
هذا غيض من فيض، ركّزنا فيه على بعض الجوانب الآنية المباشرة. ولعلّنا نكون بهذا التمشي ابتعدنا عن الكلام المجرد وطرحنا بعض الاستحقاقات الممكن إنجازها حسب موازين القوى القائمة بين القوى الثورية والقوى المعادية للثورة.
ظاهريا تتطوّر موازين القوى لفائدة التحالف الندائي النهضاوي (إن كتب له أن يتأكّد ويتواصل) ومن المنتظر أن يسعى إلى تشديد قبضته على الحريّات ولجم الحركة الاجتماعية بشكل يتوافق مع مقتضيات الاستقرار وتأمين مصالح الشرائح العليا المحلية والدول والشركات والمؤسسات المالية الأجنبية.
لكن الأوضاع متغيّرة وموازين القوى غير مستقرة. فالمؤكد أنّ هناك فرقا بين التوازنات السياسية والواقع الاجتماعي. فتلك التوازنات لا تعكس القوى الاجتماعية المتقابلة. وقد بيّنت التجربة أنّ الشعب التونسي أسقط أعتى الدكتاتوريات عندما أراد. من أجل ذلك لا بدّ من تدعيم العنصر الذاتي بالتزام أبناء الشعب اليقظة وتدعيم وحدتهم وتوسيع دائرة علاقاتهم.
لكن هل للثورة التونسية آفاق أخرى في المدى المتوسط؟ وما هو السبيل إلى ارتقائها إلى ثورة وطنية وديمقراطية؟ سؤالان جديران بالبحث والتمحيص.


الهوامش:
1- قدّمنا هذا العمل أمام جمع من النشطاء في جندوبة بمناسبة التظاهرة التّي أقامتها جمعية أحباء المكتبة والكتاب احتفالا بعيد الثورة يوم 14 جانفي 2015 بفضاء المكتبة الجهوية بجندوبة.
2- نشير على سبيل الذكر إلى الأعمال التالية: ابن أبى ضياف، أحمد، إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، الجزء الخامس، تونس، الدار التونسية للنشر، 1989.
Marx, (K), Les luttes de classes en France 1848-1850 et Le Dix-huit brumaire de Louis Bonaparte, présentation et annotations de Raymond Huard, Éditions sociales, 1984.
ريد، جون، عشرة ايام هزت العالم، بيروت، دار الفكر الجديد، 1985.
3 - Attali (J), Une brève histoire de l’avenir, Paris, Fayard, 2006.
4- يمكن الاطّلاع على عناوين هذه المؤلفات عبر الرابط:
http://www.bibliotheque.nat.tn/ressources-du-net/bibliothque-numriquearticle-bibliothque-numrique-36.html
5- نذكر على سبيل المثال:
"Révolutions Arabes et Nouvel Humanisme", colloque international organisé par le laboratoire de recherches « Recherches sur les Lumières, la Modernité et la Diversité Culturelle-LMDC», à la Bibliothèque Nationale de Tunisie, Boulevard 9 Avril, le 30 et 31 octobre 2014.
"الثورة التونسية في مرايا الصحافة التونسية وذلك بدراسة وسائل الإعلام التونسية قبل وبعد 14 جانفي 2011"، ندوة نظمتها مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات يوم 27 ديسمبر2014 بمقرها بعمارة الامتياز بالمنطقة العمرانية الشمالية بالشرقية حي الخضراء تونس العاصمة.
6- خصّصت مجلة البديل ملفي العددين 1 و2 الصادرين سنة 2012 الأول لموضوع "الثروات العربية إلى أين؟" والثاني لموضوع "الثورة والثروة".
7- أنظر : ابن يوسف، عادل، "بعد قرابة سنتين من تسلّم حزب حركة النهضة الحكم في تونس: قراءة في وعود الحركة وإنجازاتها: من "الوصايا العشر" إلى "الأخطاء العشرة""، البديل عدد 4 و5، الثلاثية 3 و4 سنة 2013، ص ص 155- 236.
8- التيمومي، الهادي، كيف صار التونسيّون تونسيّين؟، صفاقس، دار محمد علي للنشر، 2015، ص 31.
الماركسيون اللينينيون الماويون في تونس، " تونس:الانتفاضة والتكتيك الثوري"،
http://redstar-tu.blogspot.com/search?q=%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%AA%D9%81%D8%A7%D8%B6%D8%A9. (16 جانفي 2015)
9- "الثورة التونسية: طابعها، آفاقها ومعيقات تطوّرها"، صوت الشعب (السريّة)، بتاريخ 10 مارس 2011.
"تقرير حول الثورة التونسيّة"، صادق عليه المؤتمر الرابع لحزب العمال المنعقد بالحمامات في 26 و27 جوان 2014. نشرته جريدة صوت الشعب العدد 156 ليوم 6 جويلية 2015.
10- يستعمل حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد أحيانا كلمة ثورة وفي الكثير من الحالات كلمة المسار الثوري. انظر أعداد مجلّة الدرب.
11- أنظر: تيد غرانت، "ماركسي"، 09 فبراير 1979،
http://www.marxy.com/middleeast/iran/iranian-revolution-grant030508.htm (17 جانفي 2015)
حسين عمران، "الثورة الإيرانية: كيف انهزم العمال وانتصر آيات الله؟"، الاشتراكي،
http://revsoc.me/revolutionary-experiences/lthwr-lyrny-kyf-nhzm-lml-wntsr-ayt-llh/
(17 جانفي 2015)
12- "تقرير حول الثورة التونسيّة"، مصدر مذكور.
13- " الثورة غير المكتملة: توفير فرص ووظائف أفضل وثروة أكبر لكلّ التونسيين"،
Brochure Revue des politiques de développement, http://www.banquemondiale.org/content/dam/Worldbank/document/MNA/tunisia_report/the_unfinished_revolution_fre_leaflet_online.pdf, le 10 janvier 2015.
14- نفس المصدر.
15 - Compte rendu du rapport annuel du Fonds Monétaire International pour la région MOANAP présenté par Mme Giorgia Albertin Représentante Résidente pour la Tunisie (Tunis le 08/12/14).
http://www.onagri.nat.tn/uploads/situation_economique.pdf (le 17 janvier 2015).
16 - حوار مع حمة الهمامي، التونسية، 07/04/2014 http://www.attounissia.com.tn/details_article.php?t=37&a=118888
17 - البرنامج الانتخابي للجبهة الشعبيّة (الخطوط التوجيهية)، سبتمبر 2014. محفوظ في مقرّ الجبهة الشعبية ب 1 نهج شكيب أرسلان، مونبليزير، تونس.



#خميس_بن_محمد_عرفاوي (هاشتاغ)       Arfaoui_Khemais#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- شاهد: تسليم شعلة دورة الألعاب الأولمبية رسميا إلى فرنسا
- مقتل عمّال يمنيين في قصف لأكبر حقل للغاز في كردستان العراق
- زيلينسكي: القوات الأوكرانية بصدد تشكيل ألوية جديدة
- هل أعلن عمدة ليفربول إسلامه؟ وما حقيقة الفيديو المتداول على ...
- رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية يتهرب من سؤال حول -عجز ...
- وسائل إعلام: الإدارة الأمريكية قررت عدم فرض عقوبات على وحدات ...
- مقتل -أربعة عمّال يمنيين- بقصف على حقل للغاز في كردستان العر ...
- البيت الأبيض: ليس لدينا أنظمة -باتريوت- متاحة الآن لتسليمها ...
- بايدن يعترف بأنه فكر في الانتحار بعد وفاة زوجته وابنته
- هل تنجح مصر بوقف الاجتياح الإسرائيلي المحتمل لرفح؟


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - خميس بن محمد عرفاوي - ماذا يبقى من الثورة التونسيّة؟ دراسة آنية واستشرافية