أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سامح سعيد عبود - كتاب تقدم علمى تأخر فكرى - غسيل العقول















المزيد.....



كتاب تقدم علمى تأخر فكرى - غسيل العقول


سامح سعيد عبود

الحوار المتمدن-العدد: 333 - 2002 / 12 / 10 - 12:42
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    



 

إن ما يدلل على دور أجهزة الإعلام والثقافة والاتصال فى تضليل البشر والتلاعب بعقولهم وغسيلها هو ما يمكن إيراده من أمثلة تم اختيارها من الواقع العربى القريب من القارئ وتم مراعاة تنوعها لتشمل الصحافة والتليفزيون والكتب و مجالات البحث العلمى .‏‏
******
‎‎أ-ساعد أنيس منصور وهو أحد كبار الصحفيين والكتاب المصريين على انتشار ثقافة الخرافات من أمثال الذين هبطوا من السماء، والذين صعدوا إليها حتى عرف بأنه كاتب الجن والعفاريت ،وهو المعيد السابق بقسم الفلسفة بالجامعة ،وقد روج لكم هائل من الخرافات من خلال كتاباته الفاقدة لأى قيمة ،فى أشهر الصحف وأوسعها انتشارا ومنها قصة جيللر ذلك الدجال الإسرائيلي الذى كان يدعى أنه بقوة نظره السحرية يستطيع لى الأشياء المعدنية الصلبة !.وإليكم بهذا الصدد ما قد قرأته مصادفة فى جريدة الحياة اللندنية اليومية،وذلك فى تحقيق يعتبر فى اتجاه معاكس تماما عما تعودناه فى الآونة الأخيرة فى الصحافة وأجهزة الإعلام المختلفة ،وربما يكون هذا إثباتا للقاعدة فلكل قاعدة شواذ تثبتها، فقد كان التحقيق يتناول ظاهرة انتشار الإيمان بالخرافات والظواهر غير الطبيعية وغير المفهومة، وقد ذكر فى التحقيق أن اللجنة العلمية العالمية المكلفة بدراسة الظواهر غير الطبيعية ،قد أثبتت فى معرض بحثها حالة هذا الدجال أن المسألة تعتمد على سرعة حركة الدجال وخداع البصر الذى يوهم مشاهديه ،ذلك الخداع الذى أشار إليه عالم سوفيتى باعتباره السبب فى ظواهر مشاهدة رؤية زوار الفضاء الغامضين ،والأطباق الطائرة ،والتى أرجعها إلى الرؤية الخادعة بسبب ظواهر طبيعية غير مفهومة تضخم فيها العقلية غير العلمية القابلة للإيحاء وسوء النية .وقد أشار التحقيق إلى أن أزمة الفيزياء المعاصرة ،هى السبب فى انتشار الأوهام ،ويقر مايكل هتشنسن أحد كبار أعضاء اللجنة المنوه عنها فى نفس التحقيق إلى "إنه قضى 30 عاما فى التحقيق فى ادعاءات الخوارق ،ولم يكتشف خلالها صدق أى إدعاء فى الاتصال بكائنات فضائية ،وامتلاك أى قوة خارقة فى تنويم الناس مغناطيسيا ،أو ثنى المعادن أو غير ذلك"7. كما يمكن للقارئ الرجوع لكتاب الإنسان التائه بين الخرافة والعلم ل د.عبد المحسن صالح من سلسلة كتاب عالم المعرفة حيث يرى تفنيدا قويا لكل تلك الخرافات العصرية التى يروج لها كل من أنيس منصور وعبد الرازق نوفل ورؤوف عبيد ومصطفى محمود وكل من هم على شاكلتهم.‏‏
*********
‎‎ب-مثال آخر لصحفى وكاتب مشهور هو مصطفى محمود والذى واكب ارتداده من اليسار إلى أقصى اليمين فى السياسة ارتداده من العلمية إلى أقصى درجات اللاعقلانية فى الفكر،وقد بلغت شهرته الآفاق بسبب الردتين وكتاباته قمة الانتشار والتأثير الجماهيرى الواسع حتى أنه مما ساعدوا بقوة فى حفر الاتجاه السائد الآن فى منطقتنا فى انتشار الإيمان بالخرافات والرجعية السياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية ،وقد أصبح بذلك رائدا فى مدرسة هى الأكثر انتشارا الآن يشاركه فيها العديد من أشهر الكتاب وأنصاف العلماء والمفكرين الرسميين والإعلاميين فى نفس الوقت،وقد ساعدت هذه المدرسة على ترسيخ التخلف والجهالة واحتقار العلم والعمل والمنهج العلمى فى التفكير وأسمى وأنبل ما قد وصلت إليه البشرية عبر تاريخها من مثل وقيم حول العدالة والحرية والتقدم.‏‏
‎‎ولعل أشهر ما يفعله هذا الكاتب هو تقديمه لبرنامج تليفزيونى مشهور له من الشعبية الكثير ،وتخصص له أفضل ساعات الإرسال ،وفى هذا البرنامج يعتمد على عرض أفلام علمية ثم التعليق المتعسف عليها دون طرح التفسير العلمى الصحيح لما يشاهده المشاهد من ظواهر فيوحى للمشاهد الساذج والمحروم من وسائل المعرفة الحقيقية ،والمتعصب بحكم طريقة تربيته وتعليمه صحة استنتاجاته المتعسفة واللاعقلانية وغير المرتبطة بالفيلم المعروض ،وذلك لتأكيد أفكاره المسبقة والمعروفة لدى المشاهد ،دون
أدنى قدر من الموضوعية والأمانة العلمية والتى تقتضى استخلاص
الأفكار من الواقع الذى تعرضه المادة العلمية ،لا فرض الأفكار المسبقة لتفسير المادة المعروضة .وقد شاهدت له حلقات حول التنويم المغناطيسى ومعجزات الشكل الهرمى ،وهى أيضا الخرافات التى يروج لها كاتب الجن والعفاريت السابق ذكره ،ولا يجرؤ أحد من الأساتذة والعلماء فى الكليات العملية على الرد على مثل هذا التهريج باسم العلم ،فهم إما مشاركين فى الهوجة لأسباب عديدة ،أو مرعوبين من الاتهام بالكفر فى مجتمع استبدادى،أو ممنوعين من الكلام أصلا ..وما حدث لنصر حامد أبو زيد عبرة لمن لم يعتبر.وحتى لو ردوا بشكل ما مثلما فعل عبد المحسن صالح فغالبا لن يلتفت إليهم أحد فى أجهزة الإعلام الأكثر انتشارا وتأثيرا فى الجماهير مثل الإذاعة والتليفزيون.‏‏
‎‎يطالعنا هذا الكاتب فى برنامجه المشهور على أفلام علمية تتناول الظواهر المختلفة فى الطبيعة الحية ،وليكن على سبيل المثال فيلما عن جيش من النمل يسير بانتظام حديدى .ثم يعلق على ما نشاهده بتعليقاته المعروفة سلفا ،واستنتاجاته المتعسفة ،وإجاباته الجاهزة حول من علم النمل السير فى انتظام ،ويجيب وكأنها بديهة ،أنه لابد وأن هناك عقلا ما وراء سيره هذا..والتى تجد استجابة مقبولة وتأويل خاص يرضى الجمهور المتعصب من أنصاف المتعلمين لما برمجوا به من معتقدات.‏‏
‎‎وهو فى كل هذا لا يذكر بالطبع السبب العلمى الذى يفسر تلك الظاهرة الكامنة فى طبيعتها المادية ،وإلا تعارض هذا مع استنتاجاته المتعسفة،وبالتالى فإن هدفه الدعائى لن يتحقق ،أما عن حقيقة الظاهرة المذكورة فى هذا المثال فهى أن النمل يتتبع مواد الأثر التى تفرزها غدد خاصة تتصل بإبر اللدغ الموجودة بمؤخرة النمل ،ولو مسحنا بإصبعنا على طريق النمل فأن أول نملة ستصل للمكان الممسوح ستضطرب خطواتها وتعود القهقرى كأنما اصطدمت بجدار ،فالذى حدث هو أننا مسحنا مادة الأثر التى كان يسير على هديها النمل .. لاشك أن هذا المثل المذكور على تكريس الخرافة عبر الرطانة العلمية هو ما أصبح يشكل مادة خصبة للتجارة التى تشجع على ترويجها أجهزة الإعلام..أما ما نحن متأكدين منه هو أن كل عمليات الحياة تعتمد على تفاعلات كيميائية بين جزيئات كيميائية عضوية ،وهو ما يؤدى لكل عمليات الحياة من حركة وتكاثر وإحساس وفكر ونمو وتغذية وإخراج ..و ما مواد الأثر والإنذار وجاذبات الجنس والروائح التى تطلقها العديد من الحشرات والنباتات سوى مفردات لغة خاصة بها ،تعلن بها عن رغباتها الخاصة فى تلبية إحدى احتياجاتها الحيوية ،وما هى إلا مركبات كيميائية استطاع البشر تركيبها واستخدامها فى نفس الأغراض المخصصة لها مثلما استطعنا صنع مكسبات الطعم واللون والرائحة ..وهو أمر لا يمكن أن يثبت أو ينفى على أى نحو من هو سيد هذا الوجود وصاحبه؟ وما هى ماهيته؟.‏‏
**********
‎‎ج-البحث العلمى لم يصبح عملا فرديا بوسائل بسيطة ،بل عملا جماعيا بوسائل مكلفة للغاية لا تقدر علي تمويلها إلا المؤسسات الرأسمالية أو الدولة ،والتى ترفع العلماء والباحثين وخصوصا الإعلاميين منهم لمستوى معيشة مرتفع لا يشعرهم بمدى عبوديتهم لها أو تجعلهمراضين بها بل وراغبين فيها بعد أن أعدتهم على شاكلتها ومثالها ،ولذلك فأن الكثيرين منهم حفاظا على مصالحهم الشخصية وتلبية لطموحاتهم الذاتية يلبون رغبة سادتهم البورجوازيين فى إشاعة الجهل والخرافة من خلال نفوذهم الأدبى البالغ ،أو حتى بسبب عقليتهم التى تفصل بين علمهم المتخصص ونظرتهم الشاملة للعالم من حولهم ، فقد قرأت فى أحد الجرائد القومية اليومية فى حديث لأستاذ جيولوجيا فى جامعة عبد العزيز آل سعود إنكاره صحة قوانين حفظ وبقاء المادة رغم الصحة المؤكدة لهذه القوانين الذى لابد وأنه تعلمها منذ أن كان طالبا بالمرحلة الثانوية ،ثم إنكاره صحة نظرية النشوء والارتقاء للكائنات الحية والتى لا يصح وصفها بكونها مجرد نظرية حيث أصبحت فى خطوطها العريضة من حقائق العلم المؤكدة بصرف النظر عن تفصيلاتها المعرضة للتعديل والتطوير،وعندما يقرر عدم صحتها أحد أساتذة الجيولوجيا الجامعيين دون أى دليل علمى ينقض أساسها الغير مقدس بأى حال .وهو متأكد من خلال تخصصه بمدى ما وصلت إليه تلك النظرية من مكانة مركزية فى تاريخ العلم الحديث وبمدى صحتها بشكل حاسم فى خطوطها العريضة .لابد وأن نتساءل حول سر مثل هذا الحديث .هل لأن النظرية ممنوع تدريسها بكافة مدارس ومعاهد وجامعات المملكة العربية السعودية ؟فإذا كان هذا هو حال علماءنا فى مراكز البحث العلمى فكيف برجل الشارع العادى؟ .فقد أصبحت صورة العالم المتفانى فى سبيل اكتشاف الحقيقة المجردة والمنزه عن الأغراض الذاتية نجدها بصعوبة الآن ،وخصوصا فى الجزء المتخلف من العالم حيث الديكتاتورية والإرهاب والتعصب والجهل وسيادة المنهج الخرافى حتى فى عقر دار العلم والعلماء ،وتلوث مراكز البحث والتعليم بالأغراض الذاتية لمن يمولوها ومن ثم البعد عن المنهجية العلمية فى البحث فى كثير من فروع العلم وفى العالم كله من خلال احتكار البورجوازية المأزومة لكافة وسائل الإعلام والثقافة والنشر والتوزيع والبحث العلمى ،ودفعها الأمور على هذا النحو حفاظا على مصالحها ،فقد تحول العلم لسلعة من سلع السوق يخضع لما تخضع له السلع من بيع وشراء ،وتحدد قيمته حسب قوانين العرض والطلب.
************‏‏
‎‎د-الثقوب السوداء هى نجوم تقلصت إلى حد كبير ،وأصبحت مرتفعة الحرارة لدرجات هائلة و ذات كثافة عالية جدا ومن ثم مجال جاذبية غاية فى الشدة ،وأذكر أن أول مرة سمعت فيها عن هذه الثقوب كان من خلال المجلة الأسبوعية التى كانت المسرح الأول لظهور مصطفى محمود وقد أوحى إلى التحقيق أن هذه الثقوب هى ثقوب حقيقية فى حدود ما بيننا وبين عوالم أخرى .وهو الأمر الذى يخالف حقيقتها فلا هى ثقوب و لا توجد أى حدود بالكون المرصود لنا حتى الآن مما يؤكد وحدته ،وأن هذه الثقوب يمتلئ بها الكون بكل مجراته..وأعتقد أن الخطورة الحقيقية هى تلقف كتاب الصحف والكتب الشعبية،بعض استنتاجات العلماء المشوهة ،أو بعض أقوالهم المبتورة والمجزئة ،أو تعبيراتهم الاصطلاحية التى لا يفهمها سواهم واستخدام كل هذا لتقديم صورة خيالية مثيرة للعالم تجد شرعيتها فى كونها تتحدث باسم العلم كى يرتفع التوزيع كلما كانت هذه الاستنتاجات أكثر غرابة ،والأقوال أكثر إثارة والتعبيرات أكثر غموضا وغرابة ،وبالتالى تساعد على انتشار الأوهام بأساليبها المثيرة المغلفة بالرطانة العلمية.‏‏
**********
‎‎ه-ذكر د.عبد العظيم أنيس رئيس قسم الرياضيات بكلية العلوم جامعة عين شمس فى مقال له معنون ب هل يمكن أسلمة العلوم كنت أود لو استطعت اقتباسه كاملا لما فيه من تأكيد لما أود توضيحه وهو بمثابة شهادة صادرة من عالم متخصص أمين لعلمه .وسأكتفى باقتباس بعض الفقرات الهامة منه.‏‏
"‎‎حكيت قصة مدرس الجامعة الإقليمية الذى وضع بحثا أسماه (علم الإحصاء الإسلامى ) ،وأرسله إلى أكاديمية البحث العلمى بأمل نشر ه،وقد أرسلته الأكاديمية لإبداء الرأى ،فلما تصفحته وجدت أن المادة الإحصائية به هى مما يدرس لتلاميذ المدارس الثانوية ،باختلاف وحيد هو أن كل مفهوم يقدم فى الكتاب يضاف إليه كلمة إسلامى فى آخره ،فالباحث يتحدث عن الوسط الحسابى الإسلامى ،والانحراف المعيارى الإسلامى ،وتوزيع جاوس الإسلامى ،وهكذا أما ما يميز الإسلامى عن المعاصر فى تلك المفاهيم فأمر بسيط ،فإذا كان المتغير محل الدراسة هو عدد الحجاج أو عدد المصلين ،فأن الإحصاء يصبح إسلاميا ،وإذا كان المتغير طلابا مثلا،أو مرضى يصبح معاصرا !،وعندما يأس هذا الباحث من قيام الأكاديمية بنشر بحثه ،لم يتورع عن أن يقدم هذا البحث إلى لجنة جائزة الدولة التشجيعية على هيئة كتاب مطبوع أملا فى الحصول على الجائزة!!"8.‏‏
‎‎وقد عرفت الحضارة الإسلامية المئات من العلماء الذين أثروا الحضارة الإنسانية ،ودفعوا البشرية نحو المزيد من التقدم ،إلا أن ما قدموا ما كان ليتم لولا ما قد سبقه من حركة ترجمة واسعة لتراث الحضارات السابقة من يونانية وفارسية ومصرية وهندية،إلا أن ابن سينا لم يسم طبه بالطب الإسلامى ،ولم يسم الخوارزمى ما أبتدعه من جبر بالجبر الإسلامى ،ولم يدع جابر بن حيان أن كيميائه إسلامية.فما يصح وصفه بالعلوم الإسلامية هى العلوم المرتبطة بالدين الإسلامى من فقه وحديث وتفسير وهى علوم تفسيرية وتأويليه لنص مقدس لا تهم سوى المؤمنين بقدسية هذا النص، أما العلوم الطبيعية والاجتماعية فهى علوم إنسانية عامة تخص كل البشر إبداعا واستفادة لكونها علوم تفسر الواقع العام الذى يخص كل البشر أيما كانت عقائدهم .والمأساة الكامنة وراء هذا المنهج الخطير إنه بدلا من أن يحاول المسلمين الاستفادة من العلوم الحديثة وإضافة إبداعات جديدة لها ،يجترون الماضى بشتى السبل ويعيشون على تركته،فهل حاول هذا الباحث الذى ما يصح إطلاق هذه الصفة عليه أن يفيد أمته بما تعلمه من علم الإحصاء لعله يدرك ما هو وضع المسلمين الآن وليس أمس فى سلم التقدم والحضارة.وهل ما وصل إليه المسلمون من وضع مذرى فى العصر الحديث إلا لأن السائد بينهم من المثقفين هم من أمثال مثل هذا الباحث..ولعلك ترى الفرق بين وضع المسلمين وقت ازدهار الحضارة الإسلامية ووضعهم الآن من خلال المقارنة بين ابن سينا والخوارزمى وابن حيان وبين هذا المدرس الجامعى فهؤلاء صنعوا حضارة وهذ1 ممن يساعدون على تكريس التخلف لمصلحة المستفيدين منه.‏‏
‎‎ولا تقتصر المسألة على محاولة التوفيق بين الدين الإسلامى والعلوم العصرية المختلفة إلا أن الأمر تجاوز هذا الحد لمحاولة تأويل وتفسير النصوص القرآنية بثرائها اللغوى البالغ ،والتى تحتمل مفرداتها أكثر من معنى لتتماشى مع الحقائق والنظريات العلمية وقد تفرغ لهذا عدد كبير من الباحثين وأساتذة الجامعة والكتاب ،فكلمة دحاها مثلا تعنى دكها حتى جعلها كالبساط ،مما استدعى من الشيخ عبد الله بن باز مفتى المملكة العربية السعودية الإفتاء بأن القائل بكروية الأرض مرتد تستوجب استتابته لإنكاره ما هو معلوم من الدين بالضرورة .إلا أن البعض لدينا من نالوا من العلم الحديث قدرا ما، يفسرون دحاها على أنها تعنى شكلها كالبيضة لكى تتفق والحقيقة العلمية لبيضوية شكل الأرض ،إلا أن الدحية كما يذكر المعجم الوسيط تعنى مكان بيض النعامة وليست البيضة نفسها.يذكرنى هذا بواقعة استدعاء عمر بن الخطاب لخالد بن الوليد لمحاسبته على قتل أسرى المرتدين حيث قال لحراسهم فى ليلة باردة "أدفئوا أسراكم" فقتلهم الحراس لأن أدفئوا معناها اقتلوا فى لهجة قبيلة كنانة التى كان ينتمى إليها الحراس ،ومن ثم فقد نجى خالد بن الوليد من المحاسبة .‏‏
‎‎يذكر عبد العظيم أنيس أيضا فى نفس المقال المنوه عنه:فى عام 1972 نشر العالم الكبير جاك مونود ،والحاصل على جائزة نوبل فى البيولوجيا (كتاب بعنوان الضرورة والصدفة )عبر فيه عن قناعته بأن أبحاث البيولوجيا قد أوضحت بشكل حاسم أنه لا يوجد مخطط أساسى لعمليات التطور البيولوجى ،وأنه بناء على ذلك لا يرى قوة كونية توجه هذه العمليات ،وأن مفهوم الصدفة هو مفهوم أساسى فى العلم الحديث ،لا فى عمليات التطور البيولوجى وحدها .و إنما فى عمليات التحول الفيزيقى والكيميائى وعلى المستوى الذرى أيضا .ومفهوم الصدفة موجود أيضا فى العمليات الاجتماعية فضلا على أنه المفهوم الرئيسى لعلم رياضى هو علم الاحتمالات وعلم الإحصاء .وتولى الرد على جاك مونود عالم بريطانى آخر -بورتيليمو-وهو أستاذ إحصاء بجامعة لندن بكتاب (إله الصدفة ) صدر عام 1984،وهو محاولة نصف علمية ونصف دينية ،لدراسة مفهوم الصدفة ،ولإعادة تأويل بعض نصوص العهدين القديم والجديد بما يتفق مع هذا المفهوم .أى أن بورتليمو لم يحاول ضرب عرض الحائط بأحد المفاهيم الأساسية للعلم الحديث _وما كان له أن يفعل ذلك وهو أستاذ الإحصاء بالجامعة .وإنما اجتهد بإعادة تأويل بعض نصوص الإنجيل فى مواجهة مفاهيم وحقائق العلم."9.‏‏
‎‎وهو بذلك أكثر التزاما بالأمانة العلمية من أستاذ الفلك بجامعة القاهرة الذى فسر الآية القرآنية الكريمة "السماء ذات الرجع " بأنها إشارة إلى انعكاس الموجات الكهرومغناطيسية المنبعثة من الأرض بواسطة طبقات الغلاف الجوى العليا المحيطة بكوكب الأرض ..ومما لاشك فيه أن هذه الطبقات التى لا تبعد سوى مئات الكيلو مترات من على سطح الأرض الكروى يتلوها الفضاء الذى يفصل بينها وبين باقى أجرام الكون اللامتناهى ،ومن ثم فهى ليست السماء المذكورة فى القرآن الكريم حيث السماء لغويا هى ما يعلو الرأس أو السطح أو الأرض .وهى تفصل وفق العقيدة الإسلامية بين عالم الغيب وعالم الشهادة، أما الأرض ككرة معلقة تدور فى الفضاء حول نفسها وحول الشمس ويدور الاثنان حول مركز المجرة فلا يوجد لها سقف يعلوها لأن مفاهيم الأسفل والأعلى لا تنطبق عليها ولايوجد بالكون كله ما هو أعلى وما هو أسفل إلا إذا نسبناه للمراقب .واليهود وفقا لنص التوراة يعتقدون أن السماء غطاء من الجلد يفصل بين
الأرض ،وبين السحاب الذى يعيش فيه إلههم "يهوه " الذى يحب أن يحتجب فى الغمام ولذلك سمى بالله بمعنى المحتجب.‏‏
‎‎ومن ثم كانت من الصدف الطريفة أن أكتشف أن هذه المحاولات للربط بين النصوص المقدسة للأديان المختلفة والعلوم الطبيعية تشمل أيضا اليهود فالحاخام مناحم مندل شنيورسون الأدمور السابق لحركة "حبد" الدينية المتطرفة "كان يولى بحكم ثقافته وعلومه أهمية قصوى للتطورات العلمية والتكنولوجية وخاصة علوم الفضاء والفلك .وهو يسعى دائما إلى التوفيق بين التوراة والعلم ،ويؤكد غياب أى تناقض بينهما "لأن الله قد خلق العالم حسب التوراة ". وإن ظهر مثل هذا التناقض فهو على استعداد لتأويل النصوص كى تتوافق مع العلوم .وقد رأى أن اختراع الراديو جاء لنشر اليهودية ،وأن اكتشاف الأمواج الكهرومغناطيسية ،إنما هو تأكيد مادى محسوس ،على قرب قدوم "المسيح المخلص"،لأن الأرض تمتلئ باسم الله "10. وأنا شخصيا لا أعرف كيف يتأتى للبعض مثل تلك الصفاقة ، بأن يربطوا بين نص ما وبين حقائق العلم رغم التناقض الواضح بينهما بهذه البساطة دون ما أدنى خجل مصداقا للقول المأثور "إذا لم تستح فأفعل ما شئت"، وكيف يصدق آخرون مثل هذا الدجل دون أن يكتشفوا التناقض فيما تلقوه .والغريب أنه وفقا للمصدر فأن هذا الحاخام كان يتميز فى شبابه بتفوق دراسى متميز فى العلوم الطبيعية ، وهو يعلم أن الله قد أنتهى من خلق العالم وفقا للتوراة يوم السبت 29 أكتوبر 4696قبل الميلاد فى حين يعلم بحكم تعليمه الحديث أن الأرض وحدها عمرها أكثر من 4 بلايين عام.‏‏
**********
‎‎و- يحاول الكثير من الكتاب والفلاسفة إثبات مركزية الإنسان فى الكون ،أى أن هذا الكون خلق لغاية معينة،هى وجود الإنسان فى قمة تطوره ،وبالتالى فأن لهذا الإنسان مكانة خاصة فى الكون وكذلك ما يعيش عليه من كوكب.إلا أن كوكبنا "الأرض"هو مجرد كوكب متوسط الحجم كروى الشكل منبعج عند القطبين يدور حول نفسه ،ويدور حول نجم متوسط الحجم هو الشمس،مع مجموعة من الكواكب تشكل المجموعة الشمسية ،التى تدور حول مركز مجرة الطريق اللبنى ، التى تتكون من حوالى مائة مليار نجم بخلاف الكواكب والأقمار والمذنبات والكويكبات ،وهى تشترك مع عدة مجرات قريبة منها فى مجموعة محلية من المجرات ،ويبلغ عدد المجرات التى تتباعد عن بعضها كما لو كانت فى حالة انفجار فى الكون المرصود لدينا حتى الآن حوالى مائة مليار مجرة يبلغ قطر الحيز الذى تشغله 16 مليار سنة ضوئية .فإذا كانت الثانية الضوئية 300000كيلومتر،فلك أن تحسب مدى اتساع هذا الحيز ،الذى سيتجاوز ألفى بليون بليون بليون كيلومتر ،وأنه للأسف لم تستطع أجهزة الرصد أن تصل لما هو أبعد من ذلك حتى الآن ،وبالطبع فأن إمكانية وجود مجرات أخرى أكثر بعدا يعد أمر وارد،وإن كانت أجهزة الرصد لم تستطع رصدها حتى الآن ..فى حين أن الغلاف الجوى للأرض هو خليط من بعض الغازات تقل كثافتها تدريجيا كلما ارتفعنا من على سطح الأرض ،لنصل للفضاء الخارجى الذى يفصل بين أجرام الكون ،وهذا الغلاف لا يتجاوز بعده عن سطح الأرض بضع مئات من الكيلومترات .‏‏
‎‎الحقيقة أن اكتشافات الإنسان الواسعة للكون أو ضحت مدى ضآلة كوكب الأرض عمرا وحجما ومكانة ،حيث هو مجرد كوكب متوسط الحجم من ضمن عدد غاية فى الضخامة من الكواكب ،وأبانت مدى ضآلة مكانتنا نحن البشر فيه من حيث المكان والزمان ..ومن هنا فأن أى أساطير تحاول التأكيد على أن هذا الكون موجود من أجلنا ،وأن كرتنا الأرضية ذات مركز ما فى هذا الكون ،أو أن لهذا الكون أى مركز أو حدود تحيط به ،هى أوهام من صنع البشر نتيجة جهلهم وتخلفهم .وهذه الحقيقة على بساطتها هى محل عداء الكثيرين الذين يصرون على مركزيتهم فى الكون.ليست مركزية البشر ككل فحسب، وإنما ما هو أكثر من ذلك مركزيتهم هم فى الكون ،فحركة أفلاك الكون وأجرامه تحدد صفاتهم وما يحدث لهم من حوادث ،، وترتيب تلك الأجرام فيما بينها لحظة ميلاد الشخص تحدد مستقبله وصفاته، وكأنما ما وجد الكون وما تحرك إلا لميلاده .‏‏
‎‎هذا الكون الضخم قد بدأ وفقا لنظرية الانفجار الكبير بانفجار تم لكتلة شديدة الكثافة والصغر والحرارة من المادة ،وهى عملية مازلت مستمرة حتى الآن فالكون يبدو كما لو كان فى حالة انفجار مستمر وذلك منذ 15مليارعام ،ومن الغبار الكونى تكونت المجرات ومنها تكونت النجوم ومن هذه النجوم الكواكب ومنها الأرض فيأتى أستاذ جامعى فى الفلك ليفسر الآية القرآنية الكريمة"كانتا رتقا ففتقناها" التى تتحدث عن السماء والأرض بأنهما كانتا رتقا أى ملتصقتين ففتقهما الله سبحانه وتعالى أى فصلهما عن بعضهما البعض .وذلك إما بناء على نظرية الانفجار الكبير،أو حقيقة انفصال الكتلة التى كونت كوكب الأرض عن الشمس التى لا يمكن أن تكون السماء المقصودة فى القرآن الكريم.‏‏
***********
ز- قرأت كثيرا من الكتابات التى تزعم وبناء على الاكتشافات العلمية فى الفيزياء المعاصرة الكثير من المزاعم منها أننا والوجود كله لسنا سوى موجات أو كهارب، ومستندين فى ذلك على إثبات كم هائل من الخرافات من خلال الفهم المتعسف والمبتسر لطبيعة الجسيمات الأولية.‏‏
‎‎لكى نفهم طبيعة الجسيم الأولى جيداً ، فأننا لابد وان نعرف إن الجسيمات الأولية ليس لها أى محور جيد التحدد ،وذلك على خلاف الأجسام ، التى نستطيع أن نحدد حدودها عمقا وارتفاعا وعرضا ، فليست هناك أى إمكانية لقياس أبعاد الجسيمات ، إذ تقف حجر عثرة فى الطريق إلى ذلك الصفات الموجية التى تبعثر الجسيمات فى الفضاء فأى جسيم أولى ذو صفتان مزدوجتان متناقضتان فى نفس الوقت ، فأى جسيم أولى هو فى الحقيقة ،(جسيم وموجه) فى نفس الوقت ،فما هى هذه الخاصية العجيبة التى تتصادم مع العقل العادى للإنسان ؟ وما هو سرها؟ وهل يمكن أن ما نتوهم إنه المادة ما هى إلا موجات؟ هل يمكن أن تكون هيئتنا المادية الملموسة التى نتواجد عليها قد تكون موجات كهرومغناطيسه أو ضوءاً مكدسان أتخذ هيئة المادة. ‏‏
‎‎هذه هى مشكلة العلم مع البعض من مبسطيه وفلاسفته ، إن المعلومات العلمية تبتذل ، وتنتزع من سياقها ، وتلوى أعناقها ، لترضى رغبات الكتاب وجمهورهم ، وبالتالي يصبح حديثهم لا علاقة له بالعلم الصحيح ، وإنما هى الخرافة وقد رويت برطانة علمية . فأين هى الحقيقة إذن ؟ قد تطورت العلوم الطبيعية والفيزياء المعاصرة على وجه الخصوص إلى درجة عالية من الصعوبة ، بحيث يصعب على العقل العادى للإنسان استيعابها أو تصديقها . ولكن سأحاول تحقيق معادلة صعبه هى التبسيط مع عدم الإخلال على النحو التالي:.‏‏
 
‎‎فى الحقيقة إن الجسيمات الأولية تنقسم إلى نوعين أثنين ، أحدهما نستطيع أن نطلق عليه جسيمات المادة أو الكتلة بالمعنى الدارج، وليس بالمعنى الفلسفى ، حيث إن كلا النوعين جسيمات مادية لاشك فى ذلك، ولكلا النوعين من الجسيمات صفات مختلفة من السرعة والكتلة وغيرها من الصفات.‏‏
 ‎‎وأن لكلا منها وظيفة تختلف عن الأخرى ، فالأولى تشكل الكتل المختلفة فى الكون ، والثانية الطاقات المختلفة التى تسبب كل ما يحدث فى هذا الكون .. فكيف يحدث هذا ؟ كل جسيم من جسيمات الكتلة من النوع الأول لابد وان يوجد مغموراً كقطعة إسفنج فى الماء بالجسيمات من النوع الثانى ، وهى تشغل حيزاً من المكان داخل وحول الجسيم ، ليكون بذلك مجال تأثير هذا الجسيم على الجسيمات أو الأجسام الأخرى التى تقع داخل هذا الحيز ، فقطعة المغناطيس مثلاً يحيطها مجال غير مرئى لك مكون من هذه الجسيمات ، وهو الذى يسبب جذب المغناطيس قطع الحديد التى تقع داخل هذا المجال.‏‏
‎‎وفى نفس الوقت فأن هذه الكميات متساوية فى قيمتها مع مستوى الطاقة الموجود به الجسيم من النوع الأول ، والذى لا يكف للحظة عن امتصاص أو قذف هذه الكمات وتبادلها مع الجسيمات الأخرى على الحركة ،ليحافظ على مستوى طاقته أو ليتحرك من مستوى طاقة إلى آخر أو ليتحول إلى جسيم آخر فكل الجسيمات والأجسام لابد وأن تتواجد فى مستويات معينة من الطاقة .‏‏
‎‎أى أن الطبيعة الموجية للجسيم الأولى ناتجة عن حركته ، وهى لا تنفى طبيعته الجسمية ، كما أن الموجة لا يمكن أن تتواجد إلا بسبب هذه الحركة ذاتها ، ويلاحظ إن هذا ينطبق أيضا على الأجسام والجزيئات والذرات التى تكونها فى النهاية هذه الجسيمات أى إننا باستخدام ازدواجية (الجسيم/ الموجه) يمكن توصيف كل شىء فى الكون بما فى ذلك الضوء والجاذبية والكهربية والمغناطيسية.‏‏
‎‎فمعرفتنا بهذه الجسيمات وطبيعتها تفسر كل الظواهر من حولنا ، والحقيقة إن هذه الجسيمات لا تشكل أى جوهر ما بدء منه الوجود ، وبالتالى فهى لا تتصف لا بالأزلية ولا بالأبد يه ، وإنها يمكن أن تنقسم إلى جسيمات أبسط فطبيعة هذه الجسيمات هى التغير والتحول والتحرك والتركب والتحلل فيما لانهاية له من أشكال تختلف فى خواصها وهكذا فنحن نعرف إن الجسيمات التى كان يظن إنها أولية منذ عشرين سنه مضت هى فى الحقيقة تتألف من جسيمات أصغر . أيمكن أن نكتشف - لو ذهبنا إلى الطاقات الأعلى أن هذه الجسيمات هى بدورها تتألف أيضا من جسيمات أصغر ؟ من المؤكد إن هذا الأمر فى الإمكان ، إذن فالحقيقة إن ما حطمته الفيزياء المعاصرة هى فكرة الجوهر الأولى والثابت والنهائى والمطلق والذى لا ينقسم ولا يتحول والذى يتكون من تراكمه أو تجميعه العالم من حولنا .. فالحقيقة هى أن الوجود بكل مظاهره ما هو إلا عمليات لا نهائية تجرى بين كائنات مادية لانهائية.‏‏
‎‎فالنيوترونات والبروتونات كجسيمات أولية معقدة ، ما هى إلا مظاهر لعمليه تبادل بين الجلونات ، وهى نوع من أنواع كمات الطاقة ، بين كواركات معينة، وهى جسيمات أبسط تتركب منها النيوترونات والبروتونات، ولو توقفت عملية التبادل هذه ، لأنتهى وجود هذه الكائنات المادية ، أى انتهت هذه المظاهر التى تميزها مخلفة وراءها مظاهر أخرى لعمليات أخرى بين كائنات مادية أخرى وهكذا.فكل ما فى الكون هو جزء من لعبة تنس أو مكون من أطراف تلعب التنس،فالأشياء توجد بتبادل مكوناتها لكمات الطاقة كما يتبادل اللاعبون الكرة مكونين عملية واحدة هى المباراة التى تنتهى بمجرد إقلاعهم عن تبادل الكرة. ‏‏
 ‎‎فكل ظاهرة من ظواهر العالم نستطيع رصدها هى فى حقيقتها مجرد عملية محدودة فى المكان مهما بلغت ضخامة الحيز الذى تشغله أو مهما بلغت ضئالته .. أما الجوهر الحقيقى والوحيد الذى يميز كل الكائنات المادية ويوحدها أو بمعنى أقرب للدقة العلمية ما يميز تلك العمليات فهو قدرتنا على الإحساس بمظاهرها المختلفة ، نتيجة تأثيرها على حواسنا، وذلك كونها عمليات واقعية بين كائنات مادية مستقلة عن وعينا بها أو أفكارنا حولها ، ففكرة الجوهر القديمة فكرة غير علمية ولا واقعية ، فنحن لا يمكن لنا رصد هذا الجوهر من خلال التجربة وبمعنى آخر أن نحدده فى شىء ما يكون هو اللبنة الأولى الثابتة والمطلقة التى كونت العالم.‏‏
‎‎معنى ذلك أن هذا المفهوم الشكلى للجوهر يحل محله مفهوم علمى آخر ، يحدد طبيعته فيما يميز كل الكائنات المادية اللانهائية بلا استثناء .. فجوهر كل كائن مادى يفصح عن نفسه من خلال مظاهره ، والتى نعرفها من خلال حواسنا وامتدادها من أجهزة علمية ، فنحن نتعرف على حقيقة الجسيم الأولى من خلال خواصه ، التى هى مظاهره المختلفة. فنحن فى الحقيقة لا يمكن أن نلاحظ سوى مظاهر تتحرك وتتغير مع الزمن ، مهما طال زمن استقرارها النسبى ، فما هى إلا مظاهر لعمليات مادية لانهائية ومتوالية - بلا بداية أو نهاية- تتواجد من خلالها الأشياء وتتلاشى بلا انقطاع ومن هنا ففكرة الجوهر الأساس ، والعنصر الأولى للطبيعة ، تصبح وهما لا يجوز التعويل عليه ، وإن كان علينا أن نقرر بأن الطبيعة من حولنا تتطور من عناصر أبسط إلى عناصر أعقد.‏‏
 ‎‎قد توصل علم الفيزياء على هذا الأساس إلى استنتاج عجيب ولا مفر منه ، هو أن تركيب الجسيمات الدقيقة هو انعكاس لجميع تبادلات الفعل بين الجسيمات .. ويتبين من ذلك أن جوهر الجسيم الأولى متحرك جداً وسهل التغير إلا أن هذا الاستنتاج لا يبدو لنا غريبا إذا ما عرفنا بأن هذه الجسيمات لا تتواجد بدون تبادل الفعل .. ولا يتم تبادل الفعل بواسطة تأثير خارجى ما .. بل هو جزء متمم وطبيعى لتركيب الجسيمات نفسها .. نعم لأن تركيب الجسيم فى أى لحظة إنما يتحدد بصورة فعلية بكل أشكال تبادل الفعل الموجودة فيه ، وبالعكس فأن طبيعة أشكال تبادل الفعل الموجودة فيه تتحدد بتركيب الجسيم ، فهذا هو الترابط بين الكتلة والمجال ، والصفات الحقيقية للجسيمات وتبادلات الفعل فيها ، والعمومية غير القابلة للتجزئة للجسيم الدقيق والكون بأجمعه فالمادة واقعية وعامة ، بمعنى إمكانية إحساسنا بها مهما اختلفت أنماطها ، وأن الطبيعة الواحدة للمادة أو للعالم هى التى تفسر لنا كيف تتحول أشكالها المختلفة من شكل لآخر ، أو العكس ،" وكيف أن كمات الطاقة أو المجال أو جسيمات حمل القوى تتصف بصفات جسيمات المادة من وزن وأبعاد وكيف أن جسيمات المادة تتصف بصفات كمات الطاقة ، وكيف أن الاثنين لا يمكن أن ينفصلا عن بعضهما البعض ، أو أن يوجد أى منهما بشكل منفرد بعيد عن الآخر .. وهل يمكن قياس أبعاد الإلكترون العارى ، الخالى من السحب الفوتونيه والإلكترونية - البوزيترونيه بدقة ؟ كلا فهذا شىء مستحيل . إذ لا يمكن العثور فى الطبيعة أبداً على الإلكترون "العارى" أى المتحرر من تبادل الفعل ولا يمكن وجوده فى أية ظروف . إن الجسيم نفسه وتبادل فعله يكونان وحدة لا تنفصم11.‏‏
  ‎‎فالطبيعة المتعددة الأوجه للمادة تتجلى عندما نعرف إلى أى مدى تتوقف جميع خواص المادة ، ومظاهرها المختلفة على بعضها البعض فى وحدة لا تنفصم ، تأكيداً على جوهرها المادى الواحد .. ذلك الجوهر الذى تنبع منه كل هذه المظاهر من كتلية وموجية وطاقية ومجالية .‏‏
*********
‎‎ر- كما يتحدث ويكتب مبسطو العلم وبعض فلاسفته عن لا سببية كل ما يحدث فى الكون وفقا لمبدأ عدم اليقين . ‏‏
‎‎وقد أشرت فيما سبق إلى مبدأ عدم اليقين وهو يعرف أيضا بعدم التعين أو عدم التحديد ، وهو أكثر إبداعات العلم المعاصر إثارة للجدل ، والخلاف الفلسفى ، حيث أصبح ركيزة أساسية ، يستنتج منها البعض تعسفا إنكار السببية فى الكون ، بناء على تعميم هذا المبدأ الأساسى فى ميكانيكا الكم ، وهى النظرية المعتمدة حتى الآن فى فهم وتفسير الجسيمات الأولية ، على كافة أشكال الوجود .. وهم من خلال هذا التعميم المتهافت يحاولون ضرب الأسس الفلسفية القائمة على العلم ، والتى تعتبر أن العلم هو السبيل الوحيد لفهم حقيقى للوقع ولما كانت السببية هى أساس العلم فان ضربها ضرب للعلم ومنهجه - يكتب هانز رشينباخ (فعلى الرغم من إننا نعجز فى كثير من الأحيان عن الاهتداء إلى سبب لحادث ملاحظ . فأننا لا نفترض إنه حدث بلا سبب ، وإنما نقتنع بأننا سنهتدى إلى السبب لو أننا مضينا فى البحث عنه - هذا الاقتناع يتحكم فى منهج البحث العلمى ، وهو القوة الدافعة لكل تجربة علمية ، إذا أننا لو لم نكن نؤمن بالعلية ، لما كان هناك علم .)12‏‏
 ‎‎وهم يستندون إليه فى خلط مغرض بين فهم صحيح للسببية يضع بجانب الحتمية الاحتمال ، وبين فهم غير صحيح يضعهما كمتناقضين لا يجتمعان ، فإما حتمية ميكانيكية أو فوضوية بلا معنى. (وفى إطار الحديث عن انهيار السببية والاطراد تلوح مشكلة شهيرة فى فلسفة العلم ، جديرة بالذكر ، وهى مشكلة انهيار الحتمية . والحتمية هى المذهب الذى يرى أن كل ما يقع فى الكون من أحداث نتيجة حتمية للأحداث التى سبقتها ومقدمة ضرورية للأحداث التى ستلحقها ، ولا استثناء . فهذا الكون نظام مغلق صارم يؤذن حاضره بمستقبله . وتخضع سائر أجزائه لقوانين صارمة يكتشفها العلم ، إنها تتحدث عن كون مثالى لممارسة التعميمات الاستقرائية.)13‏‏
 ‎‎وهكذا فإننا والحال هذه لابد وأن نتحفظ فى الأخذ بهذا المبدأ المكتشف فى الجسيمات الأولية ، حيث لا يعنى كونه مبدأ هاما اليوم ، إنه لا يمكن التخلى عنه أبداً ، فهناك الكثيرين من علماء اليوم مقتنعين إن هذه الصورة المشوهة لميكانيكا الكم الحديث مشكوك فيها ، وإن هناك إمكانية دائما لإصلاحها ، من خلال تحسين قدراتنا فى البحث والقياس ، على سبيل المثال فأن أينشتين مثلاً كان يرفض بحدة هذا المبدأ بما يعنيه من إمكانية قيام العالم على اللاسببية14).‏‏
 ‎‎والموضوع هنا يطرح بعداً حقيقيا ، هو الخلاف بين العلم وفلسفته ، حيث تعمم الفلسفة مالا يجوز تعميمه (والواقع إن الفلسفة ظلت على الدوام تتعرض لخطر الخلط بين المنطق والشعر ، وبين التفسير العقلى والخيال ، وبين العمومية والتشبيه)15‏‏
‎‎والحقيقة إن أساس مبدأ عدم اليقين محدود المجال للغاية فى ميكانيكا الكم ، إلا إنه مضخم فيه للغاية لأسباب فكريه رجعيه فرفض السببية فى الطبيعة ،يؤدى بالضرورة لرفضها فى المجتمع ، وبالتالى تصبح إمكانية فهم العالم من أجل تغييره مستحيلة ، وبالتالى يصبح القضاء على الظلم الاجتماعى والقهر والاستغلال أمل مستحيل التحقق ، فحيث لن يمكننا معرفة أسباب كل هذه المظاهر الاجتماعية التى تثير الاستياء ، فسيركن المظلومون والمقهورون ، لليأس أو الهروب لعالم الأوهام الغيبية ، ولهذا فأن فلاسفة البورجوازية يستندون على هذا المبدأ فى الترويج لأفكار اللاسببية واللاحتمية سواء فى الطبيعة أو فى المجتمع ، ليضمنوا سلبية القوى الثورية فى المجتمع الساعية لتغييره ، وحتى يحافظون على استمرارية النظام الاجتماعى المعبر عن مصالح الطبقة التى يعبرون عنها. أما عن مضمون هذا المبدأ ، فهو إنه لا يمكن قط أن يتأكد المرء بالضبط من كل من موقع الجسيم فائق الصغر فائق السرعة فى نفس الوقت بنفس القدر من الدقة ، فكلما عرف بعد منها بدقة أكبر ، قلت دقة ما يستطيع المرء أن يعرفه عن الأخرى ، والسبب الذاتى وراء إقرار هذا المبدأ ، هو إننا إذا أردنا التنبؤ بموضع جسيم وسرعته فى المستقبل ، يكون علينا التمكن من قياس موضعه وسرعته الحاليين بدقة ، والطريقة المتاحة لدينا عند القياس هى تسليط (جسيم/موجه) من الضوء ذات طول معين يتناسب طولها مع حجم الجسيم المراد قياسه ولما كان الضوء هو كم من الطاقة ، إذا سلط على جسيم سيمتصه الجسيم ، ويكتسب بالتالى كم من الطاقة ، وبسبب ذلك سيغير إما سرعته أو موضعه ..ومن ثم فإننا لن نتمكن من معرفة أحدهما بدقة.‏‏
‎‎فالعيب إذن ليس فى طبيعة الجسيم ، ولكن فى الطريقة المتاحة لدينا حتى الآن لقياس أبعاده ، وعلى ما يبدو فإن مبدأ عدم اليقين سيظل يلقى بظلاله الكثيفة على الفيزياء المعاصرة وفلسفة العلم ، مسببا أزمتهما ، إلا إذا اكتشفنا طريقة أخرى للقياس تقلل من عدم الدقة ، إلا إننا حتى نصل إلى هذه الدقة ،يوالى العلم قياس أبعاد كل جسيم بشكل عام وبكل دقة ، كل بعد على حدة.‏‏
‎‎فهناك إذن عدة احتمالات لاتجاهات حركة (الجسيم /الموجة) بالغ الكبر فى سرعته ،بالغ الصغر فى كتلته ، وحجمه وزمن بقاءه غالبا ، والعابر لمسافات هائلة بالنسبة لحجمه ، وهو ما يصعب تخيله ، ومن هنا يصعب تحديد مسارات حركته إلا فى شكل احتمالات ، وذلك لأسباب ذاتية خاصة بنا ، هى قدرتنا على القياس والرصد ، التى ربما ستزداد دقة من خلال وسائل أدق فى المستقبل.‏‏
 ‎‎وهناك أيضا عدة أسباب موضوعية خاصة بالتعددية فى مظاهر الجسيم الواحد ، المعقدة والمركبة ، والتى يصعب تخيلها على الحس العادى للأمور ، وتلك الطبيعة تتدخل بلا شك ، وتؤثر فى نتائج رصدنا للجسيم فى حالته الفردية بعكس الأجسام التى تؤثر طبيعتها المتعددة الجوانب فى نتائج قياسنا لأبعادها فى حدود سرعات تحركها البطيئة ، فأى جسم لن تؤثر فى قياس كتلته كميات الطاقة الممتصة منه نتيجة حركته أو المكتسبة لديه نتيجة تأثره بمجال جسم آخر ، وهنا يكفى فقط فهم قوانين نيوتن ، أما الأجسام المتحركة بسرعات كبيرة للغاية فلا يمكن فهمها وقياس أبعادها إلا فى ضوء قوانين النسبية ، والتى أكدت نسبية معظم مفاهيمنا عن الكتلة والسرعة والزمان والمكان والأبعاد . وسائر أبعاد الجسم الأخرى ، والتى فيها تترابط كل هذه المفاهيم بعلاقات متبادلة ، حيث مع ازدياد السرعة تزداد الكتلة .‏‏
‎‎يتدخل كذلك الطابع الموجى الملحوظ بشده فى قياس أبعاد الجسيمات الأولية بعكس الأجسام التى يكون طابعها الموجى غير ملحوظ عند قياس أبعادها ،كما تتدخل التحولات السريعة للغاية للجسيمات من نوع لآخر ، والتحركات السريعة جداً من مكان لآخر ، بعكس الثبات النسبى للأجسام سواء فى التحول أو الحركة ، وأخيراً فأن طابع حركة هذه الجسيمات صعب التخيل فى معظم الأحوال على الذهن العادى ، الذى أعتاد على ملاحظة الأجسام البطيئة جداً والمحدودة الحجم ، وهو ما تعود على فهمه عبر خبراته الطويلة.‏‏
‎‎كل هذا يجعل دراسة اتجاه أى جسيم وسرعته ، يأخذ عدة إجابات محتملة ، ولكى فى نفس الوقت يمكن معرفتها كاملة من خلال العلم الدقيق والمؤكد بالقوانين التى تحكم تحولات الجسيم المختلفة عند التأثيرات المختلفة عليه .. وفى نفس الوقت يجب التنويه عن أن قوانين حركة مجموعة من الجسيمات المتشابهة فى حزمة واحدة ، لا تعرف أى احتمالية على الإطلاق بل تعرف الحتمية الصارمة ، فكل الموجات الكهرومغناطيسية، ومنها الضوء المرئى والتيارات والمجالات الكهربية برغم من تكونها من حركة سيول من هذه الجسيمات ذات الاحتمالات المتعددة فى اتجاهاتها وسرعتها ، وذلك فى حالتها الفردية الحرة ، فأننا نلاحظ إنها فى حالة تكوينها الجماعى لهذه الموجات والمجالات والتيارات تخضع لحتمية صارمة ، واتجاهات واضحة نعرف أسبابها ، وبالتالى التحكم فيها والاستفادة منها فى منتهى الدقة طالما كانت فى حزمات مشتركة .. فمن المعروف إن منجزات العلم والتكنولوجيا خلال المائة عام السابقة ، تقوم كلها على أساس التحكم فيها والاستفادة منها.‏‏
 ‎‎ولاشك إننا توصلنا إلى القوانين التى تحكم هذه الجسيمات حتى فى حالتها الفردية ، فلو عرفنا زاوية اصطدام الإلكترون وضديده وسرعة حركتهما ، نستطيع أن نحدد سلفا اتجاه حركه الفوتونين الناشئين عن هذا الاصطدام ، فلو لم تكن هناك سببية تحكم هذه الجسيمات لما استطعنا هذا التحديد ، ولأنتجا فى كل مرة أنواعا أخرى من الجسيمات أو يتلاشيا أو يظلا على حالهما ، وهذا ما لا يحدث مطلقا.‏‏
 ‎‎إن أحد الأسباب الموضوعية لمبدأ عدم اليقين عند دراسة الجسيمات منفردة ، هو طابعها الموجى .. فنحن نعلم من خلال ظاهرة التداخل بين الموجات ، وهى ظاهرة تنشأ عن اندماج موجتين أو مجموعتين من الموجات المتساوية الطول .. فيكون التداخل بناءاً إذا التقت قمة إحدى الموجتين مع قمة موجة أخرى فيقل تأثيرها ، أى أن الموجات تضاف إلى بعضها البعض ، ويكون التداخل هداما بالتقاء قمة أحد الموجتين مع قاع موجة أخرى ، فيضعف تأثيرها أو ينعدم ، أى أن الموجتين تلاشيا بعضهم البعض .. وبالطبع فأننا إذا كنا ندرس اتجاهات الجسيم وموضعه من خلال طبيعته الموجية ، فأن التقاء الموجة التى تحدثها حركته بموجة جسيم آخر مادية لها فى الطول التقاء بناءاً فإن ذلك سيضاعف من شدتها ، وعند التقاءهما التقاء هداما فأن ذلك سيضعف تأثيرهما أو يعدمه ، إذ يلاشى الجسيمات بعضها البعض ، وبالتالى سيكون لدينا احتمالين على الأقل لحركة هذا الجسيم ، بفرض وجوده هو والجسيم الآخر فحسب.‏‏
‎‎وظاهرة التداخل بين الجسيمات كانت حاسمة فى فهمنا لتركيب الذرات ، وهى الوحدات الأساسية للكيمياء والبيولوجيا وهى وحدات البناء التى صنعنا منها ونحن وكل شىء حولنا‏‏
 ‎‎وبتصور الإلكترون على إنه موجة يعتمد طولها على سرعتها ، فقد تم تحديد المدارات المتاحة فى الذرة لدورات الإلكترونات حول النواة،(وبهذه الأفكار فى شكل رياض متين. أمكن بصوره مباشرة نسبيا حساب المدارات المتاحة فى الذرات الأكثر تعقداً . وحتى فى الجزيئات التى تتكون منها الذرات التى تمسكها معا الإلكترونات التى تدور فى مدارات حول أكثر من نواة واحدة . ولما كانت بنية الجزيئات وتفاعلاتها إحداها مع الأخرى هى فى أساس كل الكيمياء والبيولوجيا. فإن ميكانيكا الكم تتيح لنا من حيث المبدأ أن نتنبأ تقريبا بكل شىء نراه حولنا . فى الحدود التى يفرضها مبدأ عدم اليقين‏‏
‎‎أما عن هذه الحدود فيكتب كارناب فى الأسس الفلسفية للفيزياء.‏‏
(‎‎وفى فيزياء العصر الحالى ، وعلى الرغم من أن لميكانيكا الكم بنية سببية . إلا أن معظم الفيزيائين وفلاسفة العلم . يرفضون وصفها بالحتمية ذلك لأنها كما يقولون . أضعف من بنية الفيزياء الكلاسيكية لاشتمالها على قوانين أساسية فى جوهرها احتمالية)16‏‏
( ‎‎ويواصل ولحسن الحظ فإن مدى اللاحتمية فى نظرية الكم ضئيل للغاية ، وإذا كان أكبر من ذلك لكان من المحتمل أن تنفجر منضدة على حين غرة أو أن يتحرك الحجر تلقائيا عند سقوطه ، ويصعد أفقيا سابحا فى الفضاء)17‏‏
‎‎فمبدأ عدم اليقين إذن لا يعنى الطابع اللامسبب واللامحتم لعالمنا ، كما يبشر بعض الفلاسفة والعلماء ، فبرغم من أن العالم يموج بما لانهاية له من هذه الجسيمات التى تملئه بشكل كامل ، وينتظم الكثير منها فى ذرات تكون أشكال أرقى فى هذا الوجود وهى خاضعة فى ذلك لقوانين صارمة . برغم من أنها متعددة الجوانب والمظاهر ، وتتنوع احتمالات اتجاهاتها كل على حدة.. إلا أن هذا لا ينفى توصل العلم الحديث إلى الكثير مما يتعلق بهذه الجسيمات من حقائق وقوانين صارمة هى أيضا بدورها حتمية ، وأن من نتيجة معرفتنا المؤكدة بمعظم حقائق هذا العالم ، الاستفادة العملية فى شتى فروع العلوم الطبيعية والتكنولوجية .. ففى الإلكترونيات والآلات الحاسبة والمفكرة ، والليزر والميزر ، وفى مجالات العلاج والدواء والكيمياء الصناعية والزراعة والهندسة الوراثية ودراسة المخ والأعصاب ، والاتصالات والتحكم من بعد ومن قرب ، والجيولوجيا ، وشتى وسائل البحث العلمى .. الخ الخ، فما كان يمكن أن تنشا هذه العلوم ، أو أن تتطور تطبيقاتها العملية بدون المعرفة الدقيقة للجسيمات الأولية وخصائصها وقوانينها ، وما كان يمكننا استخدام هذه الجسيمات ، ما لم تكن مسببة الفعل والحركة تحكمها ضرورة لا فكاك منها ، وما كان يمكن لنا تفسير العدد الهائل من الظواهر المحيطة بنا ، والتى نلاحظها مباشرة بحواسنا المجردة ، كالألوان والضوء والمغناطيسية ، ما لم تكن هذه الجسيمات التى تسبب هذه الظواهر مسببة الفعل ، وبلا شك إن استمرار زيادة هذه المعرفة ، سيمكننا من معرفة الظواهر المحيطة بنا الأكثر غموضا.‏‏
 ‎‎ففى الحقيقة إذا كانت اللاسببية هى قاعدة هذا العالم لانهار عالمنا كله على الفور ، وفى أى لحظة ، بل و فى الحقيقة ما كان له أن يكون ، وكيف له أن يكون مادامت عناصر بناءه الأساسية ، تسير وفق هواها لا وفق الضرورة التى تحكمها ، ومادام الأمر كذلك ، فما كان للإلكترونات أن ترتبط بأنوية الذرات ، ومعنى هذا ببساطة عدم حتمية ارتباط ذرات العناصر لتكون الجزيئات ، ومعناه عدم حتمية أى تفاعل كيمائى .. تلك التفاعلات التى تتم بتواتر حتمى يعبر عنه بمعادلات معروفة، ولهذه التفاعلات أسبابها المعروفة ، والتى تفرضها الضرورة المفهومة.. فلو كانت المسألة كما يتصورون فلابد إننا سنلاحظ انهيارات مفاجئة غير مفهومة تحدث للأجسام من حولنا ، لأن الأشباح الموجودة داخل الذرات والكامنة وراء وجودها وتكونها ، قد أغوت الإلكترونات ، أن تنهى ارتباطاتها بالذرات الأخرى .. ولأن تنافر الشحنات المتماثلة وتجاذب الشحنات المختلفة ليس سببا تفرضه الضرورة ، فأن على الإلكترونات سالبة الشحنة أن تتجاذب بعدما طول خصام ، وأن تتخلص من ارتباطاتها بالنواة موجبة الشحنة بعدما طول تبعية ، وما إن يحدث هذا حتى تتفكك الذرات والجزيئات التى تكون عالمنا بأسره ... وبالطبع إن هذا وارد إذا كانت هذه الجسيمات لا تخضع للسببية، وإنها جسيمات عاقلة ، بالغة الرشد ، حرة التصرف ، غير ملتزمة بأسباب ولا محكومة بضرورة ، ولا يعنيها قانون، وبالتالى فأننا سنحتاج لوسائل أخرى للتحكم فيها لاسترضائها ، حتى يبقى الوجود ونحن منه، مثل الطلاسم السحرية أو ذبح القرابين أو غير ذلك من وسائل .. إلا إنه لسوء حظ السحرة والدجالين فأن هذه الجسيمات مسببة الفعل تحكمها الضرورة ، وتحترم كل القوانين بما فيها مبدأ عدم اليقين نفسه .. وإن كل اتجاهاتها المحتملة نستطيع معرفتها وإننا نتحكم فى هذه الجسيمات بوسائل علمية مادية غاية فى الدقة تستخدم تأثيرات مادية مسببة وحتمية.. نخلص من هذا إن الجسيمات الأولية خاضعة لسببية الفعل المعقدة ، إلا إنها تتجلى كحالة خاصة تفرضها الطبيعة الخاصة لهذه الجسيمات ، والتى سبق الإشارة إليها ، وإن عجزنا حتى الآن على صياغة نظرية عملية دقيقة مرضى عنها ،لا يعنى سوى أننا مازلنا نطرق أبوابها ، ونحاول فهمها بدقه أكثر إلا إنها موجودة تحكمها قوانينها الخاصة التى لا نعرف إلا بعضها، وتتحكم فيها الضرورة ، بصرف النظر عن معرفتنا بها ، ولاشك إننا لا نعلمها كاملة دقيقة ، بالرغم من إننا ما كنا بقادرين على الاستفادة منها فى الحياة العملية ، إلا إذا كنا قد توصلنا لقدر كاف منها ، وإلا إذا كانت خاضعة لسببية صارمة مفهومة لدينا شأنها شأن العالم الذى تكونه.‏‏
  ‎‎فهناك فرق دائما بين القدرة على التنبؤ الواضح عن سلوك موضوع ما، وبين مبدأ السببية والذى يعنى أن كل ما يحدث فى الطبيعة من عمليات وأحداث وظواهر ، وما يتواجد فيها من أشياء وكائنات ، له أسباب فى طبيعة المادة نفسها .. فى طبيعة الأشياء نفسها التى تحدث بينها عمليات متبادلة لتكون أشياء أخرى وهكذا .. فاكتساب الإلكترون لكم من الطاقة يعنى أن الإلكترون أصبح له كمية من الطاقة لا تتناسب مع مستوى الطاقة الموجود بها، مما يجعله يتحرك لمستوى طاقة آخر مناسب لكمية طاقته الجديدة ، أما إذا كان من الإلكترونات ذات مستوى الطاقة الأخير فى الذرة ، فإن اكتسابه لكم الطاقة يحوله لإلكترون حرا، فيشارك فى تفاعل ما مع إلكترونات ذرة أخرى أو أى شىء آخر.فمضمون مبدأ السببية هو أن السبب أساس كل ظاهرة ، وإنه كامن فى طبيعتها ، وأن هناك اعتماد متبادل بين السبب والنتيجة ، إلا أن علينا أن نفهم مبدأ السببية لا على أن هناك سبب أول أدى لمجموعة من الأسباب أدت بدورها لمجموعه أخرى أوسع من الأسباب وهكذا ، فهذا فهم شكلى للسببية ذو طابع تعسفى ، وهو مرتبط بمفهوم آخر شكلى هو مفهوم الجوهر الأول السابق ذكره ، أما الفهم الصحيح فهو أن المادة تتجلى دائما فيما لا نهاية له من كائنات مادية متنوعة تكمن فى طبيعتها ضرورات مختلفة وخصائص متنوعة ، وتؤثر فى بعضها البعض مسببة ما لانهاية له من نتائج تحكمها فى النهاية الضرورة الكامنة فى الأشياء ، وهى بذلك تؤثر فى غيرها وتتأثر بغيرها فتكون سببا ونتيجة فى نفس الوقت ، وهذا المفهوم يرتبط بالمفهوم الصحيح عن جوهر الأشياء ، باعتباره عملية مادية بين أشياء أخرى، ولا تؤثر فى سلوك الكائن المادى الأسباب الخارجية فقط ، وإنما تؤثر فيه بدرجة أكثر أهمية الأسباب الداخلية ، فطبيعة البروتون أوالنيوترون مثلاً تتحدد بعدد وأنواع الكواركات ، وكيفية ترتيبها داخل كل منهم ، كما أن طبيعة النواة من حيث كونها مستقرة أم مشعة تتحدد بالفرق بين عدد بروتوناتها ونيوتروناتها .. وما يجب أن نعرفه أيضا هو أن هناك أسبابا متعدده تشكل أساس نفس السبب فوراء كل سبب تأثيرات مشتركة لأسباب متعددة ، وأن النتيجة نفسها لن تحدث إلا بتأثير عدة أسباب متضافرة ،بعضها أساس وكافى وبعضها ثانوى ومكمل .. فطبيعة الجسيم الأولى الفيزيقية ، لا تتوقف فحسب على سبب واحد ، وإنما تتوقف على مجموعة خواص داخلية كاللف والكتلة والشحنة ، وأيضا تتوقف على علاقته بالجسيمات الأخرى ، فالجسيم الحر غير المرتبط ببنية أعقد كالذرة يختلف عن الجسيم المرتبط بتلك البنية .. وإذا كان الفوتون المكتسب سببا فى تحرك الإلكترون بعيداً ، فأن حركة الفوتون هذه فى اتجاه الإلكترون قد يكون لها عده أسباب مختلفة أو مشتركة .. فقد يكون قد أنطلق من إلكترون آخر ، أو من نشاط إشعاعى لنواة عنصر مشع ، وقد يكون ناتج من إشعاع حرارى أو ضوئى أو نووى ما وقد انطلق بلا هدف ، حتى أصطدم بالإلكترون الذى أمتصه فتحرك ، وهناك دائما أسبابا أساسية وأسبابا غير أساسية ، فحركه الإلكترون لا تعتمد فحسب على كم الفوتون المكتسب أو المفقود بل تعتمد كذلك على بعد مستوى طاقة الإلكترون الممتص لهذا الفوتون أو قربه من النواة .. وطاقة الترابط بين الإلكترونات والنواة ، وقدرتها على تقييد حركة الإلكترون بالذرة ، وكل هذه الأسباب غير أساسية فى حين أن السبب الأساسى هو اكتساب أو فقد الإلكترون للفوتون.‏‏
‎‎وإذا كان المغناطيس ينتج أساسا عن طريقة انتظام معين للإلكترونات داخل قطعة المغناطيس فى اتجاه واحد ، وهو السبب الداخلى والأساسى فعلاً لظاهرة المغنطة إلا أن هناك أسبابا خارجية وراء هذه الظاهرة كمرور التيار الكهربى حول قطعة الحديد غير الممغنطة .. فيسبب التيار الكهربى وما يحدثه من مجال كهربى فى عكس اتجاهه ، الانتظام المعين لإلكترونات ذرات قطعه الحديد الذى مر حولها التيار فى اتجاه واحد .. إلا أن هذا الانتظام ينتهى بمجرد انقطاع التيار وهذا هو ما يعرف بالمغناطيس الصناعى .. ونلاحظ أن نفس الشىء يحدث عندما نمغنط قطعة حديد بامرار مغناطيس عليها فى اتجاه واحد عدة مرات ، مما يعدل فى اتجاهات الإلكترونات ، وينظمها فى اتجاه واحد .. إلا أن قطعة الحديد الممغنطة تفقد مغنطتها عند طرقها عدة مرات .. وسبب النشاط الإشعاعى كامن فى طبيعة الجسيمات الأولية ، وتكويناتها المختلفة ، وما يحدث بها من عمليات إلا إنه باعتباره نتيجة يمكن أن يتحول لسبب يكون من نتيجة تأثيره ، نتائج أخرى ، فهذه الإشعاعات المنطلقة طبيعيا أو صناعيا بفعل الإنسان قد تؤثر تأثيرات ضارة أو نافعة على أجسام الحيوانات والنباتات ، فهى تسبب السرطان وتشفى من السرطان.‏‏
‎‎هذا عن السببية أما عن القدرة على التنبؤ بسلوك موضوع ما ، فهو نتيجة معرفتنا بارتباط السبب بالمسبب أو النتيجة فإذا كنا لا نعرف هذه الرابطة فأننا سنعجز عن التنبؤ الدقيق ، أما فى حالة المعرفة الدقيقة للسبب وعلاقاته بالمسبب فأننا سنستطيع التنبؤ الدقيق ، وذلك عندما نعرف بدقة حالة موضوع البحث ، وطبيعة علاقاته بعناصر الطبيعة من حوله، وما تحتويه من كائنات تتأثر وتؤثر فيه ، والأسباب المتعددة والمتنوعة من أساسية وثانوية ، وداخلية وخارجية، ومدى كفايتها ، وهل هى أسباب منشطة أم محبطة ، ضرورية أم غير ضرورية ، ثم أخيراً محصلة هذه الأسباب المراد معرفة نتيجة تأثيرها المشترك ، وكيف تتفاعل مع بعضها لتحدث النتيجة المتوقعة ، وذلك أيضا يتوقف على معرفة حصيلة كل سبب على حدة فى التأثير على الموضوع المراد بحثه ، ولما كانت ميكانيكا الكم نظرية غير مكتملة حتى الآن ، فأنها لا تستطيع إخبارنا بكل حقائق الجسيمات الأولية ، مما يجعلنا عاجزين أحيانا على التنبؤ الدقيق باحتمالات حركة كل جسيم على حدة إلا بصعوبة بالغة ، ولذلك فان السببية تعبر عن نفسها فى عالم الجسيمات الأولية فى شكل احتمال.‏‏
 ‎‎ما أقرب هذا لرميك قطعة النرد ذات الستة وجوه .. إن يدك قد حركتها فى فراغ قبضتك ، فمنحتها قوة دفع معينة ، تعتمد على حالتك العصبية والنفسية والصحية ، وجذبتها الأرض بأقوى مما جذبتها هى ، فسقطت عليها . سقوطها إذن حدث يقينى يمكنا التنبؤ به بكل ثقة ، ما لم تصادف عائق مفاجئ يحول بينها وبين الأرض ، إلا إنك لا يمكن أن تعرف على وجه اليقين على أى الوجوه ستسقط .. إلا إن احتمال سقوطها على أحد الوجوه ، واحد من ست احتمالات يقينية لا أكثر أو أقل .. وذلك بالرغم من أن هناك أسبابا مادية لسقوطها على الأرض ، وأن هناك أسبابا مادية أخرى لسقوطها على أحد وجوهها الستة منها وضعها أثناء القذف ، أى زاوية سقوطها ،وما اكتسبته من كمية حركة ، والمسافة بينهما وبين الأرض ، أو المسافة بين اليد و نقطة السقوط واتجاه الحركة .. صحيح إن سقوطها حتمى ومسبب كسقوطها على أحد الوجوه بالتحديد ، إلا أن حتميته ذات طابع احتمالى .. فأنت لا تستطيع التنبؤ الدقيق إلا فى حالة تقدير محصلة كل الأسباب الكامنة وراء كل الاحتمالات ، وهو ما سيصعب عليك جداً فى حالة رمى قطعة نرد، فما بالك بالجسيمات الأولية. وما بالنا أيضا بالتغيرات الاجتماعية والإنسانية التى تتداخل فى التأثير عليها العديد من الأسباب المتشابكة والمتفاعلة على نحو معقد يزيد من طابعها الاحتمالى.‏‏
(‎‎فحتمية لابلاس كانت منقوصة من وجهين فهى لم تبين لنا كيف ينبغى اختيار القوانين، ولم تحدد الشكل الابتدائى للكون ، ونحن نعرف الآن أن أمال لابلاس فى الحتمية لا يمكن تحقيقها على الأقل بالشروط التى كانت فى ذهنه .. فمبدأ عدم اليقين فى ميكانيكا الكم يدل على أن ثنائيات معينة من الكميات مثل موضوع وسرعة الجسيم لا يمكن التنبؤ بها معا بدقة كاملة ،ولتناقض الموجات مع أفكارنا المسبقة عن المواضع والسرعات وعدم التوافق الناجم هو سبب ما يظهر من عدم إمكان التنبؤ)19‏‏
‎‎إن مشكلة عدم اليقين نابعة من الفهم الشكلى لطبيعة الجسيمات الأولية التى يراد لها أن تقولب فى قوالب معينة اعتدنا عليها، وهو فهم يرفض طابعها المعقد والمتعدد الجوانب بعيداً عن الفهم الصحيح الذى لا يرى هذه الجسيمات إلا فى ترابطها وحركتها وجوانبها المتعددة ، ومن هنا يقبل الحتمية بجوار الاحتمالية، وجسمية الجسيمات بجانب موجاتها، وازدواجيتها الطاقية والكتلية وهكذا .‏‏
  ‎‎هذا يعنى وجود السببية فى الجسيمات الأولية ، ولكنها تفصح عن نفسها فى شكل يختلف عن شكلها فى عالم الحركة الميكانيكية بين الأجسام ، وعنها فى عمليات الحياة ، وعنها فى العلاقات الاجتماعية وعنها فى عملية المعرفة ، وهكذا فان فرض لابلاس الشهير عن العالم المسبب ذو السلوك الحتمى ، كأنه آله ميكانيكية ضخمة نعرف نتائج دوران عجلاتها وتروسها وسيورها مسبقا ، صحيح فى جوهر تعبيره عن عمومية السببية وما تسببه من حتمية ، إلا إنه قاصر فى تحديد شكل هذا الحتم فى شكله الميكانيكى الخالى من الاحتمالية والعشوائية ، والذى لا يأخذ فى اعتباره تعددية الأسباب ، وما تعمل فيه من ظروف منشطة أو محبطة ، تحيط بكل كائن مادى ، وما تؤدى إليه العلاقة بين الأسباب المختلفة والظروف المحيطة بتلك الأسباب من احتمالية ، وبالتالى فأن مبدأ عدم اليقين هو إعلان لفشل فرض لابلاس الميكانيكى وكل المنطق الشكلى فى التعبير عن الأشكال المختلفة للسببية فى أنواع الحركة غير الميكانيكية .. ففهم لابلاس للسببية والحتمية فهم رجعى ينفى دور الإرادة الإنسانية فى تغيير الواقع ، وإمكانية التأثير عليه، أى ينفى دور الإرادة الثورية فى إحداث التغيير الاجتماعى بعكس الفهم الصحيح للأمور الذى مع تسليمه بالضرورة، إلا أنه لا ينفى دور الإرادة بل يؤكدها هل من الممكن أن يكون عالم الجسيمات الأولية غير محكوم بالسببية ، وما تؤدى إليه من حتمية ، وهو المكون لباقى كائنات الوجود المادية من الجزئيات حتى الأجرام.. فلو لم تكن الوحدة البنائية لهذا العالم ، وهى الجسيمات الأولية مسببة الفعل ، فكيف كونت العالم المسبب ، والذى عرفنا بقيامه على السببية ، لا لأنها فكرة منطقية مسبقة فى عقولنا ، وإنما كنتيجة تراكم ما لانهاية له من خبرات عبر التاريخ البشرى كله وفى شتى الظروف ، حيث تتواتر الأسباب ، تتلوها النتائج ، ومن خلال العلم نعرف الضرورة ما بين السبب والنتيجة ، فلو لم تكن هناك علاقة ضرورية بين السبب والنتيجة لما كان هذا العالم إلا أحداث فوضوية لا نظام بينها ، وما كنا استطعنا الوصول لحقائقه ولا استنتاج علاقة السببية بين كائناته.‏‏
 ‎‎إن السببية دائما هى إجابة العلم الصحيحة على الأسئلة المحيرة للإنسان حول تفسير ما حوله من ظواهر ، وهو عبر كل تاريخ العلم كان يكتشف أن سبب ما حوله من ظواهر كامن فى طبيعة مادية الظواهر إلا إنه أمام الظواهر اللامتناهية أمامه، والتى يتسع إحساسه بها كلما خطى خطوات متقدمة نحو المعرفة ، نجده يعرف لبعضها تفسيراً ماديا مقبولاً أما بعضها فيظل مجهولاً بالنسبة له إلى أن يكشف العلم عن إجابة ، تفسر هذا البعض الغامض ، وما أن يحدث هذا حتى يتفتح العالم أمامنا لظواهر جديدة غامضة تنتظر التفسير ، وسيظل هذا حال الإنسان دائما فى محاولته معرفة ما حوله من كائنات مادية لا نهائية ، وهى فى حركتها وتحولاتها وارتباطاتها بغيرها من الكائنات المادية ، إلا أن هناك دائما عقليتين ، أحدهما تبحث عن السبب المادى الكامن فى طبيعة الظاهرة، فإذا علمته من خلال المنهج العلمى فى البحث كان لديها هو سبب الظاهرة ، و لاشىء سواه ، وإذا لم تستطع الإجابة والتفسير نظراً لقصور قدراتها فى البحث ، فأنها تمتنع عن الإجابة ، وتؤجل التفسير لاقتناعها بأن السبب المجهول كامن فى طبيعة جوهر الظاهرة ما لم يسفر عن حقيقته لنا ،... وهناك العقلية غير العملية التى حتى مع معرفتها بالأسباب الكامنة وراء الظواهر التى حولها ، إلا إنها ترجع كل هذه الأسباب لشىء خارج المادة والطبيعة والواقع ، فهى تتعسف وتفترض إن المادة عاجزة عن الحركة بمفردها ، ولذلك فلابد وأن هناك من يحركها من خارجها ، وتتعسف وتفترض أن هناك سبب أولى أقوى لكل الظواهر سبب هذه الأسباب ، وتتعسف وتفترض أن للطبيعة العمياء التى تحكمها الضرورة عقلا ما وراءها ، كل هذا حتى فى حالة معرفتها بالمحركات والأسباب والضرورات... أما لو لم تكن تعرف الأسباب المادية ، وما أكثر ما سيواجه الإنسان من مجهولات تحتاج لبحث علمى لمعرفتها ، فأنها و بشكل متعسف وفورى ترجع كل المجهولات والمدهشات للسبب الأول الخارج عن الطبيعة ، وبرغم كل التاريخ العلمى الطويل ، وبكل ما حفل به من صدمات هائلة لتلك العقلية ، منذ أن بدأ بحث الإنسان عن الحقيقة من خلال العلم ومنهجه ، فأبدع اكتشافاته واختراعاته ، ولا يمكن أن أستفيض فى ذكر كم الظواهر اللانهائية التى كانت غامضة ، والتى أرجعتها هذه العقلية لما وراء الطبيعة من أسباب ومحركات وضرورات ، ولا يمكن أن أحكى عن الكم الهائل بعمر التاريخ البشرى كله من التخيلات والأساطير والخرافات التى لا توجد إلا فى هذه العقلية ، وكيف كان حين يكشف العلم أسرارها تضطر هذه العقلية إما للتخلى عن هذه الأفكار أو الجمع بينها وبين الأسباب العلمية ، أو إرجاع الأسباب التى يكشف عنها العلم لتلك الأوهام ، وفى نفس الوقت ، تتكشف ظواهر جديدة مجهولة للإنسان فتعود هذه العقلية لسابق عهدها ، استسهالا وتعسفا لإرجاعها إلى ما وراء الطبيعة ، وهى عبر كل التجربة الإنسانية العريقة لم ترتدع ، ولم تتعلم.‏‏
‎‎وإننا إذا كنا نقر من خلال ملاحظتنا الموضوعية والمحايدة المبنية على أساس الممارسة العملية بوجود الحتمية فى سلوك الأشياء والظواهر والعمليات التى تشكل الوجود بأسره ، إلا أن الجانب الآخر من المسألة ومن خلال نفس المنهج ، الذى يجعلنا نستنتج بأن هذه الحتمية تتم من خلال العديد من المصادفات ، فالتقاء بلايين الذرات والجزيئات فى التفاعلات الكيمائية المختلفة يتم مصادفة، وبشكل عشوائى تماما ، إلا أن هذه الذرات والجزيئات التى التقت مصادفة تأخذ فى التفاعل فيما بينها بحكم الضرورة الكامنة فى طبيعتها ، فكلا من الضرورة و المصادفة يحدثان فى نفس العملية.‏‏
‎‎فهناك إذن علاقة وطيدة بين الضرورة والمصادفة ، وأن إحداهما لا تنفى الأخرى ، فالظن أن الضرورة المطلقة تحكم كل ما فى الطبيعة من مظاهر وعمليات يؤدى بنا إلى نفى أى مصادفة ، وبالتالى تتحول المصادفات إلى ضرورات حتمية ، وهذا الظن شأنه فى ذلك شأن القول بانتفاء الضرورة والحتمية ، وأن كل ما فى الوجود من أحداث محض مصادفات عبثية لا رابط بينها ولا ضرورة وراءها ، وبالتالى تتحول الضرورات إلى مصادفات فى حاجة إلى عقل ينظمها ، وقد يكون هذا العقل خارج الطبيعة أو داخلها ، أو عقول البشر أنفسهم أفرادهم أو جماعتهم.‏‏
‎‎وفى كلتا الحالتين يكون الموقف المنطقى الوحيد للإنسان هو الاستسلام التام للواقع ، أو الانغلاق على ذاته ، وبالتالى عدم النضال من أجل تغيير الواقع ، ولما كنا قد خبرنا قدرة الإنسان على تغيير الواقع سواء أكان هذا الواقع هو الطبيعة أو المجتمع ، حيث نستطيع من خلال الممارسة العملية أن نلاحظ وجود الضرورة فى شتى الأشياء والظواهر والعمليات التى نتعامل معها ، فنلاحظ مثلاً أكسدة الفلزات كالحديد والنحاس ، فإنها تتأكد فى كل مرة تتعرض بعض الفلزات لهواء رطب. فنلاحظ كلا من صدأ الحديد البنى اللون وصدأ النحاس الأزرق اللون ، ولذلك قد تعلمنا أن نطليها بمواد لا تتأكسد عرفناها بالتجربة حتى نحميها من التآكل .. فلولا قناعتنا بالضرورة ما فعلنا ذلك ، ولتركنا كل الأشياء بما فيها أنفسنا إما للأقدار الحتمية أو المصادفات السعيدة أو التعيسة ،إلا أننا أيضا لا يمكن أن نفسر كل الظواهر بالضرورة و فقط ، حيث أن هذا معناه السقوط فى الجبرية، وبالتالى ننفى الحرية الإنسانية، ومنها بالتالى مسئولية الإنسان على أفعاله.‏‏
‎‎إن الأخذ بالحتمية المطلقة والاعتقاد بالجبرية ، هما إعلان بالعجز أمام الواقع ، فى حين أن كل التاريخ البشرى ما هو
إلا تغيير لهذا الواقع ، سواء أكان الطبيعة للسيطرة عليها وتحويلها لمنتجات مادية ومن ثم فهمها من خلال هذا التغيير الذى لا يمكنه أن يتم بدوره أيضا إلا من خلال هذا الفهم ، أو المجتمع البشرى والذى وإن كان يتطور ويتغير وفق ضرورات معينه ، بالتالى يحكم هذا التطور قدر من الحتمية يعرف أيضا إلى جانبه الاحتمالية والمصادفات ، وهو فى نفس الوقت يتغير ويتطور من خلال أفعال البشر الواعيين الذين يعرفون ماذا يريدون وكيف يحققون ما يريدون. فالجبرية تعنى الاستسلام التام للظلم والعبودية والأقدار ، تعنى سلبية ولا مبالاة المقهورين والمحكومين والمستغلين وهذا هو منتهى مراد القاهرين والحاكمين والمستغلين ، وهو الشىء ذاته الذى تؤدى إليه العبثية وإنكار الضرورة والسببية ، فمادامت لا توجد ضرورات تفرض أسباب ، ومادام الوجود ما هو إلا سلسلة من المصادفات العشوائية ، فلا معنى لأى محاولة لتغيير الواقع والتأثير عليه ، حيث إنه من المستحيل فى هذه الحالة فهمه ومن ثم تغييره.‏‏
‎‎إن الإقرار بوجود المصادفات موضوعيا لا يعنى نكران السببية ، حيث توجد لكل المصادفات أسبابها ، فصدفة سقوط المطر عند خروجك للعمل فى الصباح مما أعاقك عن الوصول فى موعدك المحدد لها سبب ، حيث تسقط الأمطار لأسباب ضرورية، إلا أن هذه الضرورة أصبحت صدفة بالنسبة لك رغم انبعاثها من ضرورة ما ، فشروط عمل سبب معين يمكن أن تتوافر ويمكن إلا تتوافر ، فتحدث النتائج أو لا تحدث بناء على ذلك ، ولما كانت الأسباب ذاتها متباينة الفعالية ، فبعضها أساسى والآخر ثانوى ، بعضها ينشا عن جوهر الأشياء وبالتالى تبدو ضرورية ، وهناك أسباب لا علاقة لها بهذا الجوهر فتبدو تصادفية من الممكن حدوثها وقد لا يمكن لها ذلك ، فالمصادفة تتجلى عند تلاقى عدد من الظواهر المشروطة سببيا (ذرات ، درجة حرارة ، عوامل مساعدة للتفاعل ، عوامل معيقة أو محبطة للتفاعل ، .. الخ) وهى كلها عوامل أو ظواهر تكمن فيها ضرورات تؤدى إلى الحتمية ، إلا أن التقاء كل هذه الظواهر فى نقطة المصادفة لبعضها ليس أمراً جبريا ، فما حدث هو تجمع لعديد من الظروف ، وانعدام أحد هذه الظروف قد يمنع حدوث التفاعل . لا يوجد أى فصل بين الضرورات والمصادفات ، فالضرورات تتحول إلى مصادفات والعكس صحيح ، فعمليات التفاعل النووى ، وما تؤدى إليه من أشعه ، يؤدى تعرض إنسان بعينه إليها إلى تعرضه للسرطان ، كما تتحول المصادفات إلى ضرورات ،حيث يؤدى تعرض الناس لها مصادفة إلى ضرورة إصابتهم بالسرطان وهكذا وحيث أن المصادفات موجودة فإنها تؤثر فى الواقع بشتى المؤثرات .. فقد تؤدى إلى تغيرات عظيمة فى تطور الواقع ، وقد لا تؤدى إلى شىء ذو أهميه ، وقد تؤثر تأثيرات سيئه أو تأثيرات سعيدة بالنسبة للبشر ، وقد تكون سارة لبعضهم وغير سارة لبعضهم ، بعض المصادفات تسرع فى حدوث العمليات الضرورية، وبعضها يبطئ من سرعتها البعض يحفزها والبعض يحبطها وهكذا,‏‏
‎‎السببية هى أحد القوانين العامة التى تعكس العلاقات بين الظواهر فى أحد جوانبها ، وفى الحقيقة إن مهمة كافة العلوم عند دراستها للظواهر المختلفة هو كشف علاقة السببية بين الظواهر المختلفة ، فالمعرفة فى أوجز عبارة ممكنة هى معرفة السببية بجانبيها السبب والنتيجة ، وهى العلاقة التى توصل إليها الإنسان عبر فهمه للظواهر المختلفة كل على حدة ثم فى ارتباطاتها بهذه العلاقات وفى كل مرة بتواتر لانهائى تتابع الأسباب تتلوها النتائج ، فالسبب والنتيجة مرتبطان تماما حيث يستدعى السبب وجود النتيجة ، فالسببية تعبر عن علاقة ضرورية بين الظواهر المختلفة ، فزيادة عدد النيوترونات عن عدد البروتونات فى نواة الذرة سبب ضرورى لظاهرة النشاط الإشعاعى ،حيث أن هذه الزيادة تعنى وجود خلل فى التوازن فى نواة الذرة، وبالتالى فأنه فى كل مرة تزيد فيها النيوترونات عن البرتونات تحدث ظاهرة لنشاط الإشعاعى التى تتوقف عند تساوى كلا من البروتونات والنيوترونات أى حدوث التوازن.‏‏
‎‎وقد توصل الإنسان لمفهوم السببية من خلال نشاطه العملى الذى أدى لمعرفته للعالم من حوله ، وإن كان ل أيمكن أن يتم إلا من خلال توصل الإنسان لمفهوم السببية من خلال نشاطه العلمى الذى أدى لمعرفته للعالم من حوله ، والذى كان لا يمكن أن يتم إلا من خلال المجتمع ، فالإنسان لا يمكن أن يوجد معزولاً عن مجتمع بشرى ما ، هذا المجتمع الذى تتراكم لديه الخبرات عبر عشرات الأجيال فضلا عن تداوله الخبرات مع المجتمعات الأخرى ، فلم يتكون مفهوم السببية على أساس خبرة فرد ما ، وإنما هى خبرة البشر التاريخية ، والتى كشفت أهمية السببية التى تعكس أهم قوانين الواقع .. ومن كشف هذه القوانين نعرف أسباب الظواهر المختلفة ما نستطيع التأثير عليها سواء بتلاقى الأسباب غير المرغوب فيها ، واستدعاء الأسباب المرغوب فيها لتحدث النتائج المطلوبة .. فبقذف قذائف شعاعيه إلى نوى الذرات تتحول لنوى ذرات مشعة أو تتحول لذرات أخرى .. فقد حلم الكيمائيون القدامى بتحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب من خلال بحثهم عن أسطورة حجر الفلاسفة الذى يستطيع تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب .. إلا أن هذا الحلم لم يصبح واقعا إلا بعد معرفة الإنسان بالأسباب الحقيقية التى تعطى ذرات العناصر صفاتها ، فاستطاع فعليا تحويل العناصر إلى بعضها البعض ، وهذا لم يكن ممكنا إلا من خلال وصول المجتمع البشرى لدرجة من التطور .. هذا التطور الذى كان مستحيلاً بدوره دون تراكم معارف لا حصر لها عن أسباب نشوء ظواهر معينة وتحولها .. ومنها ظواهر العناصر المختلفة من حديد ونحاس وذهب وغيرهم ، وما كان للإنسان أن يستطيع أن يسيطر على الطبيعة ويحولها دون معرفة أسباب الظواهر الطبيعية ، فبدون هذه المعرفة أو الفهم كان سيظل المجتمع البشرى متخلفا يحلم أفراده بحجر الفلاسفة ، وغيره من أساطير ، عاجزاً أمام شتى الظواهر.‏‏
‎‎والسبب يأتى دائما قبل النتيجة ، ويكون سببا فيها ، إلا إن هذا لا يعنى أن كل ظاهرة تسبق ظاهرة أخرى هى سبب لها ، فربما يكون ما حدث من تتالى الظواهر ما هو إلا عرض ومصادفة .. ولذلك لا ينبغى لنا الخلط بين السببية والتوالى الزمنى للظواهر .. فهناك ظواهر تسبق ظواهر تسبق ظواهر أخرى ، فتوحى لنا أن السابقة سببا للاحقه إلا أنه فى الحقيقة لا توجد علاقة ضرورية بينها ، وإنما هى علاقة ظاهرية فحسب كما لو كانت ذريعة وليست سببا حقيقيا. إن السببية علاقة شاملة وعامة بين شتى الظواهر .. فكل الظواهر فى سكونها وتحركها .. تأتى وتبقى وتموت بتأثير أسباب حيث لا يمكن أن توجد أى ظواهر بدون أسباب ، فأسباب حركه الجسيمات هو تبادلها كمات الطاقات مما يكسبها أو يفقدها هذه الكمات فتتحرك لكى تحافظ على مستوى طاقتها ، إلا أن الإنسان لا يعرف من الأسباب إلا بعضها ويجهل بعضها ، وقد لا يفهم بعضها بدقه و يفهم البعض الآخر بدقة أكثر ، إلا إنه فى شتى الأحوال توجد أسباب مستقلة عن وعى الإنسان بها ، فهى كامنة فى طبيعة شتى الظواهر المعلومة و المجهولة على حد السواء.‏‏
‎‎فالسببية علاقة موضوعية تعبر عن علاقات ضرورية فى واقع الأشياء ، وما يجرى بينها من عمليات ، وهى تنعكس بشكل صحيح فى المخ البشرى فى صورة هذا المفهوم‏‏
‎‎فقانون السببية يعنى إن جميع ظواهر الوجود تشترط بعضها بعضا سببيا ، وهذا هو التفسير العلمى لشتى الظواهر والذى تصبح مهمة العلم إيضاحه فى كل مجال من مجالات الواقع التى يدرسها العلم .. فماذا يبرهن على صحة هذا التفسير من عدمه؟ إنها الممارسة العملية ، فممارسة الإنسان العملية فى إحداث التفاعلات النووية ، والتعامل معها واستخدامها هو شرط لفهمها فهما صحيحا ، وهى بالتالى الطريق الوحيد لمعرفة الأسباب الحقيقية لظاهرة النشاط الإشعاعى ، وتحولات الجسيمات والعناصر .. الخ فنحن كلما منحنا إلكترونات الذرة قدراً معينا من الطاقة كان هذا يعنى تحرك هذه الإلكترونات بعيداً عن نواة الذرة ، بقدر يتناسب مع هذا القدر من الطاقة الممنوحة له .. ومن هنا نتيقن أن ما يربط بين نواة الذرة والإلكترون هو هذا الكم من الطاقة ، وأن تأينها لا يمكن أن يحدث إلا باكتسابها هذا الكم .. إلا أن هذا الفهم الميكانيكى أو الشكلى للسببية يحرم الإنسان من فهم أكثر صحة لها .. فصحيح أن الواقع قائم على أسباب موضوعية ، إلا إنه أحيانا لا ينتج عن الأسباب المعروفة النتائج المتوقعة ، إلا أن هذا لا يدحض مفهوم السببية ، إذ قد يعترض الطريق ما بين السبب والنتيجة سبب آخر يعطل تأثيره ، وبالتالى لا تحدث النتيجة المتوقعة .. فجهد تأين الذرة المطلوب لفصل إلكترون عن الذرة لا يتوقف فحسب على مستوى طاقته بل على قطر الذرة وشحنه النواة والتشكيل الإلكترونى حولها ، وهى شروط قد تعرقل السبب أو تحفزه أو توقفه ـو تشترطه ، إننا قد نقع فى أخطاء حين نحاول استنتاج الأسباب من النتائج ، فقد لا تكون هناك علاقة حقيقية بين السبب والنتيجة ، إلا أن الممارسة العملية وحدها هى التى تمكنا من تصحيح هذه الأخطاء ، فمن خلال العديد من التجارب والاحتكاكات بالواقع ، نتوصل للأسباب الحقيقية ، وهو ما يجعلنا نتحقق من صحة استنتاجاتنا الفكرية الخاصة بالسببية.‏‏
‎‎إن الفهم الصحيح للسببية يتجاوز الفهم الشكلى أو الميكانيكى لها ، الذى يحدد السبب فحسب فى السبب الخارجى أو السبب الواحد بالنسبة للنتيجة الواحدة دون النظر فى الأسباب الداخلية أو المتعددة بالنسبة لنفس النتيجة ، فأشكال السببية تتعدد كلما صعدنا فى سلم التطور ، وأن الرابطة بين السبب والنتيجة ليست فى اتجاه واحد ، وإنما فى اتجاهين مزدوجين فكلا منهما يؤثر فى الآخر، وتتبادلان أماكنهما ، فتوجيه قذيفة مشعة إلى نواة العنصر المستقر غير المشع تحوله إلى عنصر مشع تقذف أنويته بدورها قذائف ، وأن استمرار عمليه قذفه هذه ستؤدى فى النهاية لاستقراره أو تحوله إلى عنصر آخر ، وكما تحدث الإشعاعات المتولدة من العناصر المشعة السرطان للحيوانات التى تتعرض لها ، فأنها فى أحوال أخرى وبجرعات مناسبة تشفى الحيوان من نفس السرطان ..إن التأثير المتبادل بين الظواهر يكون سببا داخليا لحركة ظواهر الواقع و تغيراته ، فالواقع هو مجموعة من الظواهر تتبادل التأثير فيما بينها وهو فى حركته المستمرة ، وتطوره اللانهائى لا يحتاج لأسباب من خارجه ، فهذا التأثير المتبادل بين شتى ظواهره هو السبب الحقيقى والنهائى لجميع تلك الظواهر ، هى السبب الأول لكل الوجود وما يحدث فيه.‏‏
‎‎والظواهر فى تبادلها للتأثير فيما بينها لا تكون فى نفس المستوى من الأهمية فهناك أسباب حاسمة ، وأسباب غير حاسمة ، أسبابا رئيسية وأسبابا ثانوية ، وعلى العلم أن يكشف لنا باستمرار عن ما هو حاسم وأساس فى الأسباب التى تحدث النتائج قيد البحث ، فهناك دائما ما يسمى بالشروط ،وهى مجموعة الظواهر المحيطة بكل من السبب والنتيجة حيث لا يحدث السبب نتيجته إلا بتوافر هذه الشروط ، وهى مجموعة الظواهر المحيطة بكل من السبب والنتيجة حيث لا يحدث السبب نتيجته إلا بتوافر هذه الشروط ، وهى مجموعة الظواهر المحيطة بكل من السبب والنتيجة ، فلا يحدث السبب النتيجة
إلا بتوافر هذه الشروط ، فتبادل الفعل بين الإلكترونات والبروتونات مشروط بدرجه حرارة معينة، فبعض الشروط تساعد على توليد النتائج ، وبعضها يعطل هذه النتائج ، فمعرفتنا بالأسباب والشروط تمكنا من التنبؤ بالنتائج ، وهو ما يمارسه الإنسان عمليا ، فلكل نتيجة إذن عدة أسباب مختلفة تسببها ، فانفصال إلكترون عن الذرة قد يتم بسبب ارتفاع درجة الحرارة أو قوة الفرق بين جهدين كهربين أو بسبب النشاط الإشعاعى ، وذلك وفقا للظروف المختلفة كما أن سببا واحد قد يؤدى إلى نتائج مختلفة ، وتتنوع أشكال السببية بين شتى الظواهر ، إلا إنها بالرغم من كل ذلك لا تعبر عن كل العلاقات المتبادلة بين شتى الظواهر فى تزامنه.‏‏
‎‎وأخيرا عذرا على الإطالة والإسهاب وما يغفر لى هو الأهمية المركزية لنفى السببية فى الكون فى إشاعة الخرافات ومساواتها من ثم بالعلم،فكلاهما مجرد حكايتين لدى البعض و لا مفاضلة بينهما إلا بمقدار الفائدة التى تعود علينا منهما ،ومن ثم كان لابد من توضيح السببية على هذا النحو المفصل.‏‏
***********
ق-يكتب كارل ساجان فى كتابه الرائع الكون ( إن كل جانب من الطبيعة يكشف سراً عميقا، ويمس إحساسنا بالدهشة والخشوع . وقد كان يتوفر اتوس على حق . فهؤلاء الذين يخافون الكون كما هو فى الحقيقة، والذين يدعون معرفة غير موجودة ، ويتصورون الكون مقتصراً على الكائنات الحية ، سوف يفضلون الطمأنينة الزائلة التى تقدمها الخرافة . وهم يتحاشون العالم عوضا عن مواجهته . أما أولئك الذين لديهم الشجاعة فى اكتشاف نسيج وبنية الكون حتى عندما تختلف بعمق عن رغباتهم وعن آرائهم فسوف ينفذون إلى أعمق أسراره.)20.فالواقع كما هو أكثر إثارة للرهبة والمتعة بما لا يقاس من كل الخرافات والخيالات والأوهام ، فمن يعرف الكون على حقيقته سوف يعرف كم بدد البشر من طاقاتهم ، وأضاعوا أوقاتهم ، ودمروا أفضل ما فيها ، فى الصراعات حول الخرافات والأوهام الغبية ، وكم كانت بشعة تلك الجرائم فى حق البشرية التى ارتكبتها حفن من البشر أعاقوا تطور البشرية ، حينما عرقلوا رحلتها فى فهم الواقع وتغييره إرضاء لمصالح طبقية أو فئوية أو حتى فردية.‏‏
‎‎وقبل تناول هذا الموضوع أحب أن أورد الفقرة التالية "ومن غرائب الأمور المشاهدة بالفعل أن أولئك الذين يرقبون البحث العلمى من الخارج ، ويعجبون به ، يكون لديهم فى كثير من الأحيان ثقة فى نتائج هذا البحث العلمى تفوق ثقة أولئك الذين يسهمون فى تقدمه . فالعالم يعرف الصعوبات التى كان عليه أن يذللها قبل أن يثبت نظرياته وهو يعلم أن الحظ قد حالفه فى كشف النظريات التى تلائم ما لديه من ملاحظات ، وفى جعل الملاحظات التالية تلائم نظرياته . وهو يدرك أنه قد تظهر فى أى لحظة ملاحظات متعارضة أو صعوبات جديدة ، ولا يزعم أبداً أنه قد أهتدى إلى الحقيقة النهائية أما فيلسوف العلم ، الذى هو أشبه بالحواريين حين يكونون أشد تعصبا من النبى ذاته ، فأنه معرض لخطر الثقة بنتائج العلم إلى حد يفوق ما يجيزه أصل هذه النتائج ، المبنى على الملاحظة والتعميم)20 ومن هنا فأنى أرفض شخصيا التدخل فى مسائل لست متخصصا فيها ، فلست عالما فلكيا حتى يحق لى رفض أو قبول نظرية عملية ، ربما تصدق أو تكذب .. ولأن ما سيلى ذلك من سطور هو حديث عن نظرية تفسر تاريخ الكون هى الأكثر انتشارا الآن ، إلا أن هناك انقسامات حولها مما يتيح لى الفرصة لعرضها وعرض الانتقادات الموجه لها، وأن أوضح كيف تنتقل المعرفة العلمية بلوى عنق الحقائق ، وذلك لتأكيد وجهات نظر معينة أو كيف ترفض الحقائق طالما لا تتفق والمواقف الفكرية المسبقة.‏‏
 ‎‎يكتب ستيفن واينبرج(وعلى هذا الأساس فالإحساس بأن النجوم لا تتحرك إحساس خاطئ فالكون فى الحقيقة فى حالة حركة سريعة جداً تشبه حركة المادة الواقعة تحت تأثير انفجار ما أى أن الكون نفسه فى حالة انفجار ضخم تتحرك فيه مجموعات النجوم التى تعرف باسم المجرات بسرعات عالية جداً تقترب من سرعة الضوء مبتعدة عن بعضها البعض .. وعلى أساس هذه الحقيقة أمكن استرجاع حركه هذه المجرات فى الماضى السحيق واستنتاج إن هذه المجرات كانت أقرب إلى بعضها عنها الآن .. ومع استمرار هذا الاسترجاع فى الزمن نصل إلى إنه فى البداية لم تكن هناك أى مسافات على الإطلاق تفصل المجرات كما إنه قد لا يكون هناك مسافات تفصل بين النويات أو الذرات .. وهذا هو ما يسمى بالكون المبكر) 21أما عن مستقبل الكون فإن الاحتمالات تتأرجح بين ثلاث هى إنه إما أن يظل الكون يتمدد إلى أن يصل إلى حاله التوازن فيتوقف عندئذ التمدد .. وإما أن يظل يتمدد إلى ما لانهاية فى الفراغ اللانهائى ، وإما أن يظل يتمدد ثم يأخذ فى الانكماش مرة أخرى عائداً إلى نفس حالته لحظة الانفجار الكبير ، وهكذا فالكون فى الحقيقة حسب هذه النظرية يتمدد وينكمش فى دورات لانهائية منذ الأزل وإلى الأبد.. فنظرية الانفجار الكبير لا تتعارض مع حقيقة قانون حفظ وبقاء المادة ككمية ثابتة لا تفنى ولا تستحدث ولا تخلق من عدم مها تواجدت فى صور وأشكال مختلفة معقدة أو بسيطة ومهما كانت تبدو عليه تاريخيا فى الماضى ومهما سيكون عليه حالها فى المستقبل فستظل المادة هى كل الواقع الموضوعى المستقل عن أى وعى.‏‏
 ‎‎نظرية الانفجار الكبير إذن وبصرف النظر عن تفرعاتها الكثيرة ، تفترض أنه فى لحظة ما منذ حوالى 15 بليون سنه ، حدث انفجار هائل لكتلة شديدة الكثافة للغاية وشديدة الحرارة جداً هى مادة الكون ، والتى لم تكن قد انفصلت بعد فيها الكتلة عن الإشعاع ، وقد أخذت هذه النقطة تتمدد فى انفجار هائل ، لتقل كل من "كثافتها ودرجة حرارتها مكونة الكون المرصود لدينا ، وهى البداية التى تصلح لتأريخ قصة الكون حيث بدأ عندها الزمان والمكان والفضاء والعالم بأسره.‏‏
‎‎أما عن المشاكل الفكرية التى تثيرها هذه النظرية ، فهى أن البعض تشبث بها تشبث الغريق بالقش الذى يطفوا على الماء ، واعتبرها أولاً التفسير النهائى لسر وجود الكون علميا، وبناء على ذلك فإنه أعتبرها ثانيا دليلاً على خلق الكون فى لحظة ما من كائن أعلى خارج هذا الكون، فقد علق البابا ببوس الثانى عشر فى خطابه "برهان وجود الله فى ضوء العلم المعاصر الموجه فى الثانى والعشرين من نوفمبر 1951"إنه بخلاف التوقعات الخاطئة التى سادت فى الماضى ، تكشف كل خطوة يخطوها العلم الحقيقى عن وجود القدرة الإلهية كما لو أن الله يقف وراء كل باب يفتحه العلم " 22، ويقول مرة أخرى " وهكذا نصل .. إلى خلق الكون ، وبالتالى إلى الخالق ، وإلى الله ! ذلك هو الخبر ، الذى طالما انتظرناه من العلم ، وتتلهف البشرية المعاصرة لسماعه " 23كما أشار إلى هذه النظرية العلمية أستاذ فلك مصرى بل هو رئيس قسم الفلك بعلوم جامعة القاهرة رابطا بينها وبين آية قرآنية كريمة تشير إلى أن الأرض والسماء كأنما كانت شىء واحداً تم الفصل بينهما !! وهكذا استمرار لموجه التربح التى تحاول الربط بين النصوص المقدسة التى لا تتغير ،والحقائق العلمية النسبية بطبيعتها و التى من الممكن أن تتغير ، ويشترك فى هذه اللعبة الخطرة بعض رجال العلم والبحث العلمى فى مصر مما لا يصح إطلاقا أن يمنحوا شرف الانتساب لأجل مهنة فى التاريخ ،مهنة فهم الواقع على النحو الصحيح المسماة اختصارا العلم ، والذين أهدروا شرفها حين مارسوا الدجل باسم العلم. وفى المعسكر الآخر فأن البعض يرفض هذه النظرية قطعيا ومبدئيا لما توحى به من أفكار غيبية ومثالية وميتافيزيقية .. وأرى أن كلا الفريقين مخطئ فكلاهما يلوى عنق العلم ليدلل أو يدافع عن أفكاره . (وفى ذلك الانفجار الكبير بدأ الكون تمدداً لم يتوقف قط ، وإنه لأمر مضلل أن نصف تمدد الكون باعتباره نوعا من فقاعة منتفخة ينظر إليها من الخارج . وبالتحديد فلن نعرف قطعا ما هو الخارج : ومن الأفضل التفكير فيه من الداخل ) 24هكذا يرد عالم الفلك على كلا الفريقين حفاظا على منهجية العلم التى ترفض الفروض التعسفية الغير قائمة على أى دليل خاضع للتجربة ، بل مجرد أفكار لا توجد إلا فى أذهان من ابتدعوا تلك الأفكار اقتنعوا بها .‏‏
 ‎‎إلا أنه تظل عدة انتقادات موضوعية لهذه النظرية جديرة بالاهتمام منها على سبيل المثال ما هو آت:.‏‏
 1- ‎‎تشير آخر أبحاث علم الفلك بأن المادة موزعة فى المكان ، وهو الكون بأسره بشكل غير متوازن لأقصى حد ، مما يتناقض مع فكرة انفجار المادة من مركز ما ، فى الوقت الذى تتكون بين فراغات الكون المتمدد مجرات جديدة ونجوما جديدة من السحب الهائلة للغبار الذرى الممتلئ بها الكون، والذى قد تكون فى بعضها بقايا مجرات انفجرت فى الماضى وهى الملاحظة عبر الكون بأسره .. حيث لا تكف المجرات والنجوم على الاصطدامات والانفجارات..‏‏
 2- ‎‎إن محاولة تفسير ظاهرة امتداد الحيز المحدود من الكون المرصود لدينا حتى الآن بنظرية الانفجار الكبير يتناقض مع إننا لا نعرف إلى أى مدى سنستطيع رصد مساحات أكبر منه عندما تزداد قدراتنا على الرصد .. وهل ستتفق مشاهدتنا عندئذ مع الظاهرة المشار إليها ، وهل يضمن من يحاولون إثبات أن هناك بداية ما للكون وبالتالى نهاية له .. أو أن للكون حدود ما لم يشاهدها أو يلاحظها أحد ، وذلك من خلال هذه الاستنتاجات النظرية البحتة ، إن إمكانيات مشاهدتنا المستقبلية لن تصدمهم ، وخصوصا إنه مع الحيز المرصود لدينا حتى الآن وعلى ضخامته الهائلة لم تشاهد أى حدود نهائية لهذا الحيز .. أو أن ما بعده فراغ مطلق أو عوالم أخرى.‏‏
 3- ‎‎لا يوجد أى أساس لمطابقة مجموعة ملاحظة من مجرات خارج مجرتنا مع الكون كله ، ولا يمكن التدليل على أن حركة جميع المجرات خارج مجرتنا ، وتجرى فى كل مكان بشكل مشابه لما نلاحظه أى فى الجهة التى تبعدها عن مركز الانفجار ... فضلاً عن تناقض فكرة الانفجار من نقطة ما مع عدم وجود أى مركز لكتلة الكون المرصودة لدينا حتى الآن .. فمن الذى يضمن عدم وجود أى حركات أخرى مخالفة أو أكثر تعقيداً للمجرات خارج مجرتنا ، وخصوصا فى ضوء قوانين النسبية ، الذى يكون فيها لوضع المشاهد بالنسبة للأشياء المتحركة الملاحظة تأثيراً أساسيا فيما يلاحظه.‏‏
 4- ‎‎إذا كان ما نرصده من الكون يتمدد الآن ، فما الذى يجعلنا نفترض تعسفا أن حركة المجرات فى الجزء المرصود لدينا كانت فى نفس الحالة من التمدد فى كل لحظة تاريخية ، وهل يمكن تعميم هذه المشاهدة اللحظية فتصبح قانونا عاما لحركة الكون اللانهائى بأجمعه.‏‏
 5- ‎‎صحيح إن إزاحة الخطوط الطيفية للضوء الصادر من النجوم ، يدل على أن الجزء المرصود لنا حتى الآن من الكون يتمدد ويتوسع ، وأن المجرات تجرى بعيداً عن بعضها البعض بسرعات هائلة ، إلا أن محاولة استخدام هذه الحقيقة يتناسى أن تفسير الانزياح الأحمر للمجرات بتطايرها وتباعدها ليس هو التفسير الوحيد الممكن ، فربما ظهرت تفسيرات أخرى .. كما أن استخدامها كأساس يضاف إلى معرفة هذه السرعات والحجم الكلى لمادة الكون المرصود لنا حتى الآن لحساب الزمن الذى كانت فيه كل هذه المادة كلاً واحداً تنسحق فيه مكوناتها فلا يبقى إلا أبسطها ، فى كتلة صماء .. هو فرض تشوبه الغيبية حيث لا يوجد لدينا دليل واحد حول ، هل أن ظاهرة الامتداد المرصود لدينا حتى الآن صاحبت الكون منذ بدايته المفترضة أم هل هى ظاهرة طارئة .. أو أى دليل على أنها تصاحب كل أجزاء الكون التى لم نرصدها بعد .. فربما يتمدد بعضها وينكمش البعض الآخر.‏‏
‎‎هذه هى الاعتراضات الأساسية التى استطعت تجميعها على نظرية الانفجار الكبير تجعل المرء لا يطمئن لها كل الاطمئنان ، كما لا يصح أيضا رفضها كل الرفض ، فربما تكون هى التفسير الصحيح لنشوء الكون وربما تأتى لنا الأيام القادمة بتفسير آخر أكثر دقه.‏‏
‎‎ى-مثال آخر على نوعية الكتابات الشعبية التى تستغل المفاهيم العلمية الحديثة السابق الإشارة إليها فى بداية الموضوع ففى كتاب شعبى أصدرته الدولة على نفقتها الخاصة ضمن سلسة المكتبة الثقافية العدد 279تحت عنوان "الحتم والحرية فى القانون العلمى "ظل المؤلف عبر فصل كامل يحاول البرهنة على لامادية العالم والتشكيك فى القوانين الأكثر من أساسية وجوهرية فى الفيزياء ،وهى قوانين حفظ وبقاء المادة مستندا إلى بعض المفاهيم غير الصحيحة حول تعريفهم متجاهلا التطور العلمى فى تعريفهم .وأيضا على ذكر بعض التجارب العلمية التى شككت فى تلك القوانين مستغلا عاطفية القراء وتعصبهم لعقائدهم المتوارثة وجهلهم بحقائق العلم ومفاهيم الفلسفة على السواء،وعدم استعدادهم للتخلى عن ما غرز فى عقولهم من أفكار .فكتب "فقد لوحظ إنه لو عرضت زجاجة بها بيروكسيد الأيدروجين (يد2أ2)للضوء فأن مجرد مرور الضوء خلال المحلول ،يحلل بيروكسيد الأيدروجين إلى ماء(يد2أ) وأكسجين (أ) وأن هذا القدر من الأكسجين يتجمع فى الزجاجة حتى إذا فتحت سدادتها ،أصدرت صوتا حين يتسرب الغاز منها ،ثم لوحظ أن وزن عناصر التجربة كلها من البيروكسيد المتبقى بغير تحليل والماء والأكسجين المنطلق لا يساوى وزن المحلول قبل مرور الضوء به ،بل ووجد أيضا أنه يزيد قليلا عليه.ووجد أن الزيادة فى الحقيقة هى وزن الضوء والذى أدى إلى تحليل بيروكسيد الأيدروجين إلى أكسيد الأيدروجين (أى الماء)والأكسجين ،وكذلك لوحظ أن جزيئات بيروميد الفضة تتأثر بالضوء ،ويزيد وزنها ،وهو ما يعرف بالتصوير الشمسى .هاتان الظاهرتان أكدتا للعلماء أن المادة تكون ،ومادامت تكون فهى أذن قابلة لأن تفنى "26.والحقيقة أن هاتين التجربتين المذكورتين لا علاقة لهما بفناء المادة أو تكونها ،بل لهما علاقة بخطأ حساسية أجهزة القياس ،التى حين تم تطويرها لتصبح أكثر حساسية أكدت صحة القوانين التى حاول المؤلف دحضها بذكره لهاتين التجربتين .إلا أن خلطه بين التجربتين والقوانين التى يريد دحضها تستلزم منا أن نناقشها بشىء من التفصيل ،وخصوصا أنه يخلط بين المفاهيم العلمية والمفاهيم الفلسفية خلطا شديدا ..فحديث المؤلف ليس بالحديث العلمى وإن رطن بلغة العلم ،فمادية الشىء لا علاقة لها بمفهوم الكتلة ..فمادية الشىء تعنى أنه كائن خارج أى عقل أو وعى ،أى أنه شىء موضوعى مستقل عن وعينا به أو إدراكنا له ،أما الكتلة فهى مفهوم آخر فى الطبيعة ،فالأشياء المادية قد يكون لها كتلة وقد لا يكون ،أما الكتلة فنوعان كتلة سكون وهى كتلة الجسم فى لحظة سكونه النسبى،وكتلة وضع وهى الكتلة التى تتحدد بوضع الجسم بالنسبة لجسم آخر ،والكتلة شىء غير مطلق و لا ثابت ،بل هى نسبية ومتغيرة ،تتحدد حسب سرعة حركة الجسم أو سكونه،ولكل جسم نوعان من الكتلة وهما ما أشير إليهما فيما سبق ،وللكتلة بناء على ذلك ثلاث تعريفات هى:-‏‏
-‎‎مقدار ما يحتويه الجسم من مادة .‏‏
2-‎‎مقدار مقاومة الجسم للسرعة.‏‏
3-‎‎مقدار مقاومة الجسم للقصور الذاتى.‏‏
‎‎ووزن الجسم شىء وكتلته شىء آخر ..فالوزن هو مقدار تأثير جاذبية جسم على جسم آخر ،وهو يتناسب مع كتلة كلا من الجسمين ،وشدة مجال جاذبية كل منهما التى تعتمد على كتلتيهما ،والمسافة بين مركزيهما. ‏‏
‎‎وفى ضوء المعرفة المؤكدة للطبيعة الجسمية للضوء ،حيث أنه عبارة عن سيل من الفوتونات (نوع من أنواع الجسيمات الأولية التى تحمل الطاقة أو القوى الكهرومغناطيسية )تتحرك كموجات ذات ترددات معينة تسمح لنا برؤيتها بالعين المجردة ،ولهذه الفوتونات كتلة ،وبالتالى فأن لها وزنا ،فالفوتونات هى جسيمات حمل الطاقة الكهرومغناطيسية ،وهى تشكل بحركتها الموجية تلك الموجات الكهرومغناطيسية بأنواعها المختلفة ومنها الضوء المرئى .فهذه الكمات من الطاقة أو المجال أو القوى الكهرومغناطيسية تؤثر بلا شك على جزيئات المركبات الكيميائية المختلفة بمكوناتها الداخلية من ذرات ،فتحللها أو تركب منها مركبات أخرى تترابط فيما بينها بواسطة هذه الكمات وهى بهذا التأثير تزيد من وزن المواد الكيميائية بما تحمله من صفات كتلية أو جسمية،وفى الحقيقة أن الكاتب تغافل عما ذكره بنفسه ،وهو أن الزيادة الحادثة فى التجربة المشار إليها ،تساوى وزن الضوء فهناك أذن تأكيد على صحة القانون المراد دحضه ،وليس نفيا له ،إلا أن الصياغة الملتوية ،والفهم المتعسف توحى للقارئ غير المدقق بصحة ما أستنتجه الكاتب بعد ذلك بأن المادة تكون وأنها تفنى ،وبصحة ما يخبره به مادام يتفق ورغبة القارئ الذاتية فى التصديق،حتى ولو كان ما يخبره به فاقع الكذب،فاضح الساذجة،ولا شك أن هذا النموذج الفاحش على استغلال المعرفة العلمية القاصرة فى نشر الخرافة والجهل تستحق ردا حاسما وفوريا على النحو الآتى:-‏‏
‎‎فى القرن الماضى تم اكتشاف قانونين هامين يشكلان حقيقتين جوهريتين فى العلم الحديث،وتمت البرهنة عليهما بشكل قاطع عمليا ونظريا ،وبالتالى فهما ليسا فروضا إجرائية كما ذكر المؤلف المنوه عنه ،وهذان القانونان هما قانونا كل من حفظ وبقاء الطاقة ،والذى يعنيان ثبات كميتهما ،وبالتالى فأنهما لا يفنيان و لا يستحدثان ولا يخلقان من عدم ،وانهما كلا منهما على حدى يتحول من شكل إلى آخر من أشكالهما المختلفة ،فتتحول الطاقة الحرارية إلى طاقة كهربائية والعكس على سبيل المثال ،كما تتحول الكتل السائلة إلى غازات أو العكس أيضا ،إلا أنه مع بداية هذا القرن تمت عدة تجارب شككت فى هذين القانونين،وما إن مرت عدة سنوات من الشك فيهما حتى تم اكتشاف قانون تكافوء كل من الطاقة والكتلة ،والذى يعنى أن كمية معينة من الطاقة تساوى كمية معينة من الكتلة مضروبة فى سرعة الضوء.وهو ما يعبر عنه بالمعادلة الطاقة =الكتلة فى مربع سرعة الضوء.‏‏
‎‎وهذا يعنى تناسب كتلة الجسم مع ما يحمله من طاقة تناسبا طرديا ،وهذا القانون يعنى أيضا إمكانية تحويل كل منهما للآخر فتتحول الطاقة إلى كتلة والعكس صحيح ،وبناء على هذا القانون الذى ثبتت صحته نظريا وعمليا فيما بعد نجح العلماء فى تفتيت نواة الذرة ،وهو ما يتم فى المفاعلات والانفجارات النووية وبذلك تم التفسير العلمى لنتائج التجارب التى أدت للشك فيهما ،وبناء علي ذلك فقد تم تعديل القانونين سالفى الذكر لقانون موحد ينص على بقاء المجموع الكلى لطاقة المجموعة المنعزلة وكتلتها ثابتة،و بالتالى فأن المادة لا تفنى ولا تستحدث من عدم ،مهما كانت صورها من طاقات أو كتل ،وعلى حد تعبير ستيفن هوكنج فى كتاب موجز تاريخ الزمن"إن تقسيم محتويات الكون إلى كتل وطاقات مازال يستخدم حتى الآن "27.‏‏
‎‎وبالطبع فأن المدلول الرئيسى لهذا القانون ،هو ثبات كمية المادة و أبديتها و أزليتها ،كما يثبت قانون التكافوء بين الطاقة والكتلة ،إمكانية تحول كافة أشكال المادة من شكل لآخر ،والأصل المادى لكل ما يوجد فى الواقع من حولنا.‏‏
‎‎فالطاقة بكافة أنواعها تحملها جسيمات مادية معينة ،تسمى بكمات الطاقة أو كمات المجال أو كمات القوى ،وأن الموجات المختلفة فيما عدا الموجات المادية هى شكل حركة هذه الجسيمات ،وأن حركة الأجسام أى أجسام،من الجسيمات المتناهية الصغر إلى الأجسام فائقة الكبر،ما تحدث إلا نتيجة تبادلها فيما بينها لهذه الكمات ،وهى العملية التى تستدعى من هذه الجسيمات وتلك الأجسام تغيير أوضاعها لتحافظ على مستويات طاقتها الجديدة الناتجة عن اكتسابها أو فقدانها لهذه الكمات .‏‏
‎‎وكمات الطاقة هذه ذات خواص معينة تميزها عن جسيمات الكتلة التى تكون سائر الأجسام من حولنا حية وغير حية ،صلبة وسائلة وغازية ،كبيرة وصغيرة وهكذا .ومن حقائق العلم الحديثة هو أن جسيمات الكتلة عند تصادمها تتحول لجسيمات للطاقة والعكس عند تصادم جسيمات الطاقة تتحول لجسيمات للكتلة و أضدادها . وهذا على مستوى الجسيمات الأولية فقط.‏‏
‎‎ولو قارنا بين أقوال علماء طبيعة كبار فى كتب علمية جادة وبين كتب الإثارة الإعلامية فى تناول هذا الموضوع لفهمنا كيف يتم التجهيل المتعمد للقراء العاديين عبر الكتابات الشعبية ، والذين يفضلون كتب الإثارة والتسلية على الكتب الجادة..وإليكم بعض الأمثلة من تلك الكتابات الجادة حول هذا الموضوع.‏‏
‎‎كتب كل من ف.لانداو .وأ.إكيتايجوردسكى وهما من كبار علماء الفيزياء‏‏
"‎‎إن قانون بقاء الطاقة يلعب فى الفيزياء نفس الدور الذى يلعبه المحاسب الصارم فى الحياة،فالوارد و الصادر فى أى عملية يجب أن يكون متساويا .وإذا لاحظنا فى تجربة ما إن الأمر ليس بهذه الكيفية ،فأن هذا لن يعنى سوى إننا لم نجرى التجربة بعناية ،أو أنه قد سهونا عن بعض العوامل الهامة .وقانون حفظ وبقاء الطاقة فى هذه الحالة يعطى الإشارة ..أيها الباحث أعد التجربة ،وأبحث عن سبب الفقد ،وذد من دقة القياس وقد توصل الفيزيائيون مرارا إلى اكتشافات جديدة مهمة فى هذا المجال،و اقتنعوا أكثر فأكثر بالحقيقة الثابتة لهذا القانون"28.‏‏
"‎‎وفى القرن العشرين لوحظت بعض الظواهر التى تشكك فى قانون حفظ وبقاء الطاقة .غير أنه بعد ذلك وجد التفسير لهذا التناقض ،وخرج القانون من هذا الاختبار بنجاح"29.‏‏
‎‎وكتب ف.رادنيك"أن جسيمات الكتلة تمتلك صفات كمات المجال ..بينما تمتلك كمات المجال صفات جسيمات الكتلة وهما يعتبران على قدم المساواة الجانبين الأوليين والأساسيين لمادة الوجود ،فها شكلان متناقضان لوجود المادة وتطورها ،ولا يمكن وجود أحدهما بدون الآخر"30.‏‏
‎‎بناء على ما سبق ذكره نقرر أنه يجرى الالتزام بقانون حفظ وبقاء الطاقة بشكل عام ،فى ظواهر عالم الأشياء الدقيقة كما فى الأجسام الكبيرة فضلا عن عدد آخر من قوانين الحفظ والبقاء الخاصة بعالم الجسيمات الأولية والتى تعتبر خواص تميزها،وهذا يعنى أن المادة مهما تنوعت جوانبها ،فأنها تقوم على ثبات كميتها ،وأن تطور العلم اللاحق قد أظهر مرة أخرى أن هذا القانون وتفريعاته ،والاستنتاجات الفكرية منه صلبة كالصخر.‏‏
‎‎ك-والآن ما رأيك فيما قرأت على التو ؟عليك الانتظار قبل أن تبدى رأيا محددا حتى تقرأ هذه الفقرة الطويلة والمقتبسة من مقال للدكتور زكى نجيب محمود بعنوان أزمة العقل فى حياتنا "فلننظر إلى أوساط الناس من حولنا فماذا نرى ؟نراهم على عداوة حادة مع العقل ،وبالتالى فهم على عداوة لكل ما يترتب على العقل من علوم ،ومن منهجية نظر ،ودقة التخطيط والتدبير ،فإذا انطلقت الصواريخ تغزو الفضاء ،يرود أصحابها أرض القمر ،تمنوا من أعماق نفوسهم أن تجىء الأنباء بفشل التجربة ،وإذا سمعوا عن قلوب وغير قلوب تؤخذ من آدمى لتزرع فى آدمى آخر ،أحزنهم أن يتحقق النجاح ،وأفرحهم أن تخفق المحاولة ،وهاك المثالين من خبرتى الخاصة لم أقرأ عنها فى صحيفة أو كتاب ،بل شهدتها بعينى وسمعتها بأذنى ،أقيمت ندوة ثقافية كنت أحد أعضاءها ،وكان من المساهمين فيها كذلك عميد لأحد كليات العلوم عندئذ ،وكان السؤال المطروح هو ماذا نرى فى هذه الوثبة الجريئة التى هى صعود الإنسان للقمر ،فكان مما قاله عميد كلية العلوم بإحدى الجامعات العربية ،أنه سيعوز بالله من هذا الشطط الذى قد يؤدى بالكون إلى الدمار ثم تساءل قائلا ! أليس يجوز أن يهبط هذا الصاروخ على سطح القمر بدفعة قوية فإذا القمر ينحرف عن مداره فتكون الطامة على البشر !؟أما المثل الثانى فهو أنه سئل قطب من أقطاب الطب فى الأمة العربية!ما رأيك فيما سمعناه عن زرع قلوب فى أبدان غير أبدانها ؟فاستعاذ بالله هو الآخر من شر ما يسمع مؤكدا أنها محاولات مجنونة لن تؤدى إلى شىء ،وربما كان هذان العالمان لا يعتقدان فى صدق ما قالاه ،وإنما قصدا به إلى إرضاء السامعين فتكون الطامة أكبر لأن الدليل عندئذ ينهض ليؤيد ما بزعمه ،وهو أن مثل هذا القول هو ما يرضى الناس ثم نكون فسرنا بالنفاق نزاهة العلم والعلماء.‏‏
‎‎أولئك هم علماءنا فما بالك بأبناء السبيل ؟إلا أن مضجع العلم الجاد خشن تحت جلودنا ،ولذلك كان شرطا عليك إذا كتبت للصحف والمجلات أو أذعت فى الناس حديثا أن تكسو الحقائق العلمية التى تنوى عرضها على الناس بحشايا من ريش النعام ،لئلا تتأذى أبدانهم اللينة ،فعليك أن توهم الناس بأنك لم تقصد إلى العلم الكريه الجاف ،وإنما قصدت إلى تسليتهم فى أوقات فراغهم ،وإذا لم تفعل ذلك فلا سبيل أمامك إلى صحافة أو إذاعة.‏‏
‎‎الرأى السائد فينا هو أن العلم يعوق مجرى الحياة ،فليست وسيلتك للنجاح فى أى ميدان تشاء :-ميدان العمل أو ميدان السياسة أو غيرها من هى أن تدقق وتدقق وإلا لما بلغت من الطريق أدناه ..إن الساعات التى يصرفها الدارس العلمى فى مشكلة واحدة من مشكلاته "النظرية"كفيلة أن يقفز بها "العمليون"إلى الذرى مالا وجاها وقوة.أليس لكل شىء معيار يقاس به ؟والمعيار السائد بيننا هو كم يعود هذا العمل على صاحبه من نفوذ وسلطان وثراء ؟ولما كان الأغلب ألا يعود العلم على أصحابه من هذه الأشياء بمحصول وفير كان لهؤلاء المنزلة الثانية فى مجتمعنا وذلك فى أحسن الفروض."31.‏‏
‎‎إلا أن الأستاذ الجليل رائد الوضعية المنطقية فى منطقتنا العربية،لم يوضح السياسات الإعلامية والثقافية والتعليمية التى أدت لكل هذه الظواهر ،ولا النظام الاقتصادى الاجتماعى ،الذى أفرز هؤلاء البشر المعادين للعقل ،والذين يتعاملون مع العلم على هذا النحو الانتهازى الصرف فى حدود منفعتهم الخاصة ،فما يفهم من حديث زكى نجيب محمود أن البشر قد طبعوا على كره العلم والعقل ،وهذا ربما يكون صحيحا فى لحظات تاريخية معينة،لكنها ليست سمة للبشر ،وإلا ما كانوا استطاعوا أن يصلوا لما وصلوا إليه من تقدم.فضلا عن تغاضيه عن حقيقة الأبعاد الطبقية المؤكدة لهذه السياسات الدعائية والتعليمية الموجهة ،والتى يعبر عنها هربرت شيلد ب"أن تضليل عقول البشر هو على حد قول باولو فرير"أداة للقهر"إنه يمثل إحدى الأدوات التى تسعى النخبة من خلالها إلى تطويع الجماهير لأهدافها الخاصة"32.‏‏
‎‎إن كل ما سبق ذكره من مظاهر التضليل باسم العلم ،والخلط بين العلم الحقيقى الذى هو فهم الواقع من خلال تغييره سواء على مستوى المنهج أو الحقائق،وبين الخرافة التى هى فهم زائف ومشوه للواقع من خلال تأمله سواء على مستوى المنهج والأفكار الوهمية ،لا يقتصر على العلوم الطبيعية فحسب ،بل يمتد ليشمل العلوم الاجتماعية والإنسانية أيضا،إلا أن العلوم الطبيعية لا تعرف الانحياز الطبقى فى حقائقها وقوانينها ومعظم نظرياتها ،وأن كانت تعرفه فى السياسات التى توجه تطبيقاتها التكنولوجية. فى حين أن العلوم الاجتماعية تعرف الانحياز الطبقى .فإذا كانت لا توجد كيمياء بورجوازية وكيمياء عمالية ،إلا أنه يوجد اقتصاد سياسى بورجوازى واقتصاد سياسى عمالى .يدرس الأول عمليات الإنتاج المادى والتداول والتبادل من منظور مصالح البورجوازية ،ويدرس الآخر نفس العمليات من منظور مختلف يعبر عن مصلحة الطبقة العاملة ،وهو ما يؤدى إلى تناقض استنتاجاتهم النظرية ،وتحليلاتهم المختلفة.‏‏
‎‎ويلاحظ مثلا أن تفسيرات النظريات المختلفة فى علم الاجتماع لسلوكيات البشر تتفاوت فيما بينها ،فتدعى مدرسة ما أن سلوك الإنسان نتاج بيئته فقط ،وأخرى ترجع هذا السلوكيات للوراثة فحسب ،أما التفسير المبتذل للماركسية فيرجعها للعوامل الاقتصادية والانتماء الطبقى ،فالماركسية مثلا نظرية علمية صحيحة فى إطار تحليلها للمجتمع ككل ،والعلاقات بين طبقاته المختلفة فى علاقاتها المختلفة ،وفى تطور هذا المجتمع وحركته ،إلا أن تعميم نتائجها على سلوكيات الأفراد يبتذلها للغاية،فالإنسان بلا شك تؤثر فيه العوامل الاقتصادية المحيطة به كما يؤثر عليه انتماؤه الطبقى بلا شك ،إلا أن سلوك الإنسان ليس نتاج لهذه العوامل فحسب وإن كانت هى الحاسمة فى الغالب الأعم ،بل أن سلوك الإنسان هو انعكاس لمحصلة هائلة من العوامل ،تتشابك وتتفاعل بشكل معقد لتنتج لنا شخصية هذا الإنسان أو ذاك ،منها العوامل البيئية والثقافية ،وطريقة التعلم والتربية ،والعوامل الوراثية ،والتركيب الهرمونى ،ونوعية الغذاء والمناخ ،وفضلا عن كل هذه العوامل الاقتصادية والاجتماعية المحيطة بالفرد والتى تجعله يسلك سلوكا معينا فى لحظة معينة بشكل يصعب التنبؤ به بشكل قطعى.‏‏
*************
‎‎ل- إننا قد نتفق سويا على السببية ، إلا أن البعض يرجعها إلى وعى أو إرادة ما أو هدف معين شبيه بما يملكه الإنسان من وعى وإرادة وهدف ، بل وإذا كان ما يملكه الإنسان ناقص ونسبى وعاجز ومحدود ، فأن ما يملكه الآخر كامل ومطلق وكلى القدرة ولا نهائى ، والبعض الآخر يرجع السببية إلى الضرورة العمياء الكامنة فى طبيعة الأشياء المادية ، .. النظرة الأولى تعمم ما ينفرد به الإنسان ككائن مادى من خواص تميزه عن غيره من الكائنات المادية حية وغير حية ، حيث ترى إن كل فعل لأى كائن مادى آخر لابد وان يكون له هدف وإرادة و وعى ما، فيضرب الطفل والإنسان البدائى الحجر الذى يتعثران فيه ويعتبرانه مسئولاً عن تعثرهما ، ثم تطورت هذه الفكرة فأصبح الهدف والإرادة والوعى يخص كائن أو كائنات أعلى ما وراء الطبيعة هى التى تحرك الأشياء وتسبب ما تحدثه من تأثيرات ، وهى تملك ما يملكه الإنسان من وعى وأراده وأهداف إلا إنها كاملة ومطلقة وقادرة وغير محدودة .. والنظرة الثانية ترى إنه لا منطق وراء هذا التعميم الطفولى والبدائى حيث الطبيعة بلاوعى أو هدف أو إرادة وإنما تحكمها الضرورة الكامنة فى طبيعة الأشياء التى تكونها. النظرة الأولى غير علمية ومثالية بالتعبير الفلسفى ، والثانية علمية ومادية و واقعية بالتعبير الفلسفى أيضا . ( ومن السهل أن نرى كيف أمكن لإنسان الثقافات البدائية أن يفترض وجود عناصر حية فى الطبيعة ما تشبهه تماما ، هذه العناصر الحية هى التى أرادت لأشياء معينة أن تحدث وهذا ما أمكنه فهمه على وجه الخصوص من الظواهر الطبيعية التى تسبب أذى شديد . فالجبل يمكن أن يلام على تسببه لانهيار أرضى ، أو الزوبعة على تسببها فى ضرر قرية.‏‏
  ‎‎وفى أيامنا هذه فأن الإنسان المتحضر ، وبالتأكيد العلماء ، لا يأخذون بهذا التشبيه الإنسانى الذى يقترب من الطبيعة ، ومع ذلك تميل عناصر التفكير الروحانى إلى الإصرار على الأخذ به . أفترض أن حجراً حطم نافذة هل مال الحجر إلى فعل هذا ؟ بالطبع لا . سيقول العالم الحجر هو الحجر ، إنه يخلو من روح قادرة على التميز . وعلى الجانب الآخر ، فأن معظم الناس ، وحتى العالم نفسه ، لن يترددوا فى القول أن الحادث "ب" الذى هو تحطيم النافذة ، سببه الحادث "أ" الذى هو اصطدام الحجر بالزجاج. )33‏‏
 
‎‎عرفنا مما سبق أن هناك علاقة متبادلة شاملة بين كافة الظواهر ، التى تتداخل فيما بينها فيما لا نهاية له من علاقات فضلاً عن اشتراط بعضها بعضا .. فشرط وجود البروتونات أو النيوترونات هو درجة حرارة معينة تسمح للكواركات بتبادل الجلونات. عبر التاريخ الإنسانى الطويل ، وخاصة فى تطوره العلمى ،تمت البرهنة بما لا نهاية له من أمثلة على التبعية المتبادلة للظواهر المادية فيما بينها ، والتى تتشابك فيما بينها فى شتى العلاقات .. ليس ذلك فحسب بل إنه فى كل ظاهرة على حدة تتعدد الجوانب وتتداخل ، فالموجة كظاهرة تتداخل جوانبها ، وتترابط فيما بينها فى علاقات متبادلة ، فلكل موجة طول ما هو المسافة بين قمتين متتاليتين من قممها أو قاعين متتالين من قيعانها ، وتردد الموجة هو عدد تذبذب تلك الموجة فى الثانية الواحدة ، وطاقة الموجة هى كمية الطاقة التى تحملها الموجة ، وتترابط كل هذه الظواهر فيما بينها وتعتمد كل منها على الآخر ، فكلما زادت طاقة الموجة ازداد طولها وترددها والعكس صحيح ، كما ترتبط الموجة كظاهرة بالكتلة التى أحدثت بحركتها الموجة فى علاقة متبادلة.‏‏
‎‎فى الحقيقة أن الطبيعة تتحرك بلا أهداف ولا نحو أهداف معينة بل تحكمها الضرورة، ولا مجال للتوفيق بين النظرتين ، فالنظرة الأولى تعسفية وهذا أولاً فالطفل أو البدائى يظن أن الحجر الذى تعثر فيه ، له ما له هو من وعى ، وله ما له هو من هدف ، سواء أكان هذا الوعى أو الهدف يملكه الحجر فعلاً أو أن هناك من يفكر له ويحركه من خارجه ، ولذلك فأنى أرى وهذه وجهة نظر خاصة ، إنه من الخطأ حين يقع الطفل بالأرض أو يصطدم بالباب ، أن نضربهما بأيدينا له ، لإسكات دموعه ، إن هذا الفعل هو أساس النظرة التعسفية ، هى نفسها أساس نظرة التشاؤم أو التفاؤل فيعبد البدائى حيوان ما لأنه قد تصادف مرور هذا الحيوان لحظة خروجه من مأزق ، أو يحطم شجرة قد أعاقته فى الصيد ، انتقاما منها وهكذا .. إن هذه النظرة تتطور فى عقول البشر عبر تطورهم إلى تصور وجود عقلاً ما خارج الطبيعة يضع لها الأهداف ويحركها إلى حيث هذه الأهداف ، بعد ما تعلمت البشرية إن كل ما يحيطها من أشياء مادية لا تملك أى وعى أو هدف .. والفرق بين المرحلتين فرق فى الدرجة وليس فرق فى النوع .. هذه النظرة أيضا قد وجدت مع انقسام المجتمع البشرى إلى طبقات إحداها تفكر وتأمر وتحدد الأهداف وتجنى فضلاً عن ذلك كل أو معظم ثمار الإنتاج ، وكان يجب أن تبرر هذا الوضع بتبنى تلك النظرة التى تقول بأسبقية العقل وما ينتج عنه من إرادة وأهداف ووعى على الواقع أو الوجود أو الطبيعة، وإلى طبقات تنتج ولا تحكم ولا تملك من أمر نفسها شيئا ولا تجنى معظم ما تنتجه ، وهذه تستهلك ما تنتجه الطبقات الأولى من أفكار ، وإن كان يتناسب مع وضعها الاجتماعى النظرة الثانية التى تقول بأسبقية الواقع أو الوجود أو الطبيعة أو المادة على الوعى أو الفعل أو الإرادة أو الأهداف .. وذلك لأن النظرة الأولى يتبناها دائما من يرفضون تغيير الواقع سواء أكان طبيعة أم مجتمع ، وهم من يعبرون عن مصلحة الطبقات السائدة و الحاكمة والمستغلة ، وهى لذلك لابد وأن تنفى الضرورة والسببية .. أما النظرة الثانية فأنه غالبا ما يتبناها من يسعون لتغيير الواقع ، ذلك لأنه يجب عليهم فهمه ، أى أدراك ما يحكمه من ضرورات وأسباب لكى يستطيعوا تغييره ، وهم من يعبرون عن مصلحه الطبقات المسودة والمحكومة والمستغلة ، وهم من تكون مصلحتهم تغيير الواقع عكس الطبقات التى تتبنى النظرة الأولى .. فالطبقات الحاكمة تسعى دائما لتبنى نظرات تأملية يتناسب و دورها الاجتماعى وهى تنجح فى تسييد نظرتها فى كافة طبقات المجتمع طالما كانت فى السلطة ، أما الطبقات المحكومة فهى لا تتحرر من سيطرة هذه النظرة إلا فى لحظة ثورتها لتغيير النظام الاجتماعى القائم ، وهذا شرط ضرورى لكى تستطيع إحداث هذا التغيير ، وما يتطلبه هذا من تبنى ما يقوم على الممارسة العملية من معرفة و وعى ، ورفض النظرة التأملية للواقع التى لاتستطيع مساعدتنا على تغييره.‏‏
‎‎إن ما نلاحظه من خلال ممارستنا العملية هو الأسباب ، وذلك حين نلتحم بالطبيعة لنغيرها ، ونؤثر عليها بقوانا المادي لإنتاج احتياجاتنا ، وحتى ننجح فى هذا يجب علينا أن نأخذ بالأسباب ونفهم الضرورات ، فممارسة هذا العمل هو أساس العلم الصحيح ، كما أن هذا النوع من العلم هو الوحيد القادر على تطوير كفاءه هذا العمل وإننا حين نمارس كلا من العلم والعمل لا يمكن أن نخرج من دائرة الأسباب والضرورات ، ويستطيع البعض منا فى الغرف المغلقة أن يتأمل ما شاء له الهوى فى الوجود من حوله ، وأن يتفتق خياله عن ملايين الأفكار اللاواقعية ، والخالية من المعنى ، ومن ثمغير المقيدة ، وأن يخترع لكل ما يتأمله غايات وأهداف وهذا شأنه ، الا إنه بمجرد نزوله للواقع سواء لتغييره فأنه لن يجد من سبيل إلى هذا التغيير سوى العمل الذى هو تأثير بشرى مادى على الواقع لتحويله أو لفهمه فأنه لن يجد من طريق إلى هذا الفهم سوى العلم الذى هو فهم ضرورات الواقع .. وكلا العملين مرتبطين فنحن لن نستطيع تغيير الواقع إلا من خلال فهمه ، ولن نقدر على فهم الواقع إلا من خلال الاحتكاك به وتغييره .. هاتان العمليتان المرتبطتان هما أساس كل الإنتاج المادى والفكرى للبشرية عبر تاريخها، وأن من يحتك بالواقع لابد وإنه سيصطدم بالضرورة وما تنتجه من أسباب ، وإن الضرورة لابد وإنها ستحطمه لو لم يحترمها ويعترف بها وحدها سيدة لهذا الوجود .. فالبشر غالبا ما يعانون من ازدواجية غير منطقية تمت مناقشتها فى التمهيد ، فهم يحترمون الضرورة فى حدود ممارستهم للعلم والعمل ولا يعترفون إلا بها ، إلا إنهم يحركون معها أوهام أخرى لا تتفق منطقيا واعترافهم بها فى أنشطتهم الحياتية الأخرى فالبدائى مثلاً يعالج الأمراض بتناول ما فى الطبيعة من أعشاب ومواد قد دلته خبرته العملية على تأثيرها الفعال فى علاج الأمراض ، إلا إنه بجانب هذا لابد وأن يمارس قدراً من السحر بجانب هذه الأعشاب من قبيل التعاويذ والأحجبه والطقوس ، ولذلك تجاور السحر والطب لفترة طويلة من التاريخ البشرى وبالرغم من أن البشر يعالجون لدى الأطباء وأدويتهم الكيمائية ومشارطهم ، إلا إنهم لا يجدون غضاضة فى أن يعتقدوا بالخرافات والأوهام ، التى يعتقدون إنها السبب الحقيقى فى شفاءهم ومرضهم. التسليم بالضرورة لا ينفى دور الإرادة البشرية والوعى البشرى حين يتحول لقوة مادية ، ويؤثر سواء فى الطبيعة أو المجتمع ، فيوقف تأثير أسباب ما ، ويستدعى تأثير أسباب أخرى ما فنحن نقى أنفسنا من العدوى الميكروبية باللقاحات والأمصال فنوقف تأثير الميكروبات على أجسامنا ، كما نكسو الحديد بمواد غير قابلة للصدأ ، إلا أن هذا متوقف على معرفتنا بسبب الصدأ . والتسليم بضرورته ، والعلاقة بين الحتمية أو الضرورة وبين الحرية الإنسانية قد سبق توضيحها فى تمهيد الكتاب ، فالتسليم بالأولى لا ينفى التسليم بالثانية ، فالحرية والنشاط الإنسانى لتحقيقها متوقف على فهم الضرورة ، فالقوى التى تؤثر فى الطبيعة قوى عمياء وبلا أهداف وبلا وعى بعكس النشاط الإنسانى الواعى والهادف.‏‏
‎‎إن كل ماحو لنا هو أشياء مادية تترابط فيما بينها فى وحدة واحدة ، وتتبادل التأثير فيما بينها، فتتأثر بغيرها وتؤثر بغيرها ، والمجتمع البشرى هو كائن مادى بدوره يؤثر على ما حوله من أشياء كما ترتبط به هذه الأشياء ، إلا أن ما يميز المجتمع البشرى فى الحقيقة هو الفرق بين تأثيره على ما حوله ، والتأثر بما حوله من أشياء كما ترتبط به هذه الأشياء ، إلا أن ما يميز المجتمع البشرى فى الحقيقة هو الفرق بين تأثيره على ما حوله ، والتأثير المتبادل لباقى الأشياء الأخرى فيما بينها وعلى المجتمع البشرى ، فالأمطار لا تستهدف عند سقوطها على الأرض إرواء النباتات ، وهى لا تستطيع أن تمتنع عن السقوط ، وإن كان من الممكن لأشياء أخرى أن تمنعها من هذا السقوط ، ، ولا النباتات المروية تستطيع الامتناع عن امتصاص الماء وليس لها أى خطط مسبقة للنمو ، وعندما تأكل الحيوانات النباتات بفعل غريزة الجوع العمياء ، فليس لها أى خيار فى أن تأكل وتعيش ، أو تمتنع عن الطعام وتموت .. فهى لا تملك أى أهداف مسبقة لأعمالها التى تسير وفق الضرورة وحسب ، أما الإنسان فبالرغم من كونه حيوان وكائن مادى تحركه الضرورة ومنها غرائزه الطبيعية من جوع وعطش ونعاس وخلافه ، وذلك فى حالة كونه فرداً معزولاً عن المجتمع ، إلا إنه بفضل اجتماعياته أى عضويته فى مجتمع ما ، فانه يتكون لديه وعى فردى خاص به ، وفى نفس الوقت يشارك أفراد المجتمع ويساهم فى إنتاج الوعى الجماعى المشترك ، وقد يساهم فى التأثير الواعى على الطبيعة ، وتغيير ما بها من أشياء حسب خطط مسبقة وأهداف محددة اجتماعيا يحكمه ويحكم مجتمعه فيها ، وعى كامل بما يفعلون ولما يفعلون .. فهو إذ ينشر الأخشاب ويبنى المنازل وينشأ المراكب ويصنع الأسلحة منها ، ومن ثم يفهم طبيعة الأخشاب وينقل ما فهمه عنها للآخرين ، فأنه يكون قبل كل هذا قد وضع تصوراً محدداً لهذه الأشياء قبل أن يصنعها ، وهذا لا يقارن أبداً بصنع الحيوانات أعشاشا و بيوتا من مواد الطبيعة المختلفة ، إذ إنها تفعل كل هذا بحكم الضرورة فحسب أو بمعنى آخر غرا نزها بلا أهداف أو تصورات مسبقة، وبلا أدنى وعى منها بما تفعل ولما تفعل وكل هذا بطريقة آلية وباستمرارية مذهلة ، فهذا هو ما تفعله كل الأجيال المتتالية من العناكب والنحل والنمل بلا أدنى تغيير ، وبدافع من غرائزها ، فهذا هو ما تعلمته فى لحظة ما من التطور ، وأخذت تورثه لتلك الأجيال كما تورثها صفاتها الجسمية سواء بسواء تماما ، وهى بذلك لا تستطيع فهم ما حولها ثم تغييره وبشكل واعى أو هادف ، فهى لا يمكن أن تضع تصورات مسبقة ثم تشرع فى العمل وفقها ، فهى لا تستطيع أن تبدع فيما تعمل أو أن تغير فيما تعمله ..فأن ما يتمتع به الإنسان من خصوصية تميزه ككائن مادى لا يجوز تعميمه على كل ما فى الطبيعة من كائنات ، فإذا كانت أنشطة الإنسان تتميز بالوعى والأهداف ، فأنه لا يجوز إعطاء هذه الصفة لكل ما فى الطبيعة من أشياء وكائنات ، سواء من داخلها أو من خارجها ، ومن ناحية أخرى فأن التسليم بقانونية كل ظواهر الواقع ،لا يعنى التسليم بعدم قدرة الإنسان على فهم الواقع ، ومن ثم تغييره من خلال فهمه لقوانينه .. وانطلاقا من هذا إذن فأنه فى مواجهة الضرورة توجد المصادفات ، والتى هى أحداث غير ثابتة ولا متواترة الحدوث ، وليس لها أى علاقة بجوهر الأشياء والعمليات والظواهر ، فالأحداث العرضية قد تحدث أو قد لا تحدث ، وعندما تحدث قد تحدث فى شكل ما مرة ومرة أخرى بشكل آخر ، كمصادفة نجاتك من الموت من جراء سقوط الحجر من قمة الجبل بجانبك ، وإذا كانت الضرورة كامنة فى طبيعة الأشياء ، فأن المصادفات لا تكمن فى طبيعتها. والضرورة أيضا هى التى تسقط حجر من على قمة الجبل ، حيث انفصل عن الجبل ، وجذبته إلى مركزها الأرض بما تملكه من مجال قوى للجاذبية ، وعملية السقوط هذه ما هى الا تبادل لكمات الجاذبية المسماة بالجرافيتونات ما بين الأرض والحجر ، ولو أنك مررت بسفح الجبل فى نفس لحظة السقوط ، فقد يرتطم الحجر برأسك فيصرعك ، وهذه محض مصادفة، وإن كان من الممكن تحاشيها لو أنك أسرعت أو تباطأت فى المسير ، وقد يكون قد تصادف ارتداءك خوذة فى هذه اللحظة ، فلا يسبب لك الحجر إلا أضرارً بسيطة عند سقوطه على رأسك.‏‏
***************
‎‎م-والبعض يحاولون أن يشيعوا عجز العلماء حتى الآن على تخليق خليه حية رغم نجاح الإنسان فعليا فى هذا عام 1970 على يد جيمسى وانبيل - أحد علماء جامعه نيويورك .. وذلك ليبرروا أن هناك معجزة ما وراء تكونها مادمنا عرفنا مكوناتها ، وبصرف النظر عن نجاح العلماء فى ذلك من عدمه ، فأن هؤلاء يقعون فى خطأ قاتل هو أنهم يريدون اختصار ملايين السنين ، وتوافر شروط معينة ، تكونت فيها الخلية الحية بمكوناتها المعروفة ، فى أن يصنعوا ما صنعته الطبيعة بمجرد الربط الميكانيكى بين المكونات المعروفة فى حين أن معرفتنا العلمية لم تصل حتى الآن إلى الكثير من أسرار ترابط هذه المكونات لتكون الخلية الحية.
****************‏‏
الهوامش
7 ‎‎ـ جريدة الحياة اللندنية اليومية-عدد3/8/1990-ص8.‏‏
8 ـ ‎‎د.عبد العظيم أنيس-هل يمكن أسلمة العلوم ‏-‎‎سلسلة كتاب قضايا فكرية-الإسلام السياسى .الأسس الفكرية والأهداف العملية _أكتوبر1989  _العدد الثامن_ص183وما بعدها .‏‏
9 ‎‎ـ ‎‎المصدر نفسه _ص183وما بعدها .‏‏
10‎د.رشاد عبد الله الشامى -القوى الدينية السياسية فى إسرائيل سلسلة عالم المعرفة -‎الكويت-العدد186-ص276.‏‏
11_‎‎فيتالى رادنيك-مصدر سابق-ص245.‏‏
12- ‎‎هانز ريشنباخ-ترجمه فؤاد زكريا -نشأه الفلسفة العلمية- ص81‏‏
13 ‎‎د.يمنى طريف الخولى-فلسفه كارل بوبر-- الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ سنة 1989 ـ ص71‏‏
14- ‎‎هانز ريشنباخ-مصدر سابق -ص21،22‏‏
15‎‎ـ هانز ريشنباخ-مصدر سابق 16-رودلف كارناب- مصدر سابق -ص248‏‏
17- ‎‎المصدر نفسه_ ص252‏‏
18‎‎ستيفن هوكنج-موجز تاريخ الزمن-ترجمة مصطفى إبراهيم فهمى -دار الثقافة الجديدة-ص140-141.‏‏
19‎‎ـ ستيفن هوكنج ـ المصدر نفسه_ص145‏‏
20‎‎كارل ساجان_الكون_سلسلة عالم المعرفة‏‏
21‎‎هانز رايشنباخ ـمصدر سابق‏‏
22‎‎ستيفن هوكنج- مصدر سابق‏‏
23‎‎ـ موجز تاريخ الفلسفةـ مجموعة من أساتذة الفلسفة ـترجمة د.توفيق سلوم ـ دار الفاربى ـ بيروت الطبعة الأولى ـمايو 1989 ـ ص659‏‏
24 ‎‎المصدر السابق ـص659‏‏
25 ‎‎كارل ساجان_مصدر سابق‏‏
26-‎‎أحمد إبراهيم الشريف- الحرية و الحتم فى القانون العلمى-الهيئة المصرية العامة للكتاب-ص113-114.‏‏
27-‎‎ستيفن هوكنج-مصدر سابق-ص60.‏‏
28-‎‎ف.لانداو.وأ.إكيتايجورودسكى- الفيزياء للجميع-ترجمة سليمان داود كرومى-دار مير-ص252.‏‏
29-‎‎المصدر نفسه_ص257.‏‏
30-‎‎فيتالى رادنيك_مصدر سابق_ص441.‏‏
31-‎د.زكى نجيب محمود -أزمة العقل فى حياتنا -‎مجلة العربى الكويتية العدد173.‏‏
32-‎‎هربرت شيلد-المتلاعبون بالعقول ـ ترجمة عبد السلام رضوان-سلسة عالم المعرفة ـ العدد106ـ أكتوبر1986 -الكويت-ص6. ‏‏
33‎‎رودلف كارناب-مصدر سابق- 




#سامح_سعيد_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تهنئة بالذكرى الأولى لإطلاق الحوار المتمدن فى وجهه الزمن الر ...
- كتاب تقدم علمى تأخر فكرى - فيض المعرفة اللامتناهى
- كتاب تقدم علمى تأخر فكرى - البداية والتمهيد
- مقدمة وخاتمة كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماعى
- رسائل و ردود
- الفصل الثامن من كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتم ...
- الفصل السابع من كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماع ...
- الفصل السادس من كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماع ...
- الفصل الخامس من كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماع ...
- الفصل الرابع من كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماع ...
- الفصل الثالث من كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماع ...
- الفصل الثانى من كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماع ...
- الفصل الأول من كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماعى ...
- اللاسلطوية والصحة العقلية
- ملاحظات على التجربة
- لاسلطوية نجيب محفوظ
- نقد اشتراكية الدولة
- لماذا تحولت للاسلطوية؟
- هرم السلطة وذرات المقهورين
- فى أمس الحاجة للحلم اللاسلطوى


المزيد.....




- حظر بيع مثلجات الجيلاتو والبيتزا؟ خطة لسن قانون جديد بمدينة ...
- على وقع تهديد أمريكا بحظر -تيك توك-.. هل توافق الشركة الأم ع ...
- مصدر: انقسام بالخارجية الأمريكية بشأن استخدام إسرائيل الأسلح ...
- الهند تعمل على زيادة صادراتها من الأسلحة بعد أن بلغت 2.5 ملي ...
- ما الذي يجري في الشمال السوري؟.. الجيش التركي يستنفر بمواجهة ...
- شاهد: طلاب جامعة كولومبيا يتعهدون بمواصلة اعتصامهاتهم المناه ...
- هل ستساعد حزمة المساعدات العسكرية الأمريكية الجديدة أوكرانيا ...
- كينيا: فقدان العشرات بعد انقلاب قارب جراء الفيضانات
- مراسلنا: إطلاق دفعة من الصواريخ من جنوب لبنان باتجاه مستوطنة ...
- -الحرس الثوري- يكشف استراتيجية طهران في الخليج وهرمز وعدد ال ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سامح سعيد عبود - كتاب تقدم علمى تأخر فكرى - غسيل العقول