|
حدود الثورات الشعبية
خليل كلفت
الحوار المتمدن-العدد: 4596 - 2014 / 10 / 7 - 09:22
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
حدود الثورات الشعبية ليل كلفت 1: فجرت ثورة يناير وباقى الثورات العربية الراهنة شبكة واسعة ومعقدة من القضايا حول الثورة، منها، بين أشياء أخرى: مفهومها النظرى، طبيعة ثورة أو ثورات بعينها، معايير نجاحها أو فشلها، حدودها وآفاقها وأوهامها، الدولة والثورة، حقائق وأوهام الديمقراطية، معنى الثورة الاجتماعية، معنى الثورة الشعبية، التمييز بين الثورة الاجتماعية-السياسية والثورة الشعبية؛ إنْ جاز لنا أن نسمِّى التغيُّر/التغيير الاجتماعى ثورة، وأن نسمِّى كل حركة احتجاجية كبرى للجماهير الشعبية ثورة، وفقا للاستعمال الشائع لهاتين الظاهرتين المتمايزتين. 2: وبافتراض نجاحنا فى إعادة النظر فى مفهوم الثورة الاجتماعية، وفى المقولة اللينينية الخاصة بأننا نعيش فى عصر الثورة البروليتارية، كما فهمنا تلك المقولة طوال أكثر من قرن، وبفهمٍ مختلفٍ للثورات والنظم المسماة بالاشتراكية فى القرن العشرين، وبافتراض إعادة النظر فى إستراتيجيات وتاكتيكات الماركسيين طوال القرن العشرين وإلى يومنا هذا، فما هى الإستراتيجيات والتاكتيكات الماركسية البديلة؟ ولا مجال بالطبع لمناقشة هذه القضايا بعمق فى مقال صغير، ولهذا سنكتفى بالوقوف السريع عند بعضها، فقط لتحريك مياه راكدة. 3: ولمشكلة المفاهيم التى فجرتها الثورة الراهنة شقان: الشق الأول هو غياب مفاهيم الثورة عند الثوار، وكان لهذا أثره السلبى على الممارسة ونتائجها، وهذا ليس عيبا احتكره الثوار العرب بل المدهش هو أن تدقيق هذه المفاهيم غائب فى الفكر الماركسى كله، كما سنرى الآن فى الشق الثانى. والشق الثانى هو غياب نقدٍ لصياغات نصوص ماركس وباقى مؤسسى الماركسية، ويغدو المطلوب هو التوصل إلى فهم واضح لمفاهيم الثورة فى سياق إعادة النظر، كلما دعت الحاجة، فى النصوص والصياغات والمفاهيم المتوارثة، مع التشديد على أن نظرية ماركس ستظل، بفضل دقتها وخصوبتها وليس تقديسا لها، أساس كل إعادة نظر ترمى إلى إعادة شرح وتفسير وحتى إعادة مَفْصَلة بعض النقاط فى بعض صياغات هذه النظرية ذاتها. 4: وتفترض الثورة الشعبية حركة جماهيرية احتجاجية كبرى قد تستغرق سنوات، ولكنها لا تنقل مجتمعا من نمط للإنتاج الاجتماعى إلى آخر؛ مثلا، من الإقطاع إلى الرأسمالية فى التاريخ الحديث والمعاصر. وينطبق هذا على ثوراتنا العربية الراهنة، تماما كما ينطبق على ثورة 1789 الفرنسية الكبرى. وعلينا والحالة هذه أن نحاول البحث عن "شيء مختلف" هو الذى ينقل المجتمع من نمط إنتاج إلى نمط إنتاج آخر. 5: ولماركس مقولة شهيرة فى معرض حديثه عن "عملية تحويل أسلوب الإنتاج الإقطاعىّ إلى أسلوب إنتاج رأسمالىّ" مؤداها أن الثورة الشعبية (العنف حسب تعبير ماركس) هى "داية كل مجتمع قديم حامل بمجتمع جديد"، ويعنى هذا أنها تشترط أن يصير المجتمع القديم حاملًا بمجتمع جديد. 6: وهذه الصياغة قابلة لإعادة النظر. كان ماركس يتحدث عن "الثورة الاجتماعية"، وصحيح أن "الثورة الاجتماعية" أىْ "عملية تحويل أسلوب الإنتاج الإقطاعىّ إلى أسلوب إنتاج رأسمالىّ" تتمثل فى أن يصير المجتمع (أو الاقتصاد) الإقطاعى حاملا "بأسلوب الإنتاج الرأسمالى"، وفى أن يأخذ أسلوب الإنتاج، الجديد، الرأسمالى فى الوقوف على أقدام ثابتة. غير أن ماركس يخطئ عندما يشترط "داية" أىْ ثورة شعبية لهذا التحوُّل، ذلك أن "الثورة الاجتماعية" و"الثورة الشعبية" متمايزتان ومختلفتان تماما، ولا تشترط أىٌّ منهما الأخرى. 7: وأنقل عن مقدمتى لترجمتى لكتاب توكفيل "النظام القديم والثورة الفرنسية" ما يلى: "الثورة الرأسمالية ليست شيئا آخر سوى تشكُّل ونموّ وتطوُّر وتكوُّن الرأسمالية فى رحم الإقطاع وداخل نطاق إطاره الاجتماعىّ وبالأخص فى أواخر عهده أولا ثم المزيد من هذه العمليات التطورية مع تفسُّخ النظام الإقطاعىّ والمزيد والمزيد من تفسُّخه أىْ دون أنْ تظلّ هذه الرأسمالية داخل محيط إقطاعىّ خالص بل فى إطار أوضاع انتقالية، وقد تأتى الضربات السياسية البرچوازية والشعبية مبكرا وقد تأتى بعد تقدُّم ونضج هذه العملية الرأسمالية وقد لا تأتى أبدا". 8: ورغم أن "ثورة 1789 الفرنسية" صارت أيقونة الثورة الاجتماعية، فالحقيقة أنها كانت ثورة شعبية، ولم تكن ثورة اجتماعية، وقد تحققت الثورة الاجتماعية فى البلدان التى صارت رأسمالية صناعية دون أىّ ارتباط بأىّ ثورة شعبية. ولم تكن ثورة 1789 الفرنسية استثناءً على هذه القاعدة، غير أن مجيئ الثورة الشعبية فى سياق الثورة الاجتماعية أحدث ثغرات والتباسات كثيرة بسبب صياغات ماركس. 9: وقد حدثت "عملية تحويل أسلوب الإنتاج الإقطاعىّ إلى أسلوب إنتاج رأسمالىّ"، أىْ "الثورة الاجتماعية"، فى فرنسا، قبل وبعد ثورة 1789، دون علاقة ضرورية بين المساريْن. ولا شك بالطبع فى أن حدث 1789 اكتسب العديد من سماته النوعية نتيجةً لمجيئه فى سياق تكوين رأسمالى تدريجى طويل سبقه وتلاه. ولا شك أيضا فى أن ذلك الحدث لم يكن بدون تأثير على التطور الاجتماعى-الاقتصادى اللاحق. فنحن هنا إزاء تقاطع مسارين متمايزين تماما، ولسنا إزاء مسار اجتماعى وشعبى واحد. 10: والدليل هو حدوث "عملية تحويل أسلوب الإنتاج الإقطاعىّ إلى أسلوب إنتاج رأسمالىّ"، أىْ "الثورة الاجتماعية" فى أوروبا واليابان دون ثورة شعبية على الإطلاق. ولم ترتبط الثورات الشعبية وحتى الحروب الأهلية التى شهدتها تلك البلدان فى أوقات مختلفة بالثورة الاجتماعية والانتقال إلى الرأسمالية. 11: وكانت هناك، بالطبع، ثورات شعبية سابقة ولاحقة للثورة الرأسمالية، فى هذه البلدان، فى العصور الإقطاعية، أو بعد اكتمال التشكل الرأسمالى الانتقالى، أو عند مستوى متقدم من هذا التشكل. غير أن هذا لا يقيم علاقة شرطية بين المسارين، حيث لا يؤدى هذا إلى ذاك، ولا ذاك إلى هذا. 12: وفى حالة ثورة شعبية جماهيرية فى العصور الإقطاعية، كما حدث مئات المرات فى تلك العصور، فإنه لا يمكن الحديث عن رأسمالية تنشأ من مجرد حركة شعبية خالصة، وفى حالة ثورة شعبية جماهيرية بعد اكتمال التشكل الرأسمالى الانتقالى، أو عند مستوى متقدم من هذا التشكل، فإن الثورة الاجتماعية-الاقتصادية تكون قد حدثت أو انطلقت من عقالها فلم تعد بحاجة إلى ثورة شعبية جماهيرية لإحداثها أو إطلاقها أو تحقيقها. 13: ولا يعنى نفى صفة الثورة الاجتماعية عن الثورات الشعبية، أو التشديد على حدود لا تتجاوزها هذه الأخيرة، أىَّ تقليل من دور الشعوب والجماهير فى التاريخ، حيث لا ينبغى أن نرى الجماهير الشعبية فقط فى تظاهراتها ومسيراتها أو فعلها الثورى أثناء ثورات أو انتفاضات أو حركات احتجاجية أو أثناء نضالاتها الإضرابية الواسعة فى غير زمن الثورة. بل ينبغى أن ندرك أن البشر أىْ الشعوب والجماهير والمنتجين المباشرين هم الذين يصنعون التاريخ كله والحضارات كلها من خلال نشاطهم الإنتاجى. وينبغى ألا تقتصر نظرتنا إلى الجماهير الشعبية على حالة نزولها إلى الشارع والميدان بل ينبغى أن نراها قبل كل شيء فى دورها فى صنع التاريخ من خلال نشاطها الإنتاجى، ورفعها التراكمى لإنتاجية العمل، وتطويرها للتقنية، وخلق الشروط المادية للانتقال من تكوين اجتماعى إلى آخر. يجب أن ننظر إلى البشر وهم يمارسون إنتاجهم الاجتماعى وليس فقط وهم يهتفون فى الشوارع. 14: وهنا يغدو من الضرورى إعادة النظر فى التصور الماركسى الذى ينظر إلى ثورة 1789 الفرنسية على أنها ثورة اجتماعية. والحقيقة أنها لم تكن ثورة اجتماعية بل كانت ثورة شعبية كبرى سبقتها وتواصلت بعدها "عملية تحويل أسلوب الإنتاج الإقطاعىّ إلى أسلوب إنتاج رأسمالىّ"، أىْ "الثورة الاجتماعية". 15: والحقيقة أن كل الثورات الشعبية كانت ثورات احتجاج على الظلم الطبقى، فهى دائما ضد النتائج الاقتصادية لنمط أو تكوين إنتاج اجتماعى-اقتصادى على حياة الجماهير الشعبية، وهى بالتالى ضد العبودية أو ضد الإقطاع أو ضد الرأسمالية، ولكنها بحكم طبيعتها لا تنقل من من نمط إنتاج إلى آخر. وإذا اقتنعنا بهذا وبأن ثورة 1789 كانت ثورة شعبية، تبرز فى الحال نقطة جديرة بالتأمل: هل كانت تلك الثورة ثورة شعبية "برجوازية" ضد الإقطاع؟ أم كانت ثورة شعبية ضد "شيء آخر"؟ 16: ولا شك بالطبع فى أنه كانت ما تزال هناك إبان تلك الثورة بقايا إقطاع مثل سلطة الملك ضمن الحكم الملكى المطلق، وامتيازات الأريستقراطية، وإقطاع الكنيسة، بين أشياء أخرى. غير أننا نتحدث هنا عن ثورة جاءت بعد زوال الإقطاع بوقت طويل، فلم تَبْقَ إلا بقاياه، على حين صار الصراع الطبقى يدور بين طبقات جديدة نشأت فى إطار التحول الرأسمالى، ومنها الطبقة الرأسمالية، وطبقة البروليتاريا. وهذا الإطار الجديد هو الذى دارت فيه ثورات 1789، و 1830، و 1848، فى فرنسا وكلها ثورات شعبية، وكذلك ثورة 1871 الشعبية (كومونة باريس). ولا مشكلة بالطبع فى أن يحدث نضال ضد بعض بقايا الإقطاع كعنصر غير رئيسى إلى جانب الصراع الأساسى بين الطبقات الاجتماعية الجديدة، بين الرأسمالية من ناحية والبروليتاريا وباقى الطبقات الشعبية من ناحية أخرى، مهما ضللت الرأسمالية هذه الجماهير وأدخلت فى رؤوسها أوهام أسطورة أنها تثور ضد الإقطاع والملكية المطلقة فى سبيل الحرية والإخاء والمساواة، وكان التطور اللاحق أفضل إثبات على حدود الثورة الشعبية. 17: ونجد عند ماركس تمييزا واضحا بين الثورة الاجتماعية، والثورة السياسية: "كل ثورة تلغى المجتمع القديم [...] ثورة اجتماعية، وكل ثورة تلغى السلطة القديمة [...] ثورة سياسية". وهنا بالتالى تمييزٌ بين المجتمع القديم والسلطة القديمة. وما دام حديثنا عن "عملية تحويل أسلوب الإنتاج الإقطاعىّ إلى أسلوب إنتاج رأسمالىّ" فإن المجتمع القديم يعنى التكوين الاجتماعى-الاقتصادى الإقطاعى على حين أن السلطة القديمة تعنى السلطة الإقطاعية. 18: ومن زاوية نظرة ماركس والماركسية إلى ثورة 1789 الفرنسية الكبرى على أنها ثورة اجتماعية قامت بإحلال التكوين الاجتماعى-الاقتصادى الرأسمالى محل التكوين الاجتماعى-الاقتصادى الإقطاعى، وإحلال سلطة الدولة الرأسمالية محل السلطة الإقطاعية، أىْ محل الحكم المطلق للملك الإقطاعى، يمكن فهم هذا النص على أنه يعنى وجود جانبين اجتماعى وسياسى فى آنٍ معا لثورة 1789 الفرنسية. 19: ونظرا لأن الثورة الاجتماعية عملية طويلة تراكمية ببداهة أنها ثورة اجتماعية-اقتصادية (حَمْل المجتمع القديم بمجتمع جديد)، فإنه لا يمكن حصرها فى الفترة القصيرة التى تستغرقها الثورة الشعبية والتى لم تتجاوز سنوات (من 1789 إلى 1799 أو من 1787 إلى 1815). 20: فهل انتقلت السلطة من الحكم المطلق للعاهل الإقطاعى إلى سلطة الدولة الرأسمالية فى فترة الثورة الشعبية؟ غير أن سلطة الدولة الرأسمالية لا تتطابق مع هذا الانتقال من الحكم الملكى المطلق إلى سلطة الدولة الرأسمالية. بل يبدأ نمو السلطة السياسية لرأس المال خطوة خطوة ويدًا فى يدٍ بصورة تدريجية تراكمية بطيئة مع تطور التراكم الرأسمالى البدائى. 21: ولم يكن انتقال السلطة من الملك إلى الدولة الرأسمالية حدثا ضروريا، بل كان إجراءً جزئيا، لأن هذا الانتقال كان قد حدث من قبل وكان للحكم المطلق بالذات دور أساسى فى خلق المؤسسات الملائمة للدولة الرأسمالية التى لا تدين بوجودها لفترة الثورة. 22: فالثورتان الاجتماعية والسياسية، إذن، جانبان تراكميان، أو لحظتان تراكميتان، لعملية تراكمية طويلة واحدة يندمج فيها ليس الانتقال الاقتصادى والانتقال السياسى فقط، بل يندمج فيها تطوُّر العلم التجريبى والعلم الاجتماعى والتكنولوجيا وإنتاجية العمل والفلسفات والآداب والفنون خطوة خطوة عبر زمن طويل قد يستغرق القرون فى حالات، أو العقود فى حالات أخرى عندما تبدأ هذه العملية فى بلد أو منطقة مستفيدةً من ثمار تطورها من قبل فى بلد آخر. 23: فماذا بقى إذن من الثورة الفرنسية أو لها ما دام "كل شيء" قد حدث قبلها؟ 24: كانت ثورة 1789 الفرنسية ثورة شعبية، ولم تكن ثورة اجتماعية أو ثورة سياسية، أو لم تكن بالأحرى ثورة اجتماعية-سياسية تشمل أيضا مختلف جوانب الحياة والنشاط والعلم والتقنية. 25: وفى كتاباتى السابقة ساد التمييز بين الثورة الاجتماعية والثورة السياسية، تأثُّرا بصياغات ماركس دون نقد، مع أن المفهوم الصحيح للثورة الاجتماعية-السياسية لا يقبل الفصل بينهما فى الزمان أو المكان، ذلك أنهما كانتا تسيران يدًا فى يدٍ عبر الزمان والمكان حيثما حدثت عملية الانتقال إلى الرأسمالية. ورغم أن الفكرة كانت مستمدة من ماركس والماركسية إلا أننى كنت مخطئا فى قبول هذه الصياغة وفى تبنِّيها والتعبير عنها. 26: والحقيقة أن ما ينبغى تمييزه عن الثورة الاجتماعية-السياسية هى الثورة الشعبية بالذات. فالثورة الشعبية ثورة غضب واحتجاج بسبب الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لشعبٍ حيث تطالب بإصلاحات مهمة فى مجال الديمقراطية والعدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد والاستبداد. وكما حدث فى الثورات الشعبية الفرنسية جميعا وغيرها، وفى مئات الثورات الشعبية فى التاريخ الحديث والمعاصر، ومنها الثورات العربية الراهنة، فإن هذه هى حدود الثورة الشعبية، وكانت كذلك طوال التاريخ كله. 27: على أن الثورة الشعبية السلمية أو المسلحة قد تحقق إنجازات بالغة الأهمية ولكنْ بعيدا تماما عن قلب التكوين الاجتماعى-الاقتصادى رأسا على عقب. وإذا كانت قضيتها الاستقلال الوطنى فإنها يمكن، فى حالة نجاحها، أن تحقق الاستقلال (الاستقلال بالمعنى المقصود فى القانون الدولى وليس مطلقا بمعنى التحرُّر من التبعية الاقتصادية أُمّ كل التبعيات الأخرى). وإذا كانت قضيتها الديمقراطية فإنها يمكن، فى حالة نجاحها، أن تحقق مستويات من الديمقراطية من أسفل بعيدا أيضا عن التحرُّر من التبعية الاقتصادية والاستقلال الوطنى الحقيقى. 28: ويمكن أن تؤدى الثورات الشعبية إلى تحقيق أشياء محددة مثل إسقاط مبارك أو مرسى أو عدد من ملوك فرنسا وبريطانيا وروسيا وغيرها. ويمكن أن تؤدى العفوية إلى خروج الشعوب من الثورات الشعبية "بلا حُمُّص". غير أن الشعوب يمكن أن تحقق عبر الثورة الشعبية مستويات باقية من ديمقراطية شعبية من أسفل، إذا ركزت بوعى على ذلك أثناء تلك الثورة. وقد تساعد ظروف بعينها على تحقيق أهداف مهمة؛ مثل التخلُّص فى مصر من حكم الإخوان المسلمين والإسلام السياسى، الرامى إلى تحقيق الخلافة الإسلامية، كشكل لسيطرتهم الطبقية على الاقتصاد والسلطة. 29: غير أن من الوارد فى كثير من الأحيان أن تفتح الثورات الشعبية أبواب جهنم، كما يحدث من خلال الحرب الأهلية التى يشنها الإخوان المسلمون وامتداداتهم بالوكالة ضد دولهم وشعوبهم، فى سوريا وليبيا واليمن، فقد تم تدمير هذه البلدان بشعوبها ودولها وقد يمتدّ مصيرها الرهيب المفزع إلى شعوب ودول أخرى فى المنطقة. وعادة ما تكون النتائج كابوسية. 30: غير أن أوهام ثورة التوقعات التى لا تتحقق بطبيعة الحال، لأنها أوهام، تغدو طريقا سريعا إلى الإحباط وفقدان الاتجاه تماما. وفى مصر ارتفعت أوهام ثورة التوقعات إلى عنان السماء. وبدلا من استخلاص دروس الثورة ونضالاتها وجد شباب الثورة أنفسهم غارقين فى حالة بائسة يائسة من معاداة الدولة بكل مؤسساتها، فى سياق ممارسة أناركية حتى بدون نظرية أناركية. 31: وفى الوقت الذى تشن فيه جماعة الإخوان المسلمين وامتداداتها حربا شعواء ضد الدولة والشعب فى مصر، وغيرها، فى تواطؤ مفضوح مع أمريكا وأوروبا، صار هؤلاء المتعاونون والمتعاطفون مع الإخوان المسلمين والسلفيِّين الذين يتبنون "ليبرالية تسامحية" تدافع عن الإخوان ضد "جزّارى" رابعة العدوية وميدان النهضة حَجَرَ عثرة فى طريق النضال ضدهم. 32: ورغم أن الدولة لن تزول من الوجود إلا مع زوال الطبقات الاجتماعية والصراعات الطبقية بينها، وليس فى أىّ مدى منظور، تتصور عفوية شباب الثوار وعفوية الكهول والمسنِّين والشيوخ الذين يستلهمونهم، بدلا من أن يلهموهم ويرشدوهم بمعرفتهم النظرية وخبرتهم السياسية، أن الثورة ينبغى أن تسيطر على السلطة فى القريب العاجل. 33: ومن شدة الإحباط يتبنى الشباب أفكارا ومشاعر تنبع من مقولة ساذجة فحواها أن الثورات قد تستغرق سنوات، وبالتالى فإن ما لم تحققه ثورتنا فى بدايتها قابل للتحقيق فى مرحلة تالية، ويستشهد بعضهم بالثورة الفرنسية الكبرى. وهذا نوع ساذج ومضلل من التفكير. ولنتتبع مسار هذا التفكير: يسير الثوار وراء الجيش فينخرطون فى أوهام مهمة سمَّاها الجيش "إعادة بناء مؤسسات الدولة الديمقراطية" عبر الدساتير والاستفتاءات والانتخابات البرلمانية والرئاسية، فتضيع فرصة بناء ديمقراطية من أسفل، ويضيع كل شيء تقريبا؛ وكان التحرُّر من الحكم الإسلامى الإخوانى الطائفى أهم الإنجازات المحدودة التى حقتتها الثورة. 34: ويدخل الثوار مرحلة يائسة شعارها أن الثورات تستمر طويلا وأن المهمة صارت تحقيقها أو استكمالها ويستشهدون بالثورة الفرنسية، لماذا؟ لأنهم لا يعلمون أن استمرار "الثورة" الفرنسية سنوات أخرى كان يعنى شرورا لا حصر لها، ففى فرنسا تحولت الملكية إلى جمهورية ثم إلى إمبراطورية ثم إلى عودة ملكية أسرة البوربون ثم الأورليان وفى النهاية ورغم ثورات شعبية لاحقة عادت الجمهورية وسرعان ما انقلبت إلى إمبراطورية لويس بونابرت، ابن أخ نابليون بونابرت، وتضاعف الاستبداد بدلا من الحرية الموعودة والاستغلال الرأسمالى بدلا من المساواة والإخاء الموعودين، وبدلا من إعلان حقوق الإنسان والمواطن، وماذا أيضا؟ غرقت فرنسا فى دماء عهد الإرهاب وأوروبا فى دماء عهد الحروب النابوليونية، وغرق العالم فى دماء الحركة الاستعمارية الفرنسية بادئة من الجزائر بعد مغامرة فاشلة فى مصر. 35: ولا يعنى هذا إنكار إنجازات تلك الثورة فى أوروبا وفى العالم وكلها معروفة ومرصودة فى مجال المعارف والعلم والفكر وفى إيقاظ الشعوب فى أوروبا بالذات. 36: ولا يقف توالُد الأوهام من الأوهام عند حد. فإذا كانت ثورتنا ثورة شعبية ولم تكن ثورة اجتماعية، فمن الممكن إذن أن تؤدِّى هذه إلى تلك. وهنا تبرز فكرة الثورة الدائمة عند لينين وتروتسكى وكانت لها، باختلافٍ واضح، بذور عند ماركس. غير أن أكثر من قرن ونصف عند ماركس (1850) وقرابة قرن عند لينين وتروتسكى، وهى نظرية حرق المراحل عند المراجعة السوفييتية، ولهذه أيضا سوابق مهمة عند ماركس. وقد أثبت هذا الزمن الطويل أن البلدان التى تأخرت عن الرأسمالية فى المستعمرات وأشباه المستعمرات إما بقيت على حالها رغم هذه النظريات أو تطورت إلى الرأسمالية فى ظروف خاصة وحتى استثنائية إلى الرأسمالية (كوريا وتايوان وسنغافورة أو الصين الشعبية). 37: وقد أثبتت الثورات المسماة بالاشتراكية فى القرن العشرين؛ سواء من حيث الثورات (روسيا، الصين) أو من حيث النظام الاجتماعى-السياسى الذى أدت إليه تلك الثورات حدود نظرية الثورة الدائمة وكذلك خطأ نظرية أن عصرنا هو عصر الإمبريالية والثورة البروليتارية. 38: ومن شأن إعادة النظر فى هذه المفاهيم أن تُطْلِق عملية كبرى من إعادة نظر شاملة فى إستراتيجيات وتاكتيكات الممارسة العملية والبرامج النضالية للشيوعيين فى هذا العصر وفى المستقبل، غير أن هذا يحتاج إلى جهد فكرى جماعى لا يمكن لشخص واحد أن يقوم بأكثر من تحريك المياه الراكدة عند الشيوعيين بمختلف ماركسياتهم الأرثوذوكسية، ويمكن أن يكون هذا موضوع مقال آخر. 7 أكتوبر 2014
#خليل_كلفت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
داعش والداعشية
-
كفى ترويجًا لأوهام جديدة
-
عرب 48 وعرب 67 فى إسرائيل
-
الفلسطينيون بين الحصار والترحيل
-
مجلس النواب وفصل السلطات
-
مجلس النواب والشعب
-
استشراف ما بعد الانتخابات
-
ضجة حول مقال للدكتور نصار عبد الله عن ظاهرة أطفال الشوارع
-
قراءة موضوعية للانتخابات
-
من المقاطعة إلى المشاركة
-
خليفة حفتر: بصيص أمل فى ليبيا؟
-
دعاوى المصالحة جريمة نظرية
-
الأخونة
-
حسابات الانتخابات الرئاسية فى مصر
-
الثورة والإخوان
-
ما الثورة؟
-
ضجة حول حرب قبائل مزعومة فى أسوان
-
الاقتصار على الحل الأمنى مصيره الفشل
-
المرأة بين النص الديني والقانون المدني الحديث، قانون الأحوال
...
-
إرهاب الإخوان المسلمين والحل الأمنى
المزيد.....
-
الجامعة الوطنية للقطاع الفلاحي (إ.م.ش) تدعو للمشاركة الوازنة
...
-
النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 576
-
فريق حزب التقدم والاشتراكية بمجلس النواب يُطالب الحكومة بتقد
...
-
السيد الحوثي: بقية الفصائل الفلسطينية المجاهدة في غزة تواصل
...
-
هل تسعى تركيا إلى إنهاء الصراع مع حزب العمال الكردستاني؟
-
تركيا.. اعتقال رئيس بلدية -أسنيورت- بتهمة الانتماء لحزب العم
...
-
العدد 577 من جريدة النهج الديمقراطي بالأكشاك
-
الجبهة الديمقراطية تراسل الاحزاب السياسية والبرلمانات العالم
...
-
المكتب السياسي لحزب النهج الديمقراطي العمالي يدين بشدة وصف ا
...
-
بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
...
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|