أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - علاء عبد الهادي - الثورة المعلوماتية, والنموذج الثقافي الأميركي؛ التكنولوجيا بوصفها سياسة: في عولمة الثقافي (5)















المزيد.....


الثورة المعلوماتية, والنموذج الثقافي الأميركي؛ التكنولوجيا بوصفها سياسة: في عولمة الثقافي (5)


علاء عبد الهادي

الحوار المتمدن-العدد: 4497 - 2014 / 6 / 29 - 01:49
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


الثورة المعلوماتية, والنموذج الثقافي الأميركي؛
"التكنولوجيا بوصفها سياسة":
في عولمة الثقافي (5)

الدكتور علاء عبد الهادي*

شهدت الحقبة المعاصرة ثورة معلوماتية هائلة, أضحت المعلومات فيها موردًا من الموارد الاستراتيجية بالمفهوم الاقتصادي للكلمة, ومثلما هو الحال مع كل الموارد, تصبح القضية هي "من يسيطر على هذه الموارد, ومن يتخذ القرارات الخاصة بتقسيم الحصص!"(1). إن القوة التكنولوچية هي إلى حد كبير امتداد للقوة الاقتصادية والتجارية. ولكنها تتجه إلى ما هو أبعد من ذلك. فهي لا تهدد الثراء وحسب، ولكنها تُعرض إلى الخطر استقلالية القرار العسكري, والنفوذ السياسي, والإشعاع الثقافي، وهي الأدوات الثلاث الحاسمة للعمل الخارجي, بل إنها قد تهدد، في النهاية أنماط التنظيم الاجتماعي، من خلال نشر نماذج سلوكية مختلفة, وخلق توقعات جديدة. فأصبحت القدرة على إنتاج تكنولوچيات جديدة, واستيعابها, هي المعيار الحديث للنمو.
وقد ازدهرت في القرنين الماضيين ماديّة التصور الذهني للكون, على نحو رفع الإيمان بقدرة العلم إلى مستوى عَقَدِي, ودفع جمّاع البشر إلى الاعتقاد في قدرة العلوم التجريبية على إجابة الأسئلة جميعها. من هنا كان التساؤل عن التكنولوجيا في حقيقته, تساؤلاً عن معنى النشاط الإنساني, فلا يمكننا استيعاب التغيرات التاريخية, دون فهم الآثار التكنولوجية الكامنة من خلفها, فبعد أن عرف الناس العلوم التجريبية في القرن الأخير بخاصة من نافذة التكنولوجيا, ارتبط تطور العلوم التجريبية -في هذا السياق- بنزعة التّقانة "Technicism", وهي نزعة صبت جلّ اهتمامها على توظيف المعرفة العلمية, بحيث بات من الصعب الآن فصل الخطاب العلمي عن التكنولوجيا, بسبب علاقة التبعية المتبادلة بين العلم وتجليات توظيفه, وهذا ما أضفى على التقدم العلمي بعديه؛ الاجتماعي والسياسي, فأصبح كل من العلم والتكنولوجيا وجهين لعملة واحدة, بل إنني لا أعدو الحق إذا قلت إنهما أصبحا أساس مشروعية الدولة الحديثة. فأضحى الإنسان المعاصر في الدولة الحديثة ملحقًا للتكنولوجيا؛ بل إن مفهوم التكنولوجيا ذاته "ينضوي على سياق من الدلالات تجاوز معناها المحدد, إلى حدّ يصبح فيه السؤال حول إذا ما كانت كلمة تكنولوجيا ذاتها قد اكتسبت دلالة الأقنوم (Hypostasis) "(2) وأصبح لها بعد ميتافيزيقيّ, وكأنها وثن, تدور من حوله التصورات الإنسانية المختلفة للمدينة الفاضلة, ويُعدّ التقدم التقني عاملاً من عوامل التحول, وذلك لأنه "يضع في طريقه بذور التغير المستمر, فهو يغير ظروف الحياة والعمل والعلاقات بين البشر, ويفتح فضاءات جديدة, في الوقت ذاته الذي يبث فيه ألغامه لتقويض الأبنية القائمة, والعقليات العاجزة عن مجاراته, كما نجده يسلط الضوء على مصادر غياب التكافؤ وأسبابه, في الوقت الذي يدعم فيه غياب هذا التكافؤ, ومن ثَمّ يُنشيء صعوبة في استمرار التسامح مع وجوده, وهذا ما يحيل العالم إلى كون صغير أكثر وحدة, وأشد اعتمادًا متبادلاً" (3).
ارتبطت الثقافة الغازية - قديمًا- بالفتح المادي, أما الآن فإن الفتح المادي لا يمكن حدوثه قبل الفتح الرمزي, وهذا ما يحدث عبر ثقافة أمريكية مهيمنة قامت بتغيير مطَّرِد لمجموع البنيات الرمزية للمجتمعات الأخر, حيث أصبحت هذه الثقافة متاحة على نحو كوني, وذلك بعد تغير مفهوم الحدود المغلقة للدول, وضعف سيطرة الدولة على حدود فضائها الإعلامي أو الثقافي, وذلك بسبب تطور الميديا من جهة, وازدياد الشيوع الهائل لاستخدام اللغة الإنجليزية في هذه التواصلات والاتصالات من جهة أخرى, بحيث أصبحا وجهي عملة واحدة, فالانتشار الواسع المدى للغة الإنكليزية في التعاملات قد حجّم أية منافسة ممكنة لحضارات أخر, بما في ذلك التنافس الأوروبي القائم على لغات غير الإنجليزية, فالنشاط الإعلامي البيني بخاصة, والمؤثر, "يهيمن عليه على نحو واسع اللسان الإنجليزي- الأمريكي, الذي يرتبط بوشائج وثيقة بالخطاب السياسي المسيطر على المشهد الدولي الآن, وذلك عبر القانون الدولي, والمؤسسات الدبلوماسية, ووسائل الإعلام, وذلك من خلال أكبر قوة تقنية علمية رأسمالية وعسكرية"(4). ولم يعدُ هذا الشكل المعين يتحدث بلغة الملكة. إنه يتحدث الإنجليزية بوصفها لغة دولية، وهو أمر مختلف. كما أنه يتحدث بعدد من الأشكال المختلفة من الإنجليزية؛ وهي اللغة التي أستطاعت أن تحقق تجانسًا مع مجموعة متنوعة من اللغات الأخرى دون استبعادها(5).
يؤكد هذا التناول النمو المضطرد لتأثير الخطاب الثقافي الأمريكي على المستوى العالمي بعامة, والذي يطرح نفسه بوصفه ممثلاً دون منافس للحضارة المعاصرة, حيث اسْتُثْمِرَت الثورة المعرفية الجديدة -على نحو كبير- في الدعاية إلى هذا النموذج, وهذا ما وضعنا في عالم يجري تعديله على النمط الأمريكي, وجعل المتلقي في بلدان أقل تقدمًا سلبيًا أمام ما تطرحه هذه اللغة من ثقافات, وأقل قدرة على الانتقاد والمساءلة, وأشد ميلاً إلى الانقياد, نحو تقليد ما أنتجته نظم اجتماعية ومعرفية -غريبة عن ثقافته- من أنماط سلوك, وقد ساعد تأثير الثقافات الوافدة, وانتشارُها الهائل عبر الشاشة المرئية ووسائل النشر الإلكتروني, على سرعة حراكَ مفاهيم العولمة, وعجّلَ في الآن ذاته من ظهور تأثيراتها على شعوب العالم الثالث, ومعظم دول الأطراف, وذلك لصالح القوى المهيمنة على وسائط الاتصالات, ولفائدة منتج ثقافي أميركي على نحو أساس. أما التهديد الثقافي هنا فينجم عن أمرين, الأول: السيادة المضطردة لنماذجَ تنتمي إلى تصورات اجتماعية وثقافية وسياسية متناغمة بنائيًا, قائمة على الطرح الأمريكي -مع وعينا بوجود الاختلافات والخلافات في داخل هذا النموذج, الذي يبدو متراصًا على ما يحمله في كليته من تناقضات- وذلك بعد أن أخلت القوى المتصارعة الأخرى له السبيل, لأسباب ذاتية وموضوعية, خصوصًا بعد إنتهاء الحرب الباردة, الأمر الذي أدى إلى نمو مطرد في استثمار البعد السياسي في الثقافي, ولا أستبعد توظيفه العسكري على نطاق واسع. أما الأمر الثاني فهو إمكانية نمو هذه البنية في اتجاه وحيد, على نحو يفقدها القدرة على المراجعة الداخلية والتصحيح, الأمر الذي يدفع العالم بمرور الوقت إلى بؤر صراع غير محسوبة, وفوضى دولية لها آثار وخيمة, فالاستخدام السياسي للثورة المعرفية القائمة, أمر وارد ومتاح -للأقوى- على الدوام, إن توظيف السياسي للثقافي لا يبتديء بالإقناع فحسب, بل يجاوزه إلى قدرته على إحداث الاستلاب الفكري, والاحتواء المعنوي والروحي.
إن الخطاب الأمريكي المعاصر هو خطاب قوة دون منازع, "وكل مزاولة للقوة يصاحبها خطاب يهدف إلى إضفاء شرعية على قوة الذين يزاولونها"(6) إن معنى القوة التي أقصدها هنا ليس بعيدًا عن مفهوم برتراند رسل لها--;-- الذي يعرف القوة بوصفها "إحداث نتائج مقصودة"(7), فإذا فككنا هذا المفهوم نجده يشير إلى نتائج مهمة أولها: أن القوةَ يسبق استخدامها قصد ونية أي أن آثارها ليست بريئة, فهي تخدم مصالح من استخدمها, ثانيها: إن القوة مفهومٌ تاريخي -أي نسبي ومتغير- فكي نتكلم عن القوة يجب علينا أن نحدد--;-- من الذي يؤثر ومن يتأثر؟ وأين؟ ومتى؟ فللقوة هدف أيدولوجي يهتم بالسؤال عن الفضاء الذي تعمل فيه هذه القوة وهدفها؟ أي أننا لا يمكننا كشف قوة ما, وتعيين اتجاه تأثيرها, إلا بتحديد ظروف ممارستها, وشروط إنتاجها؟
إن التفكير في العلاقات الدولية يطرح أمامنا دائمًا مفهوم القوة. وهو مفهوم تدور حوله فئات مختلفة من النظم؛ ثنائية، ومتعددة، وغير ذلك. ويظل التفكير في القوة متأثرًا بالتفكير في الحرب. ولأنها تتبلور من منظور ثنائي بصورة أساسية، فهي تعرف بأنها القدرة على فرض ا9). ولا شك في أن انتصار أفلام هوليود، وبرامج التليفزيون الأمريكية التي فاقت أهمية “الفيلم” الأمريكي، لم يقتصر على كونه انتصارًا اقتصاديًّا فحسب، بل تكرّس بوصفه انتصارًا سياسيٍّا أيضًا(8). أما أوروبا, بكل ما ضيها الثقافي العريق, ففشلت في إنتاج ثقافة جماهيرية خاصة بها، الأمر الذي يُعدّ بالنسبة لثقافتها علامة فشل. فقد غرق الجمهور دونما تمييز في فيضان من السلع الثقافية ضئيلة الجودة ولكنها مُنتَجَة على نطاق كبير. "وتظل التكنولوچيا الغربية، ومركزية رأس المال، ومركزية التقنيات، ومركزية العمالة الماهرة في المجتمعات الغربية، فضلاً عن القصص والخيال بشأن المجتمعات الغربية, محطة توليد دائم لطاقة الثقافة الجماهيرية العالمية, فهي ثقافة؛ على الرغم من عالميتها, فإنها في الغرب, وتتحدث دائمًا بالانجليزية"(10).
أما أكثر ما يشد الانتباه من ظواهر العولمة, فهو هذا المدى من الانتشار والسيطرة الذي بلغته الثقافة الشعبية الأمريكية "Popular Culture", "التي أثرت على نحو هائل على أذواق الناس في العالم, فضلاً عن انتشار النمط الأمريكي في اللباس, والأطعمة السريعة, وغيرها من السلع الاستهلاكية, وذلك على نطاق إعلامي واسع, بالأخص بين الشباب, بالإضافة إلى ذلك صارت اللغة الإنكليزية لغة كونية, ومن أسباب هذا النفوذ--;-- أولاً: سيطرة الاقتصاد الأمريكي بوصفه سوقًا مستوردة ومصدرة (...) بالإضافة إلى هيمنة شركات الإعلان الأمريكية (...) ومالهذا من قدرة كبيرة في التأثير في الأذواق وتوجيهها عالميًا, وفي تنميط الرموز الثقافية الناشئة, ثانيًا: التفوق الواضح للولايات المتحدة على منافسيها الاقتصاديين, في المجالات الثقافية والشعبية اللتين سبق لهما النمو تلبية لحاجات سوق داخلية ضخمة, تناسب تكوين المجتمع الأمريكي, بوصفه مزيجًا من المجموعات العرقية, والإثنية, والدينية, والثقافية, من دون هوية إثنية محددة, وهذا ما دفع إلى خلق "خلطة" ثقافية منفتحة تتمتع بقدر كبير من الجرأة والحرية؛ تخاطب أكبر عدد من هذا الجمهور, ثم أصبح لهذه المنتجات سوقًا خارجية لا تقل أهمية عن السوق الداخلية (...). وقد تمكنت الولايات المتحدة من استغلال قوتها في الإنتاج الفني و”التلفزيوني", وفي الصناعة الترفيهية وشركات الأقمار الصناعية. لكن هذه الصادرات لا تعكس إلا المستوى المتدني من الأنشطة الثقافية الأمريكية, وبخلاف أوروبا الغربية, أدركت الولايات المتحدة في وقت مبكر, أن الثقافة الرفيعة سوقها محدود, فاتجهت إلى تقليد هذا النمط, شرائح كبيرة من مختلف بلدان الكرة الأرضية المنتمية إلى الشرائح الوسطى ذات التطلع الاستهلاكي على نحو خاص"(11).
وُلدَتْ "الثقافةُ الجماهيرية" في الولايات المتحدة الأمريكية, وتوطنت في اوروبا الغربية, حيث لاقت فيها ذيوعًا وانتشارًا كبيرين, وتغلغلت عناصرها في معظم أنحاء الكرة الأرضية, بصفتها ثقافة كونية في رسالتها, وفي انتشارها الذي يقترح على البشرية ثقافة جماهيرية كونية, هي الأولى في تاريخ الأرض, سواء على مستوى مضموناتها, أو أدوات توصيلها, وهي ثقافة كمية في أساسها, وقادرة على خلق اتجاهات استهلاكية قوية, بابتذالها! وذلك على نحو يجعل من الثقافة سلعة لها طابع الغواية, أما استراتيجياتها فتقف أمام ثقافة أخرى كيفية بأرستقراطيتها, وهما ضدان على مستوى التلقي, واحدة تريد أن يتكيف معها جمهورالمتلقين, وأخرى تتكيف معهم, ويذهب المفكر الفرنسي إدغار موران (Edgar Morin" (12", إلى أن غداة الحرب العالمية الثانية هي البرهة التي اكتشفت فيها "السوسيولوجيا" الأمريكية الثقافة؛ التي أسمتها فيما بعد "الثقافة الجماهيرية", وهي ثقافة اُنْتِجَتْ وفق معايير العمل الصناعي, وتُرَوَّجُ عبر تقنيات نشر كثيفة, ووسائل إعلام جماهيرية, تستهدف أكبر شريحة اجتماعية ممكنة, وتتميز بأنها ثقافة مفتوحة, تقبل التلون بأكثر من صبغة قومية, أو دينية. أما السمة الثانية المهمة التي يتسم بها هذا الشكل من الثقافة الجماهيرية العالمية فهي شكلها الخاص لتحقيق التجانس. إنه شكل من أشكال التمثيل الثقافي يعمل على إضفاء طابع التجانس، وله قدرة امتصاصية ضخمة للأشياء، كما كان من قبل، وبالرغم من ذلك فإن التجانس لا يكتمل أبدًا على نحو مطلق، ولا يعمل من أجل تحقيق الاكتمال, إنه يرغب في إقرار وامتصاص تلك الاختلافات القائمة في سياق ذلك الإطار الكبير الخاص بما هو في الأساس التصور الأمريكي للعالم.
ولا نستطيع أن نغض الطرف –في هذا السياق- عن التشابه بين المجتمعات الأوروبية في حيواتها وعدد هائل من أنماط المعيشة الأمريكية, وهو تشابه ليس في صالح الأطراف بأية حال, لأن التشاكلات القوية بين التصور الأمريكي والتصور الأوروبي برغم ما تحمله هذه من تناقضات, هي تشاكلات سهلة الاندماج والتوافق على الدوام, الأمر الذي يؤدي إلى إضعاف آليات المقاومة في ثقافات الأطراف, فالثقافة الأمريكية من الوجهة السياسية مازالت حتى اليوم في إسسها الفلسفية "ثقافة من إفراز التنوير الفرنسي والإنجليزي, فهذا التنوير هو مصدر قناعتها الأساسية ونهاية تفكيرها"(13), إن القانون الذي يمكن أن نستخلصه من هذا التناول هو: يتناسب التقارب الأمريكي الأوروبي تناسبًا عكسيًا مع قدرة المقاومة الثقافية للأطراف, فكلما ازداد التقارب الأمريكي الأوروبي على مستوى البنيات الرمزية "التصورات الذهنية مثل صورة الأنا والآخر, والجغرافيا الخيالية المرتبطة بالهوية...إلخ. ازداد ابتعاد ثقافات الأطراف عن التأثير على نحو هائل, وضعفت قدرتها على المقاومة الجمعية. فأيديولوجية ثقافة الاستهلاك الجديدة، هي أيديولوجيا عابرة القارات. "إنها الثقافة التي تُغيّر العادات النفسية، والممارسات التقليدية، وتكتسحها في طريقها لتصبح مشابهة للحياة الأمريكية"(14).
إن تفرد الطرح الأمريكي بالساحة الدولية الآن وهيمنته الثقافية عليها, بالمقارنة مع وضعه السابق أدى -بعد انهيار الكتلة الاشتراكية- إلى استثمار هذا التفوق, بجانبيه المخطط له, أو العشوائي, ذاك الذي يقوم به أناس لا مصلحة لهم, وتَرْجَمتَهُ إلى مصالح سياسية واقتصادية. فقد أدي عجز مجتمعات معظم دول الأطراف الحالي وانظمتها السياسية إلى غياب مقدرتها على الحدِّ من تبني شعوبها لنماذج مجتمعات تفرض عليها -في مرحلة ثورة الاتصالات الحديثة- رؤيتها وقيمها, الأمر الذي يعيد تدوير الاستلاب بمفاهيم جديدة, ويخلق تبعية من نوع جديد متخف من وراء ضبابية فكرية تسود فيها أفكار ومعتقدات لا تسهم معظم دول العالم -حضاراته القديمة الكبيرة بخاصة في تشكيلها. حيث يطورالمضطهَدون -في هذا الوضع- سلسلة من المناهج تستبعد أي تصور للعالم بوصفه قضية أو مشكلة, وتهتم بإظهاره في صورة الكيان الثابت, أو بوصفه شيئًا معطى؛ شيئًا يتعين على الناس بوصفهم مجرد متفرجين أن يتكيفوا معه (15). و"يعكس أسلوب الحياة الأمريكية بدءًا من تفاصيلها إلى أعمق معتقداتها وممارساتها الشعورية نظرة إلى العالم مكتفية بذاتها, تمثل بدورها انعكاسًا دقيقًا لبنية الاقتصاد ذاته"(16) "ولكي يؤدي التضليل الإعلامي دوره بفعالية أكبر لابد من إخفاء شواهد وجوده, أي حينما يشعر المضلَّلون بأن الأشياء هي على ما هي عليه من الوجهة الطبيعية أو من الوجهة الحتمية"(17). وقد أدي عجز مجتمعات معظم دول الأطراف الحالي وانظمتها السياسية إلى غياب مقدرتها على الحدِّ من تبني شعوبها لنماذج مجتمعات تفرض عليها -في مرحلة ثورة الاتصالات الحديثة- رؤيتها وقيمها, الأمر الذي يعيد تدوير الاستلاب بمفاهيم جديدة, ويخلق تبعية من نوع جديد متخف من وراء ضبابية فكرية تسود فيها أفكار ومعتقدات لا تسهم معظم دول العالم -حضاراته القديمة الكبيرة بخاصة في تشكيلها. حيث يطورالمضطهَدون -في هذا الوضع- سلسلة من المناهج تستبعد أي تصور للعالم بوصفه قضية أو مشكلة, وتهتم بإظهاره في صورة الكيان الثابت, أو بوصفه شيئًا معطى, شيئًا يتعين على الناس بوصفهم مجرد متفرجين أن يتكيفوا معه.
أما المشكلة الحقيقية لدول الأطراف هنا فتكمن في خلق توازن نسبي في التبادل الثقافي, لتحويل منتجات الأطراف الثقافية إلى بضاعة عالمية, من هنا يمكننا أن نتكلم عن إمكانات جديدة للعولمة عبر تأثير الخصوصية على الكونية, دون الاكتفاء باتجاه وحيد فقط تتحكم فيه الثقافة الأمريكية, وعدد قليل من الدول الأوروبية في العالم. وتغيير هذا الوضع رهين مقدرة سياسات المقاومة الثقافية لدول الأطراف على فرض حضورها. فبرغم هذا الوضع الشائك, فإن الاقتصاد الكوكبي في القرن الواحد والعشرين يقدم أمرين متداخلين معًا, من المحال فصلهما: الأول: فرصة غير مسبوقة في التاريخ لخلق رخاء يعم العالم؛ والثاني: خطرًا محتملا على تراثات ثقافية امتدت قرونا في كل أنحاء العالم. (18). وتتمثل المسألة المطروحة هنا في أن المركز يستعمر عقول الأطراف على نحو تراكمي – وذلك من خلال أُطر العملية الثقافية التي يمر عبرها التدفق عابر القوميات بسهولة، ومن بينها إطار السوق الذي يبدو، بطبيعة الحال، بارزًا(19).
إن الشعور بالتهديد الثقافي الذي تمارسه هيمنة أمريكية على وسائل الاتصال, فضلاً عن مركزية الثقافة الإنكليزية, وذيوعها, وسيطرتها على مختلف وسائط الاتصال الحديثة, لم ينل من دول الأطراف فحسب, بل عصف بقوة بثقافات أوروبية وآسيوية متقدمة, باتت تخشى على أمنها الثقافي. حيث ظهر - في السنوات الأخيرة- عدد هائل من الدراسات عن العولمة, تناولت الجانب الخاص بتزايد هيمنة ثقافات مركزية معينة--;-- الجانب الهرمي للامبريالية، الذي اتسم بانتشار القيم والسلع الاستهلاكية, وأنماط الحياة الأمريكية, وهي سمة يُشارُ إليها في عدد من المناقشات العلمية الدائرة باسم الامبريالية الثقافية الجديدة, التي انطلقت ضدها صيحات كثيرة تحذر من طمس الفوارق الثقافية, وامتصاص تلك الاختلافات القائمة في سياق ذلك الإطار الخاص, الذي يمثل في أساسه تصورًا ثقافيًّا أمريكيًّا للعالم, فبناء نظام عالمي, يزعم التوحيد, لا يشجع منطق التكامل فحسب، كما أشرنا إلى ذلك من قبل, بل إنه يهيئ الظروف المواتية للاستبعاد أيضًا, وذلك حين يدفع إلى الأطراف أولئك الذين لا يملكون قدرة الدخول في الشبكات الدولية, ولا مبادرة الضغط من أجل تغيير اتجاهها. أما فكرة المركز, فلا امتياز لها إلا قياساً بموقع النظر, وبالقوة التي تترجمها "هنا والآن", فالطرف يمكنه أن يكون مركزاً للمركز, والمركز هو الذي حدد مكان الطرف, لكن المهم هنا هو مَنْ كان أسبق في ترجمة رؤيته إلى ممارسة, ومن كان أسبق في تحويل المعرفة إلى وجهها الآخر وهو القوة! لأن هذا هو ما حدد على مر التاريخ موقع المركز, ومكان الطرف. هكذا, أصبحت التكنولوجيا أساسًا لمشروعية "الحديث", من جهة, وحجابًا في الآن ذاته للصورة القديمة للأيديولوجيا, من جهة أخرى, "من أجل هذا, لم تقم السيادة التكنولوجيا الجزئية لطبقة محددة من مالكي التكنولوجيا بقمع حاجة التحرر لطبقات أخر فحسب, بل طعنت في هدف هذا التحرر في حدّ ذاته", بعد أن حلت التكنولوجيا -بوصفها أيديولوجيا- محل اختيارات سياسية واجتماعية أخر, وهذا ما جعل التكنولوجيا متفقة مع الأيديولوجيات القديمة في كونها قد قامت -مثل سابقاتها- بحجب التساؤل عن الأسس الاجتماعية للمعيش, وهي أسس تأثرت بنائيًّا بالتقدم العلمي, والتكنولوجي, اللذين أعادا تنظيم المجال الاجتماعي. ربما كان ماذهب إليه المفكر الألماني يورجن هابرماس صحيحًا في أن التكنولوجيا "هي في كل مرة مشروع اجتماعي- تاريخي, يتم فيها, ومن خلالها تخطيط المجتمع, وفق مصالح المسيطرين عليه.." (20). وهذا ما يثير أسئلةً جديدة حول شكل الهوية الثقافية التي تقترحها العولمة, وثورة الاتصالات الحديثة؟ كما يثير الأسئلة حول أثر هذا التقدم التكنولوجي المتسارع على الهويات الثقافية القومية!

المراجع والإحالات:
(1) شيلر, هربرت, أ., المتلاعبون بالعقول--;-- كيف يجذب محركو الدمى الكبار في السياسة والإعلان ووسائل الاتصال الجماهيري خيوط الرأي العام., ترجمة, عبد السلام رضوان., الكويت, سلسلة عالم المعرفة., 1986., ص., 195.
(2) هابرماس, يورغن., التقنية والعلم كأيديولوجيا: دراسة علمية., ترجمة, د. إلياس حاجوج., سوريا, دمشق., منشورات وزارة الثقافة السورية., 1990., ص., 11.
(3) انظر: ميرل, مارسيل., سوسيولوجيا العلاقات الدولية, ترجمة, حسن نافعة, دار المستقبل العربي, بيروت, 1986, ص., 227.
(4) دريدا, جاك., ما الذي حدث في حدث 11 سبتمبر., ترجمة, صفاء فتحي., مراجعة, بشير السباعي., القاهرة, المجلس الأعلى للثقافة., 2003, ص., 56.
(5) انظر: هول, ستيوارت.، "المحلي والعالمي: العولمة والأثنية".، مرجع سابق., ص ص., 54- 5.
(6) انظر: انظر: بورديو, بيير., أسئلة علم الاجتماع., حول الثقافة والسلطة والعنف الرمزي, ترجمة, إبراهيم فتحي, القاهرة, دار العالم الثالث., 1995., ص.,243.
(7) See: Russell, Bertrand., Power., London, Unwin Book., Sixth Impression.,1971, p., 25.
(8) انظر: بادى, برتران، ماري – كلودسموتس.، انقلاب العالم: سوسيولوچيا المسرح الدولي.، ترجمة, سوزان خليل.، القاهرة., مكتبة الأسرة.، 2006.، ص., 140.
(9) انظر: أبو الحاج. باربارا.، "لغات ونماذج للتبادل الثقافي".، في: الثقافة والعولمة والنظام العالمي.، تحرير, أنطوني كينج.، مرجع سابق.، ص., 76.
(10) انظر: فيذرستون, مايك.، وآخرون.، محدثات العولمة.، ترجمة, عبد الوهاب علوب., مراجعة وتقديم, جابر عصفور.، القاهرة, المجلس الأعلى للثقافة.، 2005.، ص., 110.
(11) انظر في هذا الخصوص: سالم, بول., "الولايات المتحدة والعولمة--;-- معالم الهيمنة في مطلع القرن الحادي والعشرين", المستقبل العربي, 229: 78- 90.
(12) موران, إدغار., روح الزمان: العصاب.,., ج, 1., ترجمة د. أنطوان حمصي, دمشق, منشورات وزارة الثقافة., 1995., ص., 97-8.
(13) هيسي, ريتشارد., "العقلانية والأسطورة في العصر الذري, ضرورة السلام الشامل كإطار للبحث عن الهوية الثقافية" في: أبحاث المؤتمر الخامس للمجموعة العربية الأوروبية للبحوث الاجتماعية, الهوية الثقافية للزمان., تحرير مراد وهبة., القاهرة, مكتبة الأنجلو المصرية., 1992., ص., 48.
(14) أبو الحاج. باربارا.، مرجع سابق., ص., 85.
(15) Freier, Paulo., Pedagogy of the Oppressed., New York, Herder and Herder., 1971., p., 13.
في: شيلر, هربرت, أ., مرجع سابق., ص., 22.
(16 ) شيلر, هربرت, أ., مرجع سابق., ص., 15.
(17) نفسه, ص., 16.
(18) انظر: الثقافات وقيم التقدم., تحرير, لورانس إى. هاريزون, صمويل پى. هنتجتون., ترجمة, شوقي جلال., القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة., 2005., ص.,469.
(19) انظر: هانرز, أولف.، "سيناريوهات ثقافات الأطراف".، في: الثقافة والعولمة والنظام العالمي.، تحرير, أنطوني كينج.، ترجمة, محمد يحيى، شهرت العالم، هالة فؤاد.، مراجعة, محمد يحيى، ط, 2.، القاهرة, المجلس الأعلى للثقافة.، 2001.، ص., 178.
(20) هابرماس, يورغن., مرجع سابق., ص., 78.

* (شاعر ومفكر مصري).




#علاء_عبد_الهادي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التدفق الثقافي: في عولمة الثقافة (4)
- الصورة واللغة: في عولمة الثقافي (3)
- سيادة أنماط الإنتاج الرأسمالي: في عولمة الثقافي (2)
- الإنسان الكوني وتهديد فضائه الفيزيائي: في عولمة الثقافة (1)
- النكوص على العقبين: عودة إلى زمن الرواية


المزيد.....




- فيديو كلاب ضالة في مدرج مطار.. الجزائر أم العراق؟
- الناتو يقرر تزويد أوكرانيا بمزيد من أنظمة الدفاع الجوي
- طهران: لا أضرار عقب الهجوم الإسرائيلي
- آبل تسحب تطبيقات من متجرها الافتراضي بناء على طلب من السلطات ...
- RT ترصد الدمار الذي طال مستشفى الأمل
- نجم فرنسا يأفل في إفريقيا
- البيت الأبيض: توريدات الأسلحة لأوكرانيا ستستأنف فورا بعد مصا ...
- إشكال كبير بين لبنانيين وسوريين في بيروت والجيش اللبناني يتد ...
- تونس.. الزيارة السنوية لكنيس الغريبة في جربة ستكون محدودة بس ...
- مصر.. شقيقتان تحتالان على 1000 فتاة والمبالغ تصل إلى 300 ملي ...


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - علاء عبد الهادي - الثورة المعلوماتية, والنموذج الثقافي الأميركي؛ التكنولوجيا بوصفها سياسة: في عولمة الثقافي (5)