أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدو أبو يامن - فنارات على دروب التقدم















المزيد.....

فنارات على دروب التقدم


عبدو أبو يامن

الحوار المتمدن-العدد: 1248 - 2005 / 7 / 4 - 10:20
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


فنارات على دروب التقدم
لا بد للأمة التي تنشد الرقي، وتطمح إلى اللحاق بركب الحضارة، والانعتاق من سبات القرون، والصحو من بيات الأجيال، والنهوض من الكومة ( الغيبوبة ) الفكرية والثقافية، والسير على الدرب آمنة من العثار، مطمئنة من المفاجآت والنكسات والمتاهات، لا بد لها من علامات وصوى على الطريق، هي بمثابة النجم القطبي الذي يهدي السارين والمدلجين في حنادس الليالي المدلهمات.. علامات وصوى تصنعها الأمة إن لم تك غير موجودة، تصنعها لها وللأجيال من بعدها، يقربون عليهم بها المسافات ويختصرون الأبعاد، ويوفرون عليهم الجهود والأوقات، ويراكمون بها التجارب والخبرات؛ حتى يأتي الجيل اللاحق فيكمل مسيرة السابق، ويبدأ من حيث انتهوا، ويبني فوق ما بنوا في سلسلة متواليات هي الدليل الساطع على الإنسان قابل للتعلم، وعلى أنه قادر على توريث ما أنجز إلى الأبناء، وبذلك يكون مشى على طريق المدنية الصحيحة، حين عرف كيف ينقل خبراته ومعارفه وتجاربه من جيل إلى جيل، حتى لا تقع الأجيال اللاحقة في الاجترار والتكرار، والدوران في نفس المكان، والعودة في كل مرة إلى المربع الأول والنقطة الصفر.
ولا أزعم أن هذه العلامات والصوى غير موجودة، أو أنها لم يضعها أحد قبل، بلى إنها موجودة اجتهد المصلحون والمفكرون في وضعها منذ بدايات النهضة العربية وحتى الآن، لكن ربما كانت منسية، أو أنها مطمورة في أحشاء الأرض، أو مطموسة بفعل الإهمال واللامبالاة.. وكل ما أفعله الآن هو مجرد تذكير بها، أو استخراج لها، أو جلاء وتوضيح. فإلي أولى هذه العلامات..
إنسانيات:
الأمور والشؤون الإنسانية قائمة على النسبية والظنية، والشك والحدس، والترجيح والتقريب، لا مجال فيها للقطع والجزم واليقين؛ وذلك أن الإنسان ليس آلة تغذيها ببعض الأوامر، وتزودها ببعض السيور والتروس والدارات فتعمل ما توفرت لها الشروط الصالحة، وتعمل معها كل الآلات من الآن حتى يوم الدينونة، لا تختلف آلة عن آلة في نوع الوظيفة وردة الفعل ولون الباعث، ما دام توافرت لها ذات الشروط ونفس التركيب والتصنيع، وإذا اختلفت آلة عن أخرى فذلك لأنهما ليستا على نفس الدرجة من سلم التطور، فسيارات اليوم ليست كسيارات الأمس، وكمبيوتر اليوم ليس ككمبيوتر الأمس، وهكذا الشأن في بقية الآلات.
وذلك _ أيضا _ حتى في العلوم البحتة ليس هناك حتم لازم لازب نهائي وجازم إلا بقدر، وإلا لم يكن ثمة مغزى للتطور وتراكم المعرفة جيلا بعد جيل، وحضارة إثر حضارة، وعالم وراء عالم، فاللاحق لا يني يستدرك على السابق إما بتعديل أو تصحيح أو حذف أو إضافة.. وهكذا، حتى بتنا نشهد نظريات تعقب نظريات تتلوها أخرى في سلسلة متواليات لا تكاد تنقطع.
وإذا كان هذا نهج العلوم البحتة فما بالك بالعلوم الإنسانية؟
والإنسان بعد هذا أو قبله، هذا الجرم الصغير الذي انطوى فيه العالم الأكبر، لا يمكن بحال رصد كافة ردود أفعاله، أو التنبوء بها على سبيل الجزم والقطع؛ ذلك أنه معجون بتركيبته عنصر ميتافيزيقي ما ورائي، عنصر يستعصي على التقنين والاستقصاء، وذلك سر ما نرى من اختلاف الأذواق والأمزجة والخيارات الشخصية.
وحتى نستطيع التعامل مع هذا الكائن المركب المعقد علينا أن نأخذ في الحسبان هذا الجانب الغامض الغيبي من تركيبته.
وقصارى أمرنا حين نتعامل مع الشخصية الإنسانية هو التنبوء والترجيح والتقريب، فليس هناك قانون أو نظرية استطاعت أن تشمل النوع الإنساني بأسرة، أو ادعت الشمولية، لا شمولية في دراسة السلوك الإنساني، وذلك سر تعدد نظريات علم النفس من الجشطالتية إلى الفر يودية وغيرهما، وقل مثل ذلك في العلوم الإنسانية الأخرى كعلم الاجتماع والتربية والآداب والفنون بأنواعها وغيرها.
والبشر كما يختلفون في التركيب الفيزيقي والفسيولوجي ما بين قصير وطويل، وضخم ونحيل، وأبيض وأسود هم كذلك أشد اختلافا وأعظم تنوعا في ردة الفعل أمام الموقف الواحد. فلو أخذنا منظر غروب الشمس كمثال، فلن تجد شخصين يبديان ذات الردود أمامه، ولو اتفقا في الخطوط العريضة فلن يتفقا في التفاصيل الدقيقة.
فلكل إنسان تاريخ طويل وعريض، معقد وعميق، متنوع ومتباين من المؤثرات التي عملت في تركيب شخصيته على ما هي عليه، من الطفولة والأبوين والأسرة، إلى الشارع والمدرسة والمجتمع، إلى الثقافة ومصادر المعرفة المختلفة. فضلا عن التركيبة النفسية والفكرية والعاطفية.
ولا يعني كل ذلك أن كل إنسان جزيرة معزولة عن الآخر، لا يمكن أن يتفقا في أي شيء على أي شيء، فهم بعد تجمعهم فطرة بشرية واحدة، وهم إنساني واحد، وآمال وآلام واحدة؛ فكلهم يعشق الحرية، وكلهم حريص على الكرامة، وكلهم يحب أن تكون له إرادة ذاتية يتصرف بها كيفما شاء وقتما يشاء، هذه الفطرة البشرية فتش عنها في الرسالات السماوية، وبدائع الفن، وخيالات الشعراء، وسبحات الفلاسفة، وأعمال الأدب الخالدة.
وعلى سبيل الوجازة والتركيز قل: إن الإنسان من حيث هو إنسان قائم على الوحدة والتعدد، والاتفاق والاختلاف، والفرادة والتشابه؛ التعدد والاتفاق والتشابه في القيم العامة والمبادئ الكلية، حتى لا تختلط الأجناس فنخرج من جنس إلى آخر( الحيوان أو النبات مثلا ) والوحدة والاختلاف والفرادة حتى لا تضيع الحرية والإرادة والكرامة الإنسانية.
وحتى تثمر جهود المصلحين والمفكرين وتتكلل بالنجاح، كائنة ما كانت الدعوة، وكائنة ما كانت المسيرة، عليهم أخذ هذه المسلمات بعين الاعتبار. والتاريخ بعد يخبرنا أن الاتحاد السوفيتي السابق حين نجحت الثورة البلشفية فيه عام 1917، واستطاعت السيطرة على مجريات الأمور، والقبض على أزمة الأحداث وشؤون البلاد والعباد بيد من حديد، وألغيت المدارس الدينية وأغلقت المساجد والكنائس، ومنع التعليم الديني، وطرد الدين نفسه من حظيرة الدولة، وأجبر الناس على اعتناق المذهب الشيوعي، وعبادة المادة، وعاش الناس سبعين عاما تحت قبضة حديدية صارمة، فرضت عليهم العقيدة فرضا، وأجبروا على الشيوعية إجبارا، ظن العالم الخارجي أن الشعب السوفييتي نسي الدين، وأن عواطفه الدينية ماتت، ولكن تفكك الاتحاد السوفييتي كذب الطرفين، فبمجرد سقوطه عادوا إلى ما نهوا عنه، وعبدوا الذي منعوا من عبادته، لم تنسهم سبعة عقود الدين والإله، والغيب والآخرة، وذلك أنه في حاجة إلى مدد خارجي يقيني صلب يسد به نقصه، ويقوي به ضعفه، ويسند به غصنه الذي زعزعته رياح الظنون والشكوك، سمي هذا المدد وحيا أو إلهاما أو وعيا كونيا، أو روحا كليا، أو رسلا منزلين، سمه ما شئت، لكن لا يمكن للفطرة البشرية أن تتخلي عنه، لأنه مركوز في طبعها ومغروس في جبلتها.
فالحذر الحذر من مصادمة الناس في عقائدهم ومقدساتهم أو ما يخيل لهم أنهما كذلك، حتى تنجح دعاوى الإصلاح ويحضرني في هذا المقام أبيات رائعات لرهين المحبسين تلخص هذا الموقف في أوجز عبارة، يقول فيها:
خذي رأيي وحسبك ذاك مني على ما في من عوج وأمت
وماذا يبتغي الجلساء عندي أرادوا منطقي وأردت صمتي
ويوجد بيننا أمد قصي فأموا سمتهم وأممت سمتي
من فكرة السماء إلى فكر الأرض:
يقول مؤرخو الفلسفة: بأن سقراط هو الذي استنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، حين قال له قولته المشورة التي ذهبت مثلا ( اعرف نفسك ) وحين أخذ يحدث الناس عن الفضيلة والحق والباطل والخير والشر والجميل والقبيح، وحين جعل يحاورهم ويناقشهم في أسواقهم ونواديهم وأعيادهم، ويستخدم طريقته المفضلة المركبة
الحوار والتوليد، وذلك بإلقاء الأسئلة المتوالية التي تستدرج الخصم من حيث لا يشعر وتجعله ينطق بالحق من تلقاء نفسه، بعد أن يكون سقراط قد غربل المفاهيم الخاطئة والآراء الزائفة التي كان الشخص يحملها، والتي كانت حجر العثرة التي يحجزه عن الحق. وحين ضرب أي سقراط صفحا عن الماورائيات التي كانت تستحوذ على جل اهتمام الفلاسفة من قبله. وبهذا المعنى كان سقراط إنسانيا جدا عطوفا جدا إذ اهتم بما يشغل الناس هنا في زمنهم وعلى الأرض التي يدرجون عليها.
والسؤال الآن هو: ألم يأن الأوان إلى أن نحذوا حذوه، ونصنع صنيعه، ونهتم بدنيانا التي فيها معاشنا والتي يتصارع الناس في سبيلها منذ كان لهم وجود على سطح الأرض؟
ثم أليس الإسلام ذاته والقرآن بنفسه حثنا على عمارة الأرض، وأن نأخذ بنصيبنا من الدنيا ( ولا تنس نصيبك من الدنيا ) و ( يا أيها الذين آمنوا اتخذوا زينتكم عند كل مسجد ) و ( أنتم أعلم بشؤون دنياكم )؟
وإذا لم يك بنا رغبة في الدنيا ألم يكن من الأشرف لنا والأجدى علينا أن نعتزلها ونسكن الكهوف والمغارات والصوامع، ونذهب في البراري والخلوات نتعبد الله حتى يأتينا اليقين، وندع الدنيا لأصحابها وأهلها ونترفع عن المادة وأوضارها والحياة وأدرانها؟
أما أن نلعنها بأقوالنا جهرا، ونحذر الناس من شرورها ونحضهم على ما عند ربك لأنه خير وأبقى، ونتعشقها في سرائرنا ونحرص عليها حرص اليهود على المال، ونكنز الذهب والفضة، ونجمع المتاع ونعمر الضياع، ونطفف في المكيال والصاع فهذا ما لا نقر به ولا نرضى عنه؛ لأنه يدل على النفاق، ولأنه فعل من يقولون ما لا يفعلون، وصنيع المؤدب غيره وقد نسي أن يؤدب نفسه..
وعظ وإرشاد، وتهديد ووعيد، وتحقير وتهوين، ووعد وتأميل، ونحن أحرص الناس على حياة، ونحن أكبر الناس بطونا، ونحن أشد خلق الله طمعا، ونحن نهازون جماعون، راشون مرتشون، كذابون مدلسون، منافقون مداهنون، وصوليون نفعيون، مانعون للماعون، ندع اليتيم ولا نحض على طعام المسكين، ونعبد الله على حرف.
ونفهم الحضارة على حرف، ونتمسك بالقيم على حرف، ونعيش حياتنا على حرف.
نعبد الله على حرف حين أمرنا بأن نسير في مناكب الأرض، ونتفكر في خلق السموات والأرض، وحين كلفنا بعمارتها لا أن تأتينا عمائرها جاهزة من الغرب الكافر!! وحين حضنا على العمل وحثنا على التنافس والخوض في عبابها، وحين فضل القوي على الضعيف منا. وحين قال رسوله الكريم: خيركم لدينه خيركم لدنياه. ولكننا سرنا في مناكب الأرض للعب والمتعة، ولم نتفكر في السموات فضلا عن الأرض، ولم نعمل وإنما استغلينا أو استغلنا غيرنا يعمل لنا ويصنع طعامنا ودواءنا ولباسنا ومركوبنا وسلاحنا حتى الأكسجين الذي نحي به حتى الكفن الذي ندفن فيه!!
وفهمنا الحضارة على حرف حين اعتقدنا أنها منتجات وسلع وبضائع وتكنولوجيا جاهزة ننقلها من الغرب نقلا، وإذا تعطلت لا نعرف كيف نصلحها، ولم نعلم أو علمنا ولكن أعرضنا، أن هذا العالم المادي الذي ننعم في بحبوحته، ولا فضيلة لنا فيه إلا الاستهلاك، نتاج قرون وقرون من البحث والتنقيب، ونتيجة سنوات وسنوات من العمل المتواصل الدءوب، في المخابر والمصانع ومراكز العلوم والجامعات، وضرب في جوف الأرض، وعروج في أجواز الفضاء، وغوص في أعماق المحيطات، وأنه في سبيله ضحي بأجيال وأجيال، وفنت دون الوصول إليه أعمار وأعمار، وأنهم لم يصلوا إليه أو لم يصل إليهم سهوا رهوا، هبط إليهم من السماء أو نجم لهم من الأرض. وأن وراء هذه القشرة البراقة من ثمار الحضارة والمدنية كما من النظريات والمبادئ والمعادلات.
ثم إنه ليس علينا بأس من أن نهجر الدنيا ونتصوف، ونتنزه عن أوضارها ونترفع، فهذا خيار مطروح، وقد أخذ به كثيرون، أفرادا وجماعات؛ لكن البأس كل البأس أن ندعي الزهد ونحن في حقيقتنا طامعون، وندعي التعفف ونحن مشتهون.
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم!! تلعن الغرب وهو الذي يطعمها ويسقيها ويمتعها ويحميها!
تلعنه وهي التي عاش الغرب على استهلاكها الفاحش، وهو الذي سير مصانع السلم والحرب على أكتافها!!
تلعنه وهي تعرف أطماعه ومخططاته لاستعبادها واستدامة تبعيتها له، والعيش تحت رحمته، ورغم ذلك لم تحرك ساكنا لرفع النير عن عنقها، ولم تخط بعد خطوة في سبيل الاستقلال والكرامة، وذلك بأن تصنع نفسها بنفسها، وترفع اسمها، وتبني هيبتها، وتنافس العالم المتقدم في ميادين الحضارة وساحات المدنية.. فلا استقلال ما لم نصنع الطعام الذي نأكله، واللباس الذي نلبسه، والدواء الذي نجرعه، والسلاح الذي نذود به عن مقدساتنا وأوطاننا من نهب الطامعين واعتداء المعتدين، فهذا عالم الأقوياء، لا مكان فيه إلا للأقوياء، ويبدو أن نظرية دارون صادقة في هذا الخصوص، فالحياة صراع، صراع بين الأقوياء والضعفاء، فالصالح يبقي والزبد يذهب جفاء، وأخوف ما أخاف أن نقول هذا هراء، عندها نبقى خبرا من الأخبار، عندها لن تبكي علينا الأرض أو تحنو علينا السماء؛ لأنا عصينا رب السماء حين استعضنا عن الفعل بالدعاء!!
من ثقافة القول إلى ثقافة الفعل:
العرب ظاهرة صوتية كما يقول القصيمي. العرب أمة قوالة:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ولم يبق إلا صورة اللحم والدم
كان هذا البيت أيام الطلب في صبانا من عيون الحكمة، وكان قائله ( زهير بن أبي سلمى ) مثال الرزانة والحكمة والرصانة، ألم يك من عبيد الشعر، يقول القصيدة في أربعة أشهر وينقحها في أربعة أخرى ويذيعها في الناس في الأربعة الأخيرة؛ فهو شاعر يحسن القيام على صنعته، وهو قد استعبده الشعر، وهو بعد ذلك ينفق حولا لكي يكتب قصيدة!! إذن؟ إذن هو لا يقول إلا حقا، ولا ينطق إلا حكما، ولا يفوه إلا عدلا!! لسان الفتى نصف ونصف فؤاده، هذا واحد كامل، هذا إنسان ناطق شاعر، أين العقل، أين الأعضاء، أين اليد التي يستجدي بها و التي يبطش بها ويأكل بها، أين الرجل التي يمشي عليها ويتكسب بها حين ينشد شعره في ممدوحيه؟؟ هذا والله ما لم نسأل عنه أو يخطر لنا ببال؛ كنا في عنفوان الصبا، والعواطف جياشة، والأحلام طيارة، والمشاعر متقدة، والعقل قاصر، كان القلب هو الذي يعي، وكانت الأذن يعجبها هذا الجرس وهذا الرنين الظاهري، لم تكن مهتمة بما في بطن الشاعر!!! وهل في طاقة البطن أن تعي؟؟
فالشاعر الباقعة ( الداهية ) أتى على نصف الإنسان وأهمل النصف الآخر، فأنت إنسان ما دام في استطاعتك أن تقول ( أين يذهب الصم البكم؟؟ إلى الجحيم!! ) لا يهم ماذا تفعل، المهم أن تقول، قل قولا وانقضه بفعل لا يهم، أو افعل فعلا وانقضه بقول لا يهم، أو لا تفعل شيئا ولكن قل قولا فهذا هوالمهم!!!
وهل يحسن العرب إلا القول؟؟!!
جاء في ( البيان والتبيين للجاحظ، الجزء الأول ) : وقال الشاعر في قوم يحسنون في القول ويسيئون في العمل:
كسالى إذا لا قيتهم غير منطق يلهى به المحروب وهو عناء
والمحروب معناها: المسلوب ماله!!!!
وقال الجاحظ أيضا: قيل لزهمان: ما تقول في خزاعة؟ قال: جوع وأحاديث!!!! انتهى
ويبدو أن العرب كلهم في الجوع وتسلية الضيف والمكروب والمحروب بطلي الكلام خزاعة، وكلهم في الكسل وكثرة الكلام والعناء سواء!!
وأعجبتني العبارة ( جوع وأحاديث ) ومن قائلها؟ زهمان ( بضم الزاي ) وأعجبت به أيضا!! فقلت أبحث عنه عل المحقق ( عبد السلام هارون ) ترجم له ولو ترجمة يسيرة، ولكن خاب ظني؛ إما لأن المحقق لم ير زهمان أهلا للترجمة، وإما لأن التاريخ لم يذكر عنه شيئا، لأنه ليس من المحظوظين، أو لأنه ليس من علية القوم والشخصيات الرسمية!!!! فراودتني النفس الأمارة بالسوء بالتفتيش عنه في كتب التراجم والأخبار والسير، وبطون أسفار التاريخ، ولكنني عدلت، وخالفت هواها، وخيبت مسعاها، وأقنعت نفسي وقلت معزيا: وهل أنا أحسن من الشيخ عبد السلام هارون؟؟!!
وضاع زهمان ولكن لم تضع عبارته والفضل في ذلك للجاحظ، هذا الرجل الذي عندما تقرأه تشعر أنه عقل يطفر على الورق، لا مداد ينتثر أو قلب ينفطر!!!
فهذا الرجل يروي بيتا لبشار بن برد يقول فيه:
وعي الفعال كعي المقال وفي الصمت عي كعي الكلم
ثم يقول بعد أن يذكر بعض الأبيات: ( لأنهم يجعلون العجز والعي من الخرق، كانا في الجوارح أم في الألسنة) ذات المصدر.
وواضح أنه يقصد بالجوارح هنا الأفعال؛ فالذي يحسن القول ولا يحسن الفعل أخرق، ونحن أمة خرقاء بهذا المعنى، إن لم يكن بالمعنيين جميعا، أي خرق في القول والفعل معا!!
ولكن لنسلم جدلا أننا نحسن القول، فماذا بشأن الفعل؟؟
أما عن الفعل لا تسأل، فالسؤال عنه بدعة، والبحث فيه هرطقة، والتفتيش عنه عبث!!
لم أصلحك الله ودلك على الخير ووفقك إليه، والعمل به وفعله أيضا؟؟!!
لأنه لا يكاد يوجد فعل، وإنما جوع وأحاديث، وأمية وأحاديث، وفقر وأحاديث، و ضعف وأحاديث، وذل وأحاديث، وخوف وأحاديث، وظلم وأحاديث، وتخلف وأحاديث، وتشرذم وأحاديث، وطائفية وأحاديث، ومذهبية وأحاديث، وعصبية وأحاديث، وتكفير وأحاديث، وإقصاء وأحاديث، وعنف وأحاديث، وإرهاب وأحاديث، ودكتاتورية وأحاديث، وتسلط وأحاديث!!! فهذه كلها أحاديث في أحاديث!!
وكان المأمول والمرجو والمنتظر أن تحدث ردة فعل على هذه الأحاديث، أي يكون جوع وفعل لإزالته، وأمية وفعل لقشعها وهكذا... ولكن هذا لم يحدث إما لأن العرب كما قلت لا يحسنون إلا الحديث، وإما لأنهم يستمتعون بالحديث ويستطيبون أنواعه، وإما لأنهم لم يسمعوا شيئا عن الفعل، ولم يسمعوا أن الرسول الكريم كان يعلم الصحابة الكرام عشر آيات في اليوم لا يتعدونها حتى يفهموها ويعرفوا أحكامها ويعملوا بها وهو الأهم، ولم يعلموا أن قليل دائم خير من كثير منقطع، وأن علم بلا عمل كشجرة بلا ثمر، وأن_ وليعذرني القارئ _ كلمة ( يا ليت لا تعمر بيت ) وأن الأمر الإلهي الواضح هو : (( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ))، وأن قيمة كل امرئ ما يحسنه، وأن صنعة في اليد أمان من الفقر، وأن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه، وأن الرسول الكريم حث بل حض بل أمر بإعطاء الأجير حقه، الأجير وليس المهذار المكثار الذي لا يكاد يطبق فمه في ليل ولا نهار!!!
وأحب أخيرا أن أختم مقالي باقتراح : حبذا لو تطوعت بعض المؤسسات أو الهيئات العربية فعملت بحثا أو دراسة، عن مقدار ما ينفق العرب من الورق في السنة، وعن مقدار ما ينفقون من الوقت للكلام في المؤتمرات والإجتماعات والندوات والمحاضرات والأندية، وعن مقدار الأحبار التي يسفحونها هدرا، ثم يوازنون ذلك بما تحقق على أرض الواقع، وما تحقق بالفعل!!!!!



#عبدو_أبو_يامن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إسلاميات
- تعرية الذات العربية
- باسم الشعب نبدأ


المزيد.....




- مصادر فلسطينية: مستعمرون يقتحمون المسجد الأقصى
- ادعى أنه رجل دين يعيش في إيطاليا.. الذكاء الاصطناعي يثير الب ...
- “TV Toyour Eljanah”‏ اضبطها حالا وفرح عيالك.. تردد قناة طيور ...
- إنشاء -جيش- للشتات اليهودي بدعم من كيان الاحتلال في فرنسا
- بينهم 5 أمريكيين.. الشرطة الإسرائيلية تعتقل سبعة يهود حاولوا ...
- اضبط تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 لمشاهدة ممتعة لاحلي اغ ...
- لم تصمد طويلا.. بعد 6 أيام من ولادتها -صابرين الروح- تفارق ا ...
- -باسم يوسف- يهاجم -إيلون ماسك- بشراسة ..ما السبب؟
- إسرائيل تغتال قياديا بارزا في -الجماعة الإسلامية- بلبنان
- -بعد استعمال الإسلام انكشف قناع جديد-.. مقتدى الصدر يعلق على ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدو أبو يامن - فنارات على دروب التقدم