فى الحقيقة أصبح علينا أن نواجه واقعا جديدا فى مدى اتساعه وعمقه بولوجنا المرحلة الرأسمالية ،إلا أننا لن نستطيع أن ندرك مدى هذا العمق وذاك الاتساع ،إلا إذا تعرفنا على لوحة المجتمعات ما قبل الرأسمالية المعاصرة ،وذلك فى حدود المجتمعات الطبقية فحسب،حيث كانت غالبية البشر الساحقة محرومة من المعرفة النظرية والثقافة الرسمية وسائر أشكال التراث الحضارى الرسمى فى تلك العصور ،وذلك لجملة أسباب منها التأخر العلمى والمعرفى والثقافى نفسه،فضلا على اقتصار تداول هذا العلم وهذه الثقافة وتلك المعرفة على خاصة مثقفى الطبقات المالكة ومن ثم الحاكمة ،حيث ظل المحكومين والمسودين واقعين تحت نير قهر لا يرحم واستغلال بشع ، وذلك بلا أدنى تمتع بأى حقوق مما يعرفها الإنسان المعاصر وذلك فى الغالب الأعم .
كانت هذه الأغلبية مضطرة بل ومجبرة فى معظم الأحوال على أن تقصر مجمل حياتها على البحث الذى لا ينتهى عن وسائل استمرار هذه الحياة ، وذلك فى الحدود الدنيا لهذا الاستمرار ،بعيدا عن ترف العلم والمعرفة والثقافة ،كل هذا بغير ما أدنى أمل فى استهلاك المتع واللذات التى لم تكن معروفة سوى للطبقات الحاكمة ، ومن يحيطون بها ،بل إنهم فى الغالب الأعم محرومون من اللذات المصنوعة بأيديهم . فقد كان كل ما يمكن أن يحلم به أحدهم هو مجرد امتلاء المعدة بأى طعام يجدوه ،وارتداء ما يستر عوراتهم من ملابس ،وسكن ما يحتوى أبدانهم المتعبة من أكواخ وعشش...أما فى أوقات الفراغ من العمل ،فأنهم يستمتعون فيما تبقى منه بممارسة ثقافتهم الشعبية بعيدا عن ثقافة علية القوم ،جنبا إلى جنب مع تداولهم أساطيرهم الدينية وممارستهم لطقوسها ،وتداول سائر ما تلقيه عليهم الطبقات الحاكمة من أفكار تضمن استمرارهم فى عبوديتهم لها ،تلك الطبقات التى كانت تحتكر وحدها الاستمتاع بترف الاستهلاك ،وبكل ما يوجد فى الحياة من لذات مادية وروحية،كما كان خواصها الأذكياء يستأثرون وحدهم بالعلم والمعرفة والثقافة الراقية.
فى ظل المجتمعات ما قبل الرأسمالية ،كانت الطبقات الحاكمة تستند إلى أفكار غيبية ومثالية من أجل دعم سيطرتها وسلطتها وتبرير استغلالها وقهرها للطبقات المحكومة ،وكانت هذه الأفكار تستند بدورها على انفصال هذه الطبقات عن عملية الإنتاج المادى المباشر، فى حين أن العبيد والفلاحين وغيرهم من المحكومين كانوا يستندون على أفكار غيبية من نوع خاص إلا أنهم كانوا فى الأوقات العادية خاضعين تماما لسيطرة الأفكار السائدة للطبقات الحاكمة .إلا أنهم فى لحظات تمردهم على تلك الطبقات ،كانوا يستندون على أفكار غيبية ومثالية بدورها فى الغالب الأعم ،وإن كانت معادية لأفكار الطبقات المالكة والحاكمة ،وفى أحيان نادرة جدا كانت تأخذ هذه الأفكار طابع علمى ومادى نسبيا ، إلا أنه بشكل عام فأن الفكر العلمى والمنهج المادى لم يتجاوزا قط نطاق ضيق جدا من المثقفين الآتين بالضرورة من صفوف الطبقات المالكة.
كان عالم الإنسان فى المجتمعات ما قبل الرأسمالية غاية فى الضيق ، فهو فى الغالب الأعم قد لا يتجاوز إطار القرية أو المدينة التى يعيش فيها ،وقد يمضى الإنسان عمره بالكامل لا يغادرها إلا للقبر ، وكان المتاح له من خبرة وثقافة ومعرفة محدود للغاية ،وفى حالات نادرة فأن بعض قطاعات قليلة من البشر استطاعوا أن يوسعوا من هذا العالم بالرحلات والقراءات وممارسة التجارة البعيدة أو المشاركة فى الحملات الحربية أو الهجرات الجماعية.,إلا أنه وبالرغم من ذلك فأن ما كان متاح لهم قليل جدا بالمقارنة بما هو متاح للإنسان المعاصر .
فقد تعرض المجتمع البشرى فى الخمسة قرون الأخيرة لعدة ثورات متشابكة غيرت من وجهه تماما ،فقبل خمسمائة عام بدء عصر التراكم الأولى لرأسالمال حيث أتيح لتجار أوروبا الغربية تكديس الثروات الناتجة عن حركة الكشوف الجغرافية الكبرى ،وتطورت وسائل الملاحة البحرية ،وهو ما أدى إلي اكتشاف مجاهل الكرة الأرضية ،واستعمارها ونهبها واستعباد شعوبها من قبل الأوروبيين ،كان هذا دافعا لإحداث نهضة حضارية كبرى على وجه العموم وعلمية على وجه الخصوص، فاجتمع التراكم الرأسمالى الأولى والنهضة العلمية ليؤثرا فى دفع عجلة الإنتاج لدرجات عالية من التقدم فيما عرف بالثورة الصناعية .والتى دفعت بالحركة الاستعمارية إلى التوسع للبحث عن الأسواق والمواد الخام .
ما أن أتى القرن التاسع عشر إلا والعالم كله محكوم ومسيطر عليه من قبل حفنة قليلة من دول أوروبا ،كانت هذه الفترة هى فترة صعود البورجوازية تاريخيا ،والتى أخذت فيها تنمو وتزداد قوة...كان هذا عصر معركة البورجوازية للاستيلاء على السلطة السياسية ،وتسييد علاقات إنتاجها ،وتحطيم السلطة الإقطاعية و الأرستقراطية ،وتحطيم علاقات الإنتاج ما قبل الرأسمالية ليس فى أوروبا المتقدمة فحسب ، بل على مستوى العالم بآسره .وفى تلك المعركة أخذت البورجوازية تتبنى أفكار علمية ومستنيرة وتقدمية إلى حد بعيد ،وأخذت تعلى من شأن المنهج العلمى والمادى ،بل وتدفع العلم فى قفزات خيالية إلى المزيد من معرفة الطبيعة والسيطرة عليها، وكان وراء كل هذه أسباب منها
1-أن البورجوازية فى أول عهدها كانت مرتبطة بشكل مباشر بعملية الإنتاج المادى.
2-كان من مصلحتها الاستفادة من العلم ومنهجه فى تطوير وسائل الإنتاج ورفع الإنتاجية.
3- أنها فى صراعها من أجل تحطيم سلطة الإقطاع أخذت تتبنى أفكار علمية وذلك لأن السلطة الإقطاعية كانت تستند فى تبرير سلطتها وامتيازاتها على دعاوى غير علمية وأفكار ظلامية.
إلا أن البورجوازية بعد أن أكتمل لها النصر فى معركتها ،وبعد أن مرت بمرحلة من التطور السريع،أخذت فى الانحدار والتأزم ،وهذا هو ما دفعها للتخلى عن موقفها الفكرى السابق ،واللجوء إلى الفكر الغير علمى والظلامى لتبرير سلطتها وامتيازاتها هى الأخرى ،وقد كانت هذه الردة تستند إلى مجموعة من الأسباب الجديدة هى:
1-انفصال البورجوازية المعاصرة عن مباشرة عملية الإنتاج وتحولها لطبقة ريعية تعتمد على الأرباح مما تملكه من أسهم وسندات وما تضارب به منها فى البورصات المختلفة
2-ولما كانت البورجوازية فى بدايتها فى أمس الحاجة للعلم فقد تحالفا حتى بلغ العلم مسافات هائلة عمقا وتفرعا وضخامة ،وتحول للعنصر الحاكم فى تطور الإنتاج جنبا إلى جنب مع العناصر الأخرى (قوة العمل ووسائل الإنتاج)،إلا أن المارد الذى أخرجته البورجوازية من قمقمه ألا وهو العلم أصبح يهدد البورجوازية فى وجودها ذاته ،فمن المعلوم الآن أنه متاح للبشرية وللمرة الأولى ومن خلال التطور العلمى المذهل إمكانية فعلية لتحقيق مجتمع الوفرة والرفاهية بالقضاء على الندرة وذلك لكافة سكان الأرض،إلا أن البورجوازية تكبح جماح هذه الإمكانية التى تهددها ،فلن يصبح لسلطتها وأرباحها فى هذه اللحظة أى مبرر أو إمكانية ،ولذلك فأن الاحتكارات الرأسمالية تشترى المئات من الألوف من الاختراعات التى تمنع أو تعرقل تطبيقها وتوقف إمكانية الاستفادة الإنسانية العامة من تطبيق الألوف من الاكتشافات الأخرى ،وهى توجه كل مؤسسات البحث العلمى وما تنتجه من اختراعات واكتشافات إلى مجالات لا تفيد البشرية بشكل عام وإن كانت تشكل مصدرا لا ينضب للأرباح لصالح هذه الاحتكارات مثل صناعات السلاح على سبيل المثال،فضلا على أن الكثير من تطبيقات العلم غير ممكنة فى ضوء نمط الإنتاج الرأسمالى نفسه لأنها تحتاج لتنظيم مختلف لعملية الإنتاج والتوزيع والتبادل.ومن ثم فقد أصبح من مصلحة البورجوازية معاداة العلم ومنهجه ،وتحجيم المعرفة العلمية وتطبيقاتها المختلفة فى حدود مصالح البورجوازية فى الاستمرار والربح ،ولتبقى البشرية المقهورة والمستغلة أسيرة الندرة .
قد أدت الثورة الصناعية إلى نزول العلم من الأبراج العاجية للعلماء إلى أرض الواقع العملى ،وبالتالى فقد أصبح ليس متاحا للخاصة فقط من العلماء الأفراد ،بل نال من بحره المتزايد الكثير من أفراد شتى الطبقات كل حسب قدرته،ليس ذلك فحسب بل إنه قد أصبح متاحا لقواعد متزايدة من جماهير شتى الطبقات سواء على مستوى معرفته النظرية أو الاستفادة من تطبيقاته التكنولوجية وتم توسيع سوق الاستهلاك للسلع الحديثة ليضم كافة أفراد المجتمع من ملاك وغير ملاك.
كانت هذه التطورات التكنولوجية تعنى زيادة احتياج الصناعة لعمال مهرة ومتعلمين وفنيين مدربين ،ويزداد باطراد هذا الاحتياج مع كل تطور فى وسائل الإنتاج ،وهو ما فتح المجال واسعا أمام التعليم والثقافة حتى أنه أتيح للبشرية وللمرة الأولى جيوشا هائلة من العلماء والمثقفين والفنيين والمتعلمين أصبحوا يشكلون قطاعا هاما للغاية فى المجتمع ،وهو فى نفس الوقت شديد الارتباط بعملية الإنتاج بشكل مباشر ،كان لهذا أثره فى ازدهار المعرفة العلمية ،وهو ما أحدث بدوره جماهيرية لم تعرفها البشرية من قبل للاستنارة والمنهج العلمى فى التفكير والتقدم والعقلانية .
مع القرن العشرين عرف البشر واقعا جديدا نتيجة الانتشار الهائل لوسائل الإعلام والفنون والثقافة الحديثة من إذاعة وتليفزيون وسينما وصحافة، والتى تملكها أو تسيطر على معظمها البورجوازية والبيروقراطية فقد حولت العالم بأسره إلى قرية صغيرة وتحول عالم الفرد بذلك من حدوده المحلية الضيقة إلى الكرة الأرضية بكل رحابتها ، إلا أن هذه الفرصة التى تقدمها تلك الوسائل مفتوحة للاختيار بين ما لا حصر له من مكونات يختار الفرد من بينها ما يشاء من مواد معرفية ليكون عالمه المعرفى الفريد ،فبدون أى سفر ينقل إليه ما يحدث فى العالم وهو راقد فى حجرته لا يفعل من شىء سوى تلقى شتى المؤثرات التى تلقيها عليه تلك الوسائل ،بشكل غاية فى الجاذبية يمنعه ما لم يكن ذا إرادة حديدية من أن يبحث على مصادر أخرى وألوان أخرى من المعرفة والثقافة ،وهو الأمر الذى يجعله أسيرا للثقافة الجديدة التى سيدتها البورجوازية عالميا ، والتى نجحت بالرغم من أزمتها الحادة أن تستخدم كل هذه الوسائل ،كأدوات قمع غير دموى لتطيل من أمد حياتها ،فبها وبها وحدها تضمن السلبية والرضا من قبل الجماهير ،فبها تغسل العقول ،وبها تضمن أن لا يكون للمتلقين سوى ما تسمح به من معلومات وقيم تخدم مصالحها وهو ما تتلقاه هذه الجماهير المبهورة إلى ما لا نهاية ، وبما لا حصر له من مواد غبية لا تغنى ولا تسمن من جوع ،صحيح كل المعروض متاح لك لتختار منه جادا كان أم هزليا إلا أن الأخير هو الأكثر رواجا مما يدفع المنتجين لإنتاجه والموزعين لتوزيعه بشكل أكبر أو ربما هذا هو ما يريدوه ، و لعل بعض الأمثلة فى الجزء السابق توضح للقارئ بعض مظاهر هذه الحقيقة .
ومع توحد السوق العالمى بما يعنيه من توحد قوى الإنتاج وعلاقاته استطاعت البورجوازية أن تسيد هذا النوع من الثقافة الذى يخدم مصالحها فى زيادة الأرباح ،أنها ثقافة الاستهلاك السطحية ،والتى تبدأ من الاهتمام المبالغ فيه باستهلاك السلع المختلفة ذات الماركات المختلفة ،المعمرة وغير المعمرة،الضرورية وغير الضرورية،الكمالية و الترفية ،فعلى جميع المستويات تم توسيع سوق الاستهلاك بما لا نهاية له من سلع ،تختلف فى أشكالها وماركاتها ولا تختلف فيما تشبعه من حاجات استعماليه ،وربما فى كثير من الأحيان لا تشبع أى حاجة حقيقية ،وأن لم تكن تلحق الضرر بالإنسان أحيانا مثل وسائل التدخين وبعض سلع الترف.
وتسخر البورجوازية كل أجهزتها الإعلامية لإلهاب ظهور المستهلكين ،بما لانهاية له من إعلانات مبهرة وملحة ومسلية،مباشرة وغير مباشرة،لكى يستهلكوا ما هم فى حاجة إليه ،وما هم ليسوا فى حاجة إليه ،مما تلقيه عليهم البورجوازية فى السوق،وهكذا يستغرقوا كل حياتهم فى البحث عن المال بأى وسيلة لكى يستطيعوا شراء هذه السلع و،ويستنزفوا معظم حديثهم فيما بينهم وتفكيرهم فى المفارقات الكوميدية فى حقيقتها بين ماركات السلع المختلفة وما يتفق منها مع الموديلات والموضات التى تتغير سنويا لتتحكم فى أذواق الناس، فيفقد الناس حتى حريتهم فى الاختيار لأنهم محكومين بما تسيده الشركات المنتجة للسلع المختلفة من أذواق ،لتروج لسلعها المختلفة بهذا اللهاث المحموم وراء ما تروج له من الإعلانات. التى لا تستدعى كل هذا الاهتمام ،أما وقت فراغهم الذى من الممكن أن يقضوه فيما هو أنفع لهم،فأنهم يقضوه فى استهلاك أنواع أخرى من السلع غير المادية كالفنون التجارية الرخيصة التى تدور حول الجنس والعنف والإثارة ووسائل التسلية.
وهل يبقى بعد ذلك من قيم أخرى ذات بعد أرقى ،فمادام هؤلاء المنومون سيكونون بهذا الاستهلاك الأسعد والأجمل والأكثر جاذبية واحترام وسعادة ،فهل عليهم من شىء سوى قصر كل أحلامهم وأمانيهم وتفكيرهم على امتلاك هذه السلع، وتمثل صور أبطال الفنون التجارية الرخيصة والألعاب الرياضية والتماهى معهم . التى ستحقق لهم ما يرغبون فيه من سعادة ،وأن يضحوا من أجلها بكل رخيص وغالى ،وأن تتجمد عقولهم عند التفكير بها فبها وبها وحدها يحققون سعادتهم وطموحاتهم ومكانتهم فى المجتمع ..إلا أن المأساة الكامنة فى جوهر الفكرة ذاتها هى أن الجوع المزمن للاستهلاك يظل يلازمهم حتى الموت فلا سعادة رغم كل هذا الاستهلاك الذى أضاعوا من أجله حياتهم بالكامل.فكيف تشعر بالإشباع وأنت محاصر بما لانهاية له من سلع وإعلانات تدفعك لاستهلاكها .
إلا أن ثقافة الاستهلاك لا تقتصر على هذه العملية البسيطة من تأثر بالإعلان وشراء واستهلاك بعيدا عن الإشباع الحقيقى للاحتياجات الاستعمالية للإنسان،فالمشكلة لا تكمن فى الحق الإنسانى المشروع فى الاستمتاع بكل ما فى الحياة من لذات ومتع مختلفة ،ولكن المشكلة تكمن فى أسلوب هذا الاستمتاع ،فهناك استمتاع كامل يشبع كافة احتياجات الإنسان الحقيقية دون أن يشوهه أو يحطمه ودون أن يسلبه حريته وقدرته على الاختيار.واستمتاع مريض يدمر الإنسان ويسلبه حريته ، فأسلوب الحياة البورجوازى نفسه أذن هو المشكلة وليس التمتع بالحياة فى حد ذاته، فجوهر الأخلاق البورجوازية يكمن فى فكرة تحول كل ما فى المجتمع البشرى لمجرد سلع ،حتى البشر أنفسهم ،فيصبح لكل شىء ثمنه،والجميع معروضين فى الأسواق لمن يدفع أكثر ،ليس فقط فى السلع المادية ،بل الأفكار وقوة العمل والإبداع المادى والعقلى وحتى العواطف والمشاعر ،فالكل خاضع لمنطق الربح والخسارة ،ولا شىء غير ذلك .وهنا تكمن المأساة.
فثقافة الاستهلاك هذه تمتد لتلقى بظلالها الثقيلة على كل اهتمامات الإنسان وعلاقاته الاجتماعية ،والتى تحكمها قيمة المنفعة الفردية ،وهى توحد الجميع فى عبادة السلع ،تلك الوثنية الجديدة التى يمارس الناس شعائرها فى السوق بعد أن يتلقوا التبشير بها عبر وسائل الإعلام، أيما كانت اختلافاتهم العقائدية ، وهو ما يصيب الإنسان فى المجتمع البورجوازى بالخواء الفكرى المروع الذى يصل إلى حد البلاهة . ويصيب كل علاقاته بالتشوه والوحشية واللاعقلانية. فلا يوحد الجميع سوى أساس واحد هو الربح بأكبر ما يمكن من غنائم السوق وبركاته.
تعبيرا عن كل هذا العفن فقد سادت فنون العنف للعنف ،و الإبهار بالجريمة من خلال سيل المواد البوليسية التى لا معنى لها ،والخيال العلمى الأبله ،والبطولة الفردية الجامحة ،واستفزاز الشبق الجنسى والاستهلاكى ، وغيرها من الفنون الشكلية والتجارية الرخيصة التى لا معنى لها سوى الاستمتاع الفارغ والتسلية التى تصيب المرء لو أدمنها بالتخلف العقلى والتشوه النفسى..والتى من خلالها استطاعت البورجوازية أن ترسخ قيمها الأنانية والنفعية بعمق وتسيد الفردية والاستهلاكية فى شتى الطبقات ، وهو ما يشوه الوجدان الإنسانى ويحطمه .
ومن جانب آخر فأن إنسان العصر الحديث محاصر ومدفوع للاهتمام الهزلى بثقافة التسلية والألعاب الرياضية التى تشغل الحيز الأكبر من وقت تسلية معظم الجماهير .إن لم تكن الوحيدة أحيانا ،فليس المهم الاستفادة والاستمتاع بممارسة الرياضة ،بل الأهم تتبع مشاهدتها قتلا لما يتبقى من وقت لدى الأفراد بعد يوم من العمل الشاق ، حتى لا يستطيعوا التفكير فى شىء سواها ، ولذلك تملأ أخبارها غير المفيدة على الإطلاق المساحات الأكبر من وسائل الإعلام المرئى وغير المرئى والتى تستحوذ على الأولوية فى الاهتمام من قبل الجماهير .وها هى تتوسع أنواعها وتتعدد مسابقاتها بما لا حصر له حتى تستنزف كل وقت الإنسان واهتماماته ،وتمتص ما تبقى من طاقته،وترهق أعصابه ،وتمتص كل سخطه وغضبه،وتخفى كل قهره واغترابه، بهذا النوع السهل والرخيص من المخدرات المصرح به والمشجع عليه من قبل كافة الحكومات ،أليست بهذه الوسيلة تضمن سلبية الجماهير وجهلها ،ولذلك فهى تشجع علي الاهتمام المجنون بها ،فهى أفضل من كل أجهزة الأمن وأسلحة الجيش فى قمع الجماهير ،دون انتهاك للمواثيق الدولية لحقوق الإنسان ،فهى شأن الفنون الشكلية والسطحية المشار إليها سلفا ،تمتع وتسلى ،ولكنها لا تدفعك للتفكير الجاد فيما هو أهم وأنفع .
هناك أيضا امتداد لثقافة الاستهلاك السطحية هذه يقوم على رد الفعل الحاد ضد هذا النوع من الثقافة الرسمية فى بادئ الأمر ، إلا أن البورجوازية تستطيع بدافعها الغريزى للربح أن تحتويها ، وتستفيد منها فى النهاية بما يشبة استرداد ما شرد عنها من القطيع .فنحن نجد جماعات من الشباب المتمرد فى شتى بقاع الأرض تتمرد بشكل ما بما تتميز به من أزياء وتصرفات وسلوكيات وتقاليع ومفاهيم للحياة تختلف عما هو سائد فى المجتمع الذى تحى فيه بحثا عن التميز وتأكيد الذات وربما بدافع الرفض لما هو سائد ونقدا له على نحو شكلى لكل أو بعض مظاهر هذا المجتمع وثقافته السائدة ، ففى الغرب الرأسمالى نجد جماعات الهيبيز والبيتلز والبانك وغيرهم ، والتى أصبحت أزياءها وموسيقاها تيارات من الموضات التى شاهدتها تلك المجتمعات ، وقد استطاعت البورجوازية فى النهاية تحويلها من حركة تمرد على ثقافتها وقيمها إلى وسيلة لزيادة أرباحها فى نفس الوقت ،وفى الشرق الأوسط نجد الجماعات الإسلامية المختلفة والتى استطاعت البورجوازية لدينا أن تستثمرها كظاهرة لإنتاج العديد من السلع وترويجها من التخصص فى ملابس المحجبات الروائح دون كحول والتداوى بالأعشاب.
هذه هى عناصر ثقافة الاستهلاك ،والتى تشكل الآن الثقافة الشعبية العالمية السائدة على سائر أرجاء الأرض بدرجات متفاوتة وبتنويعات متفاوتة وبتفصيلات متباينة تتناسب مع مستويات المعيشة والقيم القومية والدينية والثقافية المختلفة ،فما يجوز فى بلاد الغرب قد لا تقبله بلاد الشرق،وما يستطيعه البعض فى الشمال لا يستطيعه البعض فى الجنوب ،إلا أن الجميع توحدهم قيم البورجوازية وثقافتها.
إن ما قد سلف من حديث لا يتغافل عن حقيقة بلايين المحرومين والمهددين بالموت جوعا فى شتى بقاع الأرض وخاصة فى بلاد الجنوب ،فكما قد سبق وذكرت أن المشكلة ليست فى الاستمتاع بالحياة فى حد ذاته بل فى أسلوب الاستمتاع ..فثقافة الاستهلاك هذه هى ثقافة الشبعى حتى التخمة وبها يروضون ويهيمنون على الجوعى حتى الموت،حتى ولو كان الأوائل يتجاوزون الأحلام إلى الممارسة الفعلية ،والآخرين غرقى فى تلك الأحلام دون ما أدنى ممارسة.
أعتقد أن ما قدمته هو مجرد لوحة عامة جدا للوضع الثقافى فى عالمنا اليوم،قد تختلف فى تفصيلاتها فى كل بلد على حدى ..فبرغم كل الفرص المتاحة عبر الوسائل الحديثة للبشر للتعلم والتثقف الجادين والاستمتاع بالراقى من الفنون والآداب فأن غالبيتهم الساحقة تختار ما هو هزلى ومنحط و تافه . والأخطر هو الاستعلاء بتلك الثقافة والمعرفة، واستهجان المعرفة الجادة والفن الراقى والنفور منهما . ومن ثم فمازال البشر رغم كل ما هو متاح لهم من فرص ينقسمون لغالبية ساحقة ذات ثقافة ومعرفة محدودة للغاية رغم تنوع أشكال هذه المعرفة المذهل .وأقلية من خاصة الخاصة من المثقفين المهمومين بأن يفهموا العالم على النحو الصحيح والمهمومين بمشاكل الحضارة الإنسانية ،والكوكب المتعرض لخطر التدمير بفعل أرقى ما فى هذه الحياة ألا وهو الإنسان .فماذا ننتظر من الإنسان فى المجتمع البورجوازى الذى يتم تسطيحه وتشويهه منذ أن يولد وإلى أن يموت.
والمرء لا يسعه إلا التفاؤل بوجود إمكانية حقيقية فى يد البشرية لبناء مجتمع جديد ووعى جديد وثقافة جديدة على يد قوى اجتماعية ثورية إلا أن هذا مشروط بوعى جديد يطرح نفسه كبديل قوى عما هو سائد.وعى فضلا على رفضه للسلطوية و التراتبية والقهر والاستغلال فأنه لا يقوم على الخرافة من أى نوع، فإذا كانت الماركسية قد قامت على أساس أن الإنسان عليه أن يقضى على الأوهام ليخلق الظروف التى تجعل الأوهام غير ضرورية فأن أريك فروم يرى المعرفة الحقيقية التى لابد وأن يقوم على أساسها هذا الوعى مشروط بما يلى" تبدأ المعرفة بالوعى بمدى خديعة مداركنا وحواسنا إيانا ،بمعنى أن الصورة التى لدينا عن الحقيقة المادية لا تتفق تماما مع الحقيقة الحقيقية،ذلك أن أغلبية الناس أنصاف أيقاظ، أنصاف حالمين ،وأنهم على غير وعى بأن ما يرونه حقيقة وأمورا واضحة الاجتماعية لا تحتاج لإثبات ليست إلا أوهاما من صنع إيحاءات البيئة التى يعيشون فيها ،وتبدأ المعرفة إذا بتبديد الوهم ،والمعرفة تعنى رؤية الحقيقة عارية ،تعنى النفاذ تحت السطح والسعى الإيجابى النشيط والنقدى للاقتراب من الحقيقة دائما."34.
********
34-أريك فروم-الإنسان بين الجوهر والمظهرـ ترجمة سعد زهران ـ -سلسلة عالم المعرفةـ العدد 140ـأغسطس1989-الكويت.ص