أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - عدنان عباس علي - من تاريخ الفكر الاقتصادي - التحليل الاشتراكي للأزمات الاقتصادية الدورية في المجتمعات الرأسمالية - الحلقة الأولى: رودبرتوس وماركس















المزيد.....


من تاريخ الفكر الاقتصادي - التحليل الاشتراكي للأزمات الاقتصادية الدورية في المجتمعات الرأسمالية - الحلقة الأولى: رودبرتوس وماركس


عدنان عباس علي

الحوار المتمدن-العدد: 4397 - 2014 / 3 / 18 - 14:52
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


من تاريخ الفكر الاقتصادي
التحليل الاشتراكي للأزمات الاقتصادية الدورية
في المجتمعات الرأسمالية

الحلقة الأولى: آراء ماركس حول أسباب الأزمة



هذه المقالة تهتم بآراء ماركس في الأزمة، ليس للنيل من هذه الآراء. فماركس عبقرية عملاقة لا يرغب في النيل منها إلا جاهل غاب عنه أن ماركس من الظواهر النادرة في التاريخ، وأنه أحد أولئك المفكرين العظام، الذين نذروا أنفسهم للدفاع عن المستضعفين. وهكذا، فإن ما تسعى إليه هذه المقالة هو مناشدة المهتمين بآراء ماركس، أن يناقشوا هذه الآراء بعقل متفتح يناسب تفتح عقل ماركس، فالتحجر الفكري ما كان من شيمه أبداً.
ولسنا بحاجة للتأكيد على أن التناقض بين ما ورد في الفقرتين المذكورتين في الجزيئن الثاني والثالث من رأس المال، تناقض ثانوي مقارنة بمجمل التراث الفكري الذي خلفه ماركس للبشرية. فهو كان أول مفكر في التاريخ، يقيم الدليل على أن أصل الخلل السائد في المجتمعات الرأسمالية، يكمن، أولاً وأخيراً، في الصراع الطبقي. بهذا المعنى، يبقى كل نقد أخر ثانوياً حقاً وحقيقة، إننا متأكدون أن ماركس كان سيتخلص من هذا التناقض لو لم توافيه المنية في وقت مبكر.

توطئة:
تعيش المجتمعات الرأسمالية، منذ ما أكثر من مائة وخمسين عاماً وإلى يومنا هذا، تقلبات شديدة في مستوى الدخل والاستخدام والأسعار. وأول أزمة تعرضت لها هذه المجتمعات كانت في عام 1825، وتبعتها انتكاسات شديدة في النشاطات الاقتصادية في الأعوام 1836 و1847 و1857 و1866. ولم تبق تقلبات النشاطات الاقتصادية في المجتمعات الرأسمالية محصورة على القرن التاسع عشر، بل امتدت إلى القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين أيضاً. ففي عام 1900 وعام 1907 انتكست عملية إعادة الإنتاج الموسع، وفي عام 1914 بدأت الظواهر الأولى للأزمة تلوح في الأفق، لكن اندلاع الحرب العالمية الأولى خفف من وطأتها، لكي تعود من جديد في عام 1921. بيد أن أعنف انتكاسة اقتصادية مرت بها المجتمعات الرأسمالية كانت في الواقع في عام 1929، تلك الأزمة التي دخلت التاريخ، باسم "الأزمة الكبرى"، والتي شملت غالبية البلدان الرأسمالية.

لقد شغلت هذه الأزمات أفكار الكثير من الاقتصاديين ونالت اهتمامهم منذ ظهورها وحتى عصرنا الراهن. وكان فوستين (W. T. Fosten) وكاتشينغز (W. Catchings) قد أحصيا، في العشرينات من القرن المنصرم، ما يزيد على مائتي نظرية حول أسباب انتكاسة النشاطات الاقتصادية وتقلبها من انتعاش إلى ازدهار، ثم انتكاسة وركود ومن ثم انتعاش من جديد. إلا أن من الأهمية بمكان التأكيد هنا على أن هذا لا يعني طبعاً أن ثمة اختلافات جذرية بين كافة هذه النظريات بحيث يمكن اعتبارها نظريات قائمة بحد ذاتها. فغالباً ما تكون الاختلافات بين نظرية وأخرى اختلافات طفيفة تعود إلى إبراز أهمية أحد العوامل الكثيرة التي يكون لها دور أكبر في الانتكاسة من كونها اختلافات حول العوامل التي تسبب هذه التقلبات. وأولئك الباحثون أنفسهم، الذين يعزون أسباب الانتكاسة إلى عامل واحد، كثيراً ما يؤكدون على أن صحة نظريتهم لا تتحقق إلا في حالة بقاء كافة الأمور والعوامل الأخرى على حالها (ceteris paribus).

لقد بلغ الاهتمام بالأزمة درجة كبيرة واتخذ صورة جدية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فقد دارت في هذه الحقبة نقاشات مكثفة وعلى مستوى عميق بين الماركسيين أنفسهم وبينهم وبين أنصار النظام الرأسمالي حول طبيعة الأزمة وأسبابها. وكانت نظرية الأزمة من أصعب الموضوعات في النظرية الاقتصادية وخاتمة المطاف بالنسبة لكثير من المؤلفات الباحثة في الاقتصاد السياسي. إلا أنها فقدت مكانتها المتميزة في التحليل الاقتصادي في العقود الخيرة من القرن العشرين، وعلى وجه التحديد بعد الحرب العالمية الثانية. ويرجع هذا الأمر لسببين: الأول يكمن في أن الوضع بدا بعد الحرب العالمية الثانية وكأن المجتمعات الرأسمالية ستعيش من الآن فصاعداً حالة الرخاء والازدهار والاستقرار، وثانياً ساد الاعتقاد عند الكثير من الاقتصاديين أن الثورة الكينزية، في التحليل الاقتصادي عامة، وفي تحليل أسباب الأزمة الكبرى خاصة، وما أعقبها من تطورات في نظرية الدخل والاستخدام، قد أرشدت السياسة المالية والنقدية إلى الأسلوب الناجع للتعامل مع انتكاسة النشاطات الاقتصادية وبات، بالتالي، بالإمكان تفادي التطورات المضاعفة التي تؤدي إلى حالة الكساد.

ومهما كانت الحال، وكما هو بين من عنوان المقالة، فإن موضوعنا يهتم بعرض تصورات المفكرين الاشتراكيين بشأن الأزمة، أي يهتم بعرض النظريات التي تحاول أن تفسر أسباب الانتكاسة من وجهة النظر الاشتراكية.

هذا وسنستعرض في أول الأمر بدايات التحليل الاشتراكي للأزمة ممثلة بآراء رودبرتوس على أن نتناول بعد ذلك نظرية كارل ماركس في الأزمة ونحاول التعرف على التعقيدات التي تشوبها في هذا المجال، ومن ثم نقوم بعرض نظريات المفكرين الماركسيين بحسب الاتجاهات الأربعة التالية:
الاتجاه الأول الذي يرى أن أسباب الأزمة تكمن في عملية الإنتاج الموسع (نظريات الإفراط في الاستثمار)،
الاتجاه الثاني الذي يعتقد أن أسباب الأزمة ترجع إلى عملية التصريف والبيع (نظريات نقص الاستهلاك)،
الاتجاه الثالث الذي يحاول إيعاز أسباب الأزمة إلى نمو القطاعات الاقتصادية المختلفة بنحو غير متوازن،
وأخيراً الاتجاه الرابع الذي يؤكد على أنه لا يمكن التعرف على أسباب الأزمة إلا من خلال الأخذ بنتائج الصراع الطبقي والسياسة التي تعتمدها النقابات العمالية.

أولاً: نظرية رودبرتوس

إن من يبحث في نظرية رودبرتوس، لا غنى له من الإشارة إلى تصورات الاشتراكي الفوضوي برودون والاشتراكي الطوبائي لوي بلان، باعتبار أنهما كانا من أوائل الاشتراكيين الذين وجهوا الأنظار صوب الانتكاسة. فقد كان الاثنان على اعتقاد تام بأن التوزيع غير العادل للدخل القومي هو الأساس في اندلاع الأزمة في المجتمعات الرأسمالية. إلا أن تفسيرهما النظري للأزمة لم يكن على تلك الرصانة العلمية، وبالتي فمن حق المرء أن يعتبره غير ذي أهمية في التحليل النظري. وهذا هو ما يفسر انقطاع صلة الوصل بينهما وبين الاتجاهات الاشتراكية المختلفة في تفسير الأزمة في عصرنا الحاضر.

أما بالنسبة ليوهان كارل رودبرتوس (1805-1875)، فإن الأمر يختلف كلية. فهو قدم نظرية على جانب كبير من الأهمية بحيث تعتبر تمهيداً لماركس ولمنظري الأزمة الآخرين. ومحور نظريته يدور حول اعتقاده بأن حصة الأجور من الدخل القومي تميل للانخفاض، ومن ثم فإن فترة الانتعاش في المجتمعات الرأسمالية لا يمكن أن تستمر طويلاً، ولا بد أن تنتكس نتيجة للنقص المستمر في الاستهلاك.

ولكن ما هو السبب يا ترى الذي يحتم انخفاض حصة الأجور من الدخل القومي؟
إن جواب رودبرتوس يقوم على نظرية العمل في القيمة لريكاردو. فرودبرتوس يرى – مثله في ذلك مثل ريكاردو – أن العمل هو الذي يخلق القيمة وأن تكاليف البضاعة ما هي في الواقع سوى تكاليف عمل. من هذه النظرية، يستنتج رودبرتوس أن العامل هو، وحده، صاحب الحق في الحصول على قيمة كافة البضائع المنتجة. بيد أن هذا الحق لا وجود له في المجتمعات الرأسمالية، فالعامل يحصل على جزء من القيمة لا غير، في حين يذهب الجزء الآخر من القيمة إلى مالكي وسائل الإنتاج، أي أصحاب الأرض ورأس المال. وهذا يعني أن الطبقة العاملة تنتج، بفعل تقسيم العمل، قيماً تزيد على القيم التي تحصل عليها، وأن الانفصال الحاصل بين العمل ووسائل الإنتاج الأخرى هو الذي يحرمها من الحصول على مجمل ما أنتجت من قيمة، هو الذي يحرمها من الحصول على فائض القيمة.

ولما كانت إنتاجية العمل في ارتفاع مستمر في المجتمعات الرأسمالية، لذا فإن في حكم المؤكد أن نسبة فائض القيمة إلى الدخل القومي سترتفع بدورها في هذه المجتمعات. هذا في حين ستنخفض حصة الأجور من الدخل القومي وذلك لأن المجموع المطلق للأجور سيبقى ثابتاً بحسب منطوق نظرية العمل في القيمة التي انطلق منها رودبرتوس، أي أن ارتفاع إنتاجية العمل على مستوى الاقتصاد ككل سيؤدي إلى ارتفاع حصة الأرباح وانخفاض حصة الأجور. وهكذا، فإن ميل حصة الأرباح للارتفاع وحصة الأجور للانخفاض إنما هو - كما يرى رودبرتوس – ثمرة قانون اقتصادي يسري مفعوله، دائماً وأبداً، في ظل علاقات الإنتاج الرأسمالية.

والنتيجة الحتمية المباشرة لهذا القانون في رأيه تكمن في انتكاسة النشاطات الاقتصادية، ذلك لأن العامل المأجور لا يحصل على ثمار ارتفاع إنتاجيته، وتبعاً لذلك فإن حصته من الدخل ستنخفض لا محالة. وبهذا المعنى، فإن المجتمعات الرأسمالية تظل تعاني من نقص في الاستهلاك باعتبار أن الطلب الفعال لن يكون بالمستوى المطلوب لامتصاص جميع الإنتاج.

وعند إمعان النظر في هذه النظرية، يبان بجلاء أنه لا يمكن لهذه النظرية أن تدحض بنو أكيد نظرية التوازن الكلاسيكية، التي أكدت على قدرة النظام الرأسمالي على النمو بتوازن مستقر. فهي توضح فقط بأنه سيكون هناك نقص في الطلب على البضائع التي تستهلكها الطبقة العاملة، أي سيكون هناك إفراط في إنتاج هذه السلع، إلا أنها لا تبين لماذا لا يتحرك المنتجون لإنتاج البضائع التي تستهلكها الطبقات المالكة لوسائل الإنتاج بصورة متزايدة، ويسدون القصور الحاصل في الطلب السلعي، إذ أن الارتفاع المطلق والنسبي في مداخيل هذه الطبقات سيقابله في الوقت ذاته نقص في إنتاج السلع التي تستهلكها الطبقة الرأسمالية.

ومن هنا، فإن نظرية رودبرتوس لا تفند دعوى الاقتصاديين الكلاسيك بأن الحالة غير التوازنية لا يمكن أن تكون حالة كلية تشمل الاقتصاد ككل، بل ستبقى حالة جزئية فقط، حالة تتسم بأن الإفراط بالإنتاج في هذه السوق يقابله نقص بالإنتاج في السوق الأخرى.

إن كارل ماركس هو المفكر الذي أخذ عاتقه إثبات زيف نظرية التوازن الكلاسيكية وبذل قصارى جهده في التدليل على أن النظام الرأسمالي سيظل يتعرض للأزمات، بحكم القوانين الاقتصادية التي تتحكم في مسيرته.

ثانياً: نظرية كارل ماركس في الأزمة:

إنه لمن الأهمية بمكان التنبيه، بادئ ذي بدء، إلى أن مَنْ يتوقع أن يقف على نظرية متكاملة في الأزمة عند كارل ماركس، سيصاب بخيبة أمل كبيرة. فلا توجد عند ماركس نظرية متكاملة في هذا الشأن، وإنما مجرد تعليقات متفرقة ومتعددة هنا وهناك في كتاباته الكثيرة. وعلى ما يبدو، يعود هذا الأمر إلى أن ماركس وافته المنية من قبل أن ينتهي من كتابة الجزئين الثاني والثالث من مؤلفه "رأس المال"، مما حدا بأنجلز أن ينشرهما كما وجدهما. وبالرغم من هذا، فإن ماركس قد ترك لنا تعليقات وهوامش يمكن القول بأنها تشكل نظرية في تحليل الأزمة في المجتمعات الرأسمالية.

ميل معدل الربح للانخفاض
ينطلق ماركس في تحليل الأزمة من قانون ميل معدل الربحية للانخفاض وهو قانون كان ماركس قد توصل إليه من خلال معادلته الرئيسية والتي تعتبر، عن حق، العمود الفقري لنظريته الاقتصادية:

رأس المال الثابت + رأس المال المتغير + فائض القيمة = قيمة البضاعة

فمن خلال هذه المعادلة استطاع ماركس أن يشتق كلاً من معدل فائض القيمة (أي درجة الاستغلال في المجتمع المعني) والتكوين العضوي لرأس المال ومعدل الربحية.
ويعرف ماركس معدل فائض القيمة بأنه:

معدل فائض القيمة (درجة الاستغلال) = فائض القيمة ÷ رأس المال المتغير (أي قيمة قوة العمل)

ومقارنة ماركس فائض القيمة برأس المال المتغير واعتبار هذه النسبة معياراً لقياس كثافة استغلال قوة العمل من قبل الرأسمالي إنما تعود لاعتقاد ماركس بأن العمل هو الذي ينتج فائض القيمة، أي أن الربح الذي يحصل عليه الرأسمالي إنما هو في الأساس حصيلة التباين، السائد في المجتمعات الرأسمالية، بين القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية لقوة العمل.

ويرى ماركس أن مستوى معدل فائض القيمة يتحدد من خلال العوامل التالية:
1. عدد ساعات العمل اليومية،
2. كمية السلع التي يحصل عليها العامل من خلال الأجر الذي يدفع له،
3. إنتاجية العمل.
ويحدد العامل الأول الزمن الكلي الذي سيتوزع بين العمل الضروري والعمل الإضافي. أما العاملان الثاني والثالث، فإنهما يحددان سوية مقدار العمل الضروري لإعادة إنتاج قوة العمل المندثرة في عملية الإنتاج. وبهذا المعنى، يمكن زيادة فائض القيمة إما عن طريق:
• تمديد ساعات العمل اليومية (مع بقاء الأجر على ما هو عليه)،
• أو تخفيض الأجر الحقيقي لقوة العمل،
• أو بواسطة زيادة إنتاجية العمل،
• أو من خلال زيادة فاعلية هذه العوامل الثلاث مجتمعة.

أما التكوين العضوي لرأس المال، فما هو إلا نسبة رأس المال الثابت (قيمة الاندثار الحاصل في الآلات والمعدات والمواد الأولية) إلى الرأس المال الكلي (مجموع رأس المال الثابت والمتغير). أي أن:

التكوين العضوي لرأس المال = الرأسمال الثابت ÷ الرأسمال الكلي (الرأسمال الثابت + الرأسمال المتغير.

وباختصار يمكن القول بأن العوامل التي تحدد التكوين العضوي لرأس المال هي كل من:
مستوى الأجر الحقيقي، وإنتاجية العمل، ومستوى التطور التقني وأخيراً وليس آخراً حجم التراكم الرأسمالي في الفترات الزمنية السابقة.

والآن، لم نعد نحتاج إلا لتعريف معدل الربحية والعوامل المؤثرة عليه كي نستطيع أن نستعرض نظرية ماركس في الأزمة، إذ أن مقدار معدل الربحية هو المعيار الأساسي الذي يحدد سلوكية المنتجين بشأن ما يتخذون من قرارات استثمارية. يعرف ماركس معدل الربحية بأنه نسبة فائض القيمة إلى الرأس المال الكلي المستثمر في عملية الإنتاج.

معدل الربحية = فائض القيمة ÷ الرأسمال الكلي

ولكن ما هي العوامل التي تحدد معدل الربحية؟

إن توضيحنا للعوامل المحددة لمعدل فائض القيمة والتكوين العضوي لرأس المال لم يترك مجالاً للشك بأن العوامل المحددة لمعدل الربحية هي، في الوقت نفسه، العوامل ذاتها التي تحدد كلاً من معدل فائض القيمة والتكوين العضوي لرأس المال، وذلك لأن معدل الربحية ما هو في الحقيقة - إذا أردنا استعمال مصطلح رياضي- إلا دالة في معدل فائض القيمة وفي التكوين العضوي لرأس المال. ولما كان فائض القيمة حصيلة رأس المال المتغير، لذا لا يمكن أن يؤدي ارتفاع التكوين العضوي لرأس المال إلى انخفاض معدل الربحية إلا في حالة ثبات معدل فائض القيمة (ثبات درجة الاستغلال).

لقد كان ماركس على يقين تام بأن التقدم التكنولوجي وسعي الرأسماليين للحصول على أكبر قدر ممكن من الربح، سيؤديان إلى توسيع رأس المال الثابت بصورة مطلقة وبنحو نسبي أيضاً، أي مقارنة برأس المال المتغير. ومعنى هذا هو أن التكوين العضوي لرأس المال سيرتفع مع مرور الأيام، وأن ارتفاعه سيؤدي إلى انخفاض معدل الربحية، وذلك لأن رأس المال الثابت لا يخلق فائض قيمة.

اندلاع الأزمة
ولعل من نافلة القول الإشارة هاهنا إلى أن ماركس قد رأى أن انخفاض معدل الربحية لن يدفع المنتجين - في بادئ الأمر - إلى تقليص إنتاجهم، إنما على العكس، سيحفزهم إلى زيادة الإنتاج. فرغبتهم في تعويض انخفاض نسبة الربح إلى رأس المال من خلال زيادة الأرباح بنحو مطلق، ستدفعهم إلى التوسع في الإنتاج، أي ستدفعهم إلى اتخاذ ذلك الإجراء الذي يؤدي، بدوره وفي ظل شروط المنافسة التامة، إلى الإفراط في إنتاج البضائع.

إلا أنه يتوجب على الرأسمالي، الذي يزيد من الإنتاج، أن يصرف البضائع التي أنتجها، بحسب ما يؤكده ماركس عن حق. ففي سياق عملية التصريف، يتحقق لديه فائض القيمة، أي يتحول فائض العمل المتبلور في البضاعة، إلى فائض قيمة. ولكن، وبسبب انخفاض القوة الشرائية للجماهير العريضة في المجتمعات الرأسمالية، فإن تصريف البضائع لا يمكن أن يتم إلا إذا انخفضت أسعار البضائع إلى ما هو أدنى من قيمتها الحقيقة (أي إلى ما هو أدنى من تكاليف إنتاجها). على صعيد آخر، يؤدي التعثر في تصريف البضائع أو تصريفها بأسعار دون قيمتها الحقيقة إلى تخفيض قيمة البضائع الإنتاجية الداخلة في عملية الإنتاج وتقليص حجم الإنتاج وزيادة البطالة في الأيدي العاملة وأخيراً وليس آخراً إلى تخفيض الأجور. وغني عن البيان أن تخفيض الأجور سيؤدي، إن عاجلاً أو آجلاً، إلى زيادة معدل الربحية من جديد وانتهاء الانتكاسة. وكما يؤكد ماركس، ينطوي انتهاء الانتكاسة على بذور الانتكاسة التالية، لا بنفس الشدة، بل بصورة أعنف وأشمل.

إن هذه الدورة: ازدهار، انتكاسة، ركود، انتعاش، ازدهار وهلم جرا، ستأخذ، كما يرى ماركس، طابعاً دورياً إلى أن تتعاظم حدة وشدة الأزمات، وتؤدي - بعد أن تصل التناقضات بين مستوى تطور قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج الرأسمالية إلى أشدها - إلى تقويض أسس العلاقات الإنتاجية الرأسمالية وتفسح المجال لأن تقوم بدلاً منها علاقات إنتاجية اشتراكية. وزيادة في الإيضاح، لا مندوحة لنا من أن نقول إن هذا التحليل يعكس بنحو دقيق نظرية ماركس بأسباب الأزمات الدورية في المجتمعات الرأسمالية.

إن ماركس يفترض هنا ثبات معدل فائض القيمة، أي ثبات درجة الاستغلال في المجتمعات الرأسمالية. وفي فرضيته هذه تكمن في الواقع تلك الإشكالية التي أشار إليها المنظرون البرجوازيون وأنصار المذهب الماركسي أنفسهم، كما سنلاحظ فيما بعد. إذا أننا إذا افترضنا ثبات معدل فائض القيمة، فإنه سيتوجب علينا والحالة هذه الاعتراف بأن الأجر الحقيقي للعمل سيرتفع مع الارتفاع الذي سيطرأ على إنتاجية العمل بفعل ارتفاع رأس المال الثابت، أي بفعل ارتفاع معامل رأس المال كما يُقال في النظرية الاقتصادية المدرسية. وفي هذه الحالة سيحصل العمل على نفس النسبة التي كان يحصل عليها سابقاً من الإنتاج؛ وهذا أمر لا ينسجم البتة مع فرضية ماركس الأساسية، أعني فرضيته التي تقوم عليها نظرية فائض القيمة، حيث أنه كان هناك على اعتقاد تام بأن الأجر لن يزيد على تكاليف إعادة إنتاج قوة العمل، أي لن يزيد على السلع الضرورية لبقاء العامل على قيد الحياة. إننا هاهنا أمام واحد من أمرين:

فإما نظريته في ميل معدل الربحية للانخفاض هي الصحيحة، وعند ذلك لا يمكن اعتماد نظريته في فائض القيمة بسبب افتراضها ثبات الأجر الحقيقي أو أن نظريته في فائض القيمة هي الصحيحة، وعند ذلك لن يكون في الإمكان الأخذ بنظريته في ميل معدل الربحية للانخفاض وذلك لأن انخفاض معدل الربحية لا يمكن أن يتحقق إلا إذا افترضنا أن الأجر الحقيقي سيرتفع.

تناقضات تسود تفسير ماركس لأسباب الأزمة

لقد حظيت آراء ماركس في الأزمة باهتمام الكثير من الاقتصاديين وباهتمام الكثير من الاقتصاديين الاشتراكيين بنحو مخصوص. بيد أن صياغته المشوشة لآرائه وعدم بنائها في إطار موحد، ترك المجال للماركسيين اللاحقين في أن يختلفوا حولها. وكان السؤال عما إذا كانت آراء ماركس في الأزمة تنطلق من وجود إفراط في الإنتاج أم نقص في الاستهلاك، في مقدمة الأمور التي اختلف حولها المنظرون الماركسيون. ففي الجزء الثالث من كتابه رأس المال، يؤكد ماركس، بصورة واضحة، لا تدع مجالاً للشك، على أن يعزو أسباب الأزمة إلى نقص الاستهلاك في المجتمعات الرأسمالية. فبعد أن بين هناك أن أسباب الأزمة لا تكمن في نمو فروع الإنتاج بنحو غير متوازن، يؤكد "أن السبب الأخير لكافة الأزمات الحقيقية يكمن في الفقر وفي محدودية الاستهلاك مقارنة برغبة المنتجين الرأسماليين في تطوير قوى الإنتاج اعتقاداً منهم أن حدودها تكمن فيما لدى المجتمع من قابلية مطلقة على الاستهلاك".

إننا لو أخذنا بالاعتبار هذا الرأي، لتعين علينا القول بأن رأي ماركس يقوم على نظرية نقص في الاستهلاك، وغني عن البيان، أنه لن يكون بينها وبين نظرية رودبرتوس، السابقة الذكر إلا فرقاً طفيفياً، إذ أن رودبرتوس، أيضاً، لم يعزو الأزمة إلى نقص الاستهلاك فقط، مثلما فعل من قبله مالثوس وسيسموندي، إنما كان قد ربط بين نقص الاستهلاك وتطور إنتاجية العمل في المجتمعات الرأسمالية، تماماُ مثلما فعل ماركس.

إلا أن هذا الاعتقاد، أيضاً، لا يمكن الركون إليه، وذلك لأن ماركس نفسه، يرفض نظرية نقص الاستهلاك في الجزء الثاني من مؤلفه رأس المال، إذ أنه يقول هناك ما معناه "إن القول بأن الأزمات حصيلة وجود نقص في الاستهلاك الفعال أو لعدم وجود مستهلكين قادرين على الشراء ثرثرة بينة. فوجود سلع غير قابلة للتصريف لا يعني أكثر من أنه لا يوجد مشترون قادرون على الشراء، أي لا يوجد مستهلكون قادرون على شراء إجمالي السلع المنتجة، سواء كانت هذه السلع، في نهاية الأمر، سلعاً استهلاكية أو سلعاً إنتاجية. أما إذا أراد المرء أن يعطي هذه الثرثرة صبغة أعمق، وذلك من خلال القول بأن الطبقة العاملة لا تحصل إلا على نسبة ضئيلة من قيمة ما تنتجه، ولذا فإنه يمكن القضاء على الانتكاسة عن طريق إعطاء العاملين نصيباً أكبر، أي إعطائهم أجراً متزايداً، فلا يمكن الرد عليه بأكثر من القول، بأن ظروف الأزمة تتهيأ أساساً في تلك الفترات التي يكون فيها الأجر في ارتفاع ملموس والطبقة العاملة تحصل فعلاً على جزء أكبر من الإنتاج السنوي المخصص للاستهلاك." وتأسيساً على هذا التصور، يرى ماركس أن رأي دعاة نظرية نقص الاستهلاك، تعكس تصوراً زائفاً جملة وتفصيلاً. فاستناداً إلى تصورهم هذا، كان ينبغي بارتفاع الأجر أن يعيق نشوء الأزمة، لا أن يهيئ لها الأسباب والظروف التي تعمق من شدتها.

إن العبارتين المذكورتين في الجزء الثاني والثالث من كتاب رأس المال، متناقضتان فعلاً، فواحدة من اثنين: إما تبني نظرية الإفراط في الإنتاج أو اعتماد نظرية النقص في الاستهلاك.

فلو اعتبرنا ماركس يتبنى نظرية نقص الاستهلاك، في تفسيره للأزمة، أي لو أخدنا قول ماركس الوارد في الجزء الثالث من رأس المال على أساس أنه ادعاء صحيح، فلن تكون النتيجة أفضل. فلو كان نقص الاستهلاك هو السبب الفعلي لاندلاع الأزمة، لكان في الإمكان القضاء على الأزمة من خلال رفع الأجور. السؤال عندئذ هو: هل سيكون، عندئذ، بالإمكان تفادي الأزمة واستمرار حالة الازدهار؟ قطعاً لا، فزيادة الأجور تؤدي، والحالة هذه، إلى تخفيض معدل الربحية، وبالتالي إلى تعطيل الاستثمار، أو تعثره، أي تهيئ ظروف الأزمة وتتسبب في تعميقها، بحيث تشمل كافة أو غالبية فروع الإنتاج. ولكن لماذا يا ترى؟ هل بسبب نقص الاستهلاك؟ طبعاً لا، وإنما بسبب انخفاض معدل الربحية. علماً أن معدل الربحية لم ينخفض إلا بسبب زيادة الأجور، وأن الأجور لم ترتفع في الواقع إلا من أجل تفادي الأزمة.

إن هذا يعني أن الوسائل التي سيعمل بها النظام الرأسمالي بغرض تفادي الأزمة، ستكون، هي ذاتها، السبب الذي يؤدي إلى اندلاع الأزمة وتصعيد شدتها. من هنا يتضح لنا أن ماركس لا يمكن أن يكون من دعاة نظرية نقص الاستهلاك، وذلك لرفضه الشديد مزاعم الاشتراكيين الطوبائيين، بإمكانية القضاء على الأزمة من خلال زيادة الأجور.

ولكن، هل ستكون الحالة أفضل، فيما لو افترضنا، أن رأي ماركس في تفسير الأزمة، يقوم على نظرية الإفراط في الاستثمار، أي أن سبب الأزمة يعود أساساً إلى انخفاض معدل الربحية؟ في الواقع، لا يمكن الركون إلى هذه النظرية أيضاً. فقانون انخفاض معدل الربحية، يفترض أساساً، ثبات معدل فائض القيمة، كما بينا أعلاه. وفي هذه الفرضية يكمن التضارب في آراء ماركس.

د. عدنان عباس علي
أستاذ جامعي من العراق

الحلقة الثانية: نظرية توكان-بارانوفسكي والرد عليها
الحلقة الثالثة: نظرية روزا لوكسمبورغ والرد عليها
الحلقة الرابعة: نظرية بول سويزي
الحلقة الخامسة: نظرية كروسمان وماتك



#عدنان_عباس_علي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- منطقة التجارة الحرة الأورو-أمريكية
- أسباب وأبعاد الأزمة الناشرة ظلالها على أسواق العملات في العد ...
- أساليب كبرى المصارف المركزية في التعامل مع الانهيار الكبير ف ...
- القرن القادم: هل هو قرن صيني أم أمريكي؟
- العملة الصينية تسير بخطوات مترددة ووئيدة صوب التحول إلى عملة ...
- الاتجاهات المثالية والمادية في الفلسفة الأوربية الحلقة الثان ...
- الاتجاهات المثالية والمادية في الفلسفة الأوربية (الحلقة الأو ...
- آفاق التعاون بين الاتحاد الأوربي ودول المغرب العربي في مجال ...
- الصناديق السيادية - وأهميتها في النظام المالي الدولي
- النشاط الاقتصادي الصيني في أفريقيا: أهو استعمار جديد أم منهج ...


المزيد.....




- تهنئة تنسيقيات التيار الديمقراطي العراقي في الخارج بالذكرى 9 ...
- الحرب على الاونروا لا تقل عدوانية عن حرب الابادة التي يتعرض ...
- محكمة تونسية تقضي بإعدام أشخاص أدينوا باغتيال شكري بلعيد
- القذافي يحول -العدم- إلى-جمال عبد الناصر-!
- شاهد: غرافيتي جريء يصوّر زعيم المعارضة الروسي أليكسي نافالني ...
- هل تلاحق لعنة كليجدار أوغلو حزب الشعب الجمهوري؟
- مقترح برلماني لإحياء فرنسا ذكرى مجزرة المتظاهرين الجزائريين ...
- بوتين: الصراع الحالي بين روسيا وأوكرانيا سببه تجاهل مصالح رو ...
- بلجيكا تدعو المتظاهرين الأتراك والأكراد إلى الهدوء
- المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي: مع الجماهير ضد قرارا ...


المزيد.....

- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي
- بصدد الفهم الماركسي للدين / مالك ابوعليا
- دفاعا عن بوب أفاكيان و الشيوعيّين الثوريّين / شادي الشماوي
- الولايات المتّحدة تستخدم الفيتو ضد قرار الأمم المتّحدة المطا ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - عدنان عباس علي - من تاريخ الفكر الاقتصادي - التحليل الاشتراكي للأزمات الاقتصادية الدورية في المجتمعات الرأسمالية - الحلقة الأولى: رودبرتوس وماركس