أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نبيل محمود - قطوف














المزيد.....

قطوف


نبيل محمود

الحوار المتمدن-العدد: 4348 - 2014 / 1 / 28 - 08:43
المحور: الادب والفن
    


خرجت إلى البريّة الممتدّة حتى مشارف الربيع.. بسلّتها المهملة منذ الشتاء، بكّر الربيع في بثّ خصبه وسكْب عذوبته في العروق هذا العام. تورّدت بشرة الصبيّة بمزيج الضوء والعطور، وانتشت البهجة على وجنتيها، ورطّب شفتيها طعم الندى المتبخّر من الحشائش الغافية، تشبّعت روحها بالنسائم، وتنبهّت حواسها بوشوشات الخضرة المتراقصة، استدرجها حبور الطبيعة إليه فتوغلت بعيداً.. وباتت قطعة يانعة من هذا الوجود المتجدّد. غاب البيت عن أنظارها، وتخفّفت من تحفّظها وتحسّبها واندفعت في أعماق الخضرة الطالعة، وداعبت أناملها الأغصان الهامسة للشجر المستيقظ من سباته وانكماشه الشتائي.. بين خطوة وأخرى كانت تلتقط زهرة متفتحة أو ثمرة مكتنزة وتضعها برفق في سلّتها.

جفلت فجأة حينما انتصب شيخٌ مهيب أمامها، وقاطع سياق الربيع المتناغم، وكأنّه قطعة منسيّة من شتاء غابر.. لم تفلح بالتحكّم بخفقات قلبها الذي كاد أن يطفر خارج صدرها لشدّة ما اعتصرته مباغتة الظهور غير المتوقّع للشيخ الغريب. نظرات الشيخ المتحيّرة والمعتذرة بخجل، ولحيته الكثيفة البيضاء ساهمت قليلاً بالتخفيف من روعها وكبح تسارع قلبها الواجف المرتعش، والتقطت مزيداً من الأنفاس العميقة لتستعيد توازنها المختلّ الذي كاد أن يسقطها أرضاً. جبهة الشيخ العريضة المتغضّنة ونظرات عينيه الحانية، استحضرتا في ذهنها وجه أبيها المحبّب، وبدأت تزداد اتّزاناً وتماسكاً بعد ذلك الأضطراب الشديد، وغمرت نفسها الطمأنينة والسكينة حين تسرّب إلى سمعها صوت الشيخ الخافت العميق وكأنه نابع من بئر مهجورة:
- أعذريني يا بنيّتي فلست أدري كيف نسيت نفسي هنا، أو ربما نسيني زمان قديم.. وجعلني أقطع سبيلك وأعكّر عليك خلوتك والربيع.. سامحيني ودعيني أكفّر عن هفوتي.. وسيسعدني لو أنّك تقبّلت مني بعض ما تبقّى لديّ من نفائس حياتي..
وما أن لاحظ الهدوء الذي علا قسمات وجهها، لم ينتظر أنْ ينتهي من كلامه، وانحنى بظهره المحدودب وببطء على صرّته العتيقة التي يتوسّدها أثناء نومه، ودسّ يده المعروقة فيها والتقط منها بضعة أشياء، استوى منتصباً بتثاقل، ومد باتجاه الصبية كفه المبسوطة التي تلألأت فيها حفنة من نجوم لامعات..!
- لا تخافي يا بنيّتي فلست بساحر أو مشعوذ، هذا ما بقيَ لديَّ من رحلة حياتي، فاقبليها منّي وامنحي روحي سلامها الأخير.. لا تتردّدي خذيها فما من شخص يستحقها أكثر منك.. قرّبي سلّتك لأضعها فيها..
استغربت من انصياعها وامتثالها لطلبه، ومن السلام العميق الذي سكن روحها، تحت تأثير الحنان والسحر الذي كان ينبعث من الحديث الدافئ لهذا الشيخ الغريب.. بعد أن أفرغ الشيخ نجومه في السلّة سحبتها إليها وتمعّنت فيها، كانت الورود والثمار مضاءة بالنجوم الساطعة داخل السلّة. رفعت وجهها إلى الشيخ لتشكره.. وكما باغتها ظهوره العجيب فقد حيّرها اختفاؤه السريع، لم يعد موجوداً هناك، لقد اختفى الشيخ بلمح البصر بلا أثر، وكأنّه لم يكن! حسبت أنّه حلم أو وهم، عادت لتلقي نظرة أخرى إلى محتويات سلّتها فاندهشت أكثر، كانت النجوم فيها وهي أشدّ لمعاناً وسطوعاً..

لم يصادفها في حياتها القصيرة ربيع فريد كهذا أبداً، عادت من جولتها غادة مسحورة! تحثّ الخطى قاصدة البيت، وفي سلّتها أطيب القطوف، وفي روحها أعذب ذكرى من مصادفات الوجود.. قبل وصولها البيت لمحت عند العريشة القريبة من البيت، فتاها الوسيم الذي اعتاد أن يلبث هناك ليتبادلا التحايا وتلك المتع الصغيرة المختلسة. مازحته بمسح وجهه بوردة حمراء استلّتها من سلّتها، وقبل أن يباشر لعبتهما المألوفة بشفتيه! التقطت النجوم من سلّتها ونثرتها بين كفيه، سرى في داخله تيار من نور، ما لبث أنْ شعّ في وجهه الوسيم ألقاً متّقداً لم تألفه فيه من قبل. بات مأخوذاً بما بين يديه والدهشة اربكت وأفسدت كل خططه المعروفة المكشوفة، وقبل أنْ تنطلق من فمه كلمات التساؤل والاستفسار.. تركته مذهولاً وغافلاً عن قطف القبلة المعهودة! وراحت تتواثب متضاحكة بخطاها الواسعة، ومخلّفةً الفضاء وراءها مشبّعاً بالعبير، وضفيرتها تتراقص بين كتفيها يميناً وشمالاً، لتدخل البيت وتضع بين يديِّ أمّها سلّتها الممتلئة بقطوف الربيع الأولى من ثمار وورود..



#نبيل_محمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- !!!( 2014 )
- ((نجم)) و ((مانديلا))
- كلّ شتاء
- مثول الهوى
- الحكمة المتوارية
- ((مشروع الخراب الكبير)) من مناطق النفوذ إلى مناطق الأستثمار ...
- البحث عن البطل !
- مهارة انتاج الآثام !
- حديقة النجوم
- الرسالة المصرية
- رئيسان وراء القضبان! والشعب في الشوارع..
- عصف الأشواق
- عَشَرات
- جدل الشوق والشقاء
- بعد البحر دخلنا الدغل
- ديمقراطية الميادين!
- صروح وجروح
- الموت السعيد!
- مأزق الربيع العربي
- شجرة التوت


المزيد.....




- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نبيل محمود - قطوف