ابو غريب : النموذج في دعاية القيم الاميركية

تيسير خالد

الحوار المتمدن-العدد: 1224 - 2005 / 6 / 10 - 13:19
المحور: أوراق كتبت في وعن السجن
    

" أبو غريب " : النموذج في دعاية القيم الأمريكية

في الستينات من القرن الماضي كنت طالبا " في معهد العلوم السياسية في أحدى جامعات ألمانيا الاتحادية ، حيث كان يدرسنا عدد من الأساتذة الزائرين من الجامعات الأمريكية .في حينها كان الحديث يدور في عديد الندوات الدراسية حول " نمط الحياة الأمريكية " على نحو يرفعها إلى مرتبة أيديولوجية في مواجهة النظرية الماركسية و أنظمة الحكم في الاتحاد السوفياتي و غيره من البلدان التي كانت تسير في الفلك السوفياتي . في سياق إعداد الطلبة لتقبل " نمط الحياة الأمريكية "



، كانت الدعاية لتوسيع نطاق المعرفة بالقيم الأمريكية محدودة و في بدايتها . و في السبعينات من القرن الماضي تحولت الدعاية " للقيم الأمريكية" الى رسالة مقدسة على أيدي أنوية كانت فيما مضى يسارية و تحولت إلى ما أصبح يعرف اليوم بالمحافظين الجدد و قادها أشخاص مثل إرفينغ كريستول و نورمان بودهوريتس و ميغ ديكتر و غيرهم . كان هؤلاء يمثلون الجيل الأول للمحافظين الجدد : أما الجيل الثاني فنجده اليوم يحتل المواقع المركزية في الإدارة الأمريكية الحالية مثل ديك تشيني و دونالد رامسفيلد و بول وولفو فيتز و ريتشارد بيرل و كوندوليزا رايس . كلاهما نمط الحياة الأمريكية " والقيم الأمريكية " جرى رفعهما الى مرتبة أيديولوجية في مواجهة العدو مع ملاحظة أن " القيم الأمريكية " أخذت مع الوقت تتحول الى رسالة مقدسة ينبغي فرضها على العالم كنمط حياة يعكس التفوق الأمريكي في كل شيء و على كل صعيد .
وجه الشبه ليس بقليل بين رسالة " القيم الأمريكية " المقدسة و بين النازية . من أفكار نيتشه استوحى النازيون كذلك نظرية التفوق الألمانية التي كانت تقول هي الأخرى : على أيدي قيم التفوق الألماني و حدها يتعافى العالم . نيتشه كان أحد الآباء الروحيين للحركة النازية الأيدلوجية و كان يؤمن ايماناً عميقاً " بالرجل المتفوق " ، و ليس غريباً أن يكون ليو شتراوس ، وهو تلميذ نجيب لنيتشة ، أحد الاباء الروحيين لحركة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة ، كلاهما آمن بقوة نظرية التفوق و ما يترتب عليها من نظرة للحياة و العالم . ليو شتراوس هذا كان يمكن ان يكون أحد قادة الحركة النازية ، لو لم يمنعه أصله اليهودي - السامي - من ذلك. و قد جمع شتراوس بين إعجابه بالصهيوني اليميني المتطرف فلاديمير جابوتنسكي ، الأب الروحي لليمين و اليمين المتطرف في اسرائيل و بالحقوقي النازي كارل شميدت ، الذي لمع نجمه كمدافع عن الحركة النازية في أعقاب حريق الرايخستاغ الألماني عام 1933 .
ومثلما كانت الحركة النازية نبتاً شيطانياً في المانيا آمنت بنظرية التفوق و استندت اليها في مغامراتها لاعادة صياغة العالم وفق رؤيتها السياسية و الأيدولوجية الخاصة بها ، فإن حركة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة هي الأخرى نبت شيطاني تؤمن بنظرية التفوق وتسعى لإعادة صياغة العالم وفق رؤيتها السياسية والأيديولوجية الخاصة بها : أنظمة الحكم في هذا العالم يجب أن تتغير ، و القيم في هذا العالم يجب أن تتغير كذلك ، حتى نظام الحكم في الولايات المتحدة الامريكية يجب أن يتغير ، فهو في مفاهيم حركة المحافظين الجدد ليس بالنظام الأمثل بقدر ما هو أقل الانظمة سوءاً . حتى أوروبا هي في مفاهيم هذه الحركة قارتان ، أوروبا القديمة و أوروبا الجديدة ، هكذا قسمها دونالد رامسفيلد في ضوء المواقف من الحرب التي كان يجري الاعداد لها ضد العراق . إيطاليا -برلسكوني تنتمي إلى أوروبا الجديدة التي كانت تشارك حركة المحافظين الجدد رؤيتها للعالم كما يجب أن يكون ، أما فرنسا - شيراك فهي تنتمي إلى القديم ، الذي يقف حجر عثرة أمام جديد القيم الامريكية و التي باتت قيماً كونية حسبما جاء في خطاب الاستراتيجية الامريكية الجديدة ، التي أعلنتها الادارة الامريكية في العشرين من أيلول عام 2002 ، أي بعد عام واحد من الهجوم الارهابي على برجي التجارة العالمي في نيويورك .
لا ينبغي التقليل من الانعكاسات الخطيرة التي يولدها المناخ السياسي و الايدولوجي الذي تعمل فيه حركة المحافظين الجدد ، و التي تمسك بزمام الأمور في الادارة الامريكية الحالية . إنه مناخ كثير الشبه بمناخ الحركات الفاشية تطفو فيه على السطح مفاهيم التفوق في سياق عنصري استعلائي لا يعرف الحلول الوسط . من موقع الشعور بالتفوق يجري اختراع أدوات قياس خاصة للخير و الشر ، للمفيد و الضار ، للديكتاتورية و الديمقراطية ، و حتى أيضاً لحقوق الانسان كإنسان . ألا يلفت النظر هنا مفاهيم حركة المحافظين الجدد حول الارهاب و حق الشعوب في مقاومة الظلم و الاحتلال ، مفاهيمها حول دول محور الشر ، بل و موقفها من المحكمة الجنائية الدولية و قانون روما الاساسي و حصانة المواطن الامريكي من التبعات المترتبة على ارتكاب جرائم إبادة جماعية ، أو جرائم حرب أو جرائم ضد الانسانية. إدارة الرئيس السابق بيل كلينتون كانت ضعيفةً في دفاعها عن مفاهيم القيم الأمريكية عندما و قعت في نهاية العام 2000 على قانون روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ، أما ادارة المحافظين الجدد فقد حرصت على تصويب الأوضاع عندما تراجعت في أيار 2001 عن توقيع الإدارة السابقة و أطلقت حملة واسعة ضد المحكمة الجنائية الدولية من خلال الاتصال بعديد الحكومات في هذا العالم من أجل ابرام اتفاقيات معها لضمان الحصانة من العقاب لمواطني الولايات المتحدة في حال توجيه الاتهام لهم بارتكاب جرائم حرب أو جرائم إبادة أو جرائم ضد الانسانية . الولايات المتحدة دولة فوق القانون الدولي و جنودها الذي يحملون رايات الدفاع عن القيم الامريكية و يتحملون مسؤوليات نشرها باعتبارها قيماً كونية يجب أن يتمتعوا بالحصانة من العقاب . أكثر من 35 دولة عاقبتها حركة المحافظين الجدد في يوليو / تموز عام 2003 بقطع المعونات العسكرية عنها لمجرد رفضها التوقيع مع الولايات المتحدة على اتفاقية الحصانة من العقاب . هل في هذا أمر جديد بالنسبة للولايات المتحدة الامريكية ؟ نعم هنالك من الجديد كثير في المفاهيم و المواقف على هذا الصعيد ، غير أن هذا الجديد لا يخلو من قديم أمريكي . نزعة التفوق المحصنة كانت موجودة في تاريخ السياسة الامريكية ، بما فيها تاريخها الحديث ،و ذاكرة الشعوب لا زالت حية ولا زالت تذكر رسالة ذلك الجندي الامريكي إلى عائلته حول مجزرة رهيبة ارتكبتها القوات الامريكية سنة 1898 في الفلبين و التي راح ضحيتها ألف رجل و امرأة و طفل في قرية فلبينية انتقاماً لأحد الجنود الذي وجد مقتولاً خارج تلك القرية التعيسة ، ولا زالت تذكر مجزرة" ماي لاي " الفيتنامية عام 1968 ، و التي راح ضحيتها خمسمائة رجل و امرأة وطفل ادعت القوات الامركية انهم كانوا من رجال الفيتكونغ . عاماً كاملا تكتمت إدارة الرئيس نيكسون على المجزرة ، و عندما انتشر خبرها على يد جندي أمريكي التقط صوراً للمجزرة عوقب قائد القوة العسكرية بالسجن مدى الحياة ، ثم خفف الرئيس نيكسون الحكم إلى عشرين عاماً ، ثم الى عشرة أعوام و أخيراً الى ثلاثة أعوام لم يقض منها في السجن غير ثلاثة أيام فقط . خسائر القوات الامركية في القرية الفيتنامية التعيسة كانت إصابة واحدة فقط ، جندي أمركي أسود أطلق النار على قدمه ليعفي نفسه من المشاركة في المجزرة البشعة .
سماء التاريخ الامريكي لا يخلو من أكثر من ثقب أسود ، غير أن حركة المحافظين الجدد التي تحكم سيطرتها على الادارة الامريكية الحالية ، أخذت تملأ- و خاصة بعد أحداث الحادي عشر من ايلول 2001 - سماء الولايات المتحدة و العالم و سماء منطقة الشرق الاوسط بشكل خاص بغمامة سوداء من خلال التبشير بإعادة رسم صورة العالم كما هي في ثقافة القيم الامريكية ، و التي تعتبرها حركة المحافظين الجدد رسالتها المقدسة . و بالمناسبة ، فإن ما يجري على أرض فلسطين على أيدي قوات الاحتلال الاسرائيلي يندرج في سياق منسجم مع المواقف و السياسات التي تتبناها حركة المحافظين الجدد .
الغمامة السوداء هذه تغطي سماء العراق و تهدد بالانتشار في سماء المنطقة . العراق وفق ادعاءات حركة المحافظين الجدد ، هو منصة انطلاق لنشر القيم الامريكية بما هي قيم كونية في عموم المنطقة . و عندما تتكشف الممارسة و خاصة في "أبو غريب " عن قيم إجرامية تابعها العالم في وسائل الاعلام تتحصن حركة المحافظين الجدد داخل أسوار قيمها هي و ترفض الاعتراف بقيم أخرى أجمعت عليها الاغلبية الواسعة من دول العالم التي أعلنت انضواءها تحت لواء المحكمة الجنائية الدولية و قانون روما الاساسي عام 1998 . ليس في الامر شيء غريب ، فما جرى في " أبو غريب " و في غيره من معسكرات الاعتقال الجماعية التي أقامتها القوات الامركية و البريطانية في العراق ، لا يمكن عزله عن الهستيريا السياسية و الايدولوجية التي أطلقتها حركة المحافظين الجدد من القمقم ، وإلا كيف نفسر موقفها من تقرير الجنرال " أنتونيو تاجوبا " ، الذي أكد فيه أن الممارسات الفظيعة التي كانت تجري و ربما لا زالت في " أبو غريب " تندرج في سياق سياسة منهجية تمارسها قوات الاحتلال ضد المعتقلين العراقيين ، وكيف نفسر سلوك الجنرال ريكاردو سانشز مع د. محسن عبد الحميد عضو مجلس الحكم و رفضه السماح له بزيارة " أبو غريب " ، و قد كان يتولى في حينه رئاسة مجلس الحكم . و على كل حال لم تكن صور المعتقلين في " أبو غريب " من صنع كاميرا خفية ، بل هي كانت من صنع تعبئة سياسية و أيديولوجية لحركة لا تشبه الفاشية فقط من بعيد ، هي حركة المحافظين الجدد التي تحكم سيطرتها على الادارة الامريكية الحالية و تطل على العالم بقاراته الخمس من المواقع الايدولوجية لكل من نيتشه و شتراوس .

#تيسير_خالد (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات