حسام عامر
الحوار المتمدن-العدد: 4662 - 2014 / 12 / 14 - 17:23
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
عندي ابن عمره 6 سنوات. اسمه جن-جو, وأتكفل أنا بكل مصاريفه, على الرغم من انه بالامكان أن يقوم هو بتكفل تلك المصاريف بنفسه, مثل ملايين الأطفال الذين لديهم وظائف في العالم النامي.
اذا ما أراد جن-جو أن يصبح شخصا أكثر انتاجية عليه أن يبدأ المنافسة, وكلما كانت هذه المنافسة أكبر ومبكّرة أكثر كان ذلك أفضل لمستقبله.عليّ أن أخرجه من المدرسة وأن أجد له وظيفة.
أكاد اسمعك تقول أن ما قلته أنا للتو يعد جنونا وتوحشا وقصر نظر, وأنني اذا ما ادخلت جن-جو الى سوق العمل الأن فربما سيصبح ماسح أحذية ماهر أو بائع متجول, لكنه لن يصبح طبيب جراحة أو عالم فيزياء نووية أبدا. وربما ستقول لي أيضا أنه وحتى من وجهة النظر المادية البحتة, من الأفضل أن استثمر في تعليمه أولا ومن ثم حصد عوائد ذلك الاستثمار لاحقا بدلا من أن أحدق بالأموال التي سأوفرها بعدم انفاقي على مصاريف المدرسة.
تشبه هذه الحجّة الحمقاء التي ذكرتها أنا لتبرير دفع ابني الى سوق العمل في جوهرها الحجج التي يستعملها الاقتصاديين المؤيدين للاقتصاد الحر لتبرير عملية تحرير التجارة في العالم النامي بشكل سريع وواسع النطاق. يدّعي أولئك الاقتصاديين أن على منتجي العالم النامي التعرض لأقصى حد من المنافسة ليمنحم ذلك حافزا كبيرا لزيادة الانتاج. ويقولون أنه كلما كانت هذه المنافسة مبكرة أكثر كان ذلك أفضل للنمو الاقتصادي.
لكن, وكما يحتاج الطفل الى الرعاية لينمو ويكون بامكانه المنافسة في سوق العمل بعد أن يكبر, يحتاج المنتجين في العالم النامي الى أن تتم حمايتهم من المنتجين الأجانب الأكثر تطورا وتفوقا الى أن ينمو. هم بحاجة الى الحماية والى الدعم بطرق مختلفة الى أن يتمكنوا من اتقان الوسائل الفنية المتطورة ومن بناء مؤسسات فعّالة.
تعرف هذه الحجّة باسم الصناعات الوليدة (أو الناشئة). والقليل من يعلم أن أول من نظّر لها هو ألكسندر هاملتون أول وزير للخزانة الأمريكية والذي توجد صورته على ورقة ال10--$--.
في بداية الأمر, لم يتقنع بنظريته الاّ القليل من الأمريكيين. وكان الاقتصادي ادم سميث, أب الاقتصاد الحديث, قد نصح الأمريكيين بعدم تقديم الرعاية والحماية لانتاجهم الصناعي. لكن, ومع مرور الوقت اقتنع الأمريكيون بنظرية هاملتون, وبعد الحرب البريطانية الأمريكية عام 1812 تحولت الولايات المتحدة الى السياسة الاقتصادية الحمائية. ومع قدوم ثلاثينيات القرن الثامن عشر, كانت التعرفة الجمركية الأمريكية على المنتجات الصناعية المستوردة هي الأعلى في العالم, حيث ترواحت بين 40-50%, وبقيت كذلك حتى قدوم الحرب العالمية الثانية.
صحيح أن نظرية الصناعات الوليدة كان قد نظّر لها في الولايات المتحدة لكن ممارستها موجودة منذ زمن بعيد جدا. ومن المدهش أن أول قصة نجاح كبير لتطبيق السياسات الاقتصادية الحمائية كانت في بريطانيا التي تعتبر مسقط رأس التجارة الحرة. في واقع الأمر, كان برنامج هاملتون, ومن عدة أوجه, نسخة عن برنامج تنمية الصناعات الذي أقرّه سيد الخزانة البريطاني روبرت والبول عام 1721 والذي حقق نجاحا باهرا, واعتمد ذلك البرنامج على فرض تعرفات جمركية مرتفعة (من بين الأعلى في العالم) وعلى تقديم الدعم الحكومي للصناعات, مما حقق لبريطانيا تفوقها الاقتصادي.
كانت الولايات المتحدة وبريطانيا الأكثر حماسا لفرض تعرفات جمركية مرتفعة وحققوا النجاح الأكبر في ممارسة ذلك. لكن معظم الدول الغنية في الوقت الحاضر كانت قد فرضت تعرفات جمركية حمائية لفترات طويلة من أجل تنمية صناعاتهم الوليدة. وقام الكثير منهم بتقديم الدعم الحكومي للصناعات المحلية وبانشاء مشاريع حكومية للنهوض بصناعات جديدة. قامت اليابان ودول أوروبية كثيرة بتقديم الكثير من الدعم الحكومي للصناعات الاستراتيجية. وقامت الولايات المتحدة بتقديم أكبر قدر من الدعم الحكومي للبحث والتطوير العلمي على مستوى العالم. وعلى الرغم من التصور الشائع لسنغافورة على أنها من الدول التي تتبنى السوق الحر, لسنغافورة واحد من أكبر قطاعات المشاريع الحكومية في العالم, حيث ينتج القطاع الحكومي قرابة ال30% من الدخل الوطني. ولعبت المشاريع الحكومية دورا محوريا في كل من فرنسا وفنلندا والنمسا والنرويج وتايوان.
قامت معظم الدول الغنية بحماية انتاجها المحلي الوليد عبر فرضها قيودا على الاستثمار الأجنبي. قامت الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر بضبط الاستثمار الأجنبي في القطاع البنكي والنقل البحري والتعدين وقطع الأشجار. وقامت كل من اليابان وكوريا الجنوبية بوضع قيود صارمة على الاستثمار الأجنبي في قطاع التصنيع. وقامت فنلندا بين ثلاثينيات وثمانينيات القرن الماضي بادراج كل الشركات التي تتعدى الملكية الأجنبية فيها عن 20% على أنها "شركات خطيرة".
الاستثناء بين الدول الغنية هما هولندا وسويسرا, وعلى الرغم من أنهما مارستا التجارة الحرة لكنهما رفضتا توفير الحماية لبراءات اختراع المنتجات الأجنبية حتى أوائل القرن العشرين. قامت معظم الدول الغنية ومن ضمنها بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة بإباحة تسجيل الاختراعات المستوردة على انها براءات اختراع محلية. ورفضت الولايات المتحدة حماية حقوق النشر الأجنبية حتى عام 1891. وقامت ألمانيا في القرن التاسع عشر بانتاج كميات هائلة من البضائع المزورة والمطبوع عليها "صنع في انجلترا".
وعلى الرغم من هذا التاريخ. قامت الدول الغنية منذ الثمانينيات بفرض سياسات اقتصادية على الدول النامية تقريبا معاكسة تماما للسياسات الاقتصادية التي تبنتها تلك الدول الغنية في الماضي. وما تقوم به هذه الدول الغنية من استكنار وادانة للتعرفات الجمركية المرتفعة وللدعم الحكومي وللمشاريع الحكومية وللقيود على الاستثمار الأجنبي وللتساهل مع حقوق الملكية الفكرية في الدول النامية هو بمثابة ركل للسلّم الذي صعدت به الدول الغنية الى الأعلى, والذي غالبا ما صعدوه مخالفين نصائح الدول التي كانت أغنى منهم في حينها.
لكن, ربما سيتسائل القارئ, ألم تقم الدول النامية بتجربة السياسات الاقتصادية الحمائية وكانت قد فشلت فشلا ذريعا؟ تلك أسطورة شائعة, لكن حقيقة الأمر هي أن الدول النامية قد نمت أبطأ كثيرا في عصر السياسات الاقتصادية النيوليبرالية مقارنة بعصر السياسات الاقتصادية الحمائية في الستينيات والسبعينيات. هذا وعلى الرغم من التسارع الكبير للنمو في العملاقين, الصين والهند, اللّتان حررتا اقتصادهما جزئيا لكنهما رفضتا تبني السياسات الاقتصادية النيوليبرالية بشكل كامل.
كان النمو بطيئا جدا بالأخص في أمريكا اللاتينية وأفريقيا جنوب الصحراء, وهي الأماكن التي طبقت فيها السياسات الاقتصادية النيولبرالية بشكل كامل. في عصر السياسات الاقتصادية الحمائية, سجّل متوسط دخل الفرد في أمريكا اللاتينية ارتفاعا سنويا مقداره 3.1%. أمّا في عصر السياسات الاقتصادية النيوليبرالية فقد سجّل ارتفاعا سنويا مقداره 0.5%. أمّا في أفريقيا جنوب الصحراء, سجّل متوسط دخل الفرد ارتفاعا سنويا مقداره 1.6% بين الأعوام 1960-1980, لكن, ومنذ عام 1980 وهو يسجّل انخفاضا سنويا مقداره 0.3%.
تاريخ الدول الغنية والتجارب الحديثة للدول النامية يشيران الى نفس الاستنتاج. وهو أن النمو الاقتصادي بحاجة الى فرض الرسوم الجمركية والى ضبط الاستثمار الأجنبي والى قوانين ملكية فكرية متساهلة والى سياسات أخرى تمكن المنتجين من مراكمة القدرات الانتاجية. وبالتالي, يجب امالة ملعب الاقتصاد الدولي لصالح الدول الأفقر عبر منحهم حرية أكبر تمكنهم من تطبيق تلك السياسات الاقتصادية.
لا يتعلق الموضوع فقط بالعدالة. بل أيضا بمساعدة الدول النامية على النمو بشكل أسرع. لأن النمو الأسرع في الدول النامية يعني المزيد من التجارة وفرص الاستثمار, وهذا في صالح الدول الغنية أيضا.
النص هو ترجمة لمقال ها جون تشانغ مساعد مدير دراسات التنمية في جامعة كامبريدج. نشر المقال الأصلي بالانجليزية في صحيفة الاندبندنت بتاريخ 23/7/2007. رابط المقال:
http://www.independent.co.uk/news/business/comment/hajoon-chang-protectionism-the-truth-is-on-a-10-bill-458396.html
#حسام_عامر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟