أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مايكل سامي - ضد الليبرالية الداروينية















المزيد.....

ضد الليبرالية الداروينية


مايكل سامي

الحوار المتمدن-العدد: 4322 - 2013 / 12 / 31 - 07:56
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


الحرية خرافة بلا معنى إستخدمها الدين و روج لها لتبرير العذاب الوحشي الذي سيقوم به الإله في جهنم ضد الكفرة و العصاة, على أساس أن هؤلاء الخطاة كانوا احرارا و يجب أن يتحملوا نتيجة أفعالهم. لكن إذا كان الإله هو من يخلق الجسد و يخلق الروح و يخلق الظروف و يخلق كل شئ فلا معنى لمعاقبته كائنات ضئيلة لا تقوى على خدشه ولا تملك من أمرها شيئا بل تعيش في عالمه الخاص تحت امره و خاضعة لجبروته. إنما برغم أن هذة الحرية المزعومة ليست إلا عقيدة دينية هدفها الوحيد إشعار المؤمن بالذنب دائما بإعتباره مسئول عن أفعاله مسئولية مطلقة و بالتالي يستحق عقابا مطلقا .. إلا أن هناك ملحدين أيضا يعتقدون ان الحرية شئ حقيقي و غاية ما بعدها غاية للحياة.

و بنفس المنطق تقوم الرأسمالية بالترويج لهذا المفهوم دفاعا عن مصالحها, على أساس ان الناس لن تتعاطف مع تركز معظم ثروات العالم في يد حفنة من الاغنياء .. لكنها ستدافع بكل قوة عن هذا الإله الخرافي غير واضح المعالم الذي يسمونه "الحرية". الحرية في الحقيقة ليست إلا تسمية لطيفة للفوضى, و أصحاب المصالح يدافعون عن الفوضى عن طريق الدعاية لها بإستخدام ألقاب ظريفة على أساس أنهم موجودين بالفوضى .. و أي نظام جاد سيقلص من صلاحياتهم و نفوذهم. و بالتالي من الأفضل بالنسبة لهم وصف الفوضى بالحرية و النظام بالشمولية .. و إضافات إيحاءات إيجابية للمفهوم الاول و سلبية للمفهوم الثاني حسبما يرغبون.

- ما الليبرالية ؟ -

و لو أردنا التعرّف على ماهية الأجنحة اليمينية في الوان الطيف السياسي أو ما هي الفلسفة السياسية الليبرالية فيمكن تحديد الليبرالية بأنها مذهب الحريات أو فلسفة الحرية, و هي لذلك تنتصر لأربع حريات أساسية ..

أولا : الحريات السياسية / الديموقراطية
و هي حرية تداول السلطة من خلال الأحزاب المتنافسة في السوق السياسي (البقاء لمن هو أصلح للبقاء), و حرية الترشح و الإنتخاب, و حرية الشعب في تقرير مصيره .. يعني الديموقراطية و حقوق الإنسان إجمالا.

ثانيا : الحريات الإقتصادية / الرأسمالية
و هي حرية إمتلاك الأفراد و الشركات لوسائل الإنتاج, و حرية الإستهلاك و التجارة و المنافسة بين الشركات (البقاء لمن هو أصلح للبقاء), و تقليل الجمارك و الضرائب إلي الحد الأدنى و تحفيز القطاع الخاص بكل وسيلة لكي ينمو و يتضخم و يتاجر داخليا و خارجيا .. يعني إقتصاد السوق الرأسمالي إجمالا.

ثالثا : الحريات الثقافية / العلمانية
و هي حرية الفكر و الإعتقاد و التعبير و الإبداع لكل الأديان و الأفكار و الفلسفات و الأيديولوجيات و الفنون و الآداب أيا كانوا, و بالتالي فكل الأديان لها حق الوجود و الإعلانعن نفسها و ممارسة شعائرها أيا كانت, و كل الفنون و الآداب و الإبداع عموما يحق لها التنافس في السوق الثقافي (البقاء لمن هو أصلح للبقاء) .. يعني العلمانية المعرفية و الثقافية إجمالا.

رابعا : الحريات الشخصية / الفردانية
و هي حرية الحركة و السكن و تناول الأطعمة و إرتداء الملابس و إقامة العلاقات الجنسية و إختيار الوظائف و الأعمال .. بحرية كاملة كإختيارات شخصية تخص أصحابها.
بالطبع مفهوم الحرية عموما تم الترويج و الدعاية له و تسويقه من خلال تماثيل و أيقونات (مثل تمثال الحرية في أمريكا) و من خلال نمط الحياة الإستهلاكي الأناني المستهتر الغرائزي اللاواعي و الذي تنتصر له أمريكا و ينتصر له الغرب بالميديا و السنيما و الفنون .. و بالسلع الإستهلاكية السخيفة و إثارة الطمع و الجوع في المواطن العادي بكل الإغراءات و المحفزات الحسية و النفسية : إنما مفهوم الحرية أصلا متناقض ذاتيا لو تم مراجعته و تقييمه بشكل عاقل.

و لذلك فأصدق و أفضل تسمية للدين الليبرالي الرأسمالي هو "الداروينية", أو مجتمع الغابة البشرية أو الإحتكام للإنتخاب الطبيعي المتجسد في آليات السوق للعرض و الطلب .. حيث البقاء لمن هو أصلح للبقاء. في السياسة البقاء للأصلح (صراع الأحزاب) و في الفكر البقاء للأصلح (صراع الأيديولوجيات) و في الثقافة البقاء للأصلح (صراع الحضارات) و في الإقتصاد البقاء للأصلح (صراع الشركات) و في الإجتماع البقاء للأصلح (صراع البشر), ثم يفترض أن يتم ترك كل هذة الصراعات حتى تتفاعل مع بعضها و ترفع و تخفض الناس و الاحزاب و الشركات بشكل عشوائي من خلال الآليات الداروينية للإنتخاب الطبيعي في كل المجالات.

ناهيك عن ان الليبراليين في العالم كله يعتبرون أنفسهم ليبراليين بسبب تمسكهم بالحريات الإقتصادية أساسا دونا عن الحريات المزعومة الأخرى السياسية و الإجتماعية و الشخصية .. و لذلك يسهل أن تجد ليبرالي يعتبر الجنرال التشيلي أوجستو بيونشية و الديكتاتورية الليبرالية (يسمونها ديكتاتورية الحرية !!) عموما هي أفضل حل للدول المتخلفة و النامية, أو تجد ليبرالي يتبرأ من العلمانية و من حرية العقيدة و التعبير رضوخا للمد الديني الأصولي بوجه عام, سهل أن تجد الحزب الجمهوري الأمريكي لا يصنف كليبرالي بل نيو-ليبرالي لأنه لا يعبأ بأي حريات من أي نوع إلا الحريات الإقتصادية فقط .. و كأن أي سياسات إجتماعية يتبناها الحزب الديموقراطي لها هدف غير تلطيف صورة الأجنحة اليمينة و الليبرالية عموما.

- الديموقراطية / الداروينية السياسية -

المنطق الذي يدعيه من يسمون أنفسهم ليبراليين (و هم في الحقيقة داروينيين) أن الإنتخاب الطبيعي أفضل من الإنتخاب العلمي الصناعي, و في سياق الداروينية السياسية يحتكمون للمبدأ الشهير : البقاء للحزب الأصلح للبقاء !! يبدو الكلام منطقيا و علميا في البداية, و دعوة مفتوحة للمنافسة الشريفة و الإحتكام إلي الطبيعة/السوق السياسي/الشعب في إختيار الحزب و السياسة الأصلح للبقاء. غير أنهم يتجاهلون طبعا أن المنافسات في الطبيعة أبدا لم تكن شريفة ولا يمكن أن تكون شريفة بل هي فوضى يستحيل السيطرة عليها او إلزامها بشرف اللعبة. ففي الإنتخاب الطبيعي ليس هناك سوى قانون واحد هو ان البقاء للأصلح .. و بالتالي فأي قانون آخر يستحيل حمايته أو الدفاع عنه عمليا.

بدون كلام نظري ..
من يشاهد الصراعات السياسية في الدول الليبرالية الكبرى سيعتاد ظاهرة غريبة جدا, هناك حزبين يتيمين فقط في المنافسة !! يعني من يدخل أحد المحلات التجارية الكبرى التي تبيع أي نوع من السلع سيتوه و يغرق في عدد لانهائي من الماركات و الانواع من نفس السلع ! فسواء كان المرء يبحث عن عبوة لبن أو كمبيوتر أو سيارة أو ملابس .. دائما هناك أنواع و ماركات أكبر من قدرة أي فرد على الإلمام. و بالتالي هو يختار أي ماركة تعجبه شكلها أو ربما يندفع لشراء الماركة التي نصحه بها أحد أصدقاؤه .. لكن في كل الأحوال هو لن يختبر أو يلم بكل الماركات لكي يختار منها بوعي بإمكانياتها, بل سيختار بعشوائية .. فضلا عن تحكم الأسعار في قدراته الشرائية. إنما حين يذهب المواطن الأمريكي إلي التصويت لكي يختار الحزب الحاكم لمدة أربع سنوات قادمة .. لن يجد إختيارات متاحة إلا حزبين إثنين لا ثالث لهما. طبعا هناك حرية تأسيس أحزاب و هناك الكثير من الاحزاب الصغيرة .. إنما عمليا هناك حزبين وحيدين يحتكرون المشهد السياسي في أمريكا و إنجلترا و الغالبية الساحقة من الدول الليبرالية الكبرى.

ثم إن الحزبين متشابهين إلي حد كبير فعلا ! يعني لن تجد حزب من أقصى اليمين النيو-ليبرالي مثل الحزب الجمهوري يواجه حزب من أقصى اليسار الشيوعي مثلا !! السجال كله بين حزب يميني متطرف و حزب آخر يميني .. في أمريكا تعتبر "الإشتراكية" او "اليسار" أو "الشيوعية" كلمات بذيئة منذ الحرب العالمية الثانية و الحرب الباردة. يعني حتى الإختيار بين حزبين إثنين فقط لا يعتبر خيارا جادا لأن الفروق بينهما جد بسيطة.

لكن النظام السياسي لا يكتفي بذلك حتى, فأي منافسة سياسية تحدث داخل أمريكا تعتمد أساسا (ككل السلع الإستهلاكية الأخرى) على الدعاية و الإعلان .. و التمويل من أجل الدعاية و الإعلان. و حين نعرف أن من يمولون الحملات الإنتخابية بإسراف هم لوبي صناعة السلاح و لوبي صناعة الطاقة و فاحشي الثراء محتكري الصناعات الأمريكية فضلا عن إمتلاكهم لصناعات الدعاية و الإعلان و الإعلام و وكالات الأنباء و غيرها, يمكن إستيعاب أن هذة اللعبة محكومة جيدا و من شبة المستحيل دخول عناصر غريبة عليها. يعني أباطرة المال و الاعمال هم أبرز اعضاء الحزبين الديموقراطي و الجمهوري, يقوموا بترشيح حفنة من الموظفين الخاضعين لهم و يمولوا حملاتهم و يقوموا بالدعاية لهم في إعلامهم و قد يقوموا بالمراهنة عليهم أيضا .. و في النهاية فجميع المتنافسين ملكهم و أي فائز فيهم سيخضع لهم و سيأتمر بأوامرهم !!

ما الفائدة إذن من هذة اللعبة ؟!
هناك فائدة كبيرة طبعا .. غسيل دماغ شعب كبير بمفاهيم الحرية و الديموقراطية و المسئولية السياسية و قدرة الفرد الصغير على التاثير في القرار السياسي بالإعتماد على صوت إنتخابي واحد قد يتسبب في إنجاح مرشح أو إفشاله !! الشعوب تحب لعبة الديموقراطية هذة, يظنون أنهم متحكمين و مسئولين عن مصائرهم بهذة الطريقة .. هم يريدون أن يهل عليهم مرشحي رئاسة كل أربع سنوات يخطبون ودهم و يحمسونهم و يقولوا لهم "نعم نحن نستطيع" و يحاول إقناعهم بكل طاقته أن الموضوع جاد ولا مزاح فيه ! لهذا ينجح غالبا الديماجوجي مهيج الجماهير الأكثر قدرة على الخطابة و شحذ الهمم و التحكم في الجماهير .. و من هو أفضل من يجيد تقنيات التحكم بالجماهير إلا شركات الدعاية و الإعلان الرأسمالية ؟!!

و في النهاية كل الناس سعداء. الناس تحب الملاهي السخيفة مثل هذة و التجمعات الكبيرة و الحماس .. يبدو هذا واضحا في مباريات كرة القدم و المصارعة و المنافسات الرياضية بوجه عام. في العصور القديمة كان أهل روما يحبون رؤية القتال حتى الموت في ساحات روما, و في أسبانيا حتى وقت قريب كانوا يستمتعون برؤية الماتادور يقتل أحد الثيران المسكينة. الناس تحب المباريات و المهرجانات حتى لو كانت المباريات مباعة مقدما و المهرجانات بلا معنى .. الناس عاطفيين يحبون الكلام الجميل و ليس الصادق, يبحثون عن الساسة الديماجوجيين المنافقين الواعدين المتعهدين .. و كان هناك رئيس جمهورية في العالم يستطيع أن يتحكم في حكومته بالفعل.

يعني بغض النظر عن أنه لا وجود لرأسمالية (كبيرة كانت او صغيرة) تتوانى عن شراء و رشوة السلطة السياسية و التحكم فيها, بحيث لا يوجد سياسي مهما كان شريف يستطيع أن يشذ عن القاعدة و يحقق ما في صالح الناس مواجها طوفان المرتشين من الساسة و الموظفين. المال قوة كبيرة في عالم رأسمالي, و بطبيعة الحال سيستثمره من يملكونه للحصول على المزيد منه .. لا مجال إذن لفصل سلطة الدولة عن المصالح الرأسمالية لأباطرة المال إلا في أحلام الليبرالين الإجتماعيين. للاسف الحرية خرافة, و هي بالإضافة إلي ذلك خدعة كبيرة يستغلها كبار الحيتان لتغييب صغار السمك عن الواقع فلا يقاوموا الوقوع بين فكيهم.

- العلمانية / الداروينية الثقافية -

في عصر ما بعد الأيديولوجيات, عصر تراجع الماركسية و إندثار الوجودية و هزيمة النازية, عصر إنهيار التجارب الشيوعية و تحطيم حائط برلين .. بدأ في الظهور أربع اتجاهات فلسفية متنافسة : الإتجاه الخرافي اللاعقلي (الأصولية الدينية), الإتجاه الإنسانوي العلماني, الإتجاه العلموي العملي, الإتجاه الأناني الإستهلاكي الرأسمالي (ما بعد الحداثة). الإتجاه الديني اللاعقلي إمكانياته المعرفية فقيرة جدا و منعزل تماما عن تحديات العصر و مواقفة رجعية من كل قضية, بينما الإتجاه الإنسانوي يبدو كحل وسط بين العلموية و الإستهلاكية. لكن بغض النظر عن هذا الصراع الدائر و ما الذي يمكن ان تؤول إليه الأحداث .. تبدو حالة الفراغ الأيديولوجي التي عانى و يعاني منها إنسان اواخر القرن العشرين و أوائل القرن الواحد و العشرين سببا في ترسيخ حالة من التفاهة و السخافة و اللامعنى على البشر.

فبالنسبة لإنسان الخمسينات و الستينات المؤدلج (بالماركسية غالبا) كان لديه إطار معرفي و رؤية واضحة للعالم و للمجتمع و طريقة للتعامل معهم و قضية يدافع عنها و مبادئ (و لو عمومية) محددة للسلوك الإنساني, بعكس إنسان التسعينات و القرن الجديد الذي إنتكس إلي الدوجمائية الدينية أو الإستهلاكية الحيوانية كمحاولة لتعويض فشل المشروع الماركسي و الفراغ الأيديولوجي. و هذا الصعود للأصوليات الدينية و لليبرالية المتنمرة الجديدة هو ما أفرز الحركات الإنسانية العلمانية و الإلحاد العلمي كمحاولة لطرح بديل أفضل من الشمولية الدينية و الفوضى الإستهلاكية. لكن أيا من هذة الحركات و التيارات الأربعة لم تستطع بعد أن تعفي إنسان القرن الواحد و العشرين من الإنتكاس إلي الحالة الخرافية الدينية التي تحرر منها إنسان القرن العشرين كما تعفيه (في نفس الوقت) من الإنحطاط إلي الفوضوية الإستهلاكية العدمية التي تميز الحيوانات البرية.

و مع إن العلم ككيان حاضر هو ركيزة أساسية و مباشرة لكل إختراع و كل دواء و كل حل تم تطويره كمساعده للناس .. إلا أن موضوعاته لا تزال غير إنسانية : فالإنسان العادي الذي صارت كل حياته تعتمد على المخترعات و التقنيات العلمية لم يعد يعبأ بكيفية صنع أو إبتكار هذة الحلول لمشاكله بل صار يتعامل معها كأمر واقع لا يستحق إهتمام و لا إلتفات. ثم إن إخضاع المنهج العلمي لإرضاء الرغبات و الشهوات الحيوانية لدى الناس حولهم فعلا إلي آلات حية للإستهلاك لا تعبأ أو تهتم إلا بالسلعة الجديدة و المنتج اللذيذ و الخدمة المريحة .. يعملون و يتنافسون بكل الأساليب الأخلاقية و اللاأخلاقية حتى يراكموا الأموال و يستمتعوا بالملذات : و يدعون هذا الأسلوب في الحياة بأنه "الرأسمالية الليبرالية" أو "إقتصاد السوق".

صار العلم مجرد آيباد حديث أو وسيلة مواصلات سريعة جميلة أو حتى مخدرات تم تطويرها لكي تشعر الإنسان بلذة لا مثيل لها .. حياة تافهة بلا معنى و عقول غبية جاهلة و نفوس انانية فاسدة تعودت على تلبية رغباتها حتى صارت رخوة ضعيفة أمام أي إغراء أو إيحاء, هكذا صار إنسان العصر الحديث. و هذا الشعور بالتفاهة و الخواء الروحي هو السبب المباشر في إنحراف الإنسان إلي الأديان الخرافية, و التي توهمه بأن لحياته معنى إلهي مقدس مقابل بعض التنازلات السلوكية .. على أن تؤجل هذا الشعور بالتفاهة و الخواء حتى يذهب إلي الجنة و يعاني من وفرة مواردها !!

كل هذة الفوضى و الإنحطاط المعرفي و الثقافي و القيمي سببها جبن و إنسحاب الدولة الحديثة من مواجهة التحديات المعرفية و الثقافية. فلان العلمانية تعني حياد الدولة الكامل و التام (في أحسن الأحوال) امام كل التوجهات و الأفكار و العقائد و الفلسفات و الأيديولوجيات و المبادئ, البناء منها و الهدام, العلمي منها و الخرافي, الرجعي منها و التقدمي, الطيب منها و الشرير .. سمحت الدول الغربية الرأسمالية بكل إنحراف عقلي و سلوكي تحت مسمى "حرية الفكر و العقيدة" و "حرية الرأي و التعبير". و كلما كانت العلمانية قوية كلما سمحت الدولة بإنتشار التطرف الديني على أرضها (كما في إنجلترا و فرنسا و أوربا عموما) و كلما سمحت باللهو الديني و نشوء ديانات و عقائد عجيبة كل يوم (كما في أمريكا) بلا ضابط و لا رابط ولا حدود. يحاولون تنظيم هذة الفوضى طبعا ببعض قوانين منع التحريض و بث الفرقة و الكراهية, و منع السب و القذف .. بالإضافة لقوانين الملكية الفكرية لأغراض إقتصادية. إنما سوق مفتوح و منافسة كاملة بين أفكار متناقضة بل شديدة التناقض من أقصى اليمين إلي أقصى اليسار, و من أقصى الشمال إلي أقصى الجنوب !!

طبيعي جدا ان يحتار الإنسان العادي, و طبيعي ان يرفض دخول سوق الأفكار و الفلسفات و الأيديولوجيات أساسا مكتفيا بأسواق السلع و الخدمات .. مكتفيا بالعمل 10-12 ساعات يوميا و الإستهلاك الحيواني مكافأة لنفسه على عمله و الإستمتاع بالحياة كيفما إتفق ! طبعا ليس كل الناس مفكرين و فلاسفة و علماء لديهم وعي كافي للخوض في سوق الأفكار و فرز الغث من السمين لإختيار ما ينفعهم و يناسب إحتياجاتهم, بل هم في أغلبهم مقلدين بسطاء أو عدميين لا يكترثون بشئ غير السلع و الخدمات .. أو هكذا صنعتهم الحضارة الرأسمالية الحديثة. و لذلك حين يجد الإنسان العادي نفسه غارقا في خيارات كثيرة و متنوعة من الأفكار و الآراء من الطبيعي جدا أن يغرق فيها أو يتجاهلها أو ينحاز لاحدها بلا وعي ولا حساب لكي يصير ضمن جماعة و فريق بغض النظر عن ماهيتهم و صحتهم.

الدولة حين تتنازل عن دورها في تنوير الناس و توعيتهم و تعليمهم و تثقيفهم تاركة الباب مفتوحا لكل تافه و سطحي و ديماجوجي لكي يسيطر على العامة و البسطاء, لكي يتحكم فيهم و يغسل أدمغتهم و يوقف ترقيهم العقلي و الاخلاقي .. إنما تحكم على الناس بالضياع و التشرذم بل و تحكم على نفسها بالإنهيار و التفتت. فطبيعي في أي سوق مفتوح للمنافسة بلا رقيب ولا حسيب ان تنشأ و تتطور ديناصورات فكرية, و ان تسعى هذة الديناصورات إلي إحتكار السوق الثقافي و المعرفي و قتل المنافسة الحرة المزعومة. و إذا كان هناك في الدول الراسمالية قوانين منع الإحتكار الإقتصادي .. لكن لا يوجد قوانين لمنع الإحتكار الثقافي أو السياسي. سهل جدا ان يظهر دين شيطاني خبيث أو فكرة هدامة عدمية و تروج لنفسها بالدعاية و الإعلان و التلميع لتنتشر بين البسطاء و السذج و تحركهم و تتحكم فيهم .. و كله بما لا يخالف القانون و الدستور !!

فلتكن النازية أو الإسلام او المسيحية أو العنصرية أو الإشاعات او نظريات المؤامرة أو الديانات السرية أو غيرها .. كل شئ مباح في العلمانية مادامت الدولة ترفض أن يكون لها دور أو أن تقيم الفكر و الثقافة كما تقيم وزارات الصحة او الأغذية الأطعمة لفرز الصحي من الفاسد أو المسرطن ! في الظاهر يسمونها حرية الفكر و الراي و في الحقيقة هي داروينية ثقافية .. و نتيجة نجد كل ما يمكن تخيله و ما لا يمكن تخيله من الإفرازات الثقافية و الفكرية من أفلام سطحية سخيفة و أكلاشيهات ببغائية و قوالب معرفية و جهل و غباوة و تخريف و دجل و شعوذة و تخريف .. و كل هذا في عقر دار أعتى و انضج الدول العلمانية المتحضرة.



#مايكل_سامي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تبرير الهمجية بالداروينية
- الناس أديان و مذاهب
- نقد العقل الغيبي
- الله .. ذلك المجهول
- وردة على قبر الله
- الأخلاق و نظام الثواب و العقاب


المزيد.....




- لوحة كانت مفقودة للرسام غوستاف كليمت تُباع بـ32 مليون دولار ...
- حب بين الغيوم.. طيار يتقدم للزواج من مضيفة طيران أمام الركاب ...
- جهاز كشف الكذب وإجابة -ولي عهد السعودية-.. رد أحد أشهر لاعبي ...
- السعودية.. فيديو ادعاء فتاة تعرضها لتهديد وضرب في الرياض يثي ...
- قيادي في حماس يوضح لـCNN موقف الحركة بشأن -نزع السلاح مقابل ...
- -يسرقون بيوت الله-.. غضب في السعودية بعد اكتشاف اختلاسات في ...
- -تايمز أوف إسرائيل-: تل أبيب مستعدة لتغيير مطلبها للإفراج عن ...
- الحرب الإسرائيلية على غزة في يومها الـ203.. تحذيرات عربية ود ...
- -بلومبيرغ-: السعودية تستعد لاستضافة اجتماع لمناقشة مستقبل غز ...
- هل تشيخ المجتمعات وتصبح عرضة للانهيار بمرور الوقت؟


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مايكل سامي - ضد الليبرالية الداروينية