أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عدنان عباس علي - الاتجاهات المثالية والمادية في الفلسفة الأوربية الحلقة الثانية: من عصر النهضة وحتى المثالية الألمانية















المزيد.....



الاتجاهات المثالية والمادية في الفلسفة الأوربية الحلقة الثانية: من عصر النهضة وحتى المثالية الألمانية


عدنان عباس علي

الحوار المتمدن-العدد: 4205 - 2013 / 9 / 4 - 20:17
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


حقاً ساد أوربا خلال العصور الوسطى، أي خلال فترة قدرها ألف عام تقريباً تمتد من انهيار الإمبراطورية الرومانية إثر غزوات القبائل الجرمانية في القرن الخامس وحتى منتصف القرن الخامس عشر، تخلف فكري رهيب وإيمان قوي بالخرافات والأساطير المنافية للتعاليم العظيمة والقيم الإنسانية التي بشر بها السيد المسيح عليه السلام. إلا أن هذه الحقيقة لا تنفي طبعاً أن بعض مفكري ذلك صعب عليهم الإيمان بالهرطقات التي كانت تزعمها الكنيسة، وانتقدوا موقف الكنيسة، تارة صراحة وتارة أخرى بنحو مبطن. إن الأمر المهم هنا هو أن دور هؤلاء المفكرين ظل، ولفترة طويلة، متواضعاً جداً، ولم يحدث تطور ملموس إلا بعد أن تبلورت فلسفة توما الأكويني (1225-1274).

لقد نبذ توما الأكويني ثنائية أفلاطون، أي دعواه بأن للروح كياناً منفصلاً عن الجسد، كما رفض الأفلاطونية المحدثة ونفيها لدور العقل في المعرفة، مؤكداً، ومن منظور أرسطي جديد، على وحدة الوجود وثنائية المعرفة. فالوجود لديه أيضاً مادة خام حقيقية، انطبعت عليها الصورة وتحولت إلى ما هي عليه.

وهكذا دخلت آراء أرسطو إلى اللاهوت المسيحي وفتحت آفاقاً جديدة للمفكرين اللاحقين. وطور الأكويني هذه الفكرة من خلال اعتقاده بأن الصورة لا بد أن تكون قد تبلورت في بادئ الأمر لدى الخالق تعالى ومن ثم تجسدت في شكل المادة، أي أن الصورة، الفكرة، كانت سابقة على المادة.

وريما كانت آراء الأكويني في المعرفة أكثر تأثيراً على الاتجاهات الفكرية اللاحقة من آرائه اللاهوتية. فالمعرفة ثنائية عند الأكويني من حيث أنها تقوم على العقل والوحي. فبالعقل وحده لا يمكننا التعرف على الله تعالى. فثمة أمور تبعد تماماً عن العقل ولا سبيل لإدراكها إلا بتوجيه من الوحي، أي يجب علينا أن نؤمن بها أولاً ومن ثم نستطيع مناقشة جزئياتها.

وهكذا وبقدر ما تكون مبادئ الإيمان بمواضيع ما وراء الطبيعة قابلة للمعالجة العقلية، فلا بأس من مناقشتها على ضوء العقل. أما إذا كانت عدا ذلك، فلا يجوز استخدام العقل الإنساني من أجل معرفة أسرارها، إنما يتوجب على المرء الإيمان بها أولاً. فالإيمان يكون في مثل هذه المواضيع أمراً لازماً قبل السير في طريق المعرفة العقلية.

ساد هذا الاعتقاد بشأن المعرفة الجزء الأعظم من فترة العصور الوسطى التي مرت بها أوربا، وكان بمثابة القانون العام الذي سيطر على الفكر الديني اللاهوتي.

ولكن ومع تطور العلوم والاكتشافات العلمية، بدأ المفكرون يطرحون على أنفسهم سؤالاً ستكون له أهمية كبيرة جداً: هل يمكن أن تناقض نتائج العقل نتائج الإيمان؟ وإن تناقضت فعلاً، فما العمل؟.

لقد ارتعب اللاهوتيون من العلم ومن إعلاء شأنه خشية منهم على الإيمان، ولذا فقد زعموا أنه ليس بمقدور العقل أو الحجج العقلية أن تبرهن على وجود الخالق تعالى. إلا أن فلسفة الأنوار أو مثل ما تسمى أيضاً فلسفة التنوير، التي أخذت تتبلور في هذه الحقبة من الزمن، أي بين عام 1670 وقيام الثورة الفرنسية في عام 1789، كانت تحدياً كبيراً للفكر اللاهوتي. وفرنسيس بيكون (1561-1626) واحد من أولئك الفلاسفة العظام الذين أنجبتهم أوربا ليقودوا عصر النهضة وليمهدوا لبزوغ عصر التنوير.

وأهمية بيكون في هذا الصدد لا تكمن بآرائه الميتافيزيقية، إنما في إعلائه من شأن العقل وعمله على كسر طوق حالة السبات الفكري الذي كانت تئن تحت وطأته الشعوب الأوربية، مستسلمة للخرافات والجهل والانحطاط.

فبيكون طالب بأن يضع المرء كل شيء علق بذهنه واقتنع به موضع الشك، مؤكداً على أنه من العار أن يبقى عالم العقل والفكر أسير فرضيات مسبقة ومغلقاً داخل حدود استنتاجات وعقائد يأخذها المرء على أساس أنها قضايا مسلم بها ولا نزاع فيها. لقد أصبح واجباً على الإنسان أن يتعرف على الحقيقة لا من خلال الاستسلام لما ورثه من آراء ومعتقدات، إنما من خلال النظر إلى ما ورثه على أنه عرضة للسؤال والخطأ وأن نقطة البدء في التعرف على صواب أو خطأ هذه الآراء والمعتقدات تكمن في الشك بها أولاً ومن ثم فحصها واختبارها بالعقل، للتوصل إلى حقيقتها. فالمرء إذا بدأ بالشك، لا بد أن ينتهي إلى اليقين، أما إذا بدأ باليقين بكل ما علق بذهنه، فإنه سينتهي عاجلاً أم آجلاً إلى الشك.

لقد ألهم إيمان بيكون بالعقل أوربا بأسرها، وأصبح مناراً يضيء الطريق لفلاسفة ما يسمى بعصر التنوير. فدب الشك بكل ما ورثوه، وأخذوا يثقون ثقة عمياء بالعلم والمنطق والعقل في تبيان كل ما استعصى فهمه على الإنسان وفي حل كل ما يواجهه من مصاعب. من هنا لا غرو أن ينتشر الإلحاد في تلك الحقبة من الزمن بين عامة أفراد المجتمع وأن تنتقل عدوى الشك الديني والإلحاد الصريح إلى رجال الدين أنفسهم. بهذا المعنى، فإننا لا نشط أبداً إذا قلنا أن حركة التنوير كانت، في حصيلتها النهائية، قد تحولت وقتذاك إلى حركة إنكار لوجود خالق للكون واستخفاف بالمعتقدات الدينية، علماً أن السجال الذي أشعل فتيل نقمة الفئات المفكرة لم يكن مجرد صراع بين الدين والفلسفة، بل كان بالدرجة الأولى صراعاً بين الفلاسفة والمذهب الكاثوليكي، الذي وقف في وجه التقدم والمعرفة وتسبب في اقتراف أبشع أساليب الاضطهاد وفي ارتكاب أفظع المذابح في تاريخ البشرية.

ويتجسد الأثر البارز الذي خلفه عصر التنوير في القرن الثامن عشر في "الموسوعة" التي أشرف على إعدادها نخبة من كتاب وعلماء ماديين فرنسيين، كانوا قد أشاحوا بوجوههم عن تعاليم الكنسية الكاثوليكية وشنوا هجوماً عنيفاً على الأفكار الميتافيزيقية، اعتقاداً منهم أن العلم هو قوة الدفع الجديدة في الميدان العقلي. ويمكن الإشارة هاهنا إلى لامتري (Lamettrie) (1709-1789) ود المبيرت (D´Alembert) (1717- 1783) وهلفشيوس (Helvetius) (1715- 1771) وهولباخ (Holbach) (1723- 1789) على وجه الخصوص.

وكان الهدف من حملة هؤلاء الماديين على التفكير الميتافيزيقي هو تأكيد أولوية العقل، ودعوة المجتمع إلى انتهاج طريق العلم والتمسك بالنتائج التي يتوصل إليها العقل.

وإذا كان فلاسفة عصر التنوير قد أعلوا من شأن العقل إلى هذا القدر، فقد كان لزاماً عليهم أن يوضحوا ماهية هذا العقل الذي يحاول أن يجعل نفسه محكاً لكل ما اعتقدت وآمنت به الغالبية العظمى من البشرية، وعما إذا كان العقل نفسه معصوماً عن الخطأ ومنزه عن الزلل، أم هو الآخر محدود بحدود عمله وقواه؟

وكان جون لوك (1632- 1704) واحداً من كبار فلاسفة التنوير في إنجلترا الذين طرحوا على أنفسهم هذه الأسئلة وحاولوا أن يجدوا الجواب الشافي لها.

لقد كشف رائد الفلسفة التجريبية جون لوك زيف إصرار اللاهوتيين على الفصل بين الإيمان والعلم، أي بين الإيمان بما وراء الطبيعة وبين ما يتوصل إليه العلم، أي العقل، من نتائج، وراح يؤكد أن جميع أنواع المعرفة، سواء ما يتعلق منها بالعلم أو بالإيمان، هي من مصدر واحد نحصل عليه من التجارب، أي عن طريق حواسنا، وأن لا شيء في العقل سوى ما تنقله له الحواس. فعقل المولود الجديد، حسب رأيه، صفحة بيضاء، تخلو من كل شيء، ليس فيها خصائص وأفكار، ولكن ومع مرور الزمن تأخذ الحواس والتجارب بالكتابة على هذه الصفحة إلى أن يتزود بالإدراك والتفكير وتتكون لديه، عن طريق الحواس، الذاكرة، وهذه بدورها تكوّن لديه الآراء.

ومغزى هذا هو أن الذهن لا يحتوي على فكرة غريزية، فطرية، البتة.

إن ما يزعمه لوك في هذا السياق حدث كبير في تاريخ الفلسفة المعاصرة ونتيجة مفزعة للمؤمنين بوجود الخالق تعالى. وتظل هذه الحقيقة قائمة حتى إن أخذنا بالاعتبار أن لوك أخذ في مسائل اللاهوت بالتقسيم التقليدي للحقيقة إلى عقلية ونقلية، وأنه ظل على الدوام مؤمناً مخلصاً بالمسيحية على طريقته الخاصة، أي أنه قد جعل الأولوية للعقل متابعاً في ذلك الاتجاه الفلسفي العام لعصره.

وإذا كان كل ما نعرفه مستمد أساساً من حواسنا، فنحن نعرف، إذاً، الأشياء المادية فقط، لأن هذه وحدها هي التي تؤثر على حواسنا، أي أنها هي الأشياء الوحيدة التي نستطيع أن نتحسسها وبهذا بإمكاننا أن نتعرف عليها. إلا أن معرفتنا هذه لن تصل إلى جواهر الأشياء وإنما إلى مظاهر هذه الأشياء فقط، أي أن معرفتنا الحسية لا تمكننا من التعرف لا على ما هي عليه الأشياء حقيقة، ولا على ما هو موجود في ما وراء الطبيعة.

تصدى جورج باركلي (1685-1753) لهذه النزعة التجريبية وحاول أن يفندها بنزعة مثالية صرفة، تنفي أي وجود للمادة، أو أي جوهر مادي خارج العقل، مستقلاً عنه وسابقاً عليه، مؤكداً على أن وجود المادة يتوقف على وجود عقل يدركها، إذ "أن جميع الأجسام التي تكون العالم المادي لا وجود لها دون عقل وأن وجودها قائم في إدراكها أو معرفتها."

إن هذا يعني أن هذه المنضدة الموجودة أمامي، موجودة لأني أراها وأحس بوجودها، وحتى إذا انتقلت إلى مكان آخر، فإني سأقول بأنها كانت موجودة، فهي موجودة إذن لأني أدركتها عن طريق الحواس. وإذا قلت أن شيئاً ما غير موجود، فما ذلك إلا لأني لم أدرك ذلك الشيء.

ومعنى هذا هو أن باركلي كان على اعتقاد تام بأن الشيء الذي له وجود، هو ما يمكن إدراكه بالحواس. أما ما لا يدرك بالحواس، فإنه لن يكون موجوداً بالنسبة لباركلي.

إلا أن معرفتنا بالأشياء عن طريق الحواس، لا تعني أننا لا نعرف إلا مجرد المظاهر فحسب، إنما وبعكس ما زعمه لوك، فإننا نعرف حسب رأي باركلي كل الأشياء في الواقع، أي أن ما تدلنا عليه حواسنا هي الأشياء في الواقع وكما هي في ذاتها. ولقد عبر باركلي عن فلسفته هذه بمبدئه الشهير: "الوجود إدراك"، أي أن وجود الشيء قائم في إدراكنا لذلك الشيء. ومبدأ باركلي اللامادي هذا هو رد فعل مباشر على ما زعمته الفلسفة المادية-التجريبية بأن الوجود جوهر مادي لا يتوقف وجوده على مَنْ يدركه.

وتماشياً مع مبدئه اللامادي استبدل باركلي كلمة "الشيء" بكلمة "الصورة". فكلمة "الشيء" توحي باعتقاده وكأن هناك وجود مادي خارج العقل، أما كلمة "الصورة"، فإنها تعني أن هذه الأشياء ليست إلا مجموعة من الصفات الذاتية التي توجد في العقل.

وما من شك في أن فلسفة باركلي المثالية متطرفة في الإعلاء من شأن العقل. فبحسب هذه الفلسفة المثالية، فإن وجود كل الأشياء مرهون بوجود العقل الذي يدركها.

إلا أن اللامادية التي تقوم عليها هذه الفلسفة لا تعني في الواقع أن وجود الأشياء والصور مرهون بعقل هذا الشخص أو ذاك. فللأشياء، باعتقاده أيضاً، وجود حقيقي، مستقل عن العقل البشري، وقوله إن الأشياء لا وجود لها إلا بوجود عقل يدركها، يعني أن للأشياء، لكل الأشياء، وجوداً حقيقياً، لأن هناك عقل إلهي يدركها، فهي إذن موجودة حقيقة، حتى وإن لم يدركها العقل البشري.

إن العقل الإلهي، اللامتناهي هو الذي يعرض علينا هذه الأشياء ويرشدنا عن طريق الأحاسيس للتعرف عليها وسبر غورها. فالعقل البشري ليس علة، أي سبب، وجود هذه الأشياء، ولا مصدرها أو المتحكم في وجودها وظهورها واختفائها.

وفي الواقع العملي تؤدي فلسفة باركلي المثالية الصرفة إلى عكس ما كانت ترمي إليه.

إذ لم يبق أمام المرء، بعد ظهور فلسفة باركلي، إلا الاختيار بين نظريتين متناقضتين لا وسط بينهما: النظرة المثالية الصرفة التي ترى أن الإنسان كائن محدد بوعيه وإدراكه، والنظرة المادية التي تعترف بإمكانية الإنسان في التعرف على عالم له وجود حقيقي.

ولقد اختار الكثير من فلاسفة ذلك العصر الرأي الثاني. ونالت هذه الفلسفة تأييداً أكبر خاصة بعد ظهور فلسفة هيوم.

ففي حين أشاد باركلي بالعقل ورفع من شأنه إلى الدرجة التي مرت علينا، جاء هيوم (1711-1776) بعد ذلك لكي ينفي أي وجود للعقل. فهو يرى أن إدراكات العقل البشري بأجمعها ما هي إلا "انطباعات" و"أفكار". فأنا عندما أشخص إلى المنضدة التي أمامي، فإني أتلقى صورة لونية، إن هذه الصورة التي تلقيتها هي "الانطباع"، لكني عندما أغمض عيني، فإني سأحتفظ، وبلا شك، بالصورة التي تلقيتها وأنا شاخص ببصري إلى هذه المنضدة، إلا أن هذه الصورة لن تكون تلك الصورة اللونية التي تلقيتها في الحالة الأولى، إنما ستكون حتماً أقل وضوحاً مما تلقيته في الحالة الأولى. إن الصورة الثانية هي "الفكرة".

وهذه هي سبل المعرفة: إنها انطباعات. ولكن وإذا كانت هذه هي وسائل إدراكنا، فهل بإمكاننا أن نتعرف على المادة أو العقل؟ إن هيوم هنا واضح غاية الوضوح. فالانطباعات والأفكار مجرد آثار حسية، أي أننا لا نحصل عليها إلا عن طريق الأحاسيس، وما من شك في أننا نستطيع الإحساس بالمادة، فهي موجودة. أما بالنسبة للعقل - وعالم ما وراء الطبيعة، أي الخالق تعالى - فنحن لا نستطيع التعرف على وجوده كذات مستقلة عن طريق الأحاسيس.
وهكذا نفى هيوم أي وجود للعقل تماماً مثلما نفى باركلي أي وجود للمادة بصورة مستقلة عن العقل. فالعقل حسب اعتقاد هيوم ليس جوهراً أو عضواً له رأي، إنما هو مجرد اسم نطلقه على سلسلة المشاعر والذكريات والأحاسيس، أي أنه مجرد اسم نطلقه على الانطباعات والأفكار التي تتكون لدينا. إلا أن هيوم وهو ينفي أي وجود للعقل وبهذا أي وجود لعالم ما وراء الطبيعة لا يتحول صوب الإلحاد ولا يترك الدين. إن ما يريد أن يقوله هو فقط أننا لا نستطيع أن نبرهن على صحة هذه المعتقدات بصورة عقلية.

لقد انبرى الفيلسوف الألماني عمانويل كانْت (1724-1804) للرد على لوك وهيوم ومن سواهما من التجريبيين الإنجليز الذين شكلت المعرفة الحسية التي يحصل عليها المرء عن طريق تجاربه محور فلسفتهم. ولكتابات كانْت أهمية قصوى في عالم الفلسفة، فكما يقول ديورانت "…فإنها أحدثت انقلاباً مفزعاً في عالم الفلسفة، لم يحدثه أي كتاب آخر".

فقد مهد كانْت لشوبنهاور وفشته وبرجسون ووليام جيمس، كما استمد هيجل نظاماً فلسفياً تاماً من أفكار عمانويل كانْت. كما أن الكثير من الفلاسفة المعاصرين مدينين له في لإلهاماتهم وآرائهم الفلسفية.

إذ يعتقد كانْت أن هيوم كان قد ذهب ضحية الفرضيات الأولية التي افترضها.

فنفي هيوم للعقل يقوم أساساً على اعتقاده أن المعرفة التي نحصل عليها نستمدها عن طريق الأحاسيس المنفصلة والمختلفة، أي أن هيوم يتجاهل، كما يرى كانْت، أن المعرفة التي نحصل عليها عن طريق الحواس، لا تقدم لنا إلا ضروب التجربة الكثيرة والمشوشة وغير المنتظمة، ولذا فلا بد أن تكون ثمة قوة موجهة ومنسقة لهذه الضروب الكثيرة من التجارب، قوة لا تتلقى الأحاسيس فقط، إنما تنظمها وتسبكها وتصوغها إلى معنى من المعاني.

إن هذه القوة هي العقل، كما يؤكد كانْت، أي أنها هذا العقل الذي ينفي هيوم وجوده. فعقل الإنسان ليس مادة جامدة، تكتب عليها الأحاسيس، إنما هو عضو نشط، يرتب وينظم تجاربنا وأحاسيسنا ويصوغ منها أفكارنا. العقل إذن حقيقة موجودة وهو الذي يسكب ويصوغ الأحاسيس التي نتلقاها في لحظة من اللحظات بحيث تتناسب مع الذي نهدف إليه في تلك اللحظة. فالأم النائمة إلى جانب فراش طفلها لا تسمع ولا تنتبه مثلاً لكل الأصوات من حولها، إلا أنها سرعان ما تهب من نومها عندما يتحرك طفلها حركة خفيفة أو يصرخ ولو بصوت خافت. فعقل هذه الأم لم يستجب ولم يختار إلا تلك الأحاسيس التي تتناسب والهدف الذي ترمي إليه الأم في تلك اللحظة.

المعرفة إذن، كما يرى عمانويل كاْنت، ليست مستمدة كلها من الحواس، كما يزعم ذلك التجريبيون الإنجليز، لوك وهيوم، إنما هناك إلى جانب المعرفة الحسية، معرفة مستقلة عن كل أنواع التجربة والحواس التي تأتي إلينا عن طريق العالم الخارجي، معرفة نحصل عليها من الطبيعة الفطرية التي جبل عليها العقل. وهذه المعرفة التي لا نحصل عليها عن طريق الحواس والتجربة، هي العقل الخالص. إنها المعرفة المطلقة، الصادقة، التي تعتمد في وجودها على تركيب عقولنا الفطري. فنحن نصدق دائماً وأبداً أن اثنين زائد اثنين يساوي أربعة، ومثل هذه النتيجة صادقة وحقيقية ولن نكذبها حتى وإن ادعى العالم كله خلاف ذلك، لماذا؟ هل لأننا حصلنا عليها عن طريق حواسنا؟ طبعاً لا! فهذه المعرفة حقيقية بالنسبة لنا قبل التجربة، إنها معرفة خاصة بنا بحكم طبيعة عقولنا وتركيبها.

ومن كل هذا يستنتج عمانويل كانْت أن العقل حقيقة موجودة لا يمكن نفيها.

العالم، كما نعرفه، ليس مادة فقط إذن، إنما اشترك في تشييده عاملان: العقل من ناحية، والمادة من ناحية ثانية، العقل بما فيه من قوالب السبك والصياغة، والمادة بما تبعثه من مؤثرات تؤثر على الحواس.

ومعرفتنا بالمادة تقتصر في الواقع على المظاهر دون الجواهر، أي دون الشيء الأصلي ذاته.

وما دمنا نعتمد في معرفة المادة وإدراكها على الحواس فحسب، فإننا سنبقى نجهل ماهية الأشياء المادية وحقيقتها وستقتصر معرفتنا على مظاهر الأشياء لا غير.

وهكذا حاول كانْت التوفيق بين المادية والمثالية.

فهو لا ينكر وجود المادة مثلما فعل باركلي، ولا ينفي وجود العقل كما زعم ذلك هيوم. العالم هو، باعتقاده، مادة وعقل في آن واحد. المادة موجودة فعلاً لأنها تؤثر على حواسنا فتنقل لنا مظاهر هذه المادة، والعقل هو الآخر موجود وجوداً حقيقياً، واقعياً، لأن ثمة عضو نشط يقوم بسبك وتنسيق ضروب التجارب العديدة والمشوشة التي حصلنا عليها عن طريق المعرفة الحسية.

ووجود المادة لا يتنافى مع وجود عقل إلهي ينظم هذا العالم وينسقه.

إلا أن إثبات وجود هذا العقل الإلهي لا يمكن إقامة البرهان عليه بالعقل النظري، أي من خلال ما لدى الإنسان من قوة تَدرِك ما ينبغي أن يُدرك، وذلك لأن العقل النظري يعتمد على ما تنقله له الحواس أولاً، ومن ثم يقوم بسبك وتنظيم ما وصل إليه من تجارب، بعبارة أخرى، فإن العقل النظري لا يمكن أن يتجاوز حدود الظواهر الحسية وهو بالتالي ناقص وعاجز عن الإلمام بالحقيقة كلها.

وهكذا، فإن وجود الخالق جل وعلا يفرض نفسه، كما يرى كانْت، بوصفه إيماناً مبني على أسباب عملية. وهو لذلك يدعو إلى ترك العقل ويطالب بتشييد الإيمان على ما هو فوق العقل النظري، أي بعيداً عن منطق العقل النظري، فالدين لا يجوز أن يكون مستمداً من التجربة، بل يجب أن يكون مستقلاً، أي متأتياً من النفس ذاتها، من العقل العملي للشعور الأخلاقي، أي أن كل ما ينزل به الوحي يجب أن يحكم عليه بما له من قيمة أخلاقية، وبمقدار تمكينه الجنس البشري على التطور والرقي.

لم تحظ الإضافات العظيمة التي قدمها عمانويل كانْت للفلسفة بالتأييد فقط، إنما بالنقد أيضاً.

ومن أشهر نقاده يوهان غوتليب فشته (1762-1814)، الفيلسوف الألماني الذي كان يعتبر هو ذاته تلميذاً من تلامذة عمانويل كانْت. ونقد فشته يتمحور، إلى جانب أمور أخرى لا تعنيننا هنا، حول فكرة كانْت بأن العالم يشتمل على جانبين: جانب مادي (موضوعي)، وجانب آخر عقلي (ذاتي). فحسب اعتقاد فشته تنطوي هذه الفكرة من حيث أنها تضع الذاتي في مواجهة الموضوعي، على تناقض لا يمكن قبوله مطلقاً، وذلك لأنه يتنافى مع مناهج وأصول البحث العلمي.

واعتراض فشته على محاولات عمانويل كانت التوفيقة بين المادة والعقل كانت وحتى تلك الفترة تنسجم تماماً مع مبادئ البحث العلمي التي كانت سائدة حتى ظهور هيجل. فلقد كان ثمة اتفاق تام بأن الشيء لا يحتمل حكمين متناقضين (principium contradictionis)، كأن تقول أنه موجود ومعدوم في آن واحد، أو أنه مادي ومثالي في وقت واحد. وعلى أساس هذا المبدأ كانت تقوم الرياضيات والفيزياء وغير ذلك من العلوم (exakte Wissenschaften, exact sciences).

ويمكننا عرض التناقض الذي اعتقد فشته بانطواء فلسفة كانْت عليه من خلال المثال التالي حيث يحاول فرد ما أن يُعَّرِف الآخرين بنفسه. إن المرء سيقول: أنا كائن إنساني، ذكر، طولي متر وخمسة وسبعون سنتمتراً وإلى آخره… إن هذا التعريف ينطوي، كما يرى فشته، على ملائمة، لا بل على تطابق ما هو ذاتي، الحقيقة العقلية التي تقول "أنا" مع ما هو موضوعي ويشتمل على المواصفات ذات الصبغة المادية: الجنس والطول. إن هذا يعني أننا قد طابقنا بين أمرين متناقضين بالرغم من أن مثل هذه المطابقة تتنافى مع مناهج التفكير السليم ومع أصول المنطق، أي مع أصول المنطق التقليدي (الذي كان سائداً حتى ظهور فلسفة هيجل). ولذا يرى فشته أنه يتحتم على الفلسفة أن تبين عما إذا كان العالم بأجمعه عقلياً ذاتياً، أم أنه مادي موضوعي.

إلا أن ما بدا لفشته تناقضاً يتنافى مع المنطق السليم لم يكن كذلك بالنسبة لهيجل. فالأخير يرى أن ما تصوره فشته مناف للعقل السليم، إِنْ هو إلا الحالة المنطقية بعينها.

يرفض هيجل (1770-1831) رفضاً تاماً أصول البحث المتبعة في العلوم الرياضية والفيزيائية، والقائلة بأن الشيء الواحد لا يمكن أن ينطوي على جانبين متناقضين ويدعو إلى استبدال هذه الفرضية بفرضية عكسية مفادها أن هناك عالماً حقيقياً واحداً يشتمل على الأضداد.

وإلى ما قبل تبلور الفلسفة الهيجلية كانت الفلسفة المثالية تعتقد أن العالم يشتمل على أشياء محددة، نهائية وإلى جانب هذا على حقيقة لانهائية: الله جل وعلا. وما من شك في أن هذا المنطق ينطوي على تناقض. فإن كانت ثمة حقيقة محددة ونهائية إلى جانب رب الجلالة الله، فإن الخالق تعالى لن يكون والحالة هذه حقيقة لانهائية، ولذا فإنه يتوجب، كما يرى هيجل، النظر إلى العالم كوحدة تشتمل على الحقيقة النهائية والحقيقة اللانهائية، فجميع الأشياء في هذا العالم متناقضة في ذاتها.

وهكذا وضع هيجل أسلوب التفكير الجدلي (الديالكتيكي) الذي يمكننا بواسطته تفهم الحقيقة دون أن نضطر إلى تجاهل التناقضات التي تنطوي عليها الحقيقة، إنما سيمكننا عندئذ أن ننظر إلى هذه التناقضات من حيث أنها صفة جوهرية للعالم وقائمة دائماً وأبداً.

وكوننا نحاول أن نتفهم ماهية الإنسان، فإن هذا لا يعني بالضرورة أنه يتوجب علينا إما إعطاء الأولوية للوعي مقارنة بالطبيعة، أي بالمادة، مثلما لا يتوجب علينا بالضرورة إعطاء الأولوية للمادة مقارنة بالوعي، وإنما سيتوجب علينا، إذا ما أردنا أن نتفهم ماهية الإنسان، أن نأخذ بعين الاعتبار أن الوعي لا يمكن أن يوجد من دون وجود نقيضه الجسم، أي المادة، بعبارة أخرى: لا يوجد وعي، عقل خالص، إنما يوجد وعي متجسد (inkarniertes Bewuß-;-tsein)، تماماً مثلما لا توجد مادة خالصة، فالمادة أو الطبيعة موجودة بالنسبة للوعي، أو بالنسبة للعقل.

إن وحدة العالم من الشيء ونقيضه لا بمكن تفهمها، كما يرى هيجل، إذا نظرنا للعالم نظرة ساكنة. أننا سنتفهم العالم فقط، عندما نأخذ بنظر الاعتبار بأنه حركة دائبة وعملية مستمرة تنطوي على رفض العناصر المتناقضة لنفسها ومن ثم اتحادها في وحدة جديدة.

إن هذا هو مضمون الديالكتيك الذي أدخله هيجل إلى عالم الفلسفة والذي يرى أن العالم ليس أشكال ثابتة متكررة منذ الأزل، إنما حركة انتقال دائبة من الشيء إلى نقيضه، باعتبار أن كل شيء يتضمن تناقضاً، إلاّ وكان قادراً على التحول, إلاّ أن عملية التحول هذه لا تعني أبداً أن الشيء سيتحول إلى مضمون آخر، إنما يعني فقط أن ما هو متناقض سيقضي في عملية التحول على مضمونه الجزئي، أي أنه لن يكون نفياً للكل وإنما للجزء النقيض فقط، فكل مفهوم جديد يشتمل على سابقة أيضاً، لا بل أنه سيكون على ما هو أكثر منه، طالما كان المفهوم الجديد وحدة لذاته وضده.

وانطلاقاً من هذه النظرة الحركية للعالم، يرى هيجل أن المادة تنفي نقيضها العقل في سياق عملية التحول الدءوبة، إلا أن الوعي البشري بدوره ينفي المادة وهكذا ينفي الوعي البشري النفي الأول نفي النفي). وفي سياق هذه النظرة الجدلية لا يجري التغاضي عن المادة، على الرغم من مثالية هذا النسق الفلسفي، إنما يُعترف بدورها في عملية التحول والحركة الفكرية بما يتناسب وأهميتها.

إن النتائج التي ترتبت على هذه النظرية الجدلية في الوجود على جانب كبير من الأهمية لتطور الفكر السياسي والاقتصادي اللاحق. فكما اعتقد هيجل فإنه قد أصبح بالإمكان الآن وضع الحلول لمسألة الحرية كما أصبح بالإمكان الآن تخطي العوائق التي واجهت كافة المصلحين الاجتماعيين: الكيفية التي يمكن بها تحقيق العدالة الاجتماعية بواسطة الأساليب "اللاعادلة".

ويتجلى لنا مفهوم الحرية عند هيجل في كتابه "فنومينولوجيا الروح" (أو علم ظواهر الروح/العقل) (Phä-;-nomenologie des Geistes) المنشور عام 1807. فالإنسان، كما يرى هيجل، ما هو إلا "عقل ذاتي"، ووجوده كعقل يعني أنه سيتوجب عليه أن يكون متفوقاً على الطبيعة الحية وعلى كل ما من حوله من طبيعة. والتفوق على الطبيعة أمر يتوجب على الإنسان أن يثبته باستمرار وأن يحققه في الواقع العملي.

ويعتقد هيجل أن هناك طريقان يسلكهما الإنسان لتحقيق وإثبات أنه عقل ذاتي متفوق على الطبيعة: فأولاً مطالب الإنسان بأن يخاطر بحياته في سبيل انتزاع اعتراف الآخرين به، وثانياً، العمل الذي يذلل الإنسان بواسطته الطبيعة ويجعلها طيعة لأهدافه ومراميه. فكفاح الإنسان من أجل انتزاع اعتراف الآخرين بحرية ذاته، في استقلالها، دليل يثبت أن فكرة الاعتراف، أي الشرف، أثمن لدى الإنسان من حياته (الطبيعة البيولوجية)، ومن هنا يتجلى لنا أن الإنسان جوهر عقلي في الواقع.

إلا أن هذا الطريق لا يوصله إلى مدى بعيد في عملية تحقيق الذات، إذ سرعان ما ينتهي كفاحه، فإنه سيعود من جديد، بصيغة أو أخرى، إلى مستوى الوجود المحض، مستوى الوجود الحيواني-الطبيعي. ومن هنا فإن هذا الطريق لا يوفر للإنسان العنصر الدائم والمستمر الضروري في تحقيق الذات.

إن العمل، أي كفاح الإنسان الدءوب في تطويع الطبيعة وإخضاعها لمشيئته وجعلها تستجيب لطلباته وتتكيف تبعاً لغاياته، هو الذي يوفر للإنسان المجال الرحب والصيغة ذات الطبيعة الدائمة والأكثر استقراراً لإثبات ذاته ووجوده العقلي. فعندما يسلط الإنسان عمله الهادف، المبدع، على الطبيعة ويسلبها شكلها المميز لها ويحولها إلى صيغة أو شكل أكثر إنسانية ويكيفها بحيث تنسجم ما يرمي إليه وما يحلو له، فإنه سيتخلص عندئذ من قيود السلوك الغريزية المختلفة، كما هو الحال عند الحيوان، ويثبت أنه متفوق على الطبيعة، وبالتالي فهو لن ينظر لحصيلة عمله الهادف، أي لن ينظر لنتاج عمله، وكأنه شيء غريب عنه، شيء يقف في مواجهته، إنما سيرى قدراته على الخلق والإبداع وقد تحولت إلى حقيقة ملموسة، أنه سينظر لنتاج عمله هذا وكأنه هو ذاته نفسها. ولما كانت تلك الأشياء التي خلقها الإنسان، وأعطاها هو ذاته مزيداً من الوظائف وكيفها بالصورة التي تتفق والأهداف التي يرمي إليها، ذات أجل طويل، لذا فسيكون بوسع الإنسان النظر لها باستمرار، مانحة إياه وعيه بوجوده العقلي وتفوقه على الطبيعة، بعبارة أخرى: إن الإنسان يكتسب من خلال عمله إنسانيته، ويعي جوهره الإنساني، أي أنه يصبح إنساناً يعي ذاته.

ويطبق هيجل في كتابه "موسوعة العلوم الفلسفية" (Enzyklopä-;-die der philosophischen Wissenschaften) المنشور عام 1830 عملية صيرورة الوعي الذاتي لدى الإنسان من خلال عمله المتجسد في عالم الطبيعة على عالم ما وراء الطبيعة أيضاً. فتماماً مثل ذلك الإنسان الذي لم يتمكن بعدُ من تحقيق ذاته ولم يع ذاته الإنسانية من خلال عمله، فإن الخالق تعالى، كما يرى هيجل، كان هو أيضاً لا يزال لم يحقق ذاته ولم يع ألوهيته قبل خلق كون محدود، متناهي. ولذا فإنه خلق الكون وذلك لكي تتجلى له هو ذاته قدرته على الخلق والإبداع. ومن الدينامية التي أضفاها الله، العقل المطلق، في الطبيعة يتطور الإنسان المفكر الذي يعي ذاته من جهة والكون العقلي من جهة أخرى. وعندما يصبح الإنسان عقلاً خالصاً، فإنه سيكون عندئذ بمثابة مرآة يرى فيها الله (العقل المطلق) ذاته ويكتسب وعيه بذاته الإلهية.

انطلاقاً من النظرة أعلاه للكون والوجود يعتقد هيجل أن الوظيفة الفعلية التي يتعين على الإنسان النهوض بها تكمن في التفهم العقلاني للوجود. فمثلما يحول العمل اليدوي الشيء من شكل إلى شكل آخر وفق خطة مرسومة وهادفة، كذلك يغير تفهمنا للعالم المحيط بنا. فما نفهمه نحن على أنه شجرة، أي ما نعقله على أساس أنه شجرة، يختلف بالتأكيد عما هو موجود حسياً. إلا أن هذا التباين لا يعني أننا نحاول أن نضفي على الشجرة جوهراً غريباً، إنما العكس هو الصحيح. فما دام الوجود كله قد انبثق عن العقل المطلق، فإن إضفاءنا العقل عليها من خلال تفهمنا لها سيعيد هذه الشجرة إلى ذاتها.

ومن هنا وما دام الإنسان يغير الوجود، فإنه في الواقع يعيد هذا الوجود إلى جوهره، أي أنه يزيح عنه مظاهره غير المناسبة ويرجعه إلى ما هو كائن فعلاً. إلا أن الإنسان وهو يتفهم الوجود المحيط به، يصبح في الواقع حراً، وذلك لأننا أحرار فقط عندما لا يوجد ما هو غريب عنا، لا نستطيع تفهمه والتعرف على كنهه. فعندما يصبح الوجود برمته عقلياً، وبالتالي مطابقاً لنا في جوهره، فإننا سنصبح عندئذ أحراراً.

وبالعكس طالا كان الوجود في نظرنا سراً لا نستطيع تفهمه والتعرف على كنهه، فإننا لن نكون أحراراً أمام العالم الخارجي.

وفلسفة هيجل هذه بشأن العلاقة بين التفهم العقلاني من جهة والحرية من جهة أخرى، تخالف فلسفة روسو مخالفة تامة. فالأخير كان على يقين من أن الإنسان لا يحقق حريته المطلقة إلا في ظل الحياة الطبيعية، أي في ظل الحياة البدائية، حيث كانت النزعة إلى الحياة الاجتماعية لا تزال غريبة عنه.

والإنسان بدأ يفقد حريته، كما يرى روسو، حين غدت قواه الفردية وحدها عاجزة عن التغلب على العوائق التي كانت تهدده هو وأبناء جنسه في بقائهم، مما دفع البشر أنفسهم إلى توحيد جهودهم وتكوين مجموعة من القوى يحركها دافع واحد هو الحفاظ على الحياة الإنسانية. لقد خسر الإنسان في كنف الحياة المشتركة حريته الطبيعية، كما يؤكد روسو، وذلك لأنه لم يعد صاحب الحق اللامحدود في كل ما يغريه وفي كل ما يستطيع أن يبلغه ويطوله، إنما غدا خاضعاً خضوعاً تاماً للقوانين التي يشرعها النظام السائد.

إلا أن تقييم هيجل للدولة ونشوء الدول أكثر إيجابية. فنشوء الدولة يعود، كما يرى هيجل، إلى رغبة الأفراد لتنظيم حياتهم السياسية. وهذه الرغبة إرادة جوهرية، عقلانية، ونواة جوهرية لعقلانية الإنسان ومميزاً مهماً يميز الإنسان العاقل عن أولئك البشر الذين ظلوا في مستوى خصائصهم الحسية (الحيوانية)، ولا هدف لهم، إلا تحقيق رغباتهم الأنانية. فهؤلاء لن يروا في الدولة إلا أداة كبت تحد من حريتهم.

أما أولئك الذين استطاعوا أن يرتفعوا إلى المستوى العقلاني، الأخلاقي، الذي يمكنهم من الغوص في أعماق الإرادة العقلانية التي تقف خلف نشوء الدولة، فإنهم لن يشعروا بأن الدولة أداة تحد من حريتهم، إنما سيشعرون بأنهم أحرار، طلقاء في كنفها، وبالتالي فإننا لن نشعر بأن الدولة تحد من حريتنا متى ما تفهمنا ماهية الدولة وضروريات وجودها. فالدولة حسب اعتقاد هيجل هي العقل الإنساني موّضعاً، أي أنها العقل الإنساني وقد أصبح موضوعاً.

وانسجاماً مع هذه الفكرة لم يكن بإمكان هيجل إلا أن يكون مدافعاً قوياً عن الحكم المطلق في ألمانيا. إذ أصبح الحكم المطلق الاستبدادي الذي كان سائداً في ألمانيا في تلك الفترة، يجسد أعلى مرحلة لتطور التاريخ العالمي، لا بل وأكثر من هذا. إذ راح هيجل يؤله الدولة ويعتبرها الأمر المطلق الذي يجسد التفكير الكامل والشخصية الحقيقية التي يدين لها الفرد في تأكيد شخصيته. وهكذا ذابت شخصية الأفراد في شخصية الدولة عند هيجل.

ومثلما اعتقد بأن مهمة الدين هي بلوغ المطلق، أي بلوغ وحدانية الله والشعور بأنه تبارك وتعالى هو وحده ذلك الذي تذوب عنده جميع المتناقضات، واتحدت فيه المادة والعقل في آن واحد، كذلك فإن مهمة السياسة هي توحيد الأفراد ذوي الأهداف المختلفة والمصالح المتناقضة، المتنافرة في إطار الدولة. إن العقل هو جوهر الكون عند هيجل، أي أن تصميم الكون عقلي إطلاقاً.

إلا أن التصميم العقلي للكون لا يتجلى لنا في النظرة الستاتيكية فحسب، إنما في مسيرة التأريخ أيضاً.

فالتاريخ عرض للعقل أيضاً وعملية منطقية تتطور في إطار الزمن. وتذهب نظرية هيجل إلى أن التاريخ يبدو لنا من خلال أحداث واقعية. إلا أن هذه الأحداث الواقعية ما هي في الواقع إلا المظهر الخارجي للفكر. فخلف الأحداث التاريخية تكمن الأفكار. ولذا فقد أكد هيجل بأننا إذا نظرنا للأحداث لا إلى الأفكار الكامنة وراءها، فإننا لن نجد أن ثمة حتمية منطقية تربط بين حادثة وأخرى. إلا أننا لو أمعنا النظر وحاولنا التعرف على الأفكار التي تكمن وراء الأحداث التاريخية، لوجدنا أن هذه الأحداث ليست مجرد أحداث مرتبطة بالزمان والمكان ولا شيء غير ذلك، إنما لتجلى لنا أن هناك صلات ضرورية تربط بين الأحداث التاريخية بعلائق منطقية.

وهكذا وما دام التاريخ، في نوع من أنواعه، هو تاريخ الفكر، أي انه هو الذي يعرض المراحل التطورية للعقل ذاته، لذا فإن العملية التاريخية في صميمها عملية منطقية، كما يرى هيجل.

إن فلسفة هيجل في التاريخ لم تكن، شاء هيجل نفسه أم أبى، إلا تتويجاً مزرياً للحكم البروسي الرجعي الذي كان سائداً في تلك الحقبة من الزمن. فحسب هذه الفلسفة لم تكن الحالة التي كانت عليها بروسيا آنذاك إلا إرادة التاريخ وحصيلة التطور التاريخي العقلاني.

لقد حظيت فلسفة هيجل بالاهتمام الكبير والتأييد الواسع من قبل الحكم البروسي الرجعي والفئات المثقفة على السواء. ولكن وإلى جانب هذا التأييد الواسع، كان هناك آخرون تصدوا لهيجل بالنقد، ومن هؤلاء ورثة هيجل اليساريين من أمثال فويرباخ (1804-1872).

فالحقيقة الوحيدة، حسب اعتقاد هؤلاء اليساريين، هو أن حواسنا تدرك العالم المادي فقط وأن وعينا وأفكارنا ما هي إلا نتاج عضو مادي، جسدي، هو المخ.

د. عدنان عباس علي



#عدنان_عباس_علي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الاتجاهات المثالية والمادية في الفلسفة الأوربية (الحلقة الأو ...
- آفاق التعاون بين الاتحاد الأوربي ودول المغرب العربي في مجال ...
- الصناديق السيادية - وأهميتها في النظام المالي الدولي
- النشاط الاقتصادي الصيني في أفريقيا: أهو استعمار جديد أم منهج ...


المزيد.....




- كاميرا مراقبة ترصد لحظة اختناق طفل.. شاهد رد فعل موظفة مطعم ...
- أردوغان وهنية يلتقيان في تركيا السبت.. والأول يُعلق: ما سنتح ...
- صحة غزة تعلن حصيلة جديدة لضحايا القصف الإسرائيلي
- الدفاع الروسية تكشف خسائر أوكرانيا خلال آخر أسبوع للعملية ال ...
- بعد أن قالت إن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة.. أستاذة جا ...
- واشنطن تؤكد: لا دولة فلسطينية إلا بمفاوضات مباشرة مع إسرائيل ...
- بينس: لن أؤيد ترامب وبالتأكيد لن أصوت لبايدن (فيديو)
- أهالي رفح والنازحون إليها: نناشد العالم حماية المدنيين في أك ...
- جامعة كولومبيا تفصل ابنة النائبة الأمريكية إلهان عمر
- مجموعة السبع تستنكر -العدد غير المقبول من المدنيين- الذين قت ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عدنان عباس علي - الاتجاهات المثالية والمادية في الفلسفة الأوربية الحلقة الثانية: من عصر النهضة وحتى المثالية الألمانية