أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - مايكل سامي - ما هو الإيمان ؟















المزيد.....



ما هو الإيمان ؟


مايكل سامي

الحوار المتمدن-العدد: 4389 - 2014 / 3 / 10 - 10:47
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


أغرب ما في موضوع الإيمان هذا هو إنعدام قيمته العملية كشئ في ذاته .. و طبعا هذا يعني أيضا إنعدام القيمة العملية للكفر في ذاته !! يعني مساعدة المحتاج أو إحترام قوانين الدولة أو المعاملة الطيبة مع الآخرين, أو ممارسة الرياضة أو الإعتدال في تحصيل ملذات الحياة .. هي كلها أشياء لها معنى و قيمة لأن لها سبب و منفعة لي أو لشخص ما. و كذلك الضرر شئ له قيمة سلبية فلا أحد يستطيع أن يشكو شخص ما قانونا او يقوم برفع دعوى ضده بدون ضرر ما يكون قد وقع عليه. هناك دائما شئ له حيز و له قيمة يمكن حسابها عمليا بالسلب أو بالإيجاب تجعل المرء يسعى إلي هذا الشئ و يقاتل بسببه .. او ينفر من ذاك الشئ و يهرب منه.

إنما الإيمان هذا !! مجرد التصديق او عدم التصديق بأيا كان, كيف يمكن أن يكون هذا مفتاح لجنة أو ملكوت ؟! يعني فلنفترض أن هناك ديانة تؤمن بوجود الجاذبية مثلا, أو بدوران الأرض حول الشمس, او بحدوث التطور .. أيا كان, هل الإيمان بهذة الأشياء يجعل المرء تقيا ورعا و يتيح له مكانا محفوظا في الجنة أو الملكوت الإلهي ؟!! طبعا المعرفة لها قيمة في ذاتها بالإضافة إلي إمكانية توظيفها عمليا لتوليد تقنيات و تطبيقات ترفع من مستوى المعيشة و تحسن من حياة الناس. إنما مجرد المعرفة أو الإيمان أو التصديق (سواء بمنطق و دليل أو بدون) لأي شئ أيا كان من عدمه لا يمكن أن يجعلني إنسانا طيبا أو محترما او متحضرا, لأنني أحتاج لكي أكون محترما و متحضرا و طيبا ان أسلك سلوكا طيبا و أن أعمل اعمال من شانها تحسين حياة الناس .. و ليس مجرد الإقرار بأن عقيدة دينية ما (أو معلومة علمية) صحيحة !! لذلك فمجرد الإيمان في حد ذاته لن يكسب المرء شيئا و لن ينفعه بأي شئ .. و هو ليس ميزة بأي معيار له معنى.

فلماذا إذن يحصل المؤمن على مكافئة دون مقابل ؟! لماذا يحصل المؤمن على أي تقدير أو إحترام لمجرد انه مؤمن ؟! و لماذا يقبل الناس أصلا على الإيمان ؟!! و كيف يجعل الدين اتباعه مثل الدمى أو قطع الشطرنج بهذا الشكل بواسطة الإيمان ؟!!

(أولا) التفكير بالتمني

الإيمان تم تعريفه في المسيحية بأنه "الثقة بما يرجى و الإيقان بأمور لا ترى" و تم مباركة من "آمن و لم يرى" على لسان الشخصية الرئيسية في العقيدة. و هذا التعريف يلخص كيفية إعتماد الإيمان على "التفكير بالتمني", ليس في المسيحية فقط بل و في الأديان عموما. فالثقة بما يرجى تعني حرفيا أنني أكون مؤمنا لو كنت أتمنى الغنى و الثروة (مثلا) و وثقت أنني سأغتني يوما ما بطريقة ما. يعني أن أصدق ما أتمنى حدوثه فأحيا على أمل و رجاء ما أتمناه .. أما الإيقان بأمور لا ترى تشير إلي غيبية الأشياء التي يصدقها المؤمن و إستحالة رصدها ماديا. طبعا هذا التمني و الثقة في تحقق الامنية بشكل سحري معجزي خارق هو أمر يختلف جملة و تفصيلا عن التخطيط العقلاني العلمي و السعي الحثيث لتحقيق الأحلام .. فالإيمان الديني هو إيمان بالغيب و الآلهة و السحر و المعجزة, و ليس ثقة بالنفس مثلا أو إصرار و عزيمة. و لهذا السبب تحديدا تم إختراع لفظة "التواكل" للتعبير عن هذة الحالة السلبية من الإيمان .. مع إن الإيمان أساسا (= التواكل) هو موقف سلبي من الواقع و بدون الحاجة لتعبيرات جديدة.

و لذلك واضح تماما السبب الذي يجعل هذا الجنون شائعا و محبوبا, فالتفكير بالتمني يعطي للناس أملا زائفا و شعورا بالأمان يشبه شعور الخروف في عيد الأضحى. فكرة الجنة بعد الموت مثلا, هي تعبير خالص عن تمنيات و رغبات خالصة مستحيلة الحدوث في القبر لجثث ميتة .. إنما هي نوع من التطمين الذاتي أو بمعنى أدق "ميكانيزم نفسي دفاعي" يعفي الإنسان من مواجهة الواقع على حقيقته بواسطة واقع موزاي أكثر لطفا يصنعه اللاوعي في الخيال لكي يكون وطن أفضل من الواقع. فالإيمان الديني في الأساس مجرد أحلام يقظة لا أكثر ولا أقل, و من يستطيع ان يدعي أن أحلام اليقظة يساعد على العمل او تحفز المرء للسعي و تحسين واقعه. مجرد الإيمان بالجنة فقط يعفي المرء من السعي في دنياه للترقي و العمل و الإستمتاع .. على أس أن الدنيا فانية و العالم زائل و ما إلي ذلك. و بسبب التفكير بالتمني هذا يعتبر الدين بالفعل أحد انواع المخدرات, و هي مخدرات تضر بالصحة العقلية و النفسية أيما ضرر, و تصيب المرء بالكسل و التقاعس و إهمال الواقع و الإستغراق في الخيالات الجميلة .. صدق ماركس و فرويد حين أكدا أن الدين أفيون الشعوب.

و أوضح تعبير عن التفكير بالتمني يتمثل في شخصيات الآلهة في الأديان, لأن الإله حرفيا هو الوالد الفضائي الخارق الذي إخترعه البشري اليتيم (لأن الطبيعة أمه لكن لا أب له) و وضعه في السماء فوق رأسه لكي يشعر نفسه بالأمان من هذا المجهول الأكبر .. الفضاء الواسع اللانهائي. بل إن فكرة الإله أساسا غرضها إبقاء الطبيعة الفوضوية المجنونة (بالنسبة للبشر) بوجه عام تحت سيطرة إفتراضية عاقلة, و هي سيطرة منحازة بلا سبب واضح أو منطقي للبشر .. إنما في الحقيقة الآلهة تهتم بالبشر و تسهر على راحتهم لأن الآلهة تم تصميمهم من اللاوعي (العقل الباطن أو الغريزة) لكي يقوموا بهذا الدور التطميني فيهدأ الإنسان و يتوقف عن القلق من المجهول.

و التفكير بالتمني (أو الإيمان بما نرغب) على طريقة الدين ليس وظيفته فقط تطمين الناس من نزوات و غرائب الطبيعة و من المجهول بصفة عام, بل و أيضا لتبرير الموت و تطييب خواطر الناس و تطمينهم من الموت و إنتهاء حياتهم .. فالقلق من الموت سببه حب الحياة و هذا عالجه الدين بإيهام الناس أن هناك حياة أخرى بعد إنتهاء الحياة : و حياة أفضل من الحياة الواقعية أيضا فقط لمن يخضع للدين في الحياة الحقيقية. إنما الناس لا تجهل ما سيحدث بعد الموت كما هو شائع, و الدين لا يعالج جهل الناس بالموت .. لان كل كائن حي يعلم جيدا بغريزته و فطرته الطبيعية الحيوانية ما هو الموت تحديدا. و كل فرد بشري يعلم جيدا انه لم يكن موجودا قبل أن يولد و لن يكون موجودا بعد موته بطبيعة الحال, إنما الرعب من الموت ليس بسبب الجهل بالموت او ما سيلاقيه بعد الموت .. بل رعب من إنتهاء الحياة فقط. إنما أغلب الناس تعرف الحقيقة و تحب من يكذب عليها و هي تعلم علم اليقين أنه يكذب عليها .. فهي مسألة تطييب خواطر و تحفيز مضلل لغريزة البقاء : أما من يصدق فعلا من المؤمنين فسينهي حياته بنفسه (يستشهد في سبيل الآلهة) طمعا في حياة أفضل و أطول بعد أن يموت.

(ثانيا) الخوف من المجهول

تطور ذكاء القرد البشري في مراحله البدائية الأولى فبدأ يتجاوز معدلات الذكاء العادية لدى بقية الحيوانات في بيئته .. و هذا التطور جعل وعيه بالمخاطر التي يجهلها أكبر بطبيعة الحال. فأي كائن بسيط الذكاء لديه مخاوف بسيطة من الواقع, و كلما زاد ذكاؤه كلما تنبه لمخاطر أكثر و أكبر كان جاهلا بها و أعمى عنها .. تماما مثلما يحيى أي خروف أو دجاجة آمنين سعداء جهلاء بالخطر الذي يمثله سكين الجزار الذي يقترب منهم. و لذلك كان فائض الذكاء (الوعي) الذي تمتع به القرد البشري له ضريبة دائمة متمثلة في الخوف و القلق. الحيوانات العادية تحيا بشكل آلي دون أن تعرف أو تفكر أنها ستموت يوما ما او تحسب حساب المشاكل اليومية. فذكاءها يمكن تسميته بذكاء الموقف أو الذكاء الغريزي الكامن في الجينات, إنما الذكاء العلمي-الثقافي الذي يعالج مشاكل الحياة من منظور شامل (و ليس كل موقف في حينه) هو ما ميز القرد البشري عن غيره.

ثم مع إزدياد الذكاء و إزدياد الوعي بالمشاكل و المخاطر زادت المسئوليات و الواجبات و زاد الخوف و القلق و الضغوط النفسية, و هو ما جعل الجسم أو الغريزة البشرية يقاومان هذا الذكاء الزائد (حين تستعصى المشاكل عليه) مقاومتهم للمشاكل و الضغوط نفسها .. بمنطق "إن لم أستطع أن أتفادى الخطر فمن حقي أن أنساه و أدفن راسي في الرمال". ببساطة حين تتراكم المشاكل و تتضخم المخاطر و الضغوط لدرجة معينة و يبدو الوعي حائرا و ضائعا في مواجهتها, تبدأ الغريزة في رفض سلطة الوعي و محاولة العيش كالحيوانات ذات الذكاء البسيط التي تحيا سعيدة مرتاحة دون اي خوف أو قلق أو ضغوط. و لأن ذكاء الإنسان البدائي كان جاهلا ببيئته إلي حد كبير و يتقصه أبسط المعلومات عن عالمه و واقعه, و لأنه كان يواجه مخاطر جديدة بشكل دائم و غالبا ما كان يفقد السيطرة بسبب حيوان مفترس أو وباء أو عاصفة أو عدوان من قبيلة أخرى .. عاش دائما خائفا من المجهول و من كل المخاطر الكامنة فيه و التي لا يعرف عنها أي شئ.

طبعا لو أوهم نفسه بأن لا مخاطر ولا داعي للقلق لن يتقبل هذا لأنه يوميا يواجه منها الكثير, و لهذا السبب إخترع اللاوعي مخاطر بديلة مقدور عليها تلهيه عن المخاطر الأصلية الحقيقية و توحي إليه بالقوة و القدرة حين يتخلص من هذة المخاطر المزعومة بممارسات بسيطة يمكن لأي فرد أن يمارسها (ميكانيزم نفسي دفاعي). فمثلا عبادة النار و عبادة الحيوانات المفترسة و ما إلي ذلك و صنع تماثيل لهذة الأشياء و تقديم قرابين من أجل رشوة هذة الكيانات المجهولة و التي تهدد حياة الناس كان أمرا طبيعيا. فالخطر الذي لا تستطيع مواجهته بالوعي يبدأ اللاوعي في تطوير سلوكيات لمواجهة هذة المخاطر لا قيمة لها عمليا و فعليا لكنها تخدع الوعي و تطمئنه و تعفيه من الخوف و القلق. مثلا حالة الجفاف و إمتناع السماء عن إسقاط المطر, في عصور الجهل حيث لا يملك البدائيين أي فكرة و لو بسيطة عن أسباب نزول المطر أو طريقة لإستنزاله .. طوّر اللاوعي رقصة المطر و صلاة الإستسقاء و ما إلي ذلك. إنما طبعا المطر لا ينزل بالرقص أو الصلاة ولا تأثير عليه منهم .. إنما حين يعجز الذكاء عن التصرف يتوقف المرء عن التفكير و يكون عرضة لقبول و تصديق الخرافات.

لهذا أنتج الدين مخاطر خرافية خاصة به بحيث تكون طريقة للإلتفاف و الإلهاء عن المخاطر الحقيقية (صعبة الحل), ثم إعطاء طريقة سهلة و متاحة لمعالجة هذة المخاطر الوهمية .. بحيث يكتسب البشري ثقة وهمية في قدراته و إطمئنان لواقعه بناءا على لاشئ. الكوارث الطبيعية مثلا سببها الغضب الإلهي في الدنيا, و جهنم بعد إنتهاء الحياة .. كلها تهديدات تعتمد أساسا على الجهل بالواقع و القلق من المجهول و ما يحمله, و هذة التهديات يتم إستخدامها بحرفية من رجال الدين لإبتزاز الناس و إجبارهم على الخضوع لهم و قبول سلطانهم. و لهذا كان العلم و معرفة آليات عمل الظواهر الطبيعية يمثلان تهديدا دائما للدين و رجال الدين, فمن يعرف كيف يسقط المطر فعلا لن يرقص رقصة المطر أو يصلي صلاة إستسقاء. مجرد الإلمام بشئ من العلم عن الواقع يكسب الوعي ثقة و قدرة حقيقيين لمواجهة الواقع بشكل إحترافي .. و بالتالي لا يعود في حاجة للتنازل عن دوره في التعامل مع الواقع إلي الألاعيب اللاواعية النفسية.

لذلك كان إبتزاز الأديان للذكاء العاجز لدى البشر البدائيين في عصور ما قبل العلم, و إستغلال خوف الناس من المجهول و تطيرهم من أشياء بلا معنى (الكلب الأسود و الغراب الأسود و ما إلي ذلك) و تبركهم بأشياء بلا معنى (البخور و التعاويذ و ما إلي ذلك) هو طريقة لاأخلاقية لإستغلال ضعف و عوز الناس أمام مخاطرهم من أجل الحصول على إتاوات (للآلهة طبعا) و السيطرة على حياتهم .. طريقة كانت (ولا تزال في البلدان المتخلفة العاجزة) ناجحة و فعالة جدا لكنها لاأخلاقية طبعا.

(ثالثا) غريزة القطيع

لو ولد طفل وسط جماعة من البشر تقدس الصراصير و تعتبرها آلهة متنكرة (مثلا) و كبر وسط هذة الجماعة من أهله و أقاربه حيث يؤمنون كلهم بهذا و يرفضون بكل عنف أي نقد و لو بسيط لهذة العقيدة المقدسة, و لو إفترضنا أيضا أن هذا الطفل لم يقابل في حياته ولا واحد لا يقدس الصراصير (قبيلة بدائية على جزيرة في المحيط مثلا) .. فسيكبر هذا الطفل و يعيش حياته كلها مصدقا و مؤمنا بهذا الدين و سيراه كأمر بديهي فطري إنما هو في الحقيقة أمر ثقافي إجتماعي مكتسب من الجماعة التي يعيش بينها.

غسيل الدماغ و الإلحاح على أفكار معينة و الرفض العنيف لكل ما يخالفها هو أسلوب لم تخترعه الدول الشمولية و الديكتاتورية بقدر ما كانت كل المجتمعات تتبعه .. و ليس المجتمعات البشرية فقط إنما حتى كثير من الحيوانات الذكية من القردة العليا و غيرها تفرض أيضا على أفرادها ما يمكن أن يسمى ثقافة. الثقافة بوجه عام ليست مفهوما واحدا, فهناك الثقافة العلمية المعرفية و هذة ثقافة إنسانية عالمية يتأثر بها فقط من يقرأ و يتعلم .. إنما هذة ثقافة حديثة العهد جدا. أما الثقافة بمعناها الأصلي القديم فهي ثقافة المجتمع المحلية (كل مجتمع و ثقافته) بكل ما تتضمنه من عادات و تقاليد و مقدسات و تابوهات و مفاهيم و معتقدات و ما إلي ذلك. كلا الثقافتين يتم الترويج لهما بالتربية و التعليم و الإعلام و غيرهم في عصرنا الحديث, إنما الامم الجاهلة التي لا تقرأ ولا تتعلم غالبا يكون تأثرها بالثقافة الإنسانية العالمية أقل كثيرا و تأثرها بالثقافة الشعبية المحلية أكبر كثيرا.

و الدين بإعتباره النواة الصلبة للثقافات المحلية لم يحتاج غالبا عبر تاريخه الطويل إلي مدارس و كتب بالمعنى الحديث, على أساس ان كل ثقافة محلية تفرض نفسها من خلال العادات و التقاليد و المعاملات اليومية و التأثيرات الشخصية من الناس على بعضهم البعض .. و الإلحاح الدائم على أفكار الدين و إعتبارها مقدسة. إنما في العصر الحديث و بعد إنتشار التعليم العلمي المعرفي و الثقافة الإنسانية العالمية من خلال الكتب و المجلات و الأفلام إضطر الدين لإستخدام أدوات الثقافة العالمية حتى لا يترك هذة الأدوات حكرا عليها فينقرض. و بدلا من أن يكتفي الدين بكتاب واحد مقدس كان ملخصا للموضوع الديني بدأ الدين في إستخدام الادوات العالمية المعرفية من أجل حصار ضحاياه من المؤمنين و الحفاظ على هيمنته و سلطانه.

لذلك يمكن إعتبار كل أنواع الثقافات هي غسيل للدماغ بشكل أو بآخر, و الطريقة الوحيدة للهروب من غسيل الدماغ هي الإنعزال عن كل المجتمعات في جزيرة بعيدة خالية من أي إنسان آخر. إنما هناك ثقافة تغسل الدماغ بماء و صابون فتطرد الوساخات و القذارات عنه, و هناك ثقافات تغسل الدماغ بطين و قذارة فتزيده إتساخا على إتساخ. كل فرد بشري نشأ في مجتمع هو إنسان مغسول الدماغ : تم غسل دماغه من خلال الأسرة و المدرسة و الشارع قبل أن يكون من خلال وسائل الفن و الإعلام .. ثقافة المجتمع موجودة و تلح من كل يافطة في الشارع و حتى من أسامي الناس المجردة.

و الدين بإعتباره المكون الأساسي لهذة الثقافة بالنسبة للأمم البدائية الغارقة في المحلية (غارقة في ذاتها) كان دائما بوتقة لقيم و مفاهيم المجتمع .. و كانت أدواته المفضلة هما التقديس (إحترام مبالغ فيه لأشياء لا تبعث على الإحترام) و التنجيس (إحتقار مبالغ فيه لأشياء لا تبعث على الإحتقار), التبرك (إطمئنان مبالغ فيه من أشياء لا تمثل حماية أو دفاع) و التطير (الخوف المبالغ فيه من أشياء لا تمثل تهديدا), الإلحاح الدائم و حصار الناس في كل مكان بمعتقدات الدين و مصطلحاته التي لا تعني أي شئ (أذكر الله, صلي ع النبي, مجد سيدك).

(رابعا) النرجسية

من أقوى الأسباب أيضا التي تجعل العلاقة بين المؤمن و الدين علاقة عضوية قوية هو إستغلال الدين شعور الإنسان بالدونية/العظمة, و ميله الفطري الغريزي إلي الغرور أو الذاتية أو النرجسية. فالإنسان قبل أي شئ هو قرد بشري عادي يسعى لإشباع إحتياجاته و الحفاظ على أمنه و إستمرار بقاؤه كأي حيوان آخر. و هو لذلك لا يهتم بـ"العدل" مثلا لو كان ضد مصالحه, ولا يهتم بـ "الحق" لو كان سيجعله على باطل, ولا يهتم بـ "الصواب" لو كان هذا سيضطره للإعتذار أو التغيير من سلوكه. القرد البشري العادي أناني بطبيعة الحال, و يتفاوت هذا من شخص إلي آخر و من مجتمع إلي آخر .. فأغلب القرود البشرية التي يتم التعامل معها بطيبة و إنسانية منذ الطفولة تكون أكثر تحضرا و إستيعابا لغيرها بينما لو تعرضت للعنف بشكل منتظم فستكون أقرب إلي التوحش و رفض الآخرين.

و لذلك فأغلب الناس ليسوا موضوعيين في تعاملاتهم, هم لا يقبلون الخضوع للمعايير الموضوعية التي لا تنحاز لبشري على حساب آخر .. و لهذا يستخدم القضاء قوة من الشرطة لتنفيذ الأحكام. فالحكم مهما كان عادلا و منصفا لن يرضى عنه المخطئ أو المجرم .. بينما لو كان الحكم ظالما و لكنه لصالح المجرم فستجده يصرخ "يحيا العدل" ! و هذة الذاتية التي تميز البشري طبيعية جدا و مفهوم اسبابها, إنما هذة الذاتية تكون متطرفة أحيانا عند بعض الناس و هو ما يجعلهم مرضى نفسيين مسجونين في أنفسهم لا يرون الواقع ولا يرون الآخرين. و من ضمن أقوى نماذج التطرف الذاتي هذة, بعض الأمراض النفسية التي نسمع عنها: الشخصية السيكوباتية (إضطراب الشخصية المعادية للمجتمع Psychopathy Personality Disorder) و الشخصية النرجسية (إضطراب الشخصية النرجسية Narcissistic Personality Disorder). هذة النوعيات المرضية من الشخصية عادة ما تكون مسجونة في ذواتها لا تعبأ بأحد ولا بشئ بل ترى نفسها مركزا الكون و الكل يدور من حولها ليمجدها .. و لهذة الدوافع نشأ الدين كحالة من التمجيد المرضي للذات تستجيب له و تعشقه جدا كل ذات متطرفة.

صحيح أنه لا يوجد بشري يتمتع بموضوعية و صدق و أمانة و خضوع للحق و المنطق و العدل بنسبة 100% لأن تصميمنا الطبيعي العشوائي هو كحيوانات ذكية تسعى لإشباع إحتياجاتها الطبيعية .. فنحن لسنا مصممين لكي نكون علماء أو منطقيين او موضوعيين. و بالتالي فالعلماء و الموضوعيين من البشر هم تعبير عن إنحراف الطبيعة البشرية نحو الأفضل (هو إنحراف لأنه يختلف عن الخط الأصلي) إنما الطبيعي هو درجات محتملة أو مخففة من السيكوباتية و النرجسية و الذاتية.

الدين في هذا السياق (العكس المباشر للعلم) يستخدم هذة الميول الذاتية الكامنة في البشر (السيكوباتية و النرجسية) و يوظفها لمصلحته .. بحيث يعتمد بقاء الدين و قبول الإيمان على درجة السيكوباتية و النرجسية لدى القرد البشري المؤمن. السيكوباتيين غالبا يصبحون متدينين و رجال دين بينما النرجسيين غالبا هم جماعة المؤمنين .. و الدين يغازل هذة الميول المرضية لديهم من خلال عقائد توحي للمؤمن بها أنه مركز العالم. فالإله خلق العالم كله للإنسان (تقفيل سوبر لوكس) لأنه يذوب حبا في سواد عينيه و يعشقه في الظلام (ظلام السماء السابعة) و يسهر الليل (كل الليالي) يعاني من لوعة الحب .. منتظرا يوم القيامة الذي سيجمعه بمخلوقه المفضل الرائع : الإنسان الجميل الرهيب الخرافي !! و هذا الإله لا هم له إلا مراقبة تفاهات الإنسان و سخافاته 24 ساعة في اليوم/7 أيام في الأسبوع و هو يفرح و يغضب كثيرا بكل ما يفعله هذا الكائن البشري بإفرازات أعضاؤه التناسلية شديدة الأهمية. و ينتظر بفارغ الصبر لقاء الحبيب البشري خمس مرات يوميا هي عدد الصلوات لليومية (أيا كان عددها) !!

لذلك كان من الطبيعي ان يجد النرجسيين في الدين أرضا خصبة و أفضل تبرير لنرجسيتهم, و من الطبيعي أن يحفز الدين في الإنسان العادي هذا الميل للنرجسية (التمجيد المرضي للذات) .. بحيث يصير المجتمع كله أكثر ميلا للنرجسية بعد عدة أجيال, و من الطبيعي أن يجد السيكوباتيين في إتخاذ الدين كمهنة أو التطرف الديني و قطع الرؤوس أنه أبلغ تعبير عن نرجسيتهم و عداوتهم للمجتمع. بعكس ما يفعله العلم مثلا فهو يحفز في الإنسان الميل للموضوعية و العدل و الحق فيرتقي فوق ذاته أكثر و أكثر.

و لأن الدين يخاطب نرجسية الإنسان و يحتاج هذة النرجسية قوية و هذة الذات متضخمة (متضخمة لحد الورم) بحيث يتيه المرء عشقا في ذاته و إعجابا بنفسه التي فضلها الإله على السماوات و الأرض و الجبال و الملائكة و الجن (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان). بل ولأن الدين فضل المؤمن على بقية الناس من الكفرة و المنافقين الذين لا يؤمنون بما يؤمن .. فهذا يتطلب معاملة تمييزية للمؤمن في الدنيا و ليس فقط تمييزا أثناء الحساب في الآخرة. يعني لو إفترضنا أن تمييز الدين للمؤمن على غير المؤمن في الآخرة هو تمييز سلبي, فالتمييز في الدنيا يعتبر تمييز إيجابي.

و التمييز الإيجابي للمؤمن معناها مكافئة المجتمع (الدين) للمؤمن بغير إستحقاق أو إعفاؤه من العقاب لو إستحق في الدنيا .. و أشعاره بأنه خير فرد أخرج للناس في خير أمة أخرجت للناس. الشعور بأنه مميز عند الإله لمجرد أنه مؤمن به أو لأنه هو فقط (لا يحتاج لفعل أي شئ) .. و على هذا الأساس فالمؤمن مستحق لمعاملة تفضيلية و تمييز من حيث العناية الإلهية بأقداره و الدعم السماوي لسلوكه و إختياراته. و هذا التمييز الذي يتبعه الإله لصالح المؤمن هو تمييز رائع و جميل و لا غبار عليه لأنه لصالح المؤمن طبعا, أما لو كان هذا التمييز لصالح شخص آخر لكان ظلما و إفتراء و فساد إلهي. و هو ما لن يحدث أبدا بالطبع لأنه لا آلهة حقيقية لها وجود موضوعي بل هم مجرد أصدقاء خفيين مهمتهم إعطاء المؤمن بها الدعم و الشرعية و التبرير لكل تصرفاته و سلوكياته الخاطئة قبل الصحيحة.

لذلك سهل جدا أن يتصور المؤمن أن الإله معه في الحرب و ضد عدوه, و لو العدو قتله سيكون في الجنة إنما لو قتل هو العدو فسيكون (عدو الله) في النار, و أن الإله يحفظه أثناء السرقة, يساعده على الغش في الإمتحانات أو يقوم بعمل معجزة خاصة من أجله فيحصر الإمتحان في الجزء الذي قام بمذاكرته فقط, أو يعطيه إشارة معينة لا يعطيها لغيره .. الخ. و لا حاجة للقول طبعا أن هذة الآلية التي يتاجر بها الدين و يدعمها هي آلية وظيفتها إفساد أي تفكير موضوعي أو شعور بالإلتزام الأخلاقي أو السلوكي تجاه الذات و تجاه المجتمع .. على أساس أن المؤمن فوق القانون و فوق القواعد و فوق المبادئ مثل الله (طالما أنه مع الله). فلأن الله فرد خارق قادر على كل شئ ولا يستعصى عليه شئ, فهو طبعا لا يخضع لقوانين ولا يهمه أحد .. و المؤمن العادي يعشقه و يعتبره البطل المفضل لديه بسبب ذلك. فسوبرمان بطل ضعيف يهتم برضا الناس و يخضع لقيمهم و إعتباراتهم .. إنما الله فوق الناس و متسلط عليهم و يتحكم فيهم و يقهر و يعذب من يعصاه. و لهذا فالله معشوق الساديين و السيكوبات و ضعاف الشخصية و ضعاف النفوس من الذين تعرضوا و يتعرضون للذل و العنف و المهانة .. و يريدون الإنتقام من المجتمع من خلال الإله المتسلط عليه.

إنما في كل الأحوال يحتاج الإيمان إلي شعور المرء بأنه مميز و ليس مجرد قرد بشري كأي كائن حي آخر لا سمح الله .. و ليس مثل أي كافر أو مشرك آخر عليهم غضب الله جميعا ! و التمييز السلبي (النظري) طبعا يغذي و يعتمد على شعور المرء بعظمته الذاتية و تماهيه مع الله كذات غير مرئية لها قدرات لا نهائية .. مما يدفع بالمؤمن إلي المطالبة بالتمييز الإيجابي (العملي) في الدنيا أيضا. و هل يستوي الذي يؤمنون و الذين لا يؤمنون ؟! لا ولاية لكافر على مؤمن, ولا يقتل المؤمن بكافر قصاصا, ولا يرتدي الكافر زي المؤمن بل يرتدي أحقر الثياب, ولا يركب الكافر خيلا مثل المؤمن بل يركب الحمير فقط .. و هكذا.

(خامسا) ضعف العقل

ما الذي يمكن ان يمنع أي إنسان من الإيمان على أية حال ؟! الشك ؟! التفكير المنطقي المستقل ؟! الذكاء ؟!! مجرد كون المرء ذكيا كفاية لدرجة ان يرفض قصص غريبة خيالية يجعله مطرودا من رحمة الإله ؟!! لكن إذا كان هذا الإله يتحدى ذكاء الأذكياء بقصص خيالية عجيبة .. و كأنه يقول لهم "لا تصدقوا", فما الحل يعني ؟! أبسط شئ يمكن ان يفعله مؤسس الدين هو أن يقول أكاذيب منمقة متسقة منطقية, بحيث يصعب على المرء إنكارها .. رواية فيها شئ من الواقعية على الأقل.

إنما حية متكلمة و طوفان يميت كل الحياة على "كوكب" الأرض و شق للبحر و إمرأة تلد دون جنس و إله منتحر و نبي يطير على بغلة إلي الفضاء و نمل متكلم و هدهد متكلم و جن و يأجوج و مأجوج .. فما الذي ينتظره هؤلاء الآلهة ؟!! ثم حتى لو إعتبر مؤسس الدين أن الروايات الواقعية غير جذابة و أنها لن تجتذب أتباع و مؤمنين مثل الروايات الخيالية البطولية .. فأقل شئ هو ان يتذكر هؤلاء الأنبياء و المقدسين تفاصيل كذبهم و صغائر حبكاتهم القصصية بحيث لا يقعوا في التناقض أو تنكشف أكاذيبهم, مثل جوان رولينج (مؤلفة هاري بوتر) أو جون تولكين (مؤلف الهوبيت و مملكة الخواتم) أو أي مؤلف قصصي محترف. إنما يكذبون و ينسون ما قالوه فيناقضوا أنفسهم في كتبهم المدعوة مقدسة .. ثم يصاب المؤمنين بالضيق لو إعترض المرء أو حتى تساءل بحسن نية ؟!!

لذلك فغرابة الروايات الدينية و تعمد الإستطراد في الخيال و الإغراق في الهلوسة لا يمكن تفسيرها إلا بشئ واحد .. أن الدين لا يهتم ولا يوجه خطابة إلا إلي الأغبياء و السذج و الغارقين في خيالاتهم و أحلامهم فلا يستطيعوا التفريق بين الواقع و الخيال. مؤلف هذة الروايات الدينية قد تعمد أن يجعلها مفرطة في الخيال و الفانتازيا بحيث يطرد الأذكياء و الشكاكين و الناقدين من الإيمان و يحتفظ فقط بالأغبياء الذين لديهم الإستعداد الكامل لتصديق أي شئ و كل شئ .. مهما كانت غرابة الكذب و فانتازيته و بغض النظر عن المنطق و الأدلة و التجارب.

إنما لماذا ؟! ماذا يريد الدين من الأغبياء و هم مجرد حمل ثقيل ؟! ألم يكن من الأفضل للدين لو إجتذب أذكى الأذكياء و الأكثر إحتكاما للعقل و المنطق و الموضوعية بحيث ينفعوا الدين و يجعلوه شيئا له قيمة ؟!!

و الإجابة بسيطة جدا ..
في كل الأحوال لا يوجد من يستطيع النصب أو الكذب على الأذكياء و النابهين, ربما يستطيع ذلك مع بعضهم أو لفترة قصيرة. إنما إستيعاب الأذكياء في دين معناه ان يتحول إلي علم مادي تجريبي و ان يبدأ الأذكياء في تبديل العقائد بالمعلومات و الصلوات بالحسابات و التجارب .. و من ثم يضيع الدين تدريجيا. إنما لو كان الخطاب الديني ساذج و تافه و سخيف كفاية لدرجة ان يستوعبه و يقبله حتى أغبى الأغبياء و أجهل الجهلاء, فيمكن للدين أن يتحكم في هؤلاء الرعاع و الدهماء (و هم الغالبية دائما) .. ثم يجبر حتى أذكى الأذكياء على الخضوع و الإذعان لقوة الدين لا عن إقتناع و فهم عقلاني أو قبول طوعي إرادي, بل خوفا من عنف هؤلاء الرعاع و بطشهم. ثم إن المسألة ليست عنف و بطش فقط, فالناس البسيطة و الساذجة في كل مكان .. هؤلاء قد يكونوا أمهات أو آباء أو أبناء أو بنات أو أصدقاء أو أقرب الأقارب و أعز الأعزاء. ربما لا يكون الإيمان مقنعا للأذكياء و النابهين, لكنه بالتاكيد مرضي و كافي جدا لكل العقول الضعيفة الغبية .. و هؤلاء قادرين فعلا على التأثير عاطفيا و عمليا في البقية الباقية من الأذكياء.

طبعا أغلب الأديان نشأت في أزمان الجهل و الامية .. بل و ما قبل الكتابة حتى, لذلك فحتى أذكى الأذكياء لم يمكنه صد كل هذا الضغط النفسي و العقلي و هو أعزل بدون أي معلومات أو أدلة. لذلك إستوعبت الاديان حتى الأذكياء و إضطر هؤلاء لهرس عقولهم و دهس ذكاءهم و منطقهم في حضور الدين و الإيمان .. ثم تبرير هذا الخضوع و هذا الإنكسار العقلي أمام الدين بتبريرات فلسفية و العاب عقلية لا معنى لها. لذلك فإن كان الإيمان يعتمد على غباء الأغبياء لكي يكتسب قوة و صلابة في قلوبهم لا عقولهم .. فهو يعتمد أيضا على الجنون بالنسبة للأذكياء, الغبي يزيده غباءا على غباء و الذكي يضطره للجنون و تبرير الخرافات الدينية حتى يستطيع التعايش مع حماقة الإيمان. لذلك يوجد مؤمنين في منتهى الذكاء (المؤمن الذكي كائن على وشك الإنقراض) و ذلك لأن الإيمان بالنسبة لهم يفوق العقل و قفزة ثقة فوق المنطق و فوق العلم .. بعكس العامة و الرعاع الذين يرون ان "ربنا عرفوه بالعقل" !!

الفرق بين الغباء و الجنون هو أن الغباء عجز طبيعي في عقل الفرد عن رؤية المنطق الكامن في أي مسألة أو الآلية أو السببية لأي موضوع .. أما الجنون فهو رؤية المنطق و فهم الآلية بوضوح ثم تجاهلهم عمدا بتبريرات لاعقلية (مجنونة). و لذلك فالمجنون الديني الذي يصدق ان المسيح مولود بدون جنس أو أنه أقام نفسه من الموت أو أن محمد طار على بغلة يعرف تمام المعرفة نظام الطبيعة و يعرف أن من المستحيل أن يولد طفل بدون ممارسة جنسية و أن من يموت لا يرجع للحياة أو أن البغال لا تطير و خصوصا في الفضاء .. لكنهم جميعا يتجاهلون هذا المنطق الواضح البديهي عن قصد. و هذا ما يجعل الإيمان الديني مقبرة للعقل بوجه عام (سواء كان العقل ذكيا أو غبيا) و السبب الرئيسي لأحد أسوأ أنواع الجنون شيوعا و إنتشارا .. بل هو وباء عقلي لو شئنا الدقة.

و طبعا من السهل جدا ان يتحول المجنون نظريا إلي مجنون عمليا و تطبيقيا, و من السهل جدا أن يسيطر رجال الدين على جموع الرعاع بواسطة خرافاتهم المزعومة .. و بدلا من الجنون السلمي الآمن يتحول المؤمن إلي مجنون خطر, و لعبة رخيصة في يد رجل الدين. و لذلك نجد المؤمن يقوم بتصرفات غريبة بلا معنى لكنها سلمية : مثل الكلام مع الحائط و عمل حركات رويتينة يومية (يسمونها صلاة), أو عمل الإشارات و القاء التعاويذ (يسمونها آيات), أو تقبيل صلبان خشبية أو حجر أسود مكعب, أو التبرك لصور و أيقونات و تماثيل, أو السجود لعيش و خمر و تأليههما, أو رقصة المطر أو صلاة الإستسقاء .. لكنه بسهولة جدا يتحول إلي الجنون العدواني و الجنون الخطر : مثل الإنتحار في سبيل الله و تفجير القنابل و قتل البسطاء و الآمنين لانهم يتبعون خرافة مختلفة و ما إلي ذلك. فالإيمان هنا هو البوابة الملكية لعالم متكامل من الجنون و الغرابة و اللامعنى, و من يقبل الجنون و يستغنى عن عقله فيبيعه إلي رجل الدين .. سرعان ما يستغله و يمتص دمه و قوت أطفاله, بل و يصير دمية طيعة في يد رجل الدين يتحكم بها كيفما يشاء بالتهييج و التحريض و الإستثارة للعنف حتى يستطيع رجل الدين أن يفرض سلطته على السياسة و الساسة أيضا.

(سادسا) الإحساس بالملل و اللامعنى

بالنسبة لكثير من الناس يعتبر الواقع (أو الطبيعة) ممل و بليد و بلا معنى لأنه آلي و وحشي و نسبي و لا يعبأ بأحد. و لذلك فهم يرون في الهروب إلي عوالم خيالية حالمة تجريدية مليئة بالصراعات بين الخير و الشر, بين الحق و الباطل .. حلا لمشكلتهم مع الواقع. هم يعتقدون أن مجرد الإستمتاع بالحياة و إكتشاف الطبيعة و الملاحة في العالم, مجرد الإستماع إلي الموسيقا الجيدة و الإنخراط في الصداقات و التعمق في المعرفة و الفهم ليسوا أمورا كافية لعيش الحياة أو لتحفيزهم من أجل الإستمرار. و مطلبهم الوحيد البديل للواقع هو العيش في عالم كارتوني طفولي حيث يرعاهم والد فضائي خارق و تتصارع معهم دراما كونية, و حيث الخطية و الغفران و الخضوع لإغراءات الشيطان و المقاومة و السقوط و .. و ...

يقول سليمان المدعو حكيما في التوراة - الجامعة
عظمت عملي بنيت لنفسي بيوتا غرست لنفسي كروما. عملت لنفسي جنات و فراديس و غرست فيها اشجارا من كل نوع ثمر. عملت لنفسي برك مياه لتسقى بها المغارس المنبتة الشجر. قنيت عبيدا و جواري و كان لي ولدان البيت و كانت لي ايضا قنية بقر و غنم اكثر من جميع الذين كانوا في اورشليم قبلي. جمعت لنفسي ايضا فضة و ذهبا و خصوصيات الملوك و البلدان اتخذت لنفسي مغنين و مغنيات و تنعمات بني البشر سيدة و سيدات. فعظمت و ازددت اكثر من جميع الذين كانوا قبلي في اورشليم و بقيت ايضا حكمتي معي. و مهما اشتهته عيناي لم امسكه عنهما لم امنع قلبي من كل فرح لان قلبي فرح بكل تعبي و هذا كان نصيبي من كل تعبي. ثم التفت انا الى كل اعمالي التي عملتها يداي و الى التعب الذي تعبته في عمله فاذا الكل باطل و قبض الريح و لا منفعة تحت الشمس.

هذا الموقف الفلسفي النفسي يطلق عليه في العصر الحديث "العدمية". فالعالم كله من وجهة نظر العدمي بما في ذلك وجود الإنسان، عديم القيمة و خال من أي مضمون أو معنى حقيقي .. أما الاخلاق و القيم مصطنعة، ذاتية، مطاطة، قابلة للاستبدال وزائلة. و بالتالي يبرر العدمي لنفسه العيش في دراما شكسبيرية مقدسة لكي يتصارع مع طواحين الهواء و الكائنات الخفية الغير منظورة .. فقط حتى يكسر هذا الملل و حتى يشعر ببعض الإثارة ! المؤمن لا يقول طبعا أنه يعيش داخل عوالم فانتازية خيالية أو أنه ينفعل وجدانيا بدراما كونية تجريدية كاريكاتورية (صلب المسيح أو مقتل الحسين مثلا) .. إنما هو يسمي هذة الأشياء بأسماء أخرى "مقدسة".

"الغيب" مثلا هو الميتافيزيقا أو ما يفوق الطبيعة, عالم خيالي فانتازي متكامل موازي لعالمنا, لا نراه ولا نستطيع رصده لكنه يرانا و يؤثر فينا .. و نحن نستطيع أن نؤثر فيه بالصلاة او الطقوس أو التعاويذ الدينية و ما شابه. و لذلك يعتبر هذا العالم الإفتراضي خارقا للطبيعة و أبعد منها. هذا العالم يتضمن شخصيات غيبية (خارقة للطبيعة) : الآلهة (أيا كان ما يعنيه هذا المفهوم) و لها أسامي و طبائع و أعداد مختلفة حسب الأديان .. يهوة التوراتي (فرد صمد), يهوة الإنجيلي (مثلث الأقانيم), الله القرآني (فرد صمد), مئات الآلهة الهندوسية (ثالث ديانة في العالم من حيث السكان), و ملايين الآلهة من الأديان المختلفة .. حية كانت أو منقرضة. بالإضافة للملائكة و الشياطين و الجن و العفاريت و الأرواح و الأشباح و النمل المتكلم و الحمير المتكلمة و البغال الطائرة و التنانين و العمالقة و الكائنات الأسطورية الغريبة و منها كثير. كما يتضمن هذا العالم أيضا احداث غيبية (خارقة للطبيعة) : مثل الخلق من عدم و السحر بدون تقنية و الشفاء بدون طب و المعجزة (أشياء مستحيلة الحدوث بالتعريف) و فعالية الحسد و غيرها من الأحداث الذي يؤثر بها عالم الغيب على عالم الواقع (حسب المعتقدات الدينية طبعا).

أما "العقيدة" فهي قصص و روايات عن أشياء حدثت في الماضي السحيق و الماضي القريب, مليئة بالشخصيات و الأحداث الغيبية الخارقة للطبيعة (و بالتالي لا دليل عليها لأنها تفوق الواقع بالتعريف). و أحداث هذة القصص يجب أن تكون طفولية كارتونية بطولية مسلية يجدها الأطفال شيقة و مثيرة و محفزة على طاعة الوالدين .. و يجب ان ينتصر الخير متمثلا في الكائن الغيبي المركزي في الدين (يهوة او الله او أيا كان) دائما على الشر متمثلا في الشيطان عدو الله و الشخصية الشريرة الرئيسية في الأحداث. هذة العقائد الغيبية يعتمد عليها الدين تماما في تأسيس كل شئ .. فهي تختلف عن أي دراما مسرحية أو تليفزيونية أخرى لأن الدين يدعي أنها حقيقية و قد حدثت بالفعل, و أنها مقدسة غير قابلة للتفاوض, و انها تمس كل إنسان بشكل أو بآخر .. فهي ليست مجرد قصص للإستماع و التسلية. يعني مثلا أحداث خلق العالم ثم آدم و حواء, ثم طردهما من الجنة, مثل طوفان نوح .. أحداث مثل الصلب في المسيحية أو الوحي و الإسراء و المعراج في الإسلام .. أو مثل الكارما و تناسخ الأرواح في الهندوسية و البوذية : كلها عقائد يفترض من يؤمن بها انها حقيقية و مقدسة و ملزمة و مؤثرة.

العقائد دائما هي الدراما الحية في نفوس المؤمنين, إضفاء شئ من الأهمية و العظمة على حياتنا كقرود بشرية عادية لا تفوق أي نوع حي آخر أهمية .. بل ولا تفوق أي موجودات أخرى في الأهمية. لذلك إخترع الإنسان البدائي العقائد كاحداث درامية تتضمن الصراع الطفولي بين الخير و الشر, و البطولة الإلهية و الحب و الكراهية و الإنتقام و الصراع و الذنب و الحرية و الفداء و المعاناة و الإنتصار و التضحية .. إلي آخره من الدراما الرخيصة التي يعتمد عليها الشخص الساذج البسيط حتى يشعر بأهميته في الحياة بالكذب. طبيعي جدا ان يكون القرد البشري هو محور هذة الأحداث الدرامية الإلهية, حيث يسهر الإله الإفتراضي على راحة عبيده و مريديه لكي يدعمهم و يحرسهم من قوى الشر الخيالية التي تريد أن تأذيهم. العقائد بهذا الفهم هي تعبير عن خواء المؤمن بها و شعوره المزمن بالفراغ و الإغتراب, و إحساسه بالعدمية و العبث و اللامعنى و تفاهة الحياة .. و لهذا السبب لجأ إلي هذة القصص الدرامية حتى تعفيه و لو بالكذب من وطأة هذا العبث الخرافي و هذة العدمية المزعومة.



#مايكل_سامي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حتمية قتل المنافسة
- العلمانية و الحفرة المقدسة
- ضد الليبرالية الداروينية
- تبرير الهمجية بالداروينية
- الناس أديان و مذاهب
- نقد العقل الغيبي
- الله .. ذلك المجهول
- وردة على قبر الله
- الأخلاق و نظام الثواب و العقاب


المزيد.....




- مشاهد مستفزة من اقتحام مئات المستوطنين اليهود للمسجد الأقصى ...
- تحقيق: -فرنسا لا تريدنا-.. فرنسيون مسلمون يختارون الرحيل!
- الفصح اليهودي.. جنود احتياط ونازحون ينضمون لقوائم المحتاجين ...
- مستوطنون يقتحمون مدنا بالضفة في عيد الفصح اليهودي بحماية الج ...
- حكومة نتنياهو تطلب تمديدا جديدا لمهلة تجنيد اليهود المتشددين ...
- قطر.. استمرار ضجة تصريحات عيسى النصر عن اليهود و-قتل الأنبيا ...
- العجل الذهبي و-سفر الخروج- من الصهيونية.. هل تكتب نعومي كلاي ...
- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - مايكل سامي - ما هو الإيمان ؟