أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدو أبو يامن - تعرية الذات العربية















المزيد.....


تعرية الذات العربية


عبدو أبو يامن

الحوار المتمدن-العدد: 1241 - 2005 / 6 / 27 - 05:08
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


تعرية الذات العربية( 1 )
هل العرب خير أمة أخرجت للناس؟!!
هذا ما تربى عليه الصغير منا قبل الكبير، وهذا الغذاء الأساس الذي رضعناه من أثداء أمهاتنا، وتنفسناه من أرجاء أجوائنا، وتعلمناه في مدارسنا، وآمنت به قلوبنا قبل أن تستيقنه عقولنا؛ حتى أصبح لدينا من المسلمات التي لا تحتاج منا إلى برهان ولا دليل، وهل يحتاج النهار إلى دليل، وهل الثابت الموجود في حاجة إلى من يكلف نفسه عناء إثباته وإيجاده؟!! والموجود المرئي لا يضيره ألا يبصره العميان وأشباه العميان، ولا يدل عدم رؤيتهم إياه على عدمه فالعيب في الرائي وليس المرئي!! هذه قضية لا تتطلب نقاشا، ومن يناقشها شأنه شأن من يسأل الماء لم هو ماء، والهواء ما عسى أن يكون الهواء وهل هو في الأرض أم في السماء؟!!
وتكر الأيام تلو الأيام، والشهور في أثر الشهور، والدهور تتلوها الدهور، ونحن خير أمة أخرجت للناس، بم.. لا تسأل عن النبأ النبيث، كما يقول أبو العلاء، وبالمعيدي تسمع خيرا من أن تراه، كما تقول العرب في أمثالها!!
خير أمة أخرجت للناس!! فليكن! على الأقل هذا يرضي غرورنا، ويتملق كبرياءنا، ويروي النرجسية العطشى فينا. واستنمنا إلى هذا الوهم الكبير، والسراب الخادع، والكذبة البلقاء ( المشهورة )، والوهم كالداء العضال إن لم يفطن إليه ويحسم أمره يبدأ صغيرا ثم يكبر، وكل كبير أصله صغير، وفي البحور تغرق البحور، والنار من مستصغر الشرر كما يقال. والسراب الخادع أو الآل مرشح للتفشغ والانتشار، وإذا اشتد الهجير وسلط قرص الشمس أشعته على الرؤؤس فحميت والتهبت عميت البصائر والأبصار، حتى يرى ( بضم الياء ) حسن ما ليس بالحسن، وسيئ ما ليس بالسيئ إذا أحببت!! والكذبة البلقاء إن لم تجد ما يحد من تأثيرها ويبين زيفها وفتكها بالعقول قبل النفوس تلتها كذبات وأكاذيب، أكلت الجسد بل الروح بل الماضي والحاضر والمستقبل كما تأكل النار الحطب، وإن لم تجد حطبا أكلت نفسها وأفنت ذاتها، وإلا فنحن ماذا نصنع؟؟ هل رأيت إنسانا يأكل نفسه؟؟! لا أظن أحدا رأى ذلك، ولا حتى صويل بيكت ويوجين يونسكو وكافة رموز اللا معقول، وأبناء عمهم وأبناء خالهم، لا في الوعي ولا في اللا وعي.. ولعل مبدعا من قومنا يتحفنا بقصة الرجل الذي أكل نفسه، ولا شك أنه قادر، ولا ريب أنه آت بما لم يأت به الأولون ولا الآخرون. نبحث عن العبث عند الآخرين وأين عبثهم من عبثنا؟!! ما بالنا نستجدي حتى الغثاء؟!! يكفينا ما عندنا من غثاء، أغثيتمونا أغثى الله نفوسكم!!
وهذا الوهم الوحيد اليتيم كفلناه، وهذا الشريد الطريد رعيناه، وهذا العابر ابن السبيل آويناه، حتى أضحى أعز علينا من نفوسنا وأولادنا وأزواجنا؛ لأنا إن فقدناه فقدنا حياتنا ووجودنا، فقدنا المعنى وما فوق المعنى وما تحته وما عن يمينه وما عن شماله، فقدنا ما في بطن الشاعر ( أو معدته لا فرق ) لا ما في عقله أو وجدانه، والمعدة بيت الداء كما جاء في الأثر!!
والداء العياء والمصيبة الشنعاء أننا أمعنا في الوهم وأوغلنا في الحلم، والوهم والحلم خطيران بل عيظما الخطر، كشفرة السكين أو حد السيف واللعب بالنار؛ فالوهم ضروري ولكن بمقدار، حتى يقوم الميزان وتتعادل الكفتان، فهكذا الحياة فيها شئ من حقيقة وشئ من خيال، فالإنسان هذا الكائن الفريد كتلة من الفيريقيا والميتافيزقيا، حاضر معلوم ومستقبل مجهول، راهن مشهود ومصير مغيب، حال في الشهادة ومآل في الغيب.. والحلم – أيضا – بمقدار؛ فالحياة بلا حلم سجن كبير، وقضاء جائر، ومماثلة للحيوانات، وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل، كما يقول الطغرائي. ولولا هذه الثلاثة حروف لا أتصور أن الحياة قد تبدأ فضلا عن أن تستمر.
فالحاء حرث وزرع، واللام لغوب وجد، والميم منى وآمال. في دورة مستمرة كدورة الفلك، لا تكاد تنتهي حتى تبدأ ولا تبدأ حتى تنتهي في عملية هي لب الوجود وأس الحياة.
والتاريخ القديم يحدثنا، والحديث كذلك – إن صدقا وإن كذبا – في صفحات تطول وتقصر، وتنجلي وتنبهم، وتجد وتهزل، يحدثنا عن أمة من البشر، يطلق عليهم العرب، كانوا في جزيرتهم شبه متوحشين، شبه منعزلين، لا يحس بهم أحد, ولا يكادون يحسون بأحد، حمتهم صحراؤهم عن أن يزورن أو يزارون، بيد فساح، ورمال عراض طوال، ورياح هوج عاتية، وجدب وقحط، وليل بهيم، ونهار قائظ، وقلة وشح، قلة في الأقوات إلا ما كان من سمن وإقط وبر، أو تمر ويربوع وضب، وشح في الماء إلا ما كان من سحابة عابرة أو بئر عادية. وهم كرمالهم المحيطة بهم هائجون مائجون، مضطربون متحركون ( لا أعلم من جاءهم الثبات والسبات الذي يعيشون فيه الآن ؟؟ ) يبحثون لهم عما يقيم الأود ويصون الحياة، ويفتشون لإبلهم وشائهم عما يسمنها ولا يكاد يغنيها ولا يغنيهم من جوع، مما تنبته السماء، وتخرجه الأرض.
وعندما شح القوت خافت الناس على حياتها، وانطلقت في أرضها الواسعة تبحث عما يقوت، ومن أين والسماء في هذا الوقت لا تقوت ومن أين والأرض في هذا الصيف موات؟!! ما الصنيع وما هم فاعلون؟! أتدري ما الصنيع وما هم فاعلون؟؟! ارتدوا ملايين السنين، ارتدوا إلى الغريزة الأولى التي ما كادوا يخرجون من شرنقتها، وعادوا إلى حياة الغاب التي ما كادوا فارقوها؛ فالقوي يأكل الضعيف، والشريف – أيضا – يجور على الضعيف، والقبيلة الكثيرة العدد والعدة، العريقة الحسب والنسب بين حالتين إما غازية وإما مغزوة، إما غالبة وإما مغلوبة، إما فاخرة وإما مفخور عليها، في ميدان التفاخر والتنافس والعراك.
فعاش العرب قولا وعملا، نظرا وتطبيقا، هذا الصراع المرير الذي ما زال يفتك بهم إلى الآن، يصولون مع ابن العم على الغريب، وإن لم يكن ثمة غريب فعلى ابن العم الصولة والنضال( وأحيانا على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا )... لا وحدة، لا مبدأ, لا أثارة من علم، لا رجاحة من عقل ( دع ما يقولون من رجاحة العقول ورزانة الأحلام فإنما هي من الأحاديث ) وإلا كيف يعقل أن تتقاتل قبيلتان ( عبس وذبيان ) من أجل فرسين، وتسيل دماء وتهتك أعراض وتسبى نساء، وكيف يوصفون بالعقل من خاضوا حربا ضروسا أكلت الأخضر واليابس، حتى كادت تفنى القبيلتان (بكر و تغلب ) المعروفة في التاريخ ( بحرب البسوس ) بسبب ناقة، حتى إن الرواة يقولون إنها دامت أربعين سنة مما تعدون، حتى إن شاعرهم عمرو بن كلثوم ما يزال يفاخر بها في معلقته المعروفة، وما فتئ الآباء يرونها للأبناء ويحفظونها إياهم جدا عن جد وأبا عن أب، بل لعل صوت الشاعر ما زال يتردد عبر العصور والأجيال يفخر بجهله الذي هو فوق في جهل الجاهلين، ورضيعه الذي تخر له الجبابرة ساجدين.

والعرب بعد ذلك أمة شاعرة، ربة السيف والقلم ( أما السيف فقد كسر وأما القلم فلا أدري هل يجدي علينا شيئا ؟؟ ) يعجبها البيان ويخلب لبها أو قل قلبها السحر الحلال؛ عندما يولد للقبيلة شاعر فثم العيد الذي ليس مثله عيد، وثم الفخر الذي لا يطاوله فخر؛ تأتي القبائل إلى القبيلة المجدودة للتهنئة والاحتفال, فتنحر الجزور وتشرب الخمور ويضرب بالدف والطنبور، ابتهاجا بهذا النبي الذي من غير نبوة، واستقبالا لهذا الرسول الذي لم يبعث على حين فترة، وإنما هم أشباه متكافئون لا تكادوا تميز بينهم؛ لأنهم للقبيلة خلقوا ومن أجلها يعيشون ويموتون، أولهم كآخرهم ومسئيهم كمحسنهم في الفخر والاعتزاء والمدح والهجاء؛ فخر بالقبيلة ومآثرها، وماضيها وحاضرها، وتالدها وطريفها، ومدح لمن يستحق المدح أحيانا ولمن لا يستحقه في كثير من الأحايين، وهجاء لمن يستوجب الهجاء آنا ومن لا يستوجبه في كثير من الآيايين.
أفترى إلى ما يفعل هذا الرسول؟!! إنه يزيد النار إشتعالا، وكلما خمدت أو همدت أوقدها، بهذا الكلام المعسول وهذا السحر الذي يمليه عليه القرين، وهل تأتي الشياطين بما ينفع الناس وهم لهم خصوم؟!!
فعاش العرب في هذه الرحى التي طحنتهم طحنا وجعلت بأسهم بينهم شديدا، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى؛ والذي يعرفه العقلاء، وعسى أن أكون منهم!، أن البأس يكون موجها صوب الأعداء، أما الأصدقاء الذين جمعهم المكان ووحدت الثقافة والمشاعر، وجانست بينهم الأصلاب والأرحام فهم الأحق بالمودة والإخاء فضلا عن أن يكاد لهم في جهرة أوخفاء!! ولكن يظهر أن ظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام، لا أقول قديما فحسب بل لعله ظلم ما زال إلى الآن وما زالت آثاره ، حتى ولو لم نراها، وإن كنا نحسها ونتلمسها في عصرنا البغيض، تجري في الدماء وتسيل في العروق، خلف قشرة الحضارة الباهتة التي لا تكاد تواري سوأة ، والتي تظهر أكثر من أن تستر!
وبعد، وهل هناك من بعد؟ ... نعم، هناك بعد وبعد وأخرى ورابعة إلى ما تشاء، أو إلى ما تشاء لنا هذه المقالات التي نبغي بها الحفر في الأعماق، والتنقيب عن الداء الخبئ المستكن في ظلمات القرون؛ والذي وإن لم نكد نراه إلا أن ذلك لا يعني أنه غير موجود! بلى إنه لموجود وآية ذلك ما نعيشه اليوم من حياة إن لم تكن جاهلية، فإنها تكاد تشبهها من وجوه، وهذا ما تزعمه هذه المقالات.
ويكاد من المسلمات القول: إن الشعر ديوان العرب، وهذا ما لا يختلف عليه اثنان، ولا تنتطح فيه عنزان، كما يقول المثل. ولم يأت هذا القول من فراغ؛ وإنما الحق كله، والصدق كله، فالعرب أمة لا تقرأ ولا تكتب، عوضت من أميتها بهذه الذاكرة العجيبة، التي دربت ومرنت حتى قامت مقام الكتاب في الحفظ والتسجيل، حفظ المآثر وجليل الأعمال، وتسجيل الأحداث والأيام، خوف أن تذهب هباء جراء النسيان وكر الغداة ومر العشي. ولكن ما الكلام الذي يسهل على الذاكرة حفظه واحتواؤه؟ إنه الشعر. فالشعر بشكل تركيبته، وتقنينه بالوزن والقافية، وإيقاعه الرتيب, وقوالبه الجاهزة، استطاع أن ينتظم في الذاكرة ويقر فيها ويبقى على الأيام، كما استطاع أن ينتظم في عمود الشعر الشهير، بينما ذهب النثر فرطا، ولم يبق منه إلا ما لا يكاد يؤبه له. حتى قيل: إن مقدار ما قالته العرب من الشعر عشر ما قالته من النثر، غير أن ما ضاع من الشعر لا يكاد يبلغ العشر، وما بقي من النثر لا يكاد يبلغه ( أي العشر ). فالشعر إذن هو الحامل الثقافي لحياة العرب الأقدمين، وهو التاريخ والجغرافيا، وعلم الأنساب والطبابة والفلك والفسيولوجيا الخ... بمختصر العبارة هو الممثل لحياة العرب بجميع وجوهها, وكافة مناحيها؛ فإذا أحببت درس العرب في حياتهم، وإذا أردت النور الكاشف، وإذا رمت التنقيب والغوص في الجذور إذا أردت كل ذلك فعليك بالشعر، والشعر وحده، وهل ترك الجاهليون ما يفاخرون به إلا الشعر؟
وإلى لقاء....


تعرية الذات العربية ( 2 )
قلنا في المقالة السابقة إن الشعر كان هو الحامل الأبرز للثقافة العربية في العصر الجاهلي إن لم يكن الأوحد؛ لأنه علم قوم لا يكاد لديهم علم غيره. وجاء مصداق ذلك تاليا في القرآن، فتحداهم بما برزوا فيه واشتهروا به ( فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد) ( ويشهد الله على ما قلبه وهو ألد الخصام ) ( وتنذر به قوما لدا ) ( بل هم قوم خصمون ) ( وإن يقولوا تسمع لقولهم ) وهو الفصاحة والبيان؛ لذلك كان التحدي من جنسه، إن صح التعبير، أي لم يتحداهم في طب، ولا كهانة، ولا إبراء الأبرص والأكمه، ولم يتحداهم في سحر، وإنما تحداهم في جنس ما برعوا فيه ليكون التحدي أبلغ والحجة عليهم أوكد، وإلا ما بالك بالأعشى فضلا عن الأعمى يطاول المبصر في قوة البصر ؟!! وهذا من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى توضيح.
إذن إذا كان للشعر والفصاحة والبيان كل هذه الهيمنة على حياة الجاهليين، وكل هذه السلطة في سن القيم الثقافية، وما يجب وما لا يجب، وما يحسن وما يقبح، إذا كان للشعر كل هذه السلطة فمن يا ترى هو القابض على أزمة هذا السلطة لا يكاد يقبل أن تنقص سلطته زماما؟؟ لا شك أنه الشاعر، فالشاعر هو الفاعل في دنيا القيم والتقاليد والأعراف؛ بسجلها ويحفظها وينشرها ويبشر بها ويتغنى ، ويرفع ببيت قوما ويخفض بآخر آخرين، ويجترح القصيدة الإعلان التي يزوج بها من فاتهن قطار الزواج، ويرفع من خمل ذكره وقعد به الفقر عن المجد...
اسمع إلى زهير بن أبي سلمى وهو يمدح هرما ولي نعمته ويمدح قبل ذلك صفة الكرم التي تجسدت فيه:
قد جعل المبتغون الخير في هرم والسائلون إلى أبوابه طرقا
من يلق يوما على علاته هرما يلق السماحة فيه والندى خلقا
حتى أطارته مدائح زهير وخلدته، بينما ذهب هرم ومال هرم، ولا تسأل بعد هل صدق في مدحه أو لم يصدق، وهل بالغ في مدحه أو لم يبالغ، يكفيك القيمة مجردة، الكرم كما يجب أن يكون، وكما ينبغي أن يتمثل به الناس حين يمدحون أو حين يذمون؛ وذلك أن العرب يغالون في صون أحسابهم، ويبالغون في الحفاظ على سمعتهم من أن يسجل عليها مأخذ أو أن تؤخذ بمثلبة، وأي مثلبة تعدل مثلبة البخل، فالكرم أس الصفات، وهو بعد الركيزة الأساسية التي تكاد تنبثق عنها باقي المآثر، وهل الشجاعة إلا سماح بالروح في سوق الموت، وهل الوفاء إلا حمل للنفس على ما تكره من الخطوب أهونها بذل المال وأعظمها بذل المهج... وهكذا.
وأصخ إلى عنترة بن شداد يشرب الخمر شربا لا يبقي على ماله ولا على صحوه، ومع ذلك يقول:
وإذا شربت فأنني مستهلك مالي، وعرضي وافر لم يكلم
وإذا صحوت فما أقصر عن ندى وكما علمت شمائلي وتكرمي
فالعرض العرض!! إياك ما يشينه، وإذا صح العرض هان الخطب ولو عظم!!
والأعشى بقصيدة واحدة لا غير، يجعل النكرة معروفة، والعزب ذات بعل، فيما زعموا، رغم أن المحلق (ممدوحه ) ليس من الكرم في قليل ولا كثير، ولكن ماذا تقول في أناس غلب عليهم الشعر حتى أصبحوا لا يعقلون، وذلك في قصيدته المشهورة التي مطلعها:
أرقت وما هذا السهاد المؤرق وما بي من سقم وما بي معشق
وفيها يقول:
نفي الذم عن آل المحلق جفنة كجابية الشيخ العراقي تفهق
ومن أين للمحلق جفنة وهو لا يكاد يسد جوعه؟!!
ترى القوم فيها شارعين وبينهم مع القوم ولدان من النسل دردق
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة إلى ضوء نار باليفاع تحرق
تشب لمقرورين يصطليانها وبات على النار الندى والمحلق
وبات المحلق على النار وبات الندى وبات المستمعون والمشاهدون والمعجبون، وبات الآباء وقبلهم الأجداد، ثم بات الأبناء..... باتوا، لكن إلى متى؟؟ هذا هو السؤال.
وهكذا كان الشعر بالنسبة للعرب، كان بمثابة وزارة الإعلام مرة، ووزارة الثقافة أخرى، والتعليم والتربية ثالثة؛ وهذا مما ليس يعيبهم، فهذا عصرهم، وهذا مبلغهم من العلم، وهذه ثقافتهم، وهذه بعد ظروف زمنهم وملابسات بيئتهم، عاشوها بصدق، ففعلوا وانفعلوا، وأخذوا وأعطوا، وحيوا وتعذبوا وماتوا، كما يموت كل حي، وكما سيموت كل مولود، لهم فضائل وشمائل باقية على الدهر؛ لأنها فوق الدهر، فضائل إنسانية أملتها الفطرة السليمة واللب الوقاد، وتجارب الأيام، ولكن بالمقابل لهم من الرذائل والكبائر ليس أقلها العصبية ولا أكثرها وأد البنات، فهل كل ما خلفه الأجداد والآباء قمين بأن نأخذه على علاته، وهل كل وصلنا منهم جدير بأن نعض عليه بالنواجذ ونذخره في الخزائن ونقدسه كسر من الأسرار من غير بحث ولا فحص ولا كتاب مبين؟؟
وأي كتاب يأمرنا أن نتبع ما وجدنا عليه آباءنا؟ وأي كتاب يحضنا على التسليم المطلق وهو يأمرنا صباح مساء بأن تتفكروا في خلق السموات والأرض؟ وأي كتاب يحرضنا على اجتراح ما جاء هو لهدمه لا أقول كله ولكن بعضه؛ إما بالتعديل أو المحو أو الإثبات؟؟
كيف تأتى لنا أن نحيل ما ليس مقدسا مقدسا، بل مبجلا، بل دينا؟؟
ثم ألا تعلم أن الإسلام حرم التقمص والتجسد، وتناسخ الأرواح، وخزعبلات الهند والسند، فما بالنا تقمصنا أرواح القدماء حتى كادت روحنا تزهق، وتقمصنا حياة الأسلاف حتى كادت حياتنا تغيب؟؟
تساؤلات وتساؤلات ستأتي في إبانها إن شاء الله.
على أن هناك أمرا واحدا في غاية الأهمية لا بد من التركيز عليه وإيضاحه، ألا وهو: أن ما نصنعه ليس محاكمة لهم، ولا بنا الإزراء عليهم، فهم بعد أسلافنا وأجدادنا، وهم بعد ماضينا، وهم بعد تراثنا وثقافتنا، ولا يمكن بحال من الأحوال أن نلبس ثوبا ليس لنا، أو أن نستعير لنا تاريخا وثقافة ليست منا ولسنا منها، وهل هناك من عاقل ينتسب إلى غير أبيه، لسنا لقطاء نتسكع في أزقة الأمم الأخرى نبحث عن القوت والمأوى، ولسنا شعبا بلا ماض ولا تاريخ، ولا هوية، شاء من شاء وأبى من أبى. ولكن هل علينا من بأس إن استخدمنا عقولنا التي في رؤؤسنا والتي أمرنا باستخدامها، وبها فرقنا عن بني الحيوان، وقلنا إن ما انحدر إلينا من الأسلاف ليس خيرا كله ولا شرا كله، وهل علينا من حرج إن أخذنا ما فيه نفع لنا وأهملنا ما فيه ضرر علينا؟؟ ثم أليس من الخير لنا والأجدى علينا والأجدر بنا أن نرى عيوبنا قبل أن يراها غيرنا، أوأن تجهل نفوسنا قدرها فيرى غيرنا منا ما لا نرى؟؟
والكامل من عدت سقطاتة، كما يقول الأسلاف، والنقص مستول على بني البشر، كما يقولون أيضا.
نعود إلى ما كنا بصدده فنقول: إن الشعر كان الحامل الثقافي، لكل ما عرفه العرب من ثقافة، والشاعر بالتالي هو الحامل لواء هذا الشعر، فأي سلطان له يا ترى؟!!
لا تسل عنه فالشاعر العربي مسكين؛ فالعرب قيدوا حريته وحدوا من سلطته، وضاع سلطان القول والإنشاد تحت سلطان القبيلة وأعرافها وتقاليدها، وضاع سلطان القبيلة واحتوته عباءة شيخ القبيلة؛ فالشيخ كان، ولعله ما يزال، هو ولي الأمر والنهي، وهو القابض والباسط، والخافض والرافع، والمعطي والمانع، والمحيي والمميت في بعض الأحيان، وإذا أردت مصداق ذلك فأرتد إلى الوراء مئات السنين، أو تريث وابق في حاضرك، ولكن جرب أن تخرج عن بيت الطاعة لهذا السلطان العظيم القدرة، اعص له أمرا، اقترف ما يراه جرما وإن لم يره غيره كذلك، إذا فعلت ذلك فأبشر إذ أنك الشريد الطريد، الخليع الوضيع، الدنس النجس التي لا تطهرك بحار الدنيا ولا محيطاتها، إنك أجرب إن لم يجد كيك عليك شيئا كوي الأصحاء السالمون حتى لا يبتلوا بمثل ما ابتليت به.
وهذا الشيخ له قصة عجيبة غريبة جديرة بأن نحكيها، ونسلي بها قراءنا الأعزاء.. زعموا أن هذا الشيخ عمر أعواما مديدة، وعاش حتى أوفي على خمسمائة وألف عام، هجرية أو ميلادية اختلف في ذلك القصاص كما شأنهم في كل أمر، وبخاصة في موضوع الشيخ التي طالت أيامه واستطالت حتى أتعب من قبله وسيتعب من بعده.. زعموا أنه يكاد أن يكون كلي القدرة في شؤؤن الدنيا يرضى عمن من يشاء ويسخط على من يشاء لا معقب لحكمه ولا مرد لقضائه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، بل يشدد عليهم النكير في السؤال، ويشدد عليهم الحساب في الجواب إن كان لا يرضيه أو لا يعجبه.. زعموا كذلك أنه موجود لا يكاد يغيب في كل مكان وكل زمان، أنى توجهت فثم وجهه، وأنى يممت فثم ظله، سلطان الدنيا والدين، وحامي حمى المسلمين، يعلم ما يضرهم وما ينفعهم وهو أعلم بما هو أجدر بهم وأجدى عليهم، صال وجال في كل معترك وميدان حتى فاق الأقران، وغلب الشجعان، وبهر القاصي والدان، وطار في الآفاق ذكره، وسارت بأخباره الركبان، وسبحت بحمده الخلائق، وأنشدت في تخليده الألحان.. زعموا كذلك أنه ملم بعلوم الأولين والآخرين، وعلم ما كان وعلم ما سيكون، يفتي في الدين، ويعلم البنات والبنين، يخطط ويعمر، ويبني ويشيد، ويفك الطلاسم ويبطل السحر، وإن كان أحيانا يحرق البخور والند، ويستخدم الخدم والجن، كل ذلك بحسب الحاجة، وكل ذلك لأنه حر يفعل ما يشاء وقت ما يشاء كيف ما يشاء.. زعموا كذلك – وطال ما زعموا – أنه رجل وحيد يحب الخلوة ولا يأنس إلى بني جنسه من البشر؛ لأنه تعب من غباء البشر وتفاهة البشر، وجشع البشر، فآثر العزلة وصحبة الوحش وسباع الفلا التي لا تعرف الملق ولا الحسد ولا الطمع.. وقال قوم إنهم شاهدوه في أحد أدغال أفريقيا هائما مع الظباء والغزلان قد استرسل شعره، وطالت لحيته حتى شاكهت هيئته الوحوش إلى حد كبير.. وكذبهم آخرون وزعموا أنه عثروا به في إحدى جزر الواق واق بتبتل ويدعو الله خاليا ويسأله المغفرة والرضوان، ويمن عليه بأن يحفظ عليه صلابته وتماسكه وضبطه نفسه حتى لا ينحدر في مثل ما انحدر فيه هؤلاء الرعاع، ويلغ في هذه الدماء الكريهة وينهش من هذه الجيف المنتنة!! ثم جاء قوم وكذبوا هذه المزاعم وأدلوا بمزاعم أخرى – وهل يحسن الناس إلا المزاعم؟!! – وقالوا بأنه لم يتبد ( يهيم في البيداء ) ولم يفارق الناس أو يجفوهم فهو يقدر ضعفهم ونقصهم ويشفق عليهم؛ فآثر لذلك العيش بينهم، يوجههم ويرشدهم، يحن على ضعفيهم، ويوجه كبيرهم، يحسن إلى محسنهم ويعاقب عاصيهم..وزعم هؤلاء بأنهم رأوه في البيت والمدرسة والجامع والمستشفى بل وفي الشارع أيضا يعظ السابلة ويترصد قطاع الطريق.. بل وزادت المزاعم وجاوزت قدرها وعدت طورها، وتفصيل ذلك أن جماعة من العقلاء والمشهود لهم بالرزانة والركانة وبعد النظر وشدة الغوص، الذين لا يتبعون كل ناعق ولا يسمعون لكل فاسق قالوا إنه لم يكن هذا الشيخ إلا وهما من الأوهام، نحن حملناه ثم ولدناه ثم ربيناه ثم قدسناه ثم آمنا به!! وهم يزعمون أنهم سألوا عنه القريب والبعيد، والأجنبي والغريب، والعلماء والمتنبئين، وأهل الحقيقة والعرفان، وأصحاب الأسرار والكهنة، فكلهم أجاب بأنه لم يره ولم يشمه ولم يلمسه ولم يسمعه، ولم يعثر عليه في وساوس المنام فضلا عن أحلام اليقظة!! واحتارت البرية فيه، موجود هو أم غير موجود؛ والذين مالوا إلى إيجاده قالوا بأنهم سمعوا ذات ليلة حالكة السواد، مسودة الجلباب، في خربة من خربات المدينة، والمطر يرسل حباته على الأرض في إيقاع رتيب حزين، والجو مشبع برائحة الشكوك والظنون، رغم كل ذلك أكدوا أن الشيخ بعدما كبر وأمعن في الكبر خرف وهرف، وأصبح لا يفرق بين الياء والألف، كانت عنده حفيدته وقد اتخذت له عصا تقرعها له إذا حاد عن جادة الصواب، وخيف منه الطيش بعد الحلم، والسفه بعد الرشد، فكلما جار جورة قرعت له قرعة وهكذا دواليك في إيقاع رتيب حزين.. ويظهر أن الذين مالوا إلى محوه ولم يصدقوا بوجوده دخلوا عليهم من هذا الباب، ومن مأمنه يؤتى الحذر كما تقول العرب، فقال هؤلاء الأشاوس إن ما توهمتموه عصا تقرع إنما هي زخات المطر تقرع الأسقف والجدران، وهكذا أفنى أناس دهرهم بين قيل وقال، التي ما بنت بيتا ولم تزحزح جبال..
وأما نحن فنتوقف عند هذه المسألة، ولا نقول فيها كلاما لا قليلا ولا كثيرا، فهذا ليس من عملنا، وإنما نحن قوم بضاعتنا كلام، ننقله بخيره وشره، وجليله وحقيره، وصادقه وكاذبه، وما يحض على إيمان وما يبشر بكفر، فعذرنا أن ليس ناقل الكفر بكافر كما تقول الحكماء. ومن شاء أن يصدق فليصدق ومن شاء أن يكذب فليكذب ولا لوم عليه ولا تثريب!!
وإلى لقاء



#عبدو_أبو_يامن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- باسم الشعب نبدأ


المزيد.....




- تفاصيل الجلسة المغلقة لمجلس الشورى الاسلامي بحضور اللواء سلا ...
- حميدو الولد الشقي.. ضبط تردد قناة طيور الجنة بيبي على القمر ...
- من بينهم باسم يوسف وإليسا وفضل شاكر.. هكذا علّق نجوم عرب على ...
- أردوغان بعد سقوط نظام بشار الأسد: نقف إلى جانب السوريين بكل ...
- اسلامي: إيران تحظى بقدرات متكاملة في صناعة الطاقة النووية
- ما هو موقف حركتي الجهاد الاسلامي وحماس من تطورات سوريا؟
- القيادة العامة للفصائل السورية تعلن القبض على أشخاص ينشرون ا ...
- ثبت تردد قناة طيور الجنة الان على القمر الصناعي وفرجي أطفالك ...
- سلاف فواخرجي: -لن أتنكر لما كنت عليه سابقا- وأتمنى -سوريا ال ...
- -يهود مصر-.. إسرائيل تنشئ مشروعا ضخما وسط تل أبيب


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدو أبو يامن - تعرية الذات العربية