أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - يزن حداد - في العلاقة بين الماركسية والدين (1-2)















المزيد.....



في العلاقة بين الماركسية والدين (1-2)


يزن حداد

الحوار المتمدن-العدد: 4501 - 2014 / 7 / 3 - 00:58
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


قلّما يؤخذ المفهوم الماركسي للدين بمعزلٍ عن التشويه الأعمى وتسطيح الأفكار، حيث يحيط به جملة من الالتباسات التي تتعلق بمسائل إلحادية فجّة، لا شأن لها بأدوات التحليل الماركسي التي تنظر إلى الدين بصورة مغايرة عمّا اعتاد العامّة اختزاله في مقولة ماركس "الدين أفيون الشعوب" وحدها!


جرّب أن تضع تلك العدسة (الماركسية) أمام عينيك واقرأ منها تاريخ الكنيسة في أوروبا والمسجد في الشرق.

لكن قبل الشروع في بحث المنظور الماركسي للدين والتعمق في قراءته، ينبغي علينا البدء أولاً بتحليل الوعي الاجتماعي وأشكاله المختلفة، وعلاقتها بالبنائين الفوقي والتحتي لأيِ مجتمع، وماهيّة الشروط التي قادت إلى نشأة الأديان بدايةً، ومن ذلك، ننطلق من السؤال التالي: ما هو طرف الخيط المطلوب لفهم المنظومة الدينية والأديان بعامة؟

الوعي الديني في ضوء الوعي الاجتماعي

يمثّل المجتمع ووجوده المادي، الميدان الحيوي لتشكّل وتطور الوعي الاجتماعي، كون الوعي لا يمكن أن يتشّكل بصفةٍ مجردة خارج إطار المجتمع، لكن الوعي الاجتماعي لا ينشأ بصورة مباشرة عن الوجود الاجتماعي، فالنشاط البشري يرتبط بدوره بالوجود الاجتماعي ويسمح بتحقق القوانين الموضوعية التي يمنح إدراكها القدرة على تغيير الواقع وفقاً لها، ومما لا شك فيه، أن الوعي الفردي يختلف عن الوعي الجمعي بشكلٍ فارق، بالرغم من أن الوعي الفردي يحمل في طياته الوعي الجمعي، ومن ثم فهو يتبلور داخل زواياه وينسج علاقة تأثير جدلي متبادل معه.

فالمزاج العام لمجتمعٍ ما، لا يحكم بالضرورة الوعي الفردي لكافة أفراد المجتمع دون استثناء، وهو ما يوحي في تلك الحالة بمشهدٍ مشوّه لقطيعٍ ضال في فضاء التاريخ، يتحرك وعيهم جميعاً بتناغمٍ تام في سياق منغلق على نفسه، لا تتمايز فيه الأفكار ولا تتداخل لتنجب أفكاراً جديدة.

ومن جهةٍ أُخرى، إن الوعي الجمعي لا يتم التعبير عنه كمحصلة ميكانيكية لتراكم مجمل وعي الأفراد في المجتمع المعني، فانعكاس الوعي للوجود الاجتماعي ليس تأمّلياً كانعكاس الصورة على سطح المرآة، بمعنى أن الوعي الاجتماعي ينتصب على أرضية الوجود البشري والحاضنة الاقتصادية لنشاطه، أي قاعدة الإنتاج المادي في المجتمع، لكنه يكتسب استقلالية نسبية عنه بفعل القوانين الداخلية التي تحكم عملية تطور كل منهما، إلى جانب تميّز أشكال الوعي بصفته إدراك الإنسان لعالمه الموضوعي ولذاته.

تتفاوت أشكال الوعي الاجتماعي بحسب درجات تطورها وكيفية ترجمة الوجود الاجتماعي، ويقع ذلك ضمن مستويين أساسيين، هما السيكولوجيا الاجتماعية والأيديولوجيا، كما تشكّل جميع أنساق الوعي وباختلاف العمق الذي تعكس به وجود المجتمع، الكلّ الاجتماعي الذي تترابط عناصره عضوياً وتتفاعل فيما بينها.

ومن تلك العناصر يبرز الوعي الديني كشكل خاص من أشكال الوعي الاجتماعي؛ إضافة إلى الفلسفة والسياسة والفن والعلم والأخلاق، والتي تؤثر ببعضها البعض وتنطوي على سيرورة تراكم تاريخي دائمة، وتتمظهر تلك الأشكال في البنية الفوقية للمجتمع من خلال الأجهزة الأيديولوجية للدولة، كما يبيّن الفيسلوف الفرنسي لوي ألتوسير. ولئن كانت البنية الفوقية تنبثق عن البنية التحتية وتضبط آلية عملها، فإن المجتمعات المنقسمة طبقياً يسودها، بالضرورة، الوعي الطبقي كمقياس للوعي الجمعي.

ومن منطلق تحديد الخصوصية التي تتمتع بها البلدان العربية، سواءً من حيث البنى الاقتصادية القائمة التي تعاني متلازمة التبعية نظراً لتشوّه “خلقي” أثناء ولادتها، أو الهيكل الاجتماعي الذي تعرض إلى تحويرٍ مستمر لينسجم وطبيعة الأنماط الاقتصادية المتخلفة، أو التراتبيات السياسية التي تفرض امتيازاتٍ طبقية تتخذ طابعاً ذا منطق ديني أو طائفي أو عشائري، والتي تقف بالأساس على أكتاف الصراع الطبقي، فإن الوعي الديني (والمتطرف تحديداً) يجد تربةً خصبة فيها نظراً لتشابك عدة عوامل داخلية وخارجية، وتلك مسألة سنعود لها في محورٍ آخر.

يعد الوعي الديني من أقدم أشكال الوعي الاجتماعي التي ظهرت منذ غابر العصور، منذ فجر الحضارة البشرية، حيث تشّكل التصورات الغيبية للعالم نواة أي منظومة من الأفكار والعقائد والمشاعر والطقوس الدينية، التي تعتمد على معادلة لاهوتية بثابتين، هما عالم روحاني غيبي في جوهره يقع فوق عالمنا الموضوعي. ويوضح إنغلز في كتاب (ضد دوهرنغ) أن الأديان ما هي إلا “انعكاس غيبي في أذهان الناس لتلك القوى الخارجية، التي تسيطر عليهم في حياتهم اليومية.” وذلك في إشارةٍ إلى أحد الأدوار الاجتماعية التي يلعبها أفيون الدين بتعليق الثورة وإرجاء غضب الشعوب حتى إشعارٍ آخر، إلى جانب دوره في تخدير الجماهير من خلال ما يشبه صكوك الغفران.

لكنَّ وظائف الدين الاجتماعية آنفة الذكر لا تجد مساحتها التطبيقية إلا من خلال مستويين رئيسيين تعمل الطبقات الحاكمة على تسخيرهما؛ أولاً الوظيفة الاجتماعية في “التعويض” عن بؤس الحياة عبر المساومة على تناقضات الواقع واستبدال الحلول المباشرة في معترك النضال لتغيير شروطه بحلولٍ غيبية، وثانياً الوظيفة “التنظيمية” التي تسبغ الأنظمة الحاكمة بطابع القدسية السرمدي وتختلق للعامة مسوّغات ديمومتها.

إذاً نخلص إلى الاستنتاج الأولي بأن الدين هو شكل خاص من أشكال الوعي البشري، الذي نشأ مع بدايات تأمّل الإنسان في الطبيعة، الأمر الذي استفز عطشه للمعرفة ليطرح السؤال تلو الآخر، أسئلة تتعلق بالخلق والوجود والحياة والموت والأخلاق، في الغاية من الوجود ومحاولات الهروب المستمرة من الموت، أسئلة حاول الفلاسفة الوجوديين إجابتها لاحقاً، لكنَّ ذلك أفضى بهم إلى تأليه الذات على الموضوع!

كانت تتجنب أطروحاتهم في معظمها السؤال الاجتماعي الذي يتعلق بتركيبة المنظومة الدينية تارةً، ولم تقم بإحالة الدين نفسه إلى أية اعتبارات سياسية تارةً أُخرى، وهو ما يشكّل مجالاً لدراسة وفهم الدين بصورة أعمق من خلال ربط المنظومة الدينية بمنظومة العلاقات الاقتصادية الاجتماعية والسياسية كذلك، لتحسس الطبيعة المزدوجة له والقبض على المشهد بشموليته.

الوعي الديني على مفترق الطرق

إذاً يأتي مساق البحث في الإطار العام وليس الخاص؛ ومن نافل القول بصدد ذلك أن الدين نفسه هو خيار وجداني شخصي، وبالتالي يبقى الأهم هو معالجة تاريخية لدور المنظومة الدينية في إدامة علاقات السيطرة الطبقية التي تتمظهر في جهاز الدولة، وارتباط الأخير بأنماط الإنتاج المختلفة، مع التأكيد على أهمية وراهنية تقصِّي مسألة قيام حركات تحرر دينية مناوئة للخطاب الديني الكلاسيكي الذي تستّرت خلفه نخب طبقة الإقطاع القروسطية، لتستبدله لاحقاً البرجوازية بخطابٍ آخر وتوظف بعض عناصره في آن، تبعاً لما تفرضه ضرورات التوسع الرأسمالي والمصالح الطبقية.

سبق أن أشرنا إلى الوظيفة التنظيمية التي يلعبها الدين كقوة سياسية أو كأيديولوجيا على حدٍّ سواء، وعلاقة المنظومة الدينية بالسلطة السياسية الحاكمة، وهو ما تجلى بوضوح في القرن الرابع ميلادي، حيث تم فرض الدين المسيحي رسمياً لتوحيد الإمبراطورية الرومانية التي مزقتها التيارات الدينية المتناحرة واللادينية كذلك (أو الوثنية بحسب التعبير المتداول)؛ ومن المعروف أن علاقة التوازن والمصلحة المتبادلة التي نشأت بين الكنيسة كمنظومة دينية وبين السلطة بمختلف أطيافها، بدأت بالتفسخ مع انهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية في القرن الخامس، لتفسح مجالاً أمام هيمنة سلطة الكنيسة بكسر علاقة التوازن تلك، حيث ملأت الكنيسة الكاثوليكية الفجوة الناجمة عن انحسار سلطة نمط الإنتاج العبودي الذي جسدته الإمبراطورية الرومانية، لتفتح الأبواب أمام حقبة زمنية امتدّت حتى القرون الوسطى، أي حتى أوج سيطرة الإقطاع والكنيسة، حيث وضعت الأخيرة لمستها “الخاصة” لتضمن بقاء الملوك الإقطاعيين في سدة الحكم، ولتضفي الشرعية الإلهية على ذلك النمط من الإنتاج.

حيث كان هذا العامل الرئيسي الذي دفع بفلاسفة ذلك العصر وطليعة الطبقة البرجوازية من النخب، إلى مهاجمة الدين بعامة ومنظومة الكنيسة بخاصة التي تمترست خلفها قوى الإقطاع وملّاك الأراضي ونبلاء الطبقة الأرستقراطية، مهاجمة حملت معها ازدراءاً غير مسبوقاً لكل من البنية الإقطاعية ولاهوتها الرسمي في بوتقة واحدة.

فقد عملت فلسفة التنوير التي تعاظم وقع أثرها في خضم الثورة العلمية إبان مرحلة النهضة الأوروبية في العصور الوسطى، عملت على توجيه سهام نقدها إلى الأديان بصورة عدائية مباشرة، حيث نظر بعض روّاد ما عُرف بعصر التنوير حينها، بمساحة تقاطع كبيرة جمعت توجهاتهم مع النظريات الأنثروبولوجية (مالينوفسكي وايفانز-بريتشارد مثالاً) والسوسيولوجيا البرجوازية الرائجة بكل تهافتها، نظروا إلى الأديان بعيونٍ تجريدية بحتة أحياناً، أو بنظرة مادية ميتافيزيقية في فهمها أحياناً أُخرى.

كان يرى الفيلسوف البريطاني ديفيد هيوم (1711-1776)، على سبيل المثال، الذي تأثّر إلى حدٍّ كبير بالفلاسفة التجريبيين أمثال بيركلي، كما استلهم أيضاً جزءاً من أعمال منظّر الرأسمالية الكبير الاسكتلندي آدم سميث، رأى في كتاب (التاريخ الطبيعي للأديان) بأن الدين قد نشأ عن طريق عملية اللاتفكير، التي دفعت الإنسان في خوفه من قوى الطبيعة للجوء إليها ليمنح نفسه اليقين بالمستقبل حفاظاً على حياته.

لكن على الطرف النقيض، لم يكن أعلام الفلسفة المادية أنفسهم على وفاقٍ دائم مع القوى الثورية التحررية، وهو ما أدركه مؤسسو الماركسية في القرن التاسع عشر، فعلى سبيل المثال قد دافعت مادية توماس هوبز، الفيلسوف الإنجليزي، في القرن الثامن عشر، عن الملكية المطلقة في بريطانيا، في حين قامت بالمقابل حركات تحرر لاهوتي، بعضها كان يبحث في إصلاح المنظومة الكنسية أمثال مارتن لوثر (1483-1546) الذي أُتهم بالهرطقة من قِبَل الكنيسة، والبعض الآخر كان ثورياً يهدف إلى تغيير معطيات المنظومة الاجتماعية من خلال التوليفة التي جمعت بين الماركسية والثيولوجيا؛ الأب أوسكار روميرو (1917-1980) والقديس فكتور سانا باريا أنموذجاً، وهي تجارب زخرت بها أمريكا اللاتينية.

ومع تفجّر الثورة العلمية وتمدد حركات التنوير في أواسط القرنين السابع والثامن عشر تحديداً، انقضى عهد محاكم التفتيش والإعدام بتهم الشعوذة والسحر تماماً من أوروبا، والذي دامَ مئات السنين، حيث شملت عملية ما سمّي بالتنوير جُلّ أفراد الطبقة الوسطى والتكتلات السياسية المؤثرة حينها (“اللامتسرولون” على سبيل المثال، وهو المصطلح الذي أُطلق على جموع الفقراء التي ساندت حزب اليعاقبة في الثورة الفرنسية، والتي كانت تتميز بأنها لم تكن ترتدِ سراويل الطبقة الوسطى أو الأرستقراطية)، بالرغم من أن إعلان العداء الصريح للدين في تلك الفترة لم يكن موائماً على نحوٍ تام لطبيعة الظرف حينها، إلا أن الحالة السائدة بين الجماهير في الحقبة التي سبقت الثورة الفرنسية وخلالها، كانت ترتكز إلى علمنة الوعي الجمعي والعزوف الناعم عن الدين، وذلك بفعل الحرب الضارية التي شنّها فلاسفة التنوير على الأديان.

ومن جهةٍ أُخرى، فإن جموع الكادحين والفقراء لم تستطع التنصل تماماً من الممارسات العقائدية والمعايير الأخلاقية الضابطة، حالها في ذلك شبيه بحال الطبقة البرجوازية التي احتاجت في زحفها نحو السلطة إلى منظومة أيديولوجية محددة تنظم سيرورة نضالها الثوري في مقارعة جحافل الإقطاع، بالرغم من أنها أدارت وجهها للدين التقليدي المتمثل بالمسيحية، مما دفع بالأجيال اللاحقة للثورة الفرنسية إلى إطلاق محاولاتٍ عديدة لبناء منظومة أخلاقية شبه دينية، منظومة برجوازية للأخلاق تستبدل الخطاب المسيحي بالعقلانية ومعاداة كهنوت الإقطاع السائد؛ ومن تلك المحاولات برزت عقيدة “عبادة الكائن الأسمى” التي اقترحها الفيلسوف السويسري-الفرنسي جان جاك روسو (1712-1778)، وهو ما تبنّاه ماكسمليان روبسبيير عام 1794 لجمهورية اليعاقبة قبيل إعدامه، وكذلك دعوات عالم الاجتماع الفرنسي أوغست كونت (1798-1857) الذي دعى إلى اعتناق “دين الإنسانية” لعامة الناس كبديل عن المسيحية.

انسحبت تأثيرات الثورة المزدوجة، الثورة العلمية والثورة الفرنسية، على معظم الأحداث التي أعقبتها بصورة جليّة، حيث لم يكن للثورتين البرجوازيتين الهولندية والإنجليزية في القرنين السادس والسابع عشر ذاك التأثير الكبير بحكم تقيّد قضاياهما ضمن دائرة الوعي المسيحي التقليدي، بينما انحدرت أيديولوجيا الثورة الفرنسية مباشرةً من عصر التنوير في أواسط القرن الثامن عشر، فقد تحوّلت، لأول مرة، الديانة التي ساد جبروتها أوروبا لعدة قرون، تحوّلت إلى هامش السلطة ولم تعد راسخة كما كانت، وهو ما ظهر في وقتٍ لاحق خلال تحركات الطبقة العاملة الناشئة في القرن التاسع عشر، تزامناً مع نظريات الاشتراكية الطوباوية التي انتشرت في ذلك الحين (منها نظريات شارل فورييه وروبرت أوين في أواخر القرن الثامن عشر). لكن النقطة المطروحة للنقاش الآن تكمن في رؤية الماركسيين للدين، وطبيعته ووظائفه، وعلاقة الدين بالدولة وبأنماط الإنتاج والوعي الجمعي، من وجهة نظر الاشتراكية العلمية.

ماركس وما بعد ماركس.. الدين أفيون للشعوب؟

لفترةٍ طويلة، كان الاعتقاد الشائع في مختلف الأوساط أن ماركس، والماركسية بعامة، فلسفة معادية للدين بمجمله، شأنها في ذلك شأن فلسفات عصر التنوير التي اعتبرت الدين حبكة إكليركية وحسب (وهي مدرسة تعليم الكهنوت المسيحي)، لكن مما لا شك فيه، أن ماركس لم يتقمص ذلك الدور ولم يرغب به أيضاً، حيث اقتطع الكثيرون جملة ماركس من سياقها الأصلي ليراهنوا على الزمن بتشويه ما تبقى، فقد وردت جملة “الدين أفيون الشعوب” في بحث كتبه ماركس عام 1844 تحت عنوان (نقد فلسفة الحق عند هيغل)، وهي الفترة التي لم يكن ماركس ماركسياً فيها.

فقد كان ماركس يدين بمعظم آراءه ما قبل الماركسية إلى هيغل وفيورباخ الذين أثرا في كتاباته المبكّرة، ولكن لندقق النظر أكثر في تلك الجملة التي لا زالت بحاجة إلى بعض التعمّن والتمحيص في مضمونها: “إن التعاسة الدينية هي، في شطر منها، تعبير عن التعاسة الواقعية، وهي من جهةٍ أُخرى احتجاج على التعاسة الواقعية. الدين زفرة الإنسان المسحوق، روح عالمٍ لا قلب له، كما أنه روح الظروف الاجتماعية التي طرد منها الروح. إنه أفيون الشعوب”.

يؤكد ماركس على مسألة “الظروف الاجتماعية” عند الحديث عن الدين ووظائفه، حيث يرى أن الخلل لا يكمن في الدين بذاته، بل في الظروف التي خلقت الحاجة للسعي وراءه، وهنا يتقاطع مع فيورباخ الذي اتخذموقفاً ضد الأسباب التي أنتجت الدين، وليس الدين نفسه. هو “روح عالمٍ لا قلب له”، أو باستخدام تعبير هيغل في نقاش فكرة التناقض، نفي الشيء وإظهار الحقيقة الداخلية له، فالعلّة تقبع بصورةٍ رئيسية في المحيط الاجتماعي الذي قاد إلى نشوء الدين ومبررات وجوده، في الحقيقة الداخلية للدين، في العالم الذي لا قلب له.

لكن ماركس أدرك بلا شك جدلية الطبيعة المزدوجة للدين حينها برغم توجهاته المبكرة التي تنزع إلى اليسارية الهيغلية، فقد اعتبر أن الدين يضفي الشرعية اللازمة على البنية الاجتماعية القائمة من جهة، ويعبّر عن ميلٍ للاحتجاج عليها من الجهةِ الأُخرى، أو على التعاسة الواقعية الناتجة عنها.

في بداية هذا البحث كنّا قد ناقشنا مسألة الوعي الاجتماعي والوعي الديني بصفته أحد الأشكال الخاصة له، وهو ما استغرق ماركس وإنغلز في كتاب (الأيديولوجيا الألمانية) الذي نُشر عام 1846، أي بعد أن بدأت تتشكل ملامح أكثر وضوحاً لدى ماركس عن مشروعه الفلسفي، حيث قاما (ماركس وإنغلز) بإحالة مسألة الظاهرة الدينية إلى الوعي الاجتماعي كعلاقة تاريخية، بمعنى أن الدين كان إنتاج روحي واعي من الأفكار والتصورات لمجتمعٍ ما، يرتهن بالإنتاج المادي والعلاقات الاجتماعية الملائمة؛ ومما يجدر الذكر أن ماركس لم يكرس نفسه منذ (الأيديولوجيا الألمانية) وصاعداً لدراسة الدين كما سبق، على عكس الاعتقاد السائد أن ماركس كان يسكنه هاجس الدين وكيفية تفكيك أسسه، في حين أن ما كان يعنيه هو تفكيك البنية الاجتماعية الحاضنة له.

يقول الكاتب الماركسي الألماني أوغست بيبل في كتاب (مجتمع المستقبل) حول قضية الدين: “إن الدين هو الانعكاس المتعالي للظروف الاجتماعية السائدة. وبمقدار ما يتقدم التطور الإنساني ويتحول المجتمع، يتحول الدين معه، وإذا استخدمنا عبارة ماركس، فإن الدين هو السعي وراء سعادة وهمية تنشأ عن الظروف الاجتماعية التي تجعل مثل هذا الوهم ضرورة، وهو يختفي بمجرد أن تدرك الجماهير ما هي السعادة الحقيقية وترى إمكان تحقيقها.”

إلا أن إنغلز أظهر عناية بتحليل الظاهرة الدينية بما يفوق اهتمام كارل ماركس بها، فقد دأب إنغلز على ربط الدين بالتحولات الاجتماعية التاريخية، على خلاف الفيلسوف الألماني لودفيغ فيورباخ (1804-1872) الذي اعتبر الدين “جوهراً” يعيش بمعزل عن الصراعات الاجتماعية وخارج إطارها الزمني، ففي عمله الأكثر شهرة (جوهر المسيحية) الذي نُشر عام 1841 ينفي فيورباخ توق الجماهير الفقيرة إلى التدين كاحتجاجٍ على واقعها البائس: “كلّما كانت رؤية الإنسان محدودة، وكلّما جهل بالتاريخ والطبيعة والفلسفة، كلّما ارتبط أكثر بدينه. ولهذا السبب فإن الإنسان المتدين لا يشعر بحاجة إلى الثقافة.”، أي أنه يعزي التمسك بالدين إلى الجهل لا أكثر؛ قد يكون ذلك أحد الأسباب التي تغذي الدين والجهل رجوعاً، لكنه ليس أكثرها تأثيراً وأهمية، حيث يرى إنغلز بالمقابل أن الدين هو بناء ثقافي اجتماعي، يكون عرضةً لتغيرات تاريخية في وظيفته وفق حالة المرحلة التي يمر بها، فهي (أي المسيحية) كانت ديانةً للعبيد فيما مضى، ثم تحولت إلى أيديولوجيا لتبرير هيراركية الإقطاع وجور الأرستقراطية عبر سلطة الكنيسة المطلقة، لتتكيّف لاحقاً مع المجتمع البرجوازي ودعاة الليبرالية، كما أنها تمثل ساحة نزاع تخضع لتجاذبات القوى الاجتماعية وتمثيلاتها الدينية؛ الكاثوليك المسيحي المحافظ، وبروتستانت النزعات الرأسمالية والعمل الفردي، والبرجوازية العلمانية الصاعدة.. إلخ.

وفي الجهة المقابلة، كما سبق أن أشرنا، كان الماركسيون قد أدركوا الطبيعة المتناقضة للدين ووظيفته المزدوجة، وهي ما تبرهنه على سبيل المثال ثورة البروتستانت عام 1688 في إنجلترا على الملك جيمس الثاني، الذي كان متحيزاً للطائفة الكاثوليكية على حساب الأولى، حيث انضوت الجماهير تحت لواء “الدين” في نضالها الثوري ذاك، أو كما وصف فريدريك إنغلز مثلاً الثيولوجي الألماني توماس مونزر Thomas Müntzer (1489-1525) في كتاب (الحرب الفلاحية في ألمانيا) بأنه كان اشتراكياً ثورياً، لكنه فضّل استخدام اللغة المسيحية التي يفهمها الفلاحون على أفضل وجه في قيادة الثورة لتحقيق مملكة الرب على الأرض، بحسب تعبير مونزر، لكننا نجد إنغلز لاحقاً بفضل منظوره الطبقي الاجتماعي في تحليل الدين، يعيد مسألة المونزرية إلى تلاعب لغوي مسيحي وستار ديني لا أكثر.

وحيث وقف الدين على مفترق الطرق في أكثر من منعطف تاريخي، من ناحية كان كبار رجال الكنيسة يمثّلون لاهوت الإقطاع في العصور الوسطى، ومن جانبٍ آخر كان صغار الكهنة الذين التحموا بالحركة الفلاحية والنضال الثوري، أو الإصلاحي أحياناً. فالدين كما فهمه إنغلز وماركس الشاب أيضاً، ذو طبيعة مزدوجة، يكون رجعياً تخديرياً على طرف، وثورياً احتجاجياً على الطرف النقيض.

أما ماركسيي نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فقد تقاطعوا مع ماركس وإنغلز في بعض النقاط، واختلفوا معهم في أُخرى حول تحليل الدين:

• كان ينظر كارل كاوتسكي إلى الدين على أن القناعات الدينية ما هي إلا “قشور” وأن الاختلافات بين المذاهب تحجب خلفها مضموناً اجتماعياً وتناقضات لمصالح مادية بالأساس، وبذلك كان يعتقد أن المعركة الفلسفية بين الأيديولوجيا المادية والمثالية عليها أن تخضع بالضرورة لمعايير النظام الطبقي القائم، أي بمعنى أن وحدة نضال البروليتاريا تتطلب انصهار العمال الذين يؤمنون بإله وأولئك الذين لا يؤمنون، في جبهةٍ طبقية واحدة. وهو يتقاطع في ذلك مع أطروحة لينين حول الحزب والاشتراكية والدين.

• رأى لينين بأن “الإلحاد” يجب أن يستبعد من برنامج الحزب تماماً، لأن تحقيق العدل والمساواة على الأرض في النضال الاجتماعي الذي تخوضه الطبقة العاملة نحو الاشتراكية، أكثر أهمية بأضعاف من السجال الفلسفي الكلاسيكي ووحدة الآراء حول الإله، وجدالات الدين العقيمة.

• وقد شاطرته روزا لوكسمبورغ ذاك الطرح، لكن طرحها لم يخلو من الهجوم على الرجعية الكنسية، وليس الدين بذاته، كما أكّدت على أن الحركة الاشتراكية ترمي إلى تحقيق مبادئ العدل ضمن نظام اجتماعي يذلل الفوارق الطبقية واستغلال الإنسان للإنسان، وهو ما يتفق بشكلٍ أو بآخر مع المُثل الأصلية للمسيحية البدائية، بمعنى أن رجال الكنيسة والدين بعامة، عليهم أن يحتفوا بالاشتراكية بوصفها فلسفة ثورية تحررية، وينخرطوا في النضال من أجل ذلك، بالرغم من أن روزا نفسها لم تكن تعتنق المسيحية أو تؤمن بها.

• أمّا الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي، كان يرى أن الدين هو محض محاولاتٍ عبثية لخلق مقاربة واهمة بين تناقضات الواقع الفعلي، كما أشار أيضاً إلى الجانب الاجتماعي السياسي في التعبير عن الدين، والعلاقة التي تربطه بالبناء الفوقي (أو الدولة على وجه التحديد) والطبقات المكوّنة للمجتمع، وآليات إنتاج مثقفي السلطة والمثقفين التقليديين كذراع للهيمنة على الوعي من قبل تحالف السلطة والكنيسة، ويؤكد كذلك على أن أية دين يحوي غالباً نقيضه في الداخل، بمعنى أنه يتشكل من عدّة أديان مختلفة وربما متناقضة، فهناك “كاثوليكية للفلاحين، وكاثوليكية للبرجوازية الصغيرة وعمال المدن، وكاثوليكية للمرأة، وكاثوليكية للمثقفين” بحسب تعبير غرامشي.

• إرنست بلوخ (1885-1977)، الفيلسوف الماركسي الألماني، كان له آراءٌ مغايرة عن تلك التي توصل لها إنغلز بصدد “الستار” الديني والتلاعب اللفظي، إلى أن اعتبر الدين أحد أشكال الوعي الميتافيزيقي التي تعكس رجاء المهمشين واحتجاجهم في رفض هذا الواقع، على الرغم من تمييزه للطبيعة الازدواجية للدين على غرار إنغلز. حيث ألقى الضوء على تيار أفيون الشعوب، جهاز الدولة الثيوقراطي من جهة، وتيار الدين المتمرد، الدين الذي تعرض مناصريه للإعدام والتنكيل بتهم الهرطقة والخروج عن سلطة الكنيسة من جهةٍ أُخرى؛ الألبيجنسيون (نسبةً لمدينة Albi في جنوب فرنسا، وقد ظهرت هذه الجماعة في القرنين الثاني والثالث عشر)، وأتباع يان هوس (1369-1415، المصلح الثيولوجي الذي أُعدم بنفس التهمة) نماذج على ذلك الدين.

• بينما قام الفيلسوف الفرنسي لوسيان غولدمان (1913-1970) في أعماله بإجراء مقارنة بين الإيمان من منظور لاهوتي والإيمان من المنظور الماركسي، لكن دون الخلط بينهما، حيث يرى أن كلاهما ينزع إلى الإيمان بقيم فوق فردية: الاشتراكية وتحرر الإنسانية كاملةً في الماركسية، وخلاص المؤمنين إلى مملكة السماء في الدين، مع أخذ الرهان على احتمالية النجاح أو الفشل في مجازفة كلٍّ منهما بالاعتبار؛ لكن تعليقاً على عمل غولدمان، نميّز هنا بين رؤية الماركسية لتحرر الإنسان من قيود الحتمية كضرورة تاريخية، مقابل الرؤية الضبابية في الدين لخلاص المؤمنين كحتمية محضة!

إذاً، ينظر الماركسيون إلى الدين على أنه ثنائي الطابع، تارةً يكون وريثاً لـ “هرطقات” الماضي السحيق وتمرد الفقراء على لاهوت النظام الحاكم، وتارةً يكون المبرر الشرعي لاستبداد هذا النظام أو ذاك. لكنَّ دوره الانتقادي لم يعد عاملاً مؤثراً في عصر الصراعات الطبقية الحديثة، في أوج تطور الرأسمالية، في ذروة العجلة التكنولوجية التي غيّرت وجه الصراع، ولم تستطع إفقاده المضمون الطبقي الاجتماعي.

اليهودية، مسألة أُخرى

لردحٍ طويل من الزمن، رزحت آراء الكثيرين تحت سلطة الأيديولوجيا التي حاولت جاهدةً الربط بين أصول ماركس اليهودية والفلسفة الماركسية، بين الديانة التي اعتنقها والدا ماركس وبين المنظور الماركسي للاحتلال الصهيوني، الذي يرفضه (المنظور الماركسي) بشكلٍ قاطع بالمناسبة. حاولوا إيجاد القاسم المشترك باستماتة، إلى أن آلت بهم رغباتهم الجامحة إلى فوضى في الأفكار وخلط لا معنى له بين الماركسية والصهيونية، أي بين نقيضين.

لكن إذا أردنا الحديث عن المسألة اليهودية، فما علينا إلا أن ننطلق من ماركس نفسه، “إن طريقة طرح مسألة من المسائل تتضمن حلها”، ولنبدأ من تحليله الفذ حول قضية اليهود في أوروبا وألمانيا تحديداً، والتي أثارت جدلاً واسعاً ومناظرات عديدة. ونلاحظ في (المسألة اليهودية) لماركس كما في غيرها من كتاباته، أنها ذات طابع نقدي، والنقد ثمرة منهج المادية الجدلية، “فإن نقد المسألة اليهودية هو الجواب على المسألة اليهودية”.

لكن قد يقفز سؤال إلى الذهن بصدد تخصيص ماركس لكتابٍ يتعلق باليهودية دون غيرها، لماذا ليس الأرثوذوكس أو الكاثوليك، لماذا لم يناقش قضية الجماعات اليسوعية أو الميثوديين، أو البروتستانت على سبيل المثال؟ والسبب يكمن في أن ماركس يرى اليهودية على أنها الديانة الأمثل لمواكبة الرأسمالية ومنطقها، بحيث تتفق مع خصائص المجتمع المدني البرجوازي، أي بمعنى أنها الدين العملي للمنظومة الرأسمالية، كون التشكيل التاريخي لليهودية الواقعية يحمل في داخله نزعات التملّك الفردي وأُخرى تشجع التجارة. لكن ماركس لم يقم بتفسير اليهودية بشكلٍ ذرائعي على أية حال، بمعنى أنه لم يختزل جوهر استغلال الرأسمالية في اللاهوت اليهودي، فقد اقتضى سبر أغوار تلك الإشكالية بأن يحيلها إلى قاعدة البناء التحتي وعلاقته بالبناء الفوقي.

إذاً، يعالج ماركس المسألة اليهودية بما هي ظاهرة اجتماعية سياسية بصورة تعيدها إلى المستوى المادي للتحليل، وهي انقسام المجتمع على نفسه أفقياً بحيث يتحول الصراع الطبقي إلى صراع مذهبي ذو طابع سياسي، يطالب فيه اليهود بالتحرر من سلطة الدولة التي تنحاز إلى حاملي الديانة “المسيحية” على حسابهم، وهو ما عمل ماركس على إظهار حقيقته الداخلية من خلال مؤلف (المسألة اليهودية)، حيث يقول أنه “يجب ألا نبحث عن سر اليهودي في دينه، بل فلنبحث عن سر الدين في اليهودي الواقعي”، وبذلك يكون ماركس قد عاد بكافة جهود البحث في اليهودية من على سُحب الميثولوجيا ليوقفها على الأرض المادية الصلبة.

وفي سياقٍ متصل، لا مناص لنا من التعريج على بعض المصادر التاريخية لإبراز دور اليهود الاقتصادي الاجتماعي، الذي انطلق منه ماركس بلا أدنى شك. حيث يشير المؤرخ البلجيكي هنري بيرن (1862-1935) إلى الفيلسوف اليهودي فيلون Philon المعروف باسم فيلو السكندري، الذي وُلد في الإسكندرية وعاش بين عامي 20 ق.م وحتى 50 م، والذي عدّد المدن التي استقر بها اليهود قبل أن تنهار الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس ميلادي، وهو ما يفنّد التصورات الشائعة حول هجرة اليهود إلى معظم مناطق العالم عقب إنهيار الإمبراطورية الرومانية وسقوط أورشليم، وتعاظم سلطة الكنيسة في الغرب بالتحالف مع الإقطاع الأوروبي لاحقاً، فيؤكد في ذلك المضمار أن اليهود “كانوا يسكنون في عدد لا يحصى من مدن أوروبا وآسيا وليبيا، في القارات والجزر، قرب الشواطئ وفي المناطق الداخلية” ومن ثم يعقّب بيرن على حديثه ويقول: “ونجد اليهود، كالسوريين، منتشرين، أو بالأحرى، مجتمعين في كل المدن، كانوا بحارة وسماسرة، وصيارفة، وكان تأثيرهم فعالاً في الحياة الاقتصادية كتأثير الشرق في ميدان الفن والأفكار الدينية.”.

ومن هنا، كانت هذه نقطة ارتكاز ماركس في تحليل المسألة اليهودية، ودور اليهودي الاقتصادي الاجتماعي عوضاً عن إلقائه لعبث الأفكار والنظريات الطوباوية.

فقد دعى الباحث اللاهوتي والفيلسوف الألماني برونو باور (1809-1882) إلى تخلي اليهود الألمان عن يهوديتهم، وذلك كحلًّ لمطالباتهم بالـ “تحرر” من الاضطهاد “المسيحي” الذي تمارسه الدولة السياسية، حيث قام ماركس بوضع بحث (المسألة اليهودية) رداً عليه، والذي باشر بكتابته عام 1843 ونُشر عام 1844 في جريدة ألمانية، كان التصور لآفاق الحل بنظر ماركس ليس انعتاق اليهودي من دينه، بل تحرر الدولة ذاتها من الدين، بمعنى انكفاء الدولة عن تمثيل أي دورٍ ديني كعلاقة اجتماعية سياسية عبر تفكيك بنيتها الطبقية، فبرونو باور كان يرى التناقض على أنه تناقض لاهوتي بين اليهودية والمسيحية لا أكثر، متجاهلاً التناقض الاجتماعي الجوهري.

وبالتالي، وقع باور في خطأ نقدي عند حديثه عن تحرر اليهود، فهو يطالب بأن تخضع “الدولة المسيحية” للنقد شأنها في ذلك شأن اليهودية التي يدعو لهجرها، فهو لا يفصل بين التحرر السياسي وتحرر الإنسانية برمتها، بحيث يصبح النقد موجهاً للـ “دولة المسيحية” عنده وليس للـ “دولة بذاتها” بوصفها بنية طبقية قائمة على الانقسام العمودي للمجتمع. وكما يشرح ماركس بتشبيهٍ متقارب في كتاب الأيديولوجيا الألمانية، أن نهاية فلسفات المادية البحتة والمادية الميكانيكية السابقة التي وجهت نقدها للدين، أو نقد السماء، تفتح الأبواب لنقد السياسة الحديثة، وأن الدولة هي “سماء” الشعوب المضطهدة، والنقد عليه أن يبدأ انطلاقاً منها.

أمّا اللاسامية من جهةٍ أُخرى، أو معاداة السامية وفق الباحث الألماني فيلهم مار الذي استعمل المصطلح لأول مرة ليصف حالة العداء تجاه اليهود في العصور الوسطى، فإنها لم تكن من وحي المسيحية أو حتى شبه المسيحية بشيء، وهي أحد المسوغات التي ارتكز إليها موقف اليهود الهلامي في طلب التحرر السياسي، حيث “إن للعداء هذا جذوراً عميقة في أيديولوجية طبقية، في موقف طبقات المجتمع الروماني الحاكمة التي كانت تزدري – بحكم تقليد فلاحي عميق – جميع أشكال النشاط الاقتصادي غير المرتبطة بالزراعة”، فقد انخرط اليهود في حركة التجارة والتبادل في ذلك الوقت، إلى الحد الذي وصفهم بعض المؤرخين فيه بأنهم حلقة الوصل الوحيدة بين أوروبا وآسيا.

منذ أفول الإمبراطورية الرومانية واكتساح الكنيسة الظافر لأوروبا إلى ما يقارب القرن الثاني عشر، والذي تزامن مع عهد القنانة والإقطاع، أخذت صيرورة الطبقة اليهودية بالتشكل (وأقول طبقة لأنها تمتعت بامتيازات طبقية ومكاسب كبيرة من جراء التجارة، لكنها حافظت على بعدها القومي/الإثني ضمن إطار اجتماعي محدد)، حيث يحدد ماركس علامات ذلك الإطار: “لم تستمر اليهودية بالرغم من التاريخ، بل بحكم التاريخ”، فكما سبق أن بيّنا، “المجتمع البرجوازي يولّد من أحشائه الخاصة اليهود دون انقطاع” كونها تعكس خصائص ذلك المجتمع الذي يتسم بطابع مدني.

إذاً، وفق ماركس فالتناقض لم يكن يوماً لاهوتي، والتحرر لم يكن أبداً سياسي؛ ولذلك نفهم التناقض في سياقه الطبقي، والتحرر في سياقه البشري، وهو ما يدركه الماركسيون في تحليل أي ظاهرة اجتماعية.

هل الدين أفيون للشعوب؟ كان ماركس محقاً مذ أن خطّ حبر قلمه تلك الكلمات وحتى يومنا هذا.. لكن قبل أن تبدأ بإطلاق الأحكام المسبقة، إطرح سؤالاً على نفسك بصدد تلك العبارة التي أثارت شجباً واسع النطاق، أي دين؟! وما هي ماهية الدين أساساً؟ وعلاقة تلك الماهية في الأنماط الاقتصادية والاجتماعية للبشر؟



#يزن_حداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جدلية الثورة والتحرر
- في ذكرى مهدي عامل
- في الأول من أيار، محاولة لاستعادة مفهوم الطبقة العاملة


المزيد.....




- مصدر التهديد بحرب شاملة: سياسة إسرائيل الإجرامية وإفلاتها من ...
- الشرطة الفرنسية تستدعي نائبة يسارية على خلفية تحقيق بشأن -تم ...
- السيناتور ساندرز يحاول حجب مليارات عن إسرائيل بعد لقائه بايد ...
- إعادة افتتاح متحف كانط في الذكرى الـ300 لميلاد الفيلسوف في ك ...
- محكمة بجاية (الجزائر): النيابة العامة تطالب بخمسة عشر شهرا ح ...
- تركيا تعلن تحييد 19 عنصرا من حزب العمال الكردستاني ووحدات حم ...
- طقوس العالم بالاحتفال بيوم الأرض.. رقص وحملات شعبية وعروض أز ...
- اعتقال عشرات المتظاهرين المؤيدين لفلسطين في عدة جامعات أمريك ...
- كلمة الأمين العام الرفيق جمال براجع في المهرجان التضامني مع ...
- ال FNE في سياق استمرار توقيف عدد من نساء ورجال التعليم من طر ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - يزن حداد - في العلاقة بين الماركسية والدين (1-2)