أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي ياسين عوض عبيدات - قراءة في قصيدة محمود درويش -خطب الديكتّاتور الموزونة-















المزيد.....


قراءة في قصيدة محمود درويش -خطب الديكتّاتور الموزونة-


علي ياسين عوض عبيدات

الحوار المتمدن-العدد: 4512 - 2014 / 7 / 14 - 00:40
المحور: الادب والفن
    


قراءة في قصيدة محمود درويش "خطب الديكتّاتور الموزونة"
(لماذا الخُطب؟ وما عِلةُ الإخفاء)

علي ياسين عبيدات



درويـــش

ما إن أفلح درويش في شق طريقه وتدشين دعائم اسمه وشعريته، حتى تجاوزت تجربته الشعرية تبعات التجربة وارهاصات التجديد، وقد صير لها أن تُعتبر تياراً شعرياً مستقلاً، أسسه برسم شخصيته الصرفة والجديدة، ليصبح درويش شيخ طريقة وحوله المريدون، تلك الطريقة التي صنعها وحده -وهذا على صعيد بصمته الخاصة- وتشارك مع جيله وشركائه الحداثيين لتكون طريقته ضرباً جديداً من ضروب الحداثة التي بدأ بها رفاقه ومن سبقوه بقليل، وقد تقاطع معهم وتقاطعوا معه ليتمخض عن هذا اللقاء، شعرية عربية جديدة وخطى ثابتة نحو الحداثة الصرفة.

لم يصل درويش مكملاً لتجربة أحد، وما اقتفى أثر أحدهم ليستظل بظله، فقد وصل وبدأ وأندفع نحو الأوج بمعية نفسه فقط، حتى أن تقليد الشعراء له (شعراء النثر تحديداً) كان غير ممكن وعلى نفس درجة عدم تقليده لمن سبقوه ولمعاصريه، فما قلدَ بشكل مُطلق، وما قُلِد بشكل مُطلق أيضاً! وهذا يجعلنا نؤمن بمدى خصوصية درويش، تلك الخصوصية التي جعلته يترك بصمته الكبيرة والمؤثرة، فمنذ أن بدأت بواكير درويش ترى النور ونحن نرى التجديد، إن كان على صعيد الوزن أو الأسلوب أو اللغة، وبين قصيدة أخي العبري التي القاها في الذكرى العاشرة للنكبة وحتى رحيله وانسياقه إلى حضرة الغياب ونحن نرى الجديد واللامسبوق، ليُغير درويش الكثير من التآلفات والتقابلات التي تماهينا معها وأِلفناها وصارت عُرفاً في لغتنا وركناً لا يتزعزع من أركان شعريتنا الحديثة.

فتح درويش باب الشعر ليجد أمامه الأسماء الكبيرة، ففي العراق كان السياب في مرحلته التموزية، وكان البياتي منساقاً إلى ماركسيته، وكان بُلند الحيدري يبتكر ويكتُبُ قصيدة كاملة في حبة الأسبرين، وكان الجواهري حامل لواء الأصالة، وفي مِصر كان عبد الصبور ومضامينه الشعرية المترعة بالخلد، وعبد المعطي حجازي الذي كان من أبناء المشروع القومي والوحدة العربية، والذي شاركه المشروع درويش لاحقاً، ومحمود حسن اسماعيل صاحب الأوزان والمضامين الشعرية الجديدة.

ومن الجهة الأخرى أدونيس وخليل حاوي وتوفيق صايغ وجبرا ابراهيم جبرا ومحمد الماغوط ورياض نجيب ويوسف الخال...الخ، وتطول القائمة، فما الجديد الذي سيقدمه درويش ليكون بين هذه الأسماء وليجاري أصحابها؟ ففي بيئة ثقافية كهذه ينبغي على المرء أن يفكر أكثر من مرة لكي يطرح اسمه وليشهر سيف. حضور درويش هنا وبين هذه الجوقة، يبرهن لنا أن درويش وصل كبيراً ووصل يعي ما يقول وما سيكون، فكم من شاعرٍ لمع اسمه وعاد لينطفئ؟ فهناك العديد من الأسماء التي اقحمت نفسها في عالم الأدب بخفة السارق وخرجت منه بنفس المُسمى، فلو لم يكن درويش عقليةً شعريةً فذَّة لم استمر ولما واصل مسيرته.



بدأ درويشاً طفلاً تقوده سجيته وبيئته المنهكة وقومه المُحاربون وبلاده التي يدخلها الغرباء، فتحدث لنا عن البندقية والرصاص والانتقام والثأر والخيل والرجل الفلسطيني وهو يقارع العدو، وكبر الشاب وصار رجلاً وعاشقاً وما نسي قضيته (الأرض) وصارت الدينامية الابداعية تتطور شيئاً فشيئاً، دون أن ينسى هويته الأصيلة كعاشقٍ للأرض وشاعرٍ لها، فعلى الرغم من وسائده التي تضج بالسحاب ظل يواجه الصعاب بينما يحاول النوم، ومع أن نجوم قصائده صارت هاذية إلا أنه واقعيٌ حد الواقعية في حديثه عن آكلي اللحوم البشرية ومن يسرقون الأرض والدم، وعلى الرغم من أن نساء القصيدة الدرويشية يقفن على خيط ناي إلا أن بعضهن يقفن على باب جسرٍ من جسور فلسطين وممنوعاتٌ عن الدخول للأرض المُحتلة.

وبهذا تطور درويش دون أن يتغير، فما نسي التراب وهو يتحدث عن ماء الأساطير، وما نسي السيف وهو يتحدث عن الحمام ويلوح بأغصان الزيتون، وما باع فلسطين لأجل عيون ريتّا، فرغم اتشاح بوحه بالازوردية و روائح القمر والألوان الهامسة بوسعنا أن نسمع صوت الحصان الوحيد وأغاني حورية وهي تواسي تعبها في طريق الهجرة إلى لبنان، وكما تُقرأ القصيدة بعين الناقد وبعين الشاعر بوسع أبناء المخيم البعيد أيضاً أن يفهموا شعر درويش الذي خاطب فيه الجميع، حارس البناية ،عامل البناء، أستاذ النقد الأدبي، الزوجة الأمية، طالبة الجامعة...الخ، فقد أجمع القوم عليه لأنه تحدث عنهم جميعاً وخاطبهم بأسمائهم فرداً فردا، ويصبُ هذا في شعبية درويش التي تكلل بها في زمن الشعراء الجماهيرين، فثمة قامات أدبية كبيرة عاصرها درويش، فأين هم من حشود أمسياته و مبيعات دواوينه؟ وإن لم يكن هذا مقياساً يبين لنا الأقوى سنعتبره مقياساً يؤكد لنا مكانة درويش في قلوب قرائه ومدى تمثيله لهم...


خطب الديكتاتور الموزونة والطابع العام

في رسالة من الرسائل التي كان يُزجيها محمود درويش إلى الشاعر الفلسطيني الكبير سميح القاسم، أخبر درويش صديقه أنه في صدد كتابة قصيدةٍ عن الدكتاتور العربي، وكان هذا في عام 1986، وقد نشرها لأول مرة في مجلة اليوم السابع الباريسية في الفترة الواقعة بين الأول من آب (أغسطس) 1986 والأول من حزيران (يونيو) 1987، لتكون القصيدة بمثابة سيلٍ تهكميٍ جارف، وقد كللها بحرفة الكاريكاتير السياسي والسخرية، قادحاً فيها الديكتاتور العربي وساخراً منه ومن حكمه وأنظمته وسياسته، ولو تمثلت القصيدة على هيئة جسد لوجدنا جسدها يسلّح على الديكتاتور العربي بكل ما أوتي من قوة، وقد أُعيد نشرها في أيار(مايو) 1997 في مجلة أدب ونقد المصرية. ونشرت لاحقاً في غير موضع وغير مرة.

جاءت القصيدة في ثمانية خطابات، فكان الأول خطاب الجلوس، والثاني خطاب الضجر، والثالث خطاب السلام، والرابع خطاب الأمير، والخامس خطاب القبر، والسادس خطاب الفكرة، والسابع خطاب النساء، والأخير خطاب الخطاب.

ذهب درويش في إختياره لكلمة خطاب كعنوان لمعزوفته المستّهجِنه لأنها تعبر عن المرحلة التي كتب فيها هذه القصيدة، وهي مرحلة الخطابات والحشو والتفذلُك الزعامي وبيع الكلام واستبدال الألسن بالآذان، فكان المواطن العربي خير سامع والزعيم القائل الأوحد، وقد رسم درويش صورة ًموحدةً يتقاطع فيها الزعماء العرب - على صعيد السلوك والصفات والشخصية الزعامية والتعالي على الرعية والتطاول عليهم- ، لنرى الديكتاتور متخاذلاً ومصاصاً للدماء وتاجراً يبيع ويتشري دماء الأمة برسم الزعامة التي فرضها هو وأيدها ودافع عنها هو وزمرته، لتكون الأمة العربية أرضيةً لخدمة الزعيم وذريعةً لممارسته السلطة وبسط الحكم، وفي هذا تعارض للمهمة الزعامية الخالدة، التي تتلخص في خدمة الحاكم للمحكوم وإذعانه له. ونرى هذا في كل الخطب الموزونة التي كتبها درويش وأعلن فيها الصورة النهائية والمشتركة لزعماء الأمة في تلك الحقبة البائسة(1986-1987).

إن الميزة الكبرى التي تمتاز بها خطب الديكتاتور الموزنة هي أنها ساريةُ المفعول وذات مُطابقة سرمدية، فكما كانت تليق في حقبة وأهل الزمن الذي كتبت فيه، نراها تتواءم وتنسجم مع الطابع الزعامي فيما تقدم من مراحلٍ ظل فيها الزعيم العربي على حالته، لهذا فقد حظيت بشهرةٍ واسعة واستساغةٍ جماهيرية تعبر عن كوامن المواطن العربي وعن ضجره واستيائه من حُكامه ومن أذلوه ويتاجرون برأيه ودمه.

لو أراد القارئ أن يلقي نظرة عابرة على محيط درويش والطابع العام الذي تحلق حوله وحفزّه على أن يكتب عن الديكتاتور العربي مُعبراً عن كل عربي ضاق ذرعاً بحكامه وقتلّة أحلامه، لوجد الكثير من المحفزات التي تجعل الحجر ينطق، أو تجعل المرء يتساءل على أقل تقدير، ومن هذا بعض الأحداث التي سأشير إليها في نظرة عابرة، تلك الأحداث التي آلمت الشعب وأفرطت في انتشاء الزعيم العربي الذي قادنا لها أو أجبرنا على خوضها معه، وهي التي عاصرها درويش في فترة كتابته لخطب الديكتاتور الموزونة، وقبلها بقليل، وبهذا نعرف بعضاً مع المؤثرات التي جعلت كأس درويش تمتلئ، وتسح لنا خُطب ديكتاتورنا العربي.

أولاً: الأزمة المالية التي اجتاحت العالم العربي في الفترة الواقعة بين 1985/1987، بالإضافة إلى صعوبات اقتصادية وكساد في أسواق البترول العربية، وبالتأكيد سيلوك المواطن العربي صخره خبزاً ليأمن قوته وليعيش أكثر وليتفانى في خدمة زعيمه الأوحد ورب أرضه الذي فرض عليه كل ما هو فيه، ليكون المواطن العربي قرباناً لآلهة العرش التي يعبدها زعيمه، وفرضت عليه زعامته.

ثانياً: عنتريات الديكتاتور العربي و حرق الأمة لإرضائه:

1. ليبيا:
قامت مائة وستون طائرة حربية أمريكية بغارات جوية على ليبيا وأسقطت ستين طناً من القنابل، وفي ليبيا زعيم عربي كبدَّ شعبه الخسائر بفضل البهلوانيات الزعامية -العنترية-. بالإضافة إلى سياسة التجهيل والتهميش التي كانت في تلك الفترة سياسةً عامة لحكم البلاد من منظور زعيم القبيلة. فكيف سيرى درويش ديكتاتوره في هذا الصدد؟

2. العراق:
خاضت العراق حرباً وصفها الدكتاتور العربي آنذاك بأنها حرب الإسلام والفرس، واستمرت الحرب منذ بداية الثمانينات حتى آخرها،( كتب درويش قصيدته في منتصف الحرب)، وقد استمرت حرب الديكتاتور العربي قرابة العقد، وقد استنزفت قوات الديكتاتور وموارد بلاده، وهذا بالتأكيد ساهم في إذلال وتجويع شعب الديكتاتور. فكيف سيرى درويش ديكتاتوره في هذا الصدد؟

3. سوريا:
ما بعد حماة، وبينما كانت سياسات الخّنق والأحكام العرفية وقانون الطوارئ والرقابة على المنشورات والمطبوعات، كان شعب الديكتاتور يراقب انهيار ذاته ويدرك دركاً وافياً أن ديكتاتوره قدره وليس له إلاه، ولن ننسى حرب الزعامات الحزبية بين البعثين، والتي كانت مخصصات الإنفاق عليها تنال الغالي والنفيس وكلها من جيب المواطن وعلى حساب كرامته وحياته أحياناً. هذا بالإضافة إلى أحوال مخيمات اللاجئين الفلسطينين وشقاء سكانها، والتغول في شؤون دول الجوار، كالدور الذي لعبه الديكتاتور في الحرب الأهلية اللبنانية، ونشر الجيش هناك. فكيف سيرى درويش ديكتاتوره في هذا الصدد؟

4. تونس:
مظاهرات واسعة بين 1984-1985 فيما عرف بثورة الخُبز، فقد كان الديكتاتور بارعاً في رفع الأسعار وتخفيض ذوائب السوط على ظهور شعبه، ولم يكن الحال أفضل من أحوال جيرانه الديكتاتوريين. فكيف سيرى درويش دكتاتوره في هذا الصدد؟

5. لبنان:
حرب أهلية، نهب للدولة، ضياع الدولة بقيادة أساطين الديكتاتورية، وهذه ميزة تمتاز بها لبنان، وهي نماذج الديكتاتور المختلفة والموزعة على أكثر من شخص(حسب التيار) فقد كانت لبنان دويلات في دولة وأنظمة في نظام، وكان الوطن لجوقة الزعماء الهسترية ولأرباب الأحزاب والتيارات والطوائف، ومن هذا حرب الستة أيام في 1986 بين الحزب الإشتراكي والحزب الشيوعي اللبناني، وانتفاضة سمير جعجع في نفس السنة، بالإضافة إلى مأساة المخيمات الفلسطينية هناك وتزايد التهجير ونشاطات حركة أمل (حزب الله حالياً). فمن كان المتضرر؟ وما حال المواطن أبان هذا المُعترك الذي لا يعنيه، لكنه يعني صور وخطابات الديكتاتور..! فكيف سيرى درويش ديكتاتوره في هذا الصدد؟

6. الأردن و منظمة التحرير الفلسطينية:

1985 مشروع العمل المشترك بين الأردن وفلسطين، 1984- 1985 مباردة الملك حسين بالموافقة على عقد المجلس الوطني في عمان، ثم فك الإرتباط وخطاب الملك حسين، ثم بيان منظمة التحرير الناري في 9/3/1986 والذي جاء فيه أن الشعب الفلسطيني يمثل نفسه، وأن المنظمة ستنتزع حق تمثيل نفسها من كل العالم..! وفي نفس السنة تأزمت العلاقات لمنادة بعض الأصوات بالوطن البديل، فكان الديكتاتور في حربٍ شعواء وفي استنفار دائم، وتعالت أصوات التفرقة والإقليميات الضيقة والتي أُختصرت في "أردني فلسطيني" بيت التخوين واللجوء، وتوالت المواقف الفردية والجماعية والحزبية الداعمة لأحد الأطراف على حساب الآخر، ومن هذا أحداث جامعة اليرموك في 1987 التي مات فيها نفرٌ من الطلبة وجرح العشرات.

29/3/1986 أزمة اليرموك، بدأت في يوم الأرض عندما وزعت "حركة الشعب العربي الفلسطيني" منشورات بتلك المناسبة، وبنما كانت الخطب تغلق الشوارع وتضج بالمستمعين، واستمر التظاهر حتى حظر التجول وتدخل الأمن. وفي تلك الفترة كانت مشاكل التجنيس والإقامات ومن علق في الحدود الأردنية كأردني بينما كان أخوه في فلسطين فلسطينياً. فكيف سيرى درويش ديكتاتوره في هذا الصدد؟.

7. اليمن: 13 يناير1986 ثورة جنوب اليمن -الدموية- والتي جاءت بعد إعلان الحزب الإشتراكي اليمني، وقد قتل الآلاف فيها، كما قتل قادة الحزب، وانتشر السلاح هناك في جو من الأمية والقبلية، وهذا بفضل الديكتاتور الذي سنرى كيف رآه درويش عندما نطق باسمه؟.



8. مصر: مصر التي إن صلُحّت صلُحّ حال الأمة، والتي قادتها الناصرية في أوج دفاعها عن العروبة، والأنورية في أوج خضوعها الذي تلى انتصارها وبين إطلاق الرصاص على عدو الأمة وتربع مصر في أروقة إتفاقية كامب ديف لتكون عامل جذب وطرد لهيبة مصر وقدسية تفانيها ودفاعها عن الأمة، ومن ذلك إغلاق سفاراتها ومقاطعتها، رغم أن تلك الإتفاقية المشؤمة جعلت من السادات سباق لعصره ولم تجرمه فقط، سيما أن الدكتاتور العربي يلهث ويسابق زملائه للصلح..!

وعلى هذا نرى أن حال مصر في الخُطب الدرويشية ليس أفضل من غيرها ومن جاراتها العربيات، فبعد أن خونوا مصر، وبعد مواقف مصر في المنطقة، وتخوين المصريين واتهامهم ببيع القضية، كانت مصر في فترة الإستهجان الدرويشي وبالكاد تستجمع قواها وعلاقاتها مع جيرانها. وفي معمعة الأحداث على الساحتين (العربية والدولية) كان المواطن العربي يتجرع السم والمرار ويدفع ضريبة ما حدث وما يحدث، فلم يغب الديكتاتور العربي عن مصر في الثمانينات بعد انتهاء أول فترة رئاسية له، وما عاد يحكم باسم الحزب بل باسم اهله، واستمر المصريون في عوزهم وطبقاتهم كتركةً عسكريةً منذ الإنقلاب الأول حتى تعهير النظام المصري.

ومن الأحداث المهمة في فترة صياغة الخطب الموزونة كانت أحداث فبراير 25/2/1986 والتي جمعت بين الأمن المركزي والجيش في اشباك دامي على أثر اضراب الأمن المركزي وتحطيمهم للفنادق واحتلالهم لمنطقة الهرم، ووقتذاك أعلنت الدولة حالة الطوارئ، وقد هُزم الأمن المركزي المصري على يد الجيش المصري منتزعاً سلاحهم باستخدام الطائرات، وها هي مصر تشعل نفسها بنفسها جوعاً واعتصاماً وتظاهراً وحرباً، والضحية هي الدولة التي استنزفت إكراماً للدكتاتور، فكيف سيرى درويش مصر وهي تنكب على نفسها بخلافها المصري المصري ضاربةً بعرض الحائط مصير الأمة التي ربطّت نواصي أمرها بها..؟


لم تنشر القصيدة في كتاب مستقل أو ضمن مجموعة شعرية أو ديوان؟

رفض درويش وغير مرة أن ينشر القصيدة في ديوان أو في مجموعة شعرية، وكان دائما يرفض الحديث عن هذا الأمر، قائلاً بأنه كتب هذه القصيدة بمعية انفعال وقع فيه وبعد هاجسٍ اعتراه، وهي بمثابة لعبة لغوية ومخزون لغوي صقل ما صقل وارتسمَ كما ارتسمْ، ورغم أن القصيدة قد كتبت على طريقة الشعر التفعيلي المشبع بالقوافي المُختلفة، وفيها من البلاغة والأسلوبية ما يؤهلها لتكون في طليعة ديوان أو أن يوسم الديوان الشعري باسمها، إلا أنه رفض الأمر جملةً وتفصيلاً.

لم يكن انكار درويش لهذه القصيدة جديداً فقبل هذا تنصل درويش من قصيدته التي كتبها أثناء اجتياح لبنان 1982 وهي "مديح الظل العالي" وقد وصفها بأنها قصيدة تسجيلية وليس فيها طاقة شعرية قوية، وقد حذف منها بعض المفردات والمقاطع. وثمة قصيدة ثالثة تنصلَّ منها درويش وهي "سجل أنا عربي" تلك القصيدة التي رفض أن يقرأها في المحافل والإحتفالات الوطنية والعربية، فهو يعتّبر هذه القصيدة موجهة للعدو، فلماذا سيقول للعرب أنه عربي، ما دام الخطاب من الذات وإلى الآخر.



يغلب على خطب درويش أنها ذات طابع تقريري وخطابي وفيها لمسات كاركاتيرية تشبه مضامين أحمد مطر وبعضاً من نزار قباني وصراخ مظفر النواب، وهذا يبتّعد عن نكهة درويش الشعرية وصبغته التي اعتّاد المُتلقي على تآلفاتها وتقابلاتها، ففي القصيدة سهولة وحقائق غير مبطّنة وهذا لا يتواءم مع أسلوب درويش في مسيرته الشعرية وأسلوبيته السابحة في العلو والإغلاق والترميز، ليشعر القارئ أنه قبالة نصٍ كتبه درويش بعد أن خلع عباءته التي اعتّاد عليها قارئ شعره، فروح درويش الخاصة لا تشبه ما جاء في القصيدة من عمومية واشتراك.

تفتقر القصيدة للأبعاد التي يراعيها درويش في شعره، ولا تعتبر امتدادا لرسالته وهويته الشعرية، إلا أنها اتشحت بذاكرته الإبداعية -رغماً عنه- فقد كتبها كما يقول في لحظة انفعال وكان هذا رغماً عنه وكردة فعل، لكنها كُتبت برسم الروح الدرويشية وهذا ليس خيّار فالقلم الدرويشي يتدفق قوةً سواء كانت كتابته كردة فعل أو بعد نية مسبقة. وربما خاف درويش أن يطرح حرفته التقريرية والكاريكاتيرية في الشعر بطريقة مباشرة وفعل ما فعل وتراجع عنه ظناً منه بأن هويته الشعرية لا تتواءم مع هذه البساطة وكل هذا المنطق المترع بالقصيدة.

في صميم الخُطب:

هكذا كان الطابع العام، بصورةٍ جزئيةٍ وبنظرةٍ مُقتضبة، ولن أبالغ لو قلت بأن أمتّنا العربية كلها، مشتركةٌ في هذا الحال، فالعسر والعوز والوثنية والحديث عن الطقس..الخ، كان هذا محتوى العقلية العربية ومدار حديث أصحابها، الذي لا يتجوز مرحلة التفريغ و وصف الحال الذي ما ولن يتبدل بمفهوم درويش وكما جاء في خطبه، إلا أن العربي صنع المستحيل بعد هذا لينعتق من لعنة الديكتاتور، وقد نجح البعض وفشل كثر في الإنعتاق بمفهومه الواسع، وحسبنا أن محاولةً ما تلألأت في سماء مسيرة الإحباط التي صنعها الزعيم الأوحد.

لم يخفى عن بلال الحسن "رئيس تحرير مجلة اليوم السابع الباريسية" بأنه في صدد نشر ملحمة شعبية، تقود عاطفة العربي إلى بُكائه وتشحذ همم أنفاسه إلى الحسر والتأوه، فهي بمثابة "مانفيستو" شعري يقدح من خلاله أعلى مقامات الديكتاتور المتعالي والسفاح، ليصل بهذا إلى وصف دقيق لما كانت وبقيت عليه المعادلة الزعامية والشعبية، فعبوديةُ المواطن وتأليه الزعيم ثنائيةٌ لا فكاك منها، فرأينا الزعيم كمصاص للدماء، وكمتخاذل، وكشهريار من جهة، وكقاتل ينتشي بما تخلفه ساديته وبما يقدمه له شعبه الذليل عبر المازوشتية التي توارثتها جينات الشعب، فمن نشوة إيذاء الآخر وحتى غبطة المازوشتي المهادن، لن ترى إلا الزعيم كسياف والشعب كمحكومٍ عليه بالإعدام ويجلد نفسه قبل الموت ليؤدي دوره العبودي على أتم وجه.

صاغ درويش خطبه الموزونة بنثرية سلسة وساخرة، محاولاً أن يقدم للمواطن العربي المُنهّك عزاءً يسليه ويخفف عنه كربة السلطة الغاشمة والتي إن لم تقتل بالسيف تقتل على مقصلة الجوع والموت البطيء، وقد عبر درويش عن رؤيته الخاصة كشاهدٍ على أهم المراحل الزعامية والحروب والإنكسار، ليكون أعرف الناس بما يقاد في قلب المواطن العربي الرّث، فقد كان شاهداً على النكبة و هارباً مع النازحين:

هل تتذكرين طريق هجرتنا إلى لبنان،
حيث نسيتني ونسيت كيس الخبز [كان الخبز قمحيًّا].
ولم أصرخ لئلاّ أوقظ الحرّاس(1).

فكشاهدٍ على المرحلة، وكمتضررٍ دفع الكثير جراء وفائه للشعب وللقضية، كتب خطبه الموزونة ناقلاً لعشرات الأحداث ومبيناً لمئات الآلام والهموم التي تتقاطع فيها الذات العربية في ذلك الوقت الذي كان قانون الطورئ فيه دستوراً لكل البلاد العربية، وكانت الأحكام العرفيّة هي منطق المُحاكمات والرقيبُ على المنشورات وأحاديث السمر في منازل الحجر والطين والعوز والحرمان. لكن درويش يقول ما يريد وكيفما يريد وكما لا يريد الآخرون أيضاً، ومن هذا قصيدته المليئة بالخطوط الحُمر، والتي قالها في جمال عبد الناصر، فالشاب الشاعر في ذلك الوقت والمواطن النزق والحالم بالدولة العربية الواحدة وصفَّ جمال عبد الناصر صفات البشر رغم أن المبالغة كانت في ذروتها وكان المُخلص والوحيد والأوحد في عيون أغلبية الشارع العربي، فهو يراه طرفاً من قضية ولا يراه القضية برمتها، فأنى للشاعر الفلسطيني المسكين أن يتحدث عن زعيم الأمة بألوان جديدة وبصفاتٍ لا تتواءم مع أهل الغلو والإغراق الناصري؟

نعيش معك
نسير معك
نجوع معك
و حين تموت
نحاول ألا نموت معك
ففوق ضريحك ينبت قمح جديد
و ينزل ماء جديد
و أنت ترانا
نسير
نسير
نسير. (2)

إذن فما آمن درويش بالوثنية وما أقرَّ بربوبية أي بشر، فحتى ملهمه وزعيم القلوب وقلبه، والمشروع القومي "جمال عبد الناصر" لم يكن رباً يُعبد أو وثناً نتقرب عبره إلى الإله، فكيف سيكون درويش إذن في زمن الزعيم الدكتاتور ويسكت عنه وهو لا يرتقي إلى كتف جمال عبد الناصر الذي قال عنه وفيه كل صدق..! وعبر استهجانه ورفضه لحال الزعيم العربي الجديد(الدكتاتور) نظمَّ هذه الخطب ونالَّ من فقاعات الزعامة الجوفاء والتي تقتات على شهداء الخبز والبطالة العرب.

كانت خُطب درويش بين التبوء والواقعية (واقعية ذلك الزمن، ومصير أهله في زمننا هذا)، وقد استحضّر درويش أرواح البؤساء والناخبين وضحايا المُعتقلات والجوعى وطوابير من بحثوا عن اشتراكية رأس المال الزعامي وعن فرقاعات الحياة الحزبيّة التي وعدهم بها، وعن أولئك الذين قبلوا نعال ضباط المخابرات وركبوا الدراجات المنقوشّة على جدران المُعتقلات المصممّة لتكبيل الأفواه والإعتقالات الليلية.








1. درويش، محمود . تعاليم حورية . ديوان لماذا تركت الحصان وحيدا، ط 1.الريس للكتب والنشر، لندن.
2. درويش، محمود. الرجل ذو الظل الأخضر. الأعمال الشعرية الكاملة. دار صفا



علي ياسين عبيدات (كاتب ومترجم عن الفارسية)
([email protected])



#علي_ياسين_عوض_عبيدات (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- طز..! من بواكير الشتائم الثورية..!
- قراءة في رواية -مذكرات من تحت بين الدرّج-
- قراءة في عالم جبران خليل جبران النثري
- الخوف… بين الآدمية والجحيمية
- الصحافة منذُ الكبار وحتى حفلات الشاي


المزيد.....




- هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف ...
- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي ياسين عوض عبيدات - قراءة في قصيدة محمود درويش -خطب الديكتّاتور الموزونة-