أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - العجوز الحلقة السادسة والعِشرون















المزيد.....

العجوز الحلقة السادسة والعِشرون


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 4623 - 2014 / 11 / 3 - 16:03
المحور: الادب والفن
    


...العاصفة. جاءت بالريح، والريح جاءت بها، ووصل الحفيد مع أول هبيب. لم تهب الريح منذ سنين وسنين، فالسنون لم يعد الناس يعدونها، حتى أنهم نسوا كيف يعدون. وقرع الطبول ذاك الذي يُسمع من بعيد، كان يأتي من أبعد مكان في الكون. قرعٌ بعيدٌ، بعيدٌ جدًا، كهزيم الرعد، بعيدٌ، عميقٌ. كان لباسل وجه مبرنز، موسوم بالاندفاع والاحتدام، وعينان مضطرمتان بالآمال والشهوات. وكان لديه هدف واضح، هدفُ مقاتلٍ انتظرَ طويلاً، تألم كثيرًا. يتألم المرء عندما لا يدري ما يفعل بحريته، وتتحول الأحلام إلى كوابيس. مشى طويلاً... ليتحاشى كل أعدائه، كان عليه أن يضرب في الطرقات، أن يعبر الوديان، أن يتسلق الجبال، وها هو هنا، أخيرًا هنا! إنها الريح التي جاء بها، حملته حتى هنا، من الشرق إلى الغرب، حملته في حناياها.
توقف باسل عند ملتقى طرق، وبدت له المقاطعة غير ما كانت عليه. كانت المقاطعة كامدة اللون كما كانت عليه دومًا كالهواء، كالأشجار، كالناس، ككل شيء هنا في الصباح، إلا أنه رآها، وقد تبدلت في مجلاها. كانت نظرته. النظرة التي تتبدل ترى الأشياء بطريقة مختلفة، وهذا ما باستطاعته تبديل مظاهر الحياة. كانت المقاطعة بالأحرى حَفِيَّة: ينحني النمل انحناءه لملك، تظلل الجذوع تظللها لأمير. أحس بالأرض ملساء تحت قدميه، ولاحظ مجاملة العجائز له. عرف بعضهن، وابتسم لنفسه. عندما كان صغيرًا، كن يعطينه تفاحة أو برتقالة خِفْيَةً، خوفًا من أن يطلب الأطفال الآخرون ما يعطينه. في ذلك الوقت، كانت برتقالة أو تفاحة من بستان الحاكم تساوي وزنها ذهبًا. كان يأكل بِلَذّة، وكان يضحك. كانت العجائز يبتسمن، لتلك الضحكات، ليتذكرن ضحكة بعيدة، ليرين أنفسهن طفلات. نسي باسل كيف الذهاب عند جدته، إذن كانت مسألة ذاكرة، كل هذا التبدل، لا مسألة نظرة. ربما الاثنتان. يمكن للنظرة إيقاظ الذاكرة، فهي السلك الناقل للذكريات. ومع ذلك، نسي باسل كيف يفضي إلى ساحة المعدمين بالرصاص. اقترب من التمثال الأسود هناك، لكن عجوزًا ثانية بدت على الربوة، وأشارت إليه بالقدوم. كانت، هي الأخرى، منحوتة في الصخر. أنعمت كلتاهما النظر إليه، والحواجب جمدتها السنون التي لم يعد الناس يعدونها. صعد المنحدر و، عندما أراد استفسار الحجارة، لاحظ على السفح الآخر ألف عجوز أو أكثر، وهن يقفن ساكنات بانتظاره...
أخيرًا، دخل باسل قريته. مضى بأشباح راحت تحرك الشفاه، وكأنها، وهي تراه، تعود إلى الحياة لتستدرك الوقت الضائع. مضى تحت النظرات الحجرية، وفكر أنه يعود أخيرًا، بعد أن أجّل طويلاً عودته، أنه يصل أخيرًا: فليتقدم إذن، وليكن ما يريد...
عندما وصل إلى مستوى العجوز الأخيرة، رأى أنها تمد ذراعها لتدله على الطريق المؤدية إلى بيت جدته. توقف قليلاً في ساحة المعدمين بالرصاص، ونظر إلى مقهى الأقاقيا. تأمل شارع الأقحوان، وعاد يبتسم. كان الذهاب عند الفرنسيات له حلمًا، تلك النساء اللاتي يلقين بأنفسهن عاريات بين أذرع عشاقهن، واللاتي يقبلن أجسادهم من كل مكان يعرينه! الحلم الذي كان يتسلط على مراهقته، والذي بقي هنا، في مكان ما من رأسه. واصل طريقه إلى جدته: كيفها بعد كل هذه السنين من الغياب؟ من تشبه؟ فجأة، تحرق شوقًا إلى رؤيتها، لا لشيء إلا ليعرف إذا ما بقيت كما كانت، وإذا ما قعد خبزها لذيذًا كما كان دومًا.
وهي تجلس قرب الموقد، انتفضت العجوز لما رأته. نهضت، وخفت إليه، ثم توقفت بعد اندفاع، وجمدت منه على بعد خطوتين. فجأة، مضت في عينيها عاصفة من الوَجْد، واضطرمت كالماضي: استعادت ألوانها الندية في ما مضى، رقتها، بساطتها. أخيرًا، ألقت بنفسها باتجاهه، وتناولته من كتفيه. باسل... باسلي... هل هذا أنت حقًا؟ مر طائر في سمائها، حبة قمح في منقاره. إنه هو. اقتربت بيديها الكهلتين من وجهه، ومررت أصابعها في شعره، وفي أغوار ذكراها يموج بحر من الذهب تحت النسيم.
ابتسم الحفيد، وهو يرى هذا الجسد الناحل والمحطم، وقد عاد إلى الحياة، لأنه عاد، ولأنه كان هنا، أمامها، قد انتعش من جديد. بدأت حياتها أو يكاد، ومع ذلك، عاشت عدة أجيال. لقد تبدلت، جدته، لكن رائحتها رائحة ذلك الخبز الذي كم كان يشتهيه. استسلم لها جسدًا وروحًا، وتحت أصابعها، ارتعش كزمج يعود إلى أمواج طفولته، تحت أصابعِهَا الملتهبةِ طيبة. وجفناه يختلجان بغرابة، كخفق الأمواج، أمواج طفولته التي تستقبله، هو، الزمج بلا جناحين. أما عنها، فقد كانت الجناح الذي يعوزه، وكانت تُحَلِّقُ.
- هذا أنا!
لم تزهق من اكتشافه واكتشافه، بعينها أولاً، ثم باقترابها منه بيديها لتلمسه: كانت تريد التأكد من أنه هنا. هذا أنا! هذا أنا! أفنت نفسها ريبةً خلال سنوات وسنوات، لهذا. في الوقت الحاضر، كانت تريد التأكد كليًا. في الأخير، استعادت هدوءها، كمن تكبب في عش سعادة تجعله مشعًا.
- انتظرتك! همهمت.
- ها أنا أعود! همهم.
- أخيرًا!
- نعم، أخيرًا!
انتظرته طوال الوقت، ليل نهار، خلال نومها، انتظرته... انتظرته طوال هذا الليل الطويل الذي كانته حياتها منذ الليلة الأخرى. كانت تقول لنفسها: سيأتي عما قريب، حفيدي الصغير. سيأتي عما قريب. سيكون عما قريب بيننا، ليهتم بأمري.
- قل، يا باسل، يا طفلي، هل عدت حقًا؟ هل حقًا عدت، يا حبيبي؟ قل لي إنك عدت حقًا.
- أنا عدت حقًا.
- لماذا تأخرت كثيرًا؟
- يحصل دومًا في الغربة ما يعيق، مانع، إزعاج، طارئ.
- هل هذا أنت حقًا؟ جميلي! قويي! هل هذا حقًا أنت، يا حفيدي؟ هل هذا حقًا أنت، يا أميري؟ لقد أصبحت ولدًا بهيًا!
- كنت أفكر فيك كل الوقت.
- وأنا أيضًا كنت أفكر فيك كل الوقت، فكرت في وقتك.
أمسكها من كتفيها الواهنين، وشدها بقوة كبيرة، فتفتحت من جديد، وأزهرت ابتسامتها. امتلأ أنفه برائحة خبزها الساخن، وشيء آخر لم يميزه بعد.
- لم تزل أسنانك قوية!
- هذا كل ما بقي لي.
- يا لجدتي المسكينة! لكم كبرت!
- نعم، لقد كبرت كثيرًا! تعال!
أمسكته من يده، وسحبته قرب الموقد. أرادت أن تنزع له ثياب سفره قرب النار، كيلا يبرد. وتلك الرائحة الزكية التي تملأ رأسه، والتي لا يصل إلى تحديدها، كل ذلك الشذى. كانت ثيابه مغطاة بالغبار، فأرادت تنظيفها. رفض حفيدها، وهو ينظر إلى النار، ويفكر أن تلك الرائحة الطيبة، تلك الرائحة الزكية واللذيذة، تتصاعد من الجمر المضطرم لجدته.
- لم تزل لديك نار؟
- حطباتي الأخيرة! اجلس!
وضعت على الكرسي وسادة دمقسية.
- ارتح، يا صغيري. كنتَ بعيدًا؟
- كنتُ بعيدًا! بعيدًا جدًا!
- هل أنت تعب؟
- سأرتاح!
- هل أنت جائع؟
- لا!
- بعد كل هذه الجهود؟
- معدتي خاوية، لكني لا أشعر بالجوع. أريد فقط كأس ماء.
نهضت في الحال للذهاب إلى القربة، وملأت نصف كأس بما تبقى فيها. القطرات الأخيرة التي شربها، بروية. بارتواء. أخذ الوقت الكافي ليتذوق ماء الزمن الغابر، ليتركه يسيل في حلقه. ثم وضع الكأس، مفتننًا بالسعادة التي أمده إياها ماءٌ اشتاق إليه كثيرًا.
قالت العجوز فجأة:
- انتحرت أمك، حصل ذلك منذ عدة سنوات. كانت حبلى بتوأمين استطعتُ إنقاذهما بفارق قليل من الزمن. هما من البشاعة لدرجة حتى الشفقة يوهن عزمها!
تأوهت. كانت تعي ما تخلصت من عبءٍ يثقل لها الكتفين. في البداية، استمع إليها حفيدها دون أن يبدي أقل حركة: انتحرت أمه. ظن أنه يسمع إحدى تلك الحكايات التي لدى جدته سرها، ثم، أدرك أن أمه قد انتحرت بالفعل. ماتت أمه، ولن تكون هنا للعشاء هذا المساء. لماذا أقدمت على الموت؟ لم تكن تعرف جدته تمامًا. قالت إنها لا تعرف، إنها تعتقد أن أمه كانت تعيسة، تعيسة جدًا، إنها تفكر أن ابنتها فضلت الموت بعد عودتها من مدينة الخطايا الألف، لأنها ارتكبت خطيئة. لم تتكلم عن الوحي، ولا عن النبوءة. تذكرت تلك اللحظة الني غطست فيها بيدها في جسدها بحثًا عن التوأمين، عن الصغيرين اللذين كانا يعومان في مائع دبق، اللذين كانا يزلقان، اللذين كانا لا يريدان الخروج. وكان عليها أن تكشط شيئًا، فانبثق مائع أصفر وأحمر، مزيج مقزز، أعطاها الرغبة في القيء، في بصق أحشائها. شعرت بالقرف، بالقرف من نفسها ومن حياتها، لما فجأة قرعت صرخات في الأجواء، وكل واحد من التوأمين جاء بدوره إلى الحياة. وهذا السؤال المحاصر للروح: لماذا؟ لماذا؟ لماذا، يا جدتي؟ قولي لي لماذا انتحرت أمي. أعادت قائلة إنها لا تعرف.
- قبل هذا، تابعت، قتلوا أخاك، عتريس. ما عدا صهباء وساذجة، اللتين ما زالتا على قيد الحياة، أخواتك الأخريات اختفين. ربما مُتن. لم يكن لهن عشاق، وكن عذراوات، أنا الضامنة لما أقول. ربما قُتلن. أما أخوك، فهم قتلوه بالرصاص في الساحة العامة. هو، أعرف لماذا، لأنه حاول هدم السور. حسرة على شبابه! كان جميلاً وقويًا بمثل قوتك وجمالك.
كان يفكر في أمه دومًا، لماذا انتحرت؟ لماذا لم تنتظره؟ وأخواته اللاتي اختفين كأشياء بدون قيمة، وأخوه الذي قُتل بدون سبب، لأنه حاول خرق سورٍ كان يخنقه. لماذا؟ أراد الصراخ: لماذا؟ لماذا كل هذه المذابح، كل هذه التضحيات؟ ولكن من هنا لن يسمعه العالم، وعلى أي حال، حتى من هناك لن يسعى العالم إلى سماعه. هذا العالم، هذا المتواطئ مع الأضاليا، هذا العابد للجثث التي سودتها الشمس! لماذا... داوم الحفيد على الصمت، وثنية قاسية تبرم فمه:
- والحقل؟
- لفظه الحاكم بعد أن انتهى عطاؤه، هو حقل عجوز الآن كجدتك.
وللحديث عن شيء آخر غير كهولتها:
- صهباء، أختك الكبرى، لم تزل كما كانت على عهدك بها: دميمة وغريبة. وهي، على الرغم من ذلك، أنجبت صبيًا جميلاً، أجمل من إله! أما صهباء، أختك الصغرى، فهي يومًا عن يوم تزداد جمالاً، وهي يومًا عن يوم تزداد حكمة، كالمرحوم زوجها، غواص الشيخ. هل تذكر غواص الجميل؟ اليوم هو غواص الشيخ. هي أيضًا أعطتك ابن أخت جميل جدًا، وهي تكرس نفسها للأرض، لهذا خشيتي عليها كبيرة من أن يقع لها مكروه. طبعًا ترعاني على طريقتها بنسج الصوف لي، لكن لها من السلوك غريبه أحيانًا، كزينب، أمها، رغم انفتاح روحها الذي ورثته عن زوجها – رحمه الله!
ثم بعد ذلك:
- بالنسبة لأبيك، أنت تعرف حكاية موته.
و، بانفعال:
- كان فلاحًا جريئًا ورجلاً مستقيمًا، الاستقامة نفسها! فلتكن الجنة إلى الأبد مثواه!
رأى المسكين أباه: خبأ كيسين من القمح، وفي منتصف الليل، جاء جنود الحاكم يطرقون عليه الباب، احتجزوه، والمطر يصب بغزارة، وأركبوه في عربة تجرها أربعة خيول، وقبل أن يبتعدوا به، قال لهم: لا تقلقوا، سأعود مع الشروق! ولم يعد أبدًا، لم يعد طائر السنونو، لم يروا الربيع أبدًا؟
- أذكر تلك الليلة، قال باسل، كان المطر يصب بغزارة، وذهب في عربة للمحكوم عليهم تجرها أربعة خيول.
- صَلِّ من أجله!
كان يحب صغيره باسل أكثر من كل الآخرين، كان يحبه كثيرًا... علمه امتطاء الخيل، البذر، الحصاد. علمه كذلك كيف يطرق الحديد، وصنعا معًا العجلات، عجلات كبيرة للعربة الصغيرة التي كانوا يمتلكونها. كان يعتبر جميلة كأمه، وأحبته جميلة من كل قلبها. وبما أنهم قتلوا ولدها الوحيد، قالت جميلة لنفسها إن الله عوضها عنه به، وغدا رجلاً يرفض الذل.
- مكتوب على الجبين! زفرت العجوز. وأنت، يا ابن ابنتي؟ احك لي أخبارك، يا صغيري!
- ماذا تريدين أن أحكي لك، يا جدتي؟
- كل شيء! مشتاقة أنا لسماع أخبارك... وأخبار الناس الذين هم هناك... ما وراء السور، ما وراء الجبال. هل هم أشقياء مثلنا؟ هل هم أحرار كما يقال؟ أغنياء؟ كيف أرضهم؟ سماؤهم؟ زرقاء في الصيف ورماد في الشتاء، أم دومًا زرقاء، أبدًا زرقاء، كما هي سماؤنا، حتى عشية عودتك؟ إنهم أهلنا.
لم يأت ليسرد القصص، إلا أن من وقته يبقى الكثير، حتى المساء. كان له المساء لم يزل بعيدًا، بعيدًا جدًا، حتى، طالما قل صبره للانتهاء من المهمة التي كُلف بها. طبعًا، كان يفكر أن يحدثها عن بعض الأشياء، لأنها طلبت منه ذلك، ولأنها، مذ وصوله، لم تتوقف عن الكلام، لم تمتنع عن سرد كل هذه الحكايات الحزينة، لحاجتها إلى التحرر منها والتخفيف عنها. سيقول لها القليل من الأشياء، لأنه لو حكى عنها كلها لما انتهى. إضافة إلى شوق الكلمات إلى الكلمات، ليس من أجل هذا هو هنا، ليسرد القصص، أو لينقل الأقوال. هو هنا، لفعلٍ سيغيرُ حياتَهُ، سيغيرُ الحياة.
- في أوطانهم، الناس هناك حالهم كحال الناس هنا!
لم تكن تتوقع هذا.
- يا رب، رحمتك! وأنا التي كانت تقول...
- في الواقع، عشت طوال الوقت قرب النهر الكبير، نهر الأمل والأماني الألف، أنا، ومحارب، حفيد غواص الجميل، وقلة ممن كانوا معنا. كانوا يسموننا الرجال-الطيور، وكان الله ينظر إلينا، يرشد خطواتنا.
انسجمت تعابير وجهها مع كلماته، بلا تنافر في الأصوات، ولا اختلاج في الأمارات.
- في الصباح، كنا نركض ميلاً أو ميلين. بينما كنت أركض، كان الهواء النديّ النقيّ يخترق رئتيّ، قطرات الندى تغمر وجهي، وعطر السوسن يفعم أنفي. وأنا أشق الفضاء، كان لدي انطباع وكأني أدخل في سُمْكِ النداوة والنقاء. قبل الوصول إلى الهدف، يكون جسدي قد نتح، وهمي قد نضح، وأكون خفيفًا كريشة. عند عودتنا، لم أكن أفكر في أي شيء كان، كما كان حالي عندما كنت بينكم: كانت تنحصر أفكاري في سلاحي، وكنت نقيًا كالهواء، كالماء. بقدر ما كنت أحس بنوع من الفرح دافعه مثل هذه التأملات، بقدر ما كان يسمح لي هذا بالإفلات من وجع البعاد، أستطيع القول إن حياتي هناك وهنا، الآن، وخلال اللحظات القادمة، خير تبرير يمكنني إعطاءه لرحيلي من عندكم. أما عن سعادتي، فلم أزل أبحث عنها. كنت أظنني واجدها بين أذرع الفرنسيات، حلم يقظة من أحلام الشباب. عما قليل، سأجد ما هو أثمن. ربما السعادة تحت اسم آخر. شيء بحثت عنه طويلاً.
سحب التميمة، التي لم تلاحظها العجوز بعد، من تحت القميص و، منشغل البال، جعل يعبث بها بين أصابعه. لم يزل يبحث عن سعادته، قالت العجوز لنفسها. تعاسة من يواصل البحث عن السعادة أكثر إرهاقًا من تعاسة من توقف منذ زمن طويل عن أن يكون سعيدًا. ليسه بعد سعيدًا، حفيدي. تنهدت، وتنهدت، ثم، بشفة حزينة:
- أما زلت تبحث، يا ولدي؟ أما زلت تبحث عن سعادتك؟
- لكني... لكني تخلصت من أشياء كثيرة، فككت كل عقد الماضي الذي يربطني بها، هذا الماضي الجهنمي الذي عشته معكم. حتى الماضي الآخر، البعيد، الفردوسي، ماضي جدي، ماضي جد جدي، والذي لن يعود أبدًا كما كان عليه. ماضينا، أنا لا أنكره، لا أنكره على الإطلاق، لأن من لا ماضي له لا مستقبل له. تحررت فقط من ضغطه النفسي عليّ، الأخلاقي واللاأخلاقي، لأتقدم. أنا ابن عصري وزماني، يكفي أن تريني، وأنا أصوّب، وأنا أصيب.
- سيف، جدك، كان مسالمًا كخروف، لم يكن له شيء من أفكارك، لكنه كان سعيدًا. أنت، لا، أنت لست سعيدًا، يا حفيدي الصغير، أنت لم تزل تبحث عن السعادة.
فرش باسل أصابعه فوق النار، وبصوت واثق:
- السعادة، سأجدها عما قريب، كما أقول لك، يا ستي. المهم أنني لم أشعر بأي خطر، في أية لحظة، خلال مسيرتي، رغم كل أولئك الأعداء الذين يترصدون لي. إنه شعور واحد واثق بما يفعل، لا يعتمد إلا على نفسه.
- أنت لم تزل تبحث عن سعادتك، يا حفيدي الصغير، وبشكل مفارق، سيبحث الخطر عنك، سيجدك عما قريب، يا طفلي. سيكون لك كل خطر العالم. انتبه إلى نفسك، يا صغيري!
إلا أن عينيه تأخذان بالالتماع التماعًا حادًا و، سعيًا إلى النظر بوضوح إلى نفسه، يصرح:
- كلما أحدق الخطر بي أراني كما أراني.
- سيجدك عما قريب، الخطر، لدرجة لا ترى فيها نفسك. سيحاصرونك، سيطلقون النار عليك من كل الجهات، سيقتلونك.
- لا تخافي عليّ، يا جدتي! حسبت حسابًا لكل شيء، عندما يريد المرء شيئًا، فلا حاجة إلى الخوف عليه...
وعلى حين غِرة، لاحت التميمة على ألسنة النار، وهي تقهقه، فمادت الأرض تحت قدمي العجوز: تكهن عقلاء شيوخ الجبل بذئبٍ سينام مع ابنتها... فأشارت إلى التميمة:
- لهذا الحرز حكاية أريد سماعها من فمك... أو، أقول لك، لا... لا تقل شيئًا، يا طفلي، لا تقل شيئًا. لا أريد سماع أي شيء. يا للتعاسة! آه! يا للتعاسة!
اقترب بسن الذئب من عينيه ضاحكًا:
- لا تفزعي، يا جدتي الطيبة، فلا شيء من جسيم الخطر. ببساطة، هذا وعد لن أخلفه.
- قل بالأحرى هذا وعيد!
ابتهلت، وابتهلت. ابتهلت، ثم قالت مرتعدة:
- الق بالتميمة في النار قبل أن تلقي بك فيها!
اختطفتها منه، ورمتها في اللهب، فغضب أشد غضب و، لتهدئته، أمسكت يده، ووضعتها على صدرها.
- لا تغضب، يا حفيدي، يا حبيبي! سأشرح لك.


يتبع الحلقة السابعة والعِشرون




#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العجوز الحلقة الخامسة والعِشرون
- العجوز الحلقة الرابعة والعِشرون
- العجوز الحلقة الثالثة والعِشرون
- العجوز الحلقة الثانية والعِشرون
- العجوز الحلقة الحادية والعِشرون
- العجوز الحلقة العِشرون
- العجوز الحلقة التاسعة عشرة
- العجوز الحلقة الثامنة عشرة
- العجوز الحلقة السابعة عشرة
- العجوز الحلقة السادسة عشرة
- العجوز الحلقة الخامسة عشرة
- العجوز الحلقة الرابعة عشرة
- العجوز الحلقة الثالثة عشرة
- العجوز الحلقة الثانية عشرة
- العجوز الحلقة الحادية عشرة
- العجوز الحلقة العاشرة
- العجوز الحلقة التاسعة
- العجوز الحلقة الثامنة
- العجوز الحلقة السابعة
- العجوز الحلقة السادسة


المزيد.....




- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - العجوز الحلقة السادسة والعِشرون