أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - يزن حداد - في العلاقة بين الماركسية والدين (2-2)















المزيد.....



في العلاقة بين الماركسية والدين (2-2)


يزن حداد

الحوار المتمدن-العدد: 4532 - 2014 / 8 / 4 - 10:22
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    



"يُفترض أن يبقى الدين، أي دين، في إطار الاعتقاد الخاص والشخصي، وحين يتوجه إلى الآخرين، يفترض أن يبقى في نطاق القيم الأخلاقية، أما إذا تحول إلى عمل سياسي فيصبح عندئذ ذريعة لسلب حرية الإنسان وإرغامه على الامتثال، كما يصبح وسيلة لقهر الآخرين وتبرير استغلالهم في الكثير من الأحيان".


بتلك العبارة افتتح الروائي عبدالرحمن منيف (1933-2004) أحد فصول كتابه -بين الثقافة والسياسة- الذي تحدّث فيه عن مسألة الدين السياسي متخذاً موقف المثقف التقدّمي على ضفاف الفكر، ومنها ننطلق أيضاً لسبر أغوار تلك الإشكالية من عدة أبواب، تاريخية واقتصادية اجتماعية وسياسية.

التكوين التاريخي للإسلام، وأثر الانقسامات

قد يختلف الإسلام أيديولوجياً عن الديانات التي سبقته (المسيحية واليهودية) من حيث التكوين التاريخي له (الظروف التاريخية الموضوعية التي قادت ظهوره) إلى جانب عدد من العوامل الأُخرى، مما يكسبه استقلالية نسبية تجعل منه موضوع دراسة معمّقة تتمايز تارةً، وتتقاطع تارةً أُخرى مع المنظور الماركسي الكلاسيكي للأديان بشكل عام. فكثيراً ما تتداخل التصورات والآراء لدى طرح مسألة إشكالية كتاريخ الكنيسة في أوروبا أو التكوين التاريخي للإسلام في الشرق، فالواقع أن التاريخ الإسلامي لم يتشكل وفق ما يزعمه البعض بأنه “خصوصية” الإسلام الخارجة عن إطار الزمان والمكان، وهو ما تم توظيفه لاحقاً في تبرير الصعود المفاجئ للتيارات الإسلامية في كل من مصر وتونس عقب ما يسمّى بـ “الربيع العربي” في ظل غياب التنظيمات اليسارية عن الساحة، والتي تمتلك تصوّراً اقتصادياً مغايراً.

ولا أرى من حاجةٍ هنا للخوض في تفاصيل الوعي الديني ومركّباته البنائية من جديد –والتي تناولناها في الجزء الأول من هذه المادة- فالتجمعات البدائية للبشر قامت على أساس تصور ميتافيزيقي للكون وفق ما تفيد السجلات العلمية التي رصدت تلك الحقبة، ومن ثم انسحبت هذه الأفكار التي جسّدت انعكاساً لا-واقعياً للواقع حتى الأجيال اللاحقة، وتطورت بما اقتضته الأنماط الاقتصادية المتعاقبة وضمن أطر منطق عملها، أي أن الأديان لم تكن مجرد شعائر وطقوس ومعابد، بل كانت تنطوي على علاقات اجتماعية اقتصادية إلى جانب ذلك.

فالتركيب الطبقي والصراعات السياسية لم تخفى بلا شك عن صيرورة الحضارة الإسلامية في فجر نشأتها وما سبقه، ويمكننا أن نجد أدلة عديدة على ذلك في كتب التاريخ التي ناقشت تاريخ الإسلام من زاوية مختلفة، بعيداً عن التصورات الميتافيزيقية والفهم اللاهوتي لطبيعة الصراع، حيث يتضح جلياً من قراءة تاريخ تلك المرحلة أن التجارة كانت ركيزة أساسية من ركائز المجتمع حينها، كما أن مكة قبل محمد وفي عهده كانت أحد أهم مراكز التجارة في ذلك العصر، فقد مثّلت حلقة الوصل بين اليمن والحبشة وبلاد فارس وبيزنطة، وكانت تمر القوافل من خلالها، كما تشير المراجع أيضاً أن قاطني مكة كانوا يشتغلون بالتجارة، والزراعة كمصدر ثانوي للدخل.

يرى المفكر العراقي هادي العلوي (1933-1998) أن الإسلام قد ورث العديد من الصفات والمقومات الأيديولوجية التي ساهمت في تكوينه، عبر الحضارات المجاورة جغرافياً لمكان نشأته، والتي اختلط بها عن طريق حركة التجارة والتبادل في ذلك الوقت إلى جانب الفتوحات الإسلامية لاحقاً، حيث يقول أن “الإسلام هو التجارة والملكية الخاصة التي قامت عليها دولته منذ البدء، وهو أيضاً تلك المبادئ المشاعية التي استمرت من يسوع ثم نضجت وتطورت على أيدي مفكرين كالمعري وأقطاب الصوفية، وسياسيين كالقرامطة”. وفي ذلك نجدُ صورة شبيهة بالمنظور الماركسي للمسيحية في أوروبا القرون الوسطى التي رأى إنغلز أنها تحمل طابعاً مزدوجاً.

فهل كان الإسلام ثورة للعبيد؟ أم ثورة مضادة قادها التجار؟ أو أنه مزيج منهما في آن معاً؟!

ربما مثّل الإسلام في بداياته مشهداً متناقضاً لصراعات اجتماعية وسياسية على السلطة وطرق التجارة التي كان يسيطر عليها قادة قبائل قريش حينها، أبو سفيان بن حرب أنموذجاً؛ حيث ترتسم معالم هذا التناقض جلياً من محيط الصراعات التي نشبت بين قوى اجتماعية صاعدة لها جهازها المفاهيمي وأيديولوجيتها (بالمعنى الرائج)، والتي استمدّت العديد من عناصرها “الأيديولوجية” عن طريق تمازج مئات الأعوام من الحضارة الرومانية والمسيحية الناشئة التي قامت على أكتافها، مع وعي الشعوب التي قطنت ما يعرف الآن بشبه الجزيرة العربية، والتي جُبلت بالوعي الرعوي البدائي وما قبل الإقطاعي، وبين قوى اجتماعية أُخرى دافعت عن مواقعها في السلطة باستماتة.

حيث تبلور الإسلام في ضوء عدد من العوامل الموضوعية التي نبعت من أحشاء الواقع الحي، فالنمط السائد للإنتاج (مذ أن قامت الدولة الأموية على وجه التحديد بدور الخلافة) كان تداخلاً بنيوياً بين الاقتصاد الزراعي والتجاري، تضبط سيرورة عمله تراتبية إقطاعية في ثوبٍ ديني، وهنا نلاحظ تميّز علاقات الإنتاج القائمة على الملكية الإقطاعية، تلك الشبكة من العلائق التي بدأت وتجذرت في كنف خلافة معاوية بن أبي سفيان، الذي أسس الدولة الأموية بعاصمتها دمشق ليخلفه لاحقاً يزيد بن معاوية، والتي تزامن صعودها مع تآكل وانحدار النمط التقليدي للإقطاعية الرومانية الرثة.

على العكس من أنساق الإنتاج السائدة في الجزيرة العربية قبل إنشاء دولة الخلافة، فقد سيطرت فيها قوى الإقطاع البدائي وشكل من أشكال العبودية (يرجح البعض استحالة تحديد علاقاتها في مجتمع مكة ما قبل الإسلام، بحيث تتشابك لديهم المسألة في فهم تمفصل قوى الإنتاج عبودية الطابع والإقطاعية، إلى جانب اندماج المجتمع في حركة التجارة)، ومن هنا نجد أن السلطة الثيوقراطية التي تشكلت في ظل دولة الخلافة الإسلامية الوليدة (بما هي سلطة سياسية وسلطة طبقية تتمظهر من خلالها علاقات اقتصادية موضوعية قابلة للتعيين) كانت نتيجتها إرهاق القوى العاملة من فلاحين وشغيلة، إلى الحد الذي دفع بالتناقضات الاجتماعية الممتدة كمّياً إلى حيّز الحركة الجماهيرية، والتي تفجّرت على صعيد زاوَجَ بين الاجتماعي والسياسي فيما بعد.

ومما لا شك فيه، توخياً لمادية المساق في التحليل، ينبغي التأكيد على أن هذه التركيبة المتنافرة لم تكن لتعكس تناقض لاهوتي يمس النصوص المجردة، بقدر ما تعكس تناقضات البنية الاجتماعية كدافع رئيسي أنجب العديد من الثورات والانتفاضات، كان مؤداها أن أنتجت ثلة من التكتلات الدينية التي تحولت بصورة تراكمية إلى تيارات ومذاهب مستقلة لاحقاً، ويضيف هنا المفكر الشيوعي اللبناني حسين مروة (1910-1987) من خلال مؤلَّفه الأبرز (النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية) بُعداً جديداً لقراءة موروثات تلك الحضارة، بما هو مؤلَّف أكاديمي ومنهجي في بحث التاريخ الإسلامي، يعتمد المادية الجدلية كقاعدة علمية يؤسس عليها دراسته.

حيث يشير إلى ثلاثة نماذج ذات دلالات تتعلق بالشق الاجتماعي آنف الذكر بالرغم من أنها اصطبغت بصبغات دينية، وهي ثورة الزنج، حركة القرامطة السياسية، والثورة البابكية الخرمية (وهو قائد فارسي “بابك الخرمي” تزعم ثورة على خلافة العباسيين في مستهل القرن الثالث الهجري)، فيحيل مروة تلك الثورات الثلاث بالتحديد، التي لم يكن من باب المصادفة المحضة أن جمعها القرن الثالث، إلى العامل الاقتصادي الذي سخّن التناقضات الطبقية في لحظةٍ يعتليها التوتر الحاد من التاريخ الإسلامي بمجمله، مهيئاً بذلك الظرف الموضوعي لاستقبال الانتفاضات والنتائج التي تمخضت عنها.

وفي سياقٍ متصل، شكّل هذا الصراع التناحري متعدد الأبعاد رافداً لتغذية التاريخ الإسلامي بعناصر الانقسام والاختلاف، على غرار النزاع بين البروتستانت (وهي كلمة لاتينية مشتقة من الكلمة الإنجليزية Protest بمعنى “المحتجون”) مع الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا القروسطية كمثال مشابه، والذي كان مآله انشقاق تلك الجماعة نتيجة لخلافات قيادية وكنسية؛ فعناصر الانقسام تلك في الإسلام مهّدت الأرضية لولادة تيارات دينية رجعية من جهة وتيارات اتّسمت بالثورية من جهةٍ أُخرى إبان عدّة منعطفات حاسمة في التاريخ الإسلامي، حيث رفضت بعض الفرق الإسلامية مثلاً أن تعتمد النقل وحده كمنهج للتشريع والتفكير، إلى أنها فضّلت أن تبني معتقداتها بصورة أكثر عقلانية تستند إلى الجدل، الجدل بمفهومه اللغوي وليس الفلسفي. جماعة “المعتزلة” التي برزت في مطلع القرن الثاني الهجري قد تكون أوضح مثال على ذلك.

وهناك التيارات التكفيرية التي وقفت على الطرف النقيض (التكفيري البحت) من كافة التيارات التي انشقت عنها؛ لكن لا يمكننا على أية حال أن نختزل ظهور هذه الجماعات الدينية بشتى ألوانها إلى انقسامات سياسية في تاريخ الإسلام وحسب، فقد منحتها الظروف الاجتماعية القاسية -إلى حدّ الانتحار- والعلاقات الفوقية (الدولة وأجهزة التهميش لديها) الزخم المناسب لتمتلك، بشكلٍ من الأشكال، خطاباً مستقلاً عن الظروف التي قادت إلى وجود هذه التيارات بالأساس.

أمّا من نافذة التاريخ، فقبل أن نعرف التيار “السلفي” بشكله الحالي، كان قد تأسس على يد أحمد ابن تيمية (661 ه-728 ه) في بدايات القرن الثامن، فقد تبلور ذلك المصطلح من تأكيده على ضرورة الانطلاق من فهم السلف لفهم الدين، لنجد أن ذلك الفهم ليس سوى فكر يحول الواقع إلى أساطير وخرافات ويغيّب المنطق تماماً في محاولة منه لخلط الدين بالسياسة (التي تخضع بالضرورة للمصالح الطبقية)، ومن حيث لا تدري، توظف تيارات دينية من هذا القبيل في خطابها آلية تُعرف بـ “المنطق الدائري”، وهو ما يعني صياغة النتيجة المطلوبة على أنها معطى للاستدلال على النتيجة ذاتها، فهو منطق التوائي يقارب في جوهره خطاب الثيولوجي توماس مونزر الذي قام إنغلز بتعريته من خلال كتاب (الحرب الفلاحية في ألمانيا)، وهو ما نحاول فعله عملياً هنا بصدد التيارات الإسلامية وتجّار الأديان، مع فرق الاختلاف أن إنغلز كان قد وصف مونزر بالثوري!

وفي القرن الثاني عشر الهجري، برز مفهوم جديد يستلهم دوغما الموروث السلفي من قعر التاريخ لينتج خاصته على يد محمد بن عبدالوهاب (1115 ه-1206 ه) أي في عهد ظهور حركات التنوير الأوروبية في القرن الثامن عشر ميلادي، والتي شنّت حرباً ضروساً على الأديان (المسيحية بالتحديد) وكافة مخرجاتها، مطلِقاً بذلك موجةً دينية جديدة قديمة ألقت الضوء على أفكار تجاوزتها الثورة العلمية إلى غير رجعة، فيما عرف لاحقاً باسم “السلفية الوهابية” أو “الوهابية” اختصاراً. وهي امتداد ديني أكثر رجعية وأعتى من التيار السلفي القديم الذي كانت مساحة تأثيره ضيقة مقارنةً بالوهابية التي ظهرت أكثر اتساعاً في دائرة نفوذها السياسي، وهو ما نختبره اليوم بشكلٍ ملموس في دولٍ تمثّل أكثر صور الإسلام تبعيةً وتخلف وأصولية، كالمملكة السعودية، على سبيل المثال لا الحصر، والتي تسيطر عليها المؤسسة الوهابية.

وشملت تأثيرات الحركة الوهابية التي أطلقها محمد بن عبد الوهاب في منطقة “نجد” عدداً من التكتلات الدينية في دول المنطقة، لكن دراسة الإسلام السياسي المعاصر تتطلب الوقوف عند مجموعة من الأسباب التاريخية المتشابكة والعوامل التي قادت إلى ذلك.

الإسلام السياسي الحديث، الاستقطاب، والمعسكر الإمبريالي

انسحبت مفاعيل الحركة الوهابية لتستقطب في البداية عدداً من “التلاميذ” الذين انخرطوا في العمل السياسي بعد أن بدأوا كجماعات دعويّة ليس إلا، حسن البنا في مصر أنموذجاً على ذلك. لكن في سياق العودة إلى شبكة الأسباب التاريخية التي أنتجت ما يسمّى بـ “الإسلام السياسي”، وبالرغم من تباين هذه الأسباب التي تصب في اتجاه واحد هو النقيض من مشروع الحداثة والتحرر، يتكشف لنا أن العمق التاريخي للإسلام السياسي الذي نعرفه اليوم يعود بنا إلى الهند حينما كانت مستعمرة بريطانية، حيث تمّ ابتكاره لتبرير رغبات الاحتلال البريطاني الجامحة بتقسيم البلاد على قاعدة الفصل من جهة والدمج من جهةٍ أُخرى بين الدين والدولة، كون أحد غايات حركة الإسلام السياسي التي تستحضر أحمد ابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب في بناء خطابها الأيديولوجي، هو “إثبات” أن المسلم الملتزم لا يمكن فصله عن “دولة الإسلام” –وفقاً للمنطق الدائري آنف الذكر– القادرة على تحقيق القانون العابر للزمن، قانون الشريعة السرمدي الذي لا يخضع لمعطيات العملية التطورية للبشر وأنماط الإنتاج!

فقد قام أبو العلاء المودودي (1903 م-1979 م) باعتناق هذا التوجّه الفقهي الذي يرفض، في جانبٍ منه، كافة الموروثات الثقافية للحضارة الإسلامية بتداخلها مع الفلسفة الإغريقية على نحوٍ تفاعلي في ذلك الوقت، وهي ذات الموروثات التي يؤكد سمير أمين من خلالها على مناهضة المركزية الأوروبية، والتي همّشت الدور التاريخي للحضارة العربية على أوروبا ضمن علاقة مركز–طرف، بالانتقال من نمط الإنتاج الإقطاعي إلى الرأسمالية بوصف أوروبا طرفاً في تلك المعادلة.

تثير توجّهات من ذلك القبيل نزعات ثقافوية لدى الفئات الاجتماعية التي تستقطبها حركات الإسلام السياسي، بحيث تعمل على استمالة مشاعر دينية نابعة مما يزعمون أنه “الخصوصية” التاريخية للإسلام، مما يستفز بالتالي الصراعات الفرعية على حساب الصراع الاجتماعي الأساسي، حيث يتمظهر نسق التفكير الثقافوي الذي يتم غرس بذوره داخل الوعي الجمعي لشرائح واسعة، عبر أسلمة السياسة (تحت الاعتبارات الطبقية) في مسألتين رئيسيتين، أولاً هي تنأى بنفسها عن التحولات التي تطرأ على المجتمع وبنائه الثقافي باسم القدسية، لتتحول هذه الشرائح إلى “أصوليات” تكفيرية لا أكثر، وثانياً تغليب البعد الجماعوي للهوية على حساب البعد الطبقي والأيديولوجي عبر تغذية الميول الثقافوية التي تقوم بذلك الدور في إطار الممارسة السياسية.

تتمدد الشرائح الاجتماعية التي تستقطبها تنظيمات الإسلام السياسي بين الطبقات الوسطى (البرجوازية الصغرى التي يغلب عليها الطابع اللا-إنتاجي) بصورةٍ رئيسية، وتجد لها قاعدةً اجتماعية خصبة أيضاً في صفوف مثقفي هذه الطبقة المهمّشة بفعل التحوّلات الناجمة عن سياسات الخصخصة والنيوليبرالية، كما تعاني هذه الطبقات من أعلى مستويات البطالة كذلك مما يزيد من فرص توسّع الفكر الإسلاموي بداخلها، أمّا الطبقة العاملة والشغّيلة والكادحين، فقد استطاعت الأحزاب الإسلامية شراء رصيدهم التصويتي بالمال السياسي الممول، بالرغم من فقدان مصداقية الأحزاب كافة لدى هذه الطبقة.

وعلى الصعيد السياسي، هنالك أيضاً مجموعة من الأسباب التي أنتجت التيارات الإسلامية والأحزاب التي تمثلها، حيث أن جماعة الإخوان المسلمين (التي تأسست عام 1928 على يد حسن البنا) هي الجناح السياسي للأحزاب الإسلامية والذراع الحركي لها في نفس الوقت، قبل أن تكون الواجهة “الدعويّة” لتعبئة الجماهير بادئ ذي بدء، فقد كتب الصحفي أيان جونسون حول علاقة الإخوان المسلمين كجماعة حديثة العهد في الشؤون السياسية بالغرب، في كتاب (مسجد في ميونخ)، وهو يربط التحليل هنا بمجريات الحرب العالمية الثانية وتجليات موازين القوى فيها، أي بروز الولايات المتحدة كقوة عظمى على الصعيد العالمي؛ مذ إعلان ألمانيا الحرب على الجبهة السوفييتية وتبنّي هتلر لمسلمي روسيا وتركمستان وكازخستان وغيرهم في صفوف جيشه بعد أن أقنعهم بحجة محاربة الشيوعية واليهودية معاً، وانتهاءً بسقوط النازية ورفع العلم السوفييتي على الرايخستاغ في برلين عام 1945، ومن ثم احتضان أمريكا رسمياً للإسلام السياسي لملء فراغ النازية التي احترفت الدعاية ووسائل الشحن المذهبي.

وربما قد يكون ما فعلته الولايات المتحدة في ثمانينات القرن المنصرم من دعم وتسليح وضخ للأموال إلى الحركات الإسلامية في أفغانستان لمواجهة المد الشيوعي (اعترفت الولايات المتحدة بذلك على لسان وزيرة خارجيتها السابقة هيلاري كلينتون، حيث أكدت أنها سلحت ودعمت تنظيم القاعدة لمواجهة الاتحاد السوفييتي)، دليلٌ دامغ على تلك الحقيقة، أي ارتباط التيار البرجوازي المتأسلم (بحسب تعبير مهدي عامل) باستخبارات الدول الإمبريالية، فقد أدّت الوهابية السعودية في تلك الفترة دورها بإتقان، حيث اضطلعت بدور الحاضن الأيديولوجي والخزان البشري لـ “المجاهدين العرب”، في حين لعبت أمريكا دور الممول والداعم لها، ومن نافلة القول أن الكونغرس الأمريكي قام برصد مبالغ فلكية من ميزانية الدولة لتلك الغاية، ويأتي ذلك كله في سياق الحرب الطاحنة على المعسكر الاشتراكي ومشروعه التحرري.

يكشف أيان جونسون تفاصيل دقيقة لصفقات عُقدت بين جماعة الإخوان المسلمين والـ CIA وعن تنسيق على أكثر من مستوى من خلال كتابه، فقد شكّل الرئيس الأمريكي دوايت آيزنهاور (1890-1969) على سبيل المثال، لجنة تكوّنت من بعض ضباط السي آي إيه ووزارة الخارجية، مهمّتها الرئيسية هي دراسة الخيارات الاستراتيجية والتكتيكية المتاحة في وسط المعركة الدائرة بين المعسكرين، والتي كان (الإسلام السياسي) من ضمنها، حيث قامت “الجماعة” بإرسال سعيد رمضان (1926-1995) زوج ابنة حسن البنا، والرعيل الأول من قيادات الإخوان في مصر، إلى لقاء آيزنهاور في أمريكا، ليخرج البيت الأبيض بتوصيات عدّة، كان أهمّها هو توفير كافة المصادر اللازمة لمساندة الحركات الإسلامية في المنطقة، التي يحتل الإخوان المسلمين، الحليف الأقرب للغرب، رأس القائمة فيها كحركة سياسية أصولية!

وبعد عام على ذلك اللقاء، فرّ العديد من قيادات الإخوان خارج مصر إثر محاولة الاغتيال الفاشلة لجمال عبدالناصر عام 1954، ليحتضن الأردن سعيد رمضان، برحابة صدرٍ أمريكية، ويمنحه جواز سفر دبلوماسي يمكّنه من التنقل في دول الغرب بسهولة، ومن ثم استقر لاحقاً في السودان بفضل ذلك الجواز، لينتقل مجدداً إلى أوروبا عام 1958 نحو مقر إذاعة Amcomlib التي أنشأها الألمان بغرض بث البروباغندا والتحريض ضد الاتحاد السوفييتي، فقد كان معظم العاملين في تلك المحطة ممن استقطبهم هتلر خلال الحرب العالمية الثانية لمقارعة الشيوعية، وكان يتضمن جدول أعمالها بنداً يتعلق ببناء مسجد في ميونخ، الأمر الذي تبرع سعيد رمضان بتغطيته مالياً، لينتهي بناء المسجد الذي ترأسه كذلك عام 1960، ويصبح مرتعاً للاستخبارات الغربية وهجمات الإمبريالية على القطب السوفييتي.

وصلت علاقة الشراكة بين الإخوان والمعسكر الإمبريالي إلى أنهم لم يتوانوا لحظةً في التعاون مع الاستخبارات البريطانية والفرنسية لمحاولة اغتيال الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، والاصطفاف خلف خطوط الوهابية ورجعيات البترودولار لنفس السبب أيضاً، أو الارتماء في أحضان الملك فاروق لمواجهة ثورة الضبّاط الأحرار قبل ذلك، وقد بدا هذا جلياً في المؤتمر الرابع للجماعة عام 1936 الذي صرح فيه حسن البنا بقوله أن “الله مع الملك” في إشارةٍ ضمنية إلى تخندق الجماعة بجانب نظام الملك فاروق حينها، وردّاً على ما قاله رئيس حزب الوفد مصطفي النحاس بأن “الشعب مع الوفد”!

جماعة الإخوان المسلمين هي جماعة انتهازية بامتياز، فهي تبرر غاياتها بأي وسيلةٍ كانت، حتى لو كانت تعني التحالف مع أمريكا والاستعمار بكافة أشكاله لتحقيق مآربها، والأهم من ذلك، أن مساحة التقاطع بين البرنامج الاقتصادي الذي تفترضه تيارات الإسلام المؤسسي (بوصفها ظاهرة “جماعوية” دينية) وبين الاشتراكية كنظام اقتصادي تكاد تكون معدومة تماماً، وهي بالفعل كذلك، كون التيارات البرجوازية المتأسلمة ليست سوى الوجه الآخر للرأسمالية والعولمة، أي أنهما وجهان لعملةٍ واحدة، عنوانها الاندماج في اقتصاد السوق “الحرة”.

الرأسمالية في مرآة الاقتصاد الإسلامي

لطالما شجّعت التيارات الإسلامية بتنوع تعبيراتها مسألة الملكية الخاصة والتملك الفردي بذرائع مستمَدة بشكل أساسي من “تشريعات” فقهية ثابتة لا تخضع لمجهر الفحص والتدقيق، في حين يعتمد البرنامج الاقتصادي للإخوان بصورة رئيسية على “الزكاة” وسياسات أُخرى تحثّ على الأعمال الخيرية، مفترضين أن هذا النمط “التسوّلي” في إدارة المجتمع هو عصا العصر السحرية القادرة على حل التناقضات الاجتماعية العميقة، وتجاوز إشكاليات البرجوازية الطفيلية بالرغم من أنهما من طينةٍ واحدة.

فالنقد للخطاب الاقتصادوي الذي تتبناه معظم الأحزاب الإسلامية في المحيط الإقليمي (حزب الحرية والعدالة سابقاً في مصر، حزب العدالة والتنمية في تركيا، حزب النهضة في تونس، والأحزاب الإسلامية المتعاقبة على الحكم في السودان، بالاستثناء الجزئي لتجربة الانقلاب الذي قاده العقيد جعفر النميري (1930-2009) قبل أن يعلن حالة الطلاق مع قوى اليسار السوداني والتحالفات الشيوعية، والتي حملت معها توجهات تنموية تتعلق بتأميم الشركات والبنوك وتطوير القطاع التعليمي..إلخ)، ينطلق النقد إذاً من ركيزتين أساسيتين، هما الفشل أولاً في طرح بديل جذري يمسّ جوهر الأزمة البنيوية التي تعصف بمراكز رأس المال وأطرافها التابعة، وثانياً الارتباط العلني بالمعسكر الإمبريالي، سواءً كان ذلك على صعيد تبعية اقتصادية تنزع نحو الاندماج الكلّي في منظومة السوق ولا تكسر التحاق الأطراف بالمراكز بل تعززها وتزيد من توطيدها، أو على شكل انكفاء دبلوماسي (كحد أدنى) في التطرق إلى مسألة وجود الكيان الصهيوني والتطبيع معه، ويأتي هذا الخطاب تحت عناوين فضفاضة لتسويغ الانخراط المباشر في الاقتصاد الرأسمالي المعولم، والتي تندرج أيضاً تحت مسمّيات “الواقعية” لتبرير النشاط الاقتصادي الكومبرادوري للبرجوازيات المتأسلمة.

والجدير بالذكر هنا أن مفهوم “البرجوازيات المتأسلمة” الذي نحته مهدي عامل في كتاب (نقد الفكر اليومي) ينطلق به من فكرة تعرية الإسلام المؤسسي طبقياً كونه يتناقض مع طبيعة القاعدة الاجتماعية التي يستقطبها الإخوان أساساً (أو الأحزاب الإسلامية بعامة)، فهو يجد أن مصطلح “الإسلام السياسي” ما هو إلا تعبير مركّب هدفه تورية واقع البنية الطبقية للتنظيمات الإسلامية، ويتساءل في ذلك السياق عن مواقع التنظيمات الإسلامية الحديثة من الصراع الطبقي القائم، في ضوء التموضع السياسي لرجالات الأعمال الإسلاميين، حيث حرصت السعودية، وقطر خلفاً لها، على رعاية استثماراتهم المحلية والإقليمية ومصالحهم التي تقدّر بالملايين.

لقد عمل البنا على نسج صلات وطيدة مع السعودية منذ تأسيس الجماعة في مصر، في حين ساندت المؤسسة الوهابية الحاكمة في المملكة السعودية الإخوان مساندة غير مشروطة، وخلال أكثر من محطة تاريخية فتحت أبوابها لأعضاء الجماعة ومنحت بعضهم جنسيتها وقدّمت لهم تسهيلاتٍ مالية كبيرة، وازداد حجم الدعم بصورة فارقة في السبعينات تزامناً مع أفول النموذج الناصري عقب استلام الجناح اليميني الحكم في مصر، الأمر الذي شكّل خطوة إلى الوراء عن كافة المنجزات المستحَقة في عهد عبد الناصر، إضافة إلى انكماش التنظيمات اليسارية الفاعلة بعد أن ضُربت على يد الرئيس المصري أنور السّادات (1918-1981) مطلِقاً ذراع الإخوان الذين كانوا قد تعرضوا للملاحقة في الحقبة الناصرية، مما أدى إلى مقتل “سيّد قطب” حينها أحد أكبر قياداتهم وأهمّها، والمفكّر الإسلامي المزعوم الذي مثّل منبراً حقيقياً للدوغما التكفيرية.

وذلك كله إلى جانب الانفجار في العوائد الذي أحدثه التحوّل الهيكلي في النظام المالي الدولي بعد ربطه بالنفط عوضاً عن الذهب؛ في ظل توافره بكميّات هائلة في مملكات وإمارات النفط الخليجي، التي كانت مستعمرات كولونيالية تحت الوصاية البريطانية والفرنسية حتى الحرب العالمية الثانية، وتقهقر الإمبراطورية البريطانية لتفسح المجال أمام الإمبراطورية الأمريكية، ففي ضوء كل ما سبق حظيت جماعة الإخوان المسلمين في مصر بفرصة لبناء شبكة إقليمية أولاً ومن ثم تنظيم دولي للجماعة قادر على التوسّع المضطرد بواسطة أموال السعودية واحتضانها، وقد بدأت إرهاصات هذه الشبكة التنظيمية للإخوان بالظهور عام 1962 الذي شهد تأسيس (رابطة العالم الإسلامي) – أبو العلاء المودودي كان عضواً في المجلس التأسيسي لها – في مكة، وجرى ذلك برعاية المؤسسة الوهابية وواشنطن التي كانت حريصة كل الحرص على توظيف أية أداة أيديولوجية سانحة بغية تدمير الامتداد الواسع للاشتراكية في الشرق.

ومع وصول غورباتشوف إلى مركز القرار وإطلاقه للبريسترويكا، جاءت الهجمة الإمبريالية المضادة في أعقاب تفكك الاتحاد السوفييتي، لتدشين العقد الذهبي لأحادية القطب، ولتحمل معها العداء الصريح والعدوان المباشر تجاه كافة حركات التحرر في المنطقة التي شكّلت الأنظمة القومية والاشتراكية بحماية سوفييتية رافعاً موضوعياً لها، وانسحبت السعودية في تلك اللحظة من دورها لتتقلد قطر مكانها راعياً رسمياً لتنظيم الإخوان ووسيطاً بينه وبين الولايات المتحدة! وما لا نستغربه هنا أن أحد أكبر قيادات الإخوان ممثلاً عن الجماعة كمدير المكتب التنفيذي للإخوان في قطر، يوسف القرضاوي (1926)، الذي استقر به المقام في قطر عام 1961 ليحصل فيما بعد على جنسيتها، هو ذاته الذي شارك في التأسيس لعلاقة طويلة الأمد بين الإخوان وبين أمراء قطر (الذين تعاقبوا على الحكم في مشهدٍ أقرب إلى المسرحية الهزلية، التي كانت آخر فصولها تسلّم تميم آل ثاني المنصب خلفاً لأبيه حمد بن خليفة آل ثاني الذي كان قد انقلب بدوره على والده عام 1995)، كما ساهم في بناء التنظيم الدولي من قطر.

هذا التوصيف فيما يتعلق بمسألة التمويل والدعم للتيار الإسلامي المتمثل في الإخوان المسلمين، وبما يتعلق بالشق الاقتصادي ومنظوره في مرآة الجماعة وغيرها من التيارات الإسلامية، فإن كتاب (اقتصادنا) الذي صدر عام 1960 من تأليف الشيخ العراقي محمد باقر الصدر، والذي كان قد وضع مؤلفاً قبله بعنوان (فلسفتنا) ناقش من خلاله عدداً من المدارس الفلسفية وبالتحديد الفلسفة الماركسية، أصبح ذلك الكتاب نقطة ارتكاز ومرجعاً أساسياً في الفكر الإسلامي المعاصر بما فيه تنظيم الإخوان، حيث حاول الكاتب جاهداً أن يبرز قصور المنظومة الرأسمالية والاشتراكية في سلةٍ واحدة، ليتقدم بطرحه الذي يفترض تجاوزهما معاً نحو الاقتصاد الإسلامي، القائم بطبيعة الحال على “الزّكاة” و”الإحسان” وما إلى ذلك من مسلّمات تبسيطية لجوهر المشلكة، تفقد قيمتها “المعنوية” على أرضية حركة التاريخ المادية وتعقّد الصراع الاجتماعي الطبقي فيها، فالاقتصاد الإسلامي المقترح لا يستتبع قطعاً وجود نمط معيّن من الإنتاج يمكن تمييزه بأنه نمط إنتاج إسلامي (باستعارة هذا التعبير من مهدي عامل)، قد يُفهم ذلك، في أحد معانيه، على أنه تنظيم معيّن للمجتمع يمكن وصفه بأنه إسلامي، لكنّه وبحكم إخفاقه في إدراك طبيعة الصراع وكنهه، يعجز تماماً عن حل التناقضات الداخلية للرأسمالية كنمطٍ للإنتاج له ماديته وتاريخيته. وفي المقابل، يقف الفكر المادي الثوري للطبقة العاملة من إشكاليات المجتمع موقفاً علمياً وتحررياً لا موقف الفقهي والغيبي.

كما يتطرق الكتاب أيضاً إلى قضايا أُخرى في الحقل الاقتصادي (التجريدي) كالمسائل المالية والبنوك، والتي يعالجها بذات المنطق الديني الذي ينقل الصراع من المجال الطبقي إلى مجال ميتافيزيقي روحاني في جوهره، لكن كي نكون أكثر وضوحاً في نقدنا للاقتصاد الإسلامي الذي يجري النقاش حوله، لا مفر من الاستدلال بعددٍ من التجارب العيانية التي يمكن لنا القياس عليها. فعلى سبيل المثال، يعود افتتاح أول بنك “إسلامي” إلى مصر معقل الإخوان الرئيسي، وذلك على يد أحمد السيد النجار قبل أن يُصدر عبد الناصر قرار إغلاق البنك عام 1967، حيث عاد أحمد النجار الذي قام بنقل خبرات الألمان في الأعمال المصرفية إلى ألمانيا بعد فراره من مصر، ومن ثم تنقّل بين دولٍ عدّة ليستكمل المشروع الذي بدأه في مصر أولاً، فكانت ثمرة جهوده التبشيرية أن أنشأت السعودية عام 1975 بالتعاون مع الإمارات والكويت وليبيا البنك الإسلامي للتنمية، وبنك دبي الإسلامي في نفس العام، وتبعهما أول بنك إسلامي في السودان عام 1977 التي لحقتها الأردن فيما بعد.

ونظراً لضعف خبرة القائمين على البنوك الإسلامية، التي ساهم في انتشارها أمراء سعوديون استغلوا الأموال الهائلة تحت تصرفهم، استعانوا بثلة من الشركات المالية الضخمة في الغرب التي جاؤوا بها بموجب الاتفاقيات التي ربطت بين ثلاثي السعودية وواشنطن والإخوان المسلمين في بادئ الأمر، وقطر وواشنطن والإخوان في وقتٍ لاحق. شركة سيتي بانك Citibank أمريكية المنشأ على سبيل المثال، وأضف إلى ذلك شركة برايس ووترهاوس Price Waterhouse البريطانية. ولم تتأخر الجماعة بتعميم خبرات البرجوازية المالية على مختلف فروعها في المنطقة، فقد أشاروا في أكثر من مناسبة إلى تأييدهم للرأسمالية في مواجهة الاشتراكية والشيوعية (التي لا ندري إن كانوا يستطيعون التمييز بينهما!) والمدّ الشيوعي في الشرق، الذي أسموه عنوةً بمسمّيات خاوية ومتهافتة كـ “الخطر الأحمر” من باب الترويج الدعائي المفلس.

عمل الأمير محمد بن فيصل بن سعود بشراكة نسيب آل سعود صالح كامل الملياردير السعودي على تأسيس بنك فيصل الإسلامي في القاهرة عام 1976، حيث اشترطا على حكومة أنور السادات، التي أدارت عجلة المكتسبات الناصرية للخلف، أن لا يخضع البنك لأية رقابة من البنك المركزي أو أي جهةٍ أُخرى، على أن يتولّى الإشراف على العمليات المصرفية فيه لجنة معيّنة من رجالات الإخوان المسلمين، كما أسس عام 1981 بيت المال الإسلامي في جزر البهاما متخذاً من جينيفا مقراً لرئاسته.

وفي الحين الذي كانت تكتسب فيه البنوك الإسلامية المهارة بإدارة شؤونها دون اللجوء الدائم للاستخبارات الأمريكية ورجالات الأعمال الألمان والأوروبيين، كانت صيرورة طبقة جديدة من “العمائم الليبرالية” قائمة بالتشكّل، أي بمعنى أنها طبقة برجوازية تابعة ذات طابع ديني رثّ، وهي ليست سوى نسخة أُخرى من البرجوازية العربية التابعة التي تدّعي العلمانية مع الأخذ بالأسباب التاريخية لظهور كلٍّ منهما في الاعتبار. ومن هنا، تحوّلت البنوك الإسلامية إلى بؤرٍ للفساد وواجهات مستترة تعمل من خلالها السي آي ايه وأجهزة الاستخبارات الغربية على تمويل التيارات الإسلامية (التكفيرية على وجه الخصوص) في الشرق، بهدف إحكام هيمنة الإمبريالية وتضييق نفوذ السوفييت حينها.

ففي العقد الثامن من القرن العشرين، تكاتفت مساعي البرجوازيات المتأسلمة وجهودها في الدفع حثيثاً نحو “أسلمة” المجتمعات العربية، التي كانت تتمتع بهامشٍ من الحريات العامّة إلى جانب موجة الأفكار القومية والاشتراكية التحررية التي اجتاحت تلك الأقطار، فقد عمل بيت التمويل الكويتي الإسلامي مثلاً (الذي أُفتتح عام 1977) بمساعدة العائلة المالكة والإخوان المسلمين في الكويت على شراء جهاز الدولة بأكمله، حيث وضعوا يدهم على البرلمان الكويتي (الذي لا يعرف الاستقرار السياسي) وشرعوا في بناء المساجد ودُور تحفيظ القرآن، التي شكّلت منبراً للتعبئة بواسطة الأفيون الديني، كما انصبّ تركيزهم على القطاع التعليمي والمناهج التي سيطر عليها الإخوان المسلمون، لتبدأ حملات “الأسلمة” واسعة النطاق في المجتمع، ومن تلك النقطة فصاعداً، تحوّلت البنية الاجتماعية في الكويت – وغيرها من الدول – إلى بنية رجعية تعيش طموح الطبقة البرجوازية و”تحرّم” تدريس الموسيقى في الجامعات والمدارس، وتفرض الحجاب بالإلزام على المرأة الكويتية زيّاً رسمياً لها.

ومجرّد نظرة خاطفة على تاريخ الأردن كذلك تمنحنا مقاربة سليمة لتجارب من هذا النوع، بيد أن المرأة الأردنية التي كانت تعد من أكثر النساء العربيات تحرراً وتنظيماً، شملتها أيضاً حملات “الأسلمة” التي أطلقها الإخوان المسلمون، الذين كانوا يتمتعون بقدرٍ كافِ من الحركة في ظل وجود قانون “مكافحة الشيوعية” عقب حلّ حكومة سليمان النابلسي ذات النزعة التحررية في نهاية الخمسينات وإيقاف العمل بدستور 52 لمقتضيات الانخراط في مشروع آيزنهاور، فبين تسليع المرأة واستعبادها باسم الدين و”الشريعة” باتت قضية المرأة (التي هي قضية تحرر المجتمع برمته) ورقةً للمتجارة بها في ميدان العمل السياسي الذي يعكس واقع الصراعات الطبقية.

أضف إلى كل ما سبق أن بنوك مثل “بنك التجارة والتسليف” الإسلامي الذي تأسس في لندن برأس مال إماراتي وباكستاني، وبنك “التقوى” الذي أنشأه الإخواني المصري يوسف ندا في جزر البهاما بشراكة يوسف القرضاوي وبعض أعضاء الجماعة في سوريا، كانا واجهةً لتبييض الأموال والتجارة بالمخدرات، كما أن السي آي ايه كانت من أبرز عملائه بحيث استطاعت تمرير صفقاتٍ ضخمة للأسلحة وتمويل الحركات الإسلامية التكفيرية في أفغانستان من خلال تعاملاتها مع هذه البنوك.

وأخيراً، بما يخص مسألة “الربا”، فقد تحايلت عليها البنوك الإسلامية بتغييرٍ ساذج للمصطلحات لا أكثر، حيث كانت تغطّي “الربا” بقشّة الدين والتلاعب بالنصوص القابلة للتأويل والتفسير، وما دمنا نسمّي الأشياء بأسمائها دون التحايل اللفظي، فلنقل أن البنوك الإسلامية كانت تمارس تماماً ما تقوم به البنوك الرأسمالية لكن بمسمّيات أُخرى كـ “البيع المؤجل” على سبيل المثال، أو قد تقوم أحياناً بتسليف الأموال إلى بنوك تتعامل بـ “الربا” للاستثمار فيها ومن ثم يتمّ توزيع الأرباح بنسب متفق عليها، والفائدة يُطلق عليها “عائد” أمّا القرض فهو “مرابحة” في قانون البنوك الإسلامية، وهلمَّ جرّا.

خاتمة لا بد منها

إذاً، فالاقتصاد الإسلامي لا يعيد الاعتبار تحت أي ظرفٍ من الظروف إلى دور الدولة في ضبط فوضى السوق وأهمية برامج الرعاية الاجتماعية في ذلك، فالبرنامج الاقتصادي لجماعة الإخوان المسلمين (أو الأحزاب الإسلامية بصفةٍ عامة) يشجّع استقطاب الاستثمارات الأجنبية ورؤوس الأموال العابرة للقارات دون قيود ضريبية يتمّ فرضها على المستثمرين، عوضاً عن تقنين النظام التصاعدي للضريبة كخطوة تدخليّة من قِبَل الدولة. أمّا الخطاب الأيديولوجي الذي يتبنّاه الإسلام المؤسسي فهو ليس إلّا خطاب ديني تعبوي يعتمد شعار “صوّت لنا للحكم في الأرض، نصوّت لكَ بدخول السماء” عنواناً له، وهو أشبه بصكوك الغفران الكنسية التي سادت في القرون الوسطى. والمرأة كذلك لها حصتها من هذا الخطاب، إن لم تكن الحصّة الأكبر فيه، فالإسلاميون يدّعون أن المفتاح السحري لإنهاء مشاكل المجتمع يكمن في وصفةٍ “أخلاقية” ما لإصلاح الأفراد بحيث تكون المرأة محوراً لها (اللباس، الاختلاط، وما إلى ذلك)!

وفي سياق الحديث عن الإسلام المؤسسي لا يمكننا إلا أن نستحضر تجربة الصعود الفاشلة للإخوان المسلمين في مصر قبل عامٍ من الآن؛ لكنّ فشل التجربة لم يكن ليعني أن الحاضنة الاجتماعية للبديل اليساري قد خرجت من طورها الجنيني ونضجت إلى الحد الذي يسمح لها بتحديد اصطفافاتها السياسية. ربما تكون قوى اليسار المصري قد أخطأت في التقدير حينما عوّلت على الحركة “العفويّة” للجماهير، وأن سقوط النموذج الإخواني شعبياً في مصر سيفرز حتماً قوى ثورية منظّمة من رحم الاحتجاجات لإدارتها ضمن إطار برنامج اقتصادي اجتماعي يعيد الاعتبار للدولة ويطرح خيار التأميم والتوزيع العادل للموارد أمامنا من جديد، أي بمعنى أن القوى اليسارية لم تستطع الخروج من مربّع “الإصلاحات” الدستورية وتغيير الوجوه والمناصب، بدلاً من أن تنقل المعركة القانونية إلى مسرح الصراع الطبقي وتغيير علاقات الإنتاج، وهو عملياً ما حاول حزب الحرية والعدالة تجنّب الخوض فيه، بحيث أبقى على علاقات الإنتاج الرأسمالية المحيطية كما هي في حين أدخل نفسه بمتاهات “أسلمة” المجتمع و مفاصل الدولة الرئيسية، وبعبارةٍ أُخرى، فقد قاد نفسه (كنظام يدّعي أنه “إسلامي”) إلى التهلكة – أو الهدم من الخارج والانهيار من الداخل – بقدميه.

أمّا في معرض الحديث عن تماهي الدين المؤسسي مع المعسكر الإمبريالي من جهة، ووقوف عدد من القوى الدينية الثورية إلى جانب الفقراء والمضطهدين في وجه غلواء الرأسمالية وسياسات الإفقار الممنهج من جهةٍ أُخرى، نجد أن أمريكا اللاتينية تتصدر المشهد بتجاربٍ من هذا النوع، حيث بدأت ملامح هذا التوجّه التحرري للكنيسة الكاثوليكية في تلك القارّة بالتشكّل تحديداً عقب مؤتمرات لاهوت التحرير في ميديلين/كولومبيا عام 1968 ومؤتمر بويبلا/المكسيك عام 1979، التي أعلنت القطيعة مع كافة الأطروحات الرأسمالية ووكلائها باسم الدين، ومن هنا أيضاً، تحالفها مع اليسار والطرح الماركسي التحرري في مواجهة رأسمالية المراكز (الولايات المتحدة بخاصة) التي اعتبرت لمدّةٍ طويلة أن دول جنوب القارّة الأمريكية باحتها الخلفية.. أثار هذا الخطاب الثوري لبعض رجال الكنيسة حفيظة السلطات المتحالفة مع المنظومة الكنسية بأكملها، بحيث فجّر هذا الخلاف الجذري جملةً من التناقضات داخل الكنيسة لتنتج تياراتٍ لاهوتية تحررية ذات طابع ماركسي راديكالي في جوهرها، استطاعت أن تخلق مقاربة بين المسيحية والمشروع الاشتراكي في صورةٍ تعيدنا إلى جملة ماركس حول الدين بوصفه ثنائي الطابع ويحمل نزعاتٍ احتجاجية في داخله.

وعلى الجانب الآخر، في الوقت الذي كانت طغمة سياسية في المنطقة توظّف الدين مطيةً لمحاولة ضبط السيرورة الاجتماعية بحسب مصالح الطبقات المسيطرة عبر مأسسة الخطاب الديني الإسلامي، كانت الجماهير العربية، ذات الوعي المستلب لصالح الاستعمار، تنساق خلف هذا الخطاب التعبوي الرخيص بصورة تلقائية، ولم يكن السبب في ذلك أن الشعوب العربية متخلفة ثقافياً بطبيعتها (وهو ما يحاول الاستعمار تبرير الإسلام السياسي الذي اخترعه به)، لكن من غير المنصف، ومن غير المجدي، أن يقتصر الحديث عن الأيديولوجيا الإسلامية والتيارات الأصولية وحسب، فالإسلام كالمسيحية له تاريخه وحضارته (والدين مباين بالضرورة لمفهوم الحضارة، فهو قادر على البقاء دون دعائم حضرية والعكس كذلك، على حدّ قول هادي العلوي)، أي بمعنى أن الأصولية المسيحية المتمثّلة بالكنيسة الكاثوليكية لها تاريخها وتجلّياتها “التكفيرية” أيضاً، في موقف الفاتيكان الرجعي من رجال الدين الذين أسسوا لمشروع لاهوت تحرير الفقراء في أمريكا اللاتينية، وفي مواقفها من المعسكر الاشتراكي على السواء، حيث أنها لم تبخل بتقديم الدعم والغطاء الديني لخصوم الشيوعية وتبنّيهم بالكامل، ومناوأة الأنظمة الاشتراكية التي كان يقودها الاتحاد السوفييتي، بالتحالف، على المستوى السياسي، مع الأنظمة الرأسمالية المركزية عبر مؤسساتها وأجهزتها المختلفة لتفكيك الجمهوريات الاشتراكية، بدءاً من بولونيا في ثمانينات القرن المنصرم، وهو ما يعكس الوجه الآخر للمسيحية المعاصرة التي تحمل في داخلها نزعاتٍ كابحة للنضال الاجتماعي.

إذاً، يقدّم هذان الجانبان تصوّراً لطبيعة التحالف المطلوب في سياق مقارعة الرأسمالية، ولئن كان الدين ذا طابعٍ مزدوج، فإن أعتى السلطات الثيوقراطية تخلفاً لا تبرر انتفاء وجود جانبٍ ثوري متمرّد بين ثنايا النصوص الدينية (ما يعيدنا إلى العصور الوسطى في أوروبا والحركات الدينية التي قامت ضد سلطة الإقطاع الكنسي). ينبغي علينا إذاً نبش هذا الجانب في الدين ووضعه على السكّة المناسبة، أي وضعه على محك الصراع الاجتماعي الطبقي بدلاً من الهروب نحو الأطروحات العدمية التي تفرغ الدين من قوالبه الاحتجاجية عبر مهاجمة النصوص والممارسات تجريدياً دون أي اسقاطاتٍ طبقية (فويرباخ في القرن التاسع عشر أنموذجاً). ولذلك، نصل إلى نتيجة أن استنساخ نموذج لاهوت التحرير اللاتيني لدينا بات راهناً أكثر من قبل، لكن بوضع كافة العوامل (الإسلام، تاريخ المنطقة، الوعي الفئوي، الرأسمالية التابعة، الأنظمة السياسية الحاكمة، وجود كيان استيطاني محتل، علاقات الإنتاج المشوّهة.. إلخ) في ميزان التقدير.

______________________________________________________

المصادر والمراجع

1. النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية – حسين مروة

2. بين الثقافة والسياسة – عبدالرحمن منيف

3. A Mosque In Munich – Ian Johnson

4. اليمين واليسار في الإسلام – أحمد عباس صالح

5. في الإسلام المعاصر – هادي العلوي

6. نقد الفكر اليومي – مهدي عامل

7. ما بعد الرأسمالية المتهالكة – سمير أمين



#يزن_حداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في العلاقة بين الماركسية والدين (1-2)
- جدلية الثورة والتحرر
- في ذكرى مهدي عامل
- في الأول من أيار، محاولة لاستعادة مفهوم الطبقة العاملة


المزيد.....




- الوقت ينفد في غزة..تح‍ذير أممي من المجاعة، والحراك الشعبي في ...
- في ذكرى 20 و23 مارس: لا نفسٌ جديد للنضال التحرري إلا بانخراط ...
- برسي کردني خ??کي کوردستان و س?رکوتي نا??زاي?تيي?کانيان، ماي? ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 28 مارس 2024
- تهنئة تنسيقيات التيار الديمقراطي العراقي في الخارج بالذكرى 9 ...
- الحرب على الاونروا لا تقل عدوانية عن حرب الابادة التي يتعرض ...
- محكمة تونسية تقضي بإعدام أشخاص أدينوا باغتيال شكري بلعيد
- القذافي يحول -العدم- إلى-جمال عبد الناصر-!
- شاهد: غرافيتي جريء يصوّر زعيم المعارضة الروسي أليكسي نافالني ...
- هل تلاحق لعنة كليجدار أوغلو حزب الشعب الجمهوري؟


المزيد.....

- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي
- بصدد الفهم الماركسي للدين / مالك ابوعليا
- دفاعا عن بوب أفاكيان و الشيوعيّين الثوريّين / شادي الشماوي
- الولايات المتّحدة تستخدم الفيتو ضد قرار الأمم المتّحدة المطا ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - يزن حداد - في العلاقة بين الماركسية والدين (2-2)