أريج النبواني
الحوار المتمدن-العدد: 4286 - 2013 / 11 / 26 - 07:25
المحور:
الادب والفن
كنت كلما سمعت المقولة الانكليزية المتداولة "ignorance is a blessing" أحسست بالاشمئزاز حد الغثيان. كيف يبني مجتمع يدعي الفردية و الحلم العصامي و يتبنى التيار الحديث فكر الفرد على رغبة الانجراف الى الغباء و التغابي بل افتعاله ؟ و بأي حجة ؟
شغلني السؤال بقدر تكرار تلك العبارة الشاذة. لم اكن على قدر من التجربة تمكنني ان أسلم بأن ليس هناك شيء مطلق ، بل كنت اعتبر العبارة مساً بالشوق الفطري للمعرفة لدى الكائن البشري و أدافع بحماسي الايديولوجي الساذج عن حق الإنسان بالسعي وراء العلم كحاجة وجودية أساسية و حقه في دعم اجتماعي لرحلة بحثه.
كان يوم الجمعة الذي تلى حفلة تخرجي من الجامعة عندما رن الهاتف. قلما كنت ارد على مكالمات الى هاتفي المنزلي ، و لكنني اجبت دون تفكير. " أنا اماندا من عيادة طبيبتك النسائية " قال الصوت المتحمس.
" الدكتورة تريد منك ان تذهبي الى مركز اخر لأخذ صورة للجنين لان فحص الدم الذي اجريته الاسبوع الماضي كان إيجابياً ". ايجابياً بأي معنى سألت. " الفحص يكشف احدى أربع حالات أهمها متلازمة داون و ظاهرة الصلب المشقوق" ( spina bifida). لم اسمع بالاخير من قبل. لكن ذكر متلازمة داون هز الارض تحتي و وجدتني أصرخ و أتخبط من مكان الى آخر في بيتي الذي بدأت جدرانه تتشقق و تنهار فوق رأسي و قلبي معاً.
بعد عناء خمس سنوات مع طفلي الأول الذي اكتشف الأطباء إصابته بسرطان دماغي أعيى جديد الطب منذ شهره الثامن ، لم يكن في جعبتي الكثير من الصبر الباقي لاحتمال خبر جديد لا يقل عذاباً. اتصلت بصديقة لتأخذ ابني إلى بيتها ، فلا أريده أن يراني أسقط إلى كهف جنوني أو يسمع كفري و سخطي في سن الخامسة.
عادت بي الأفكار الى تلك الغرفة الرمادية حد المغص. دخلت الطبيبة. كان اسمها جاين. أتذكر شعرها و حتى لون ثيابها. دخل معها شاب في الأربعينات ربما. صافحني. ثم لم يفلت يدي حتى رفعت أنظاري باستنكار. رأيت في عينيه عالماً غامضاً بدأ يتكشف فوراً عندما اتكأت الطبيبة الى الأمام و بدأت : " للأسف ، لا أحمل أخباراً جيدة. نتعامل مع نوع من السرطان يسمى ...." و لا أعرف إن سمعت إلى النهاية أم أن رغبتي في الحياة أصمت عقلي و دفعتني من الكرسي إلى ثورة لا تقل جنوناً و جموحاً عما اختبرته بعد تلك المكالمة. أذكر أنه بدأ يبكي و أن ممرضة بثياب زرقاء دخلت الغرفة و أخذته ، رضيعاً لا يشبه في شيء أي مريض رأيته من قبل ، لكنني لم أشك في التشخيص. لم أتهم الطبيبة بالهذيان. بدأت أعود إلى عالمي الداخلي الذي أصيب بالتحطم و الدمار و الحمى. وجدتني أحمله. أرضعه. أقبله. و في كل ذلك تنذرف دموعي بصمت و قبول ما كنت لأتوقعهما و أنا الغاضبة المجروحة.
بكيت بعد تلك المكالمة كما لم أبك من قبل. كانت الضربة القاضية التي أكدت شكوكي بكره الآلهة و مخططاتها التدميرية في حياتي. و كما تعودت أن أضحك في وجه كل شيء ، استحضرتني نكتة في خضم غضبي. كان هناك شخص يحلم أن يكون له بيت و هو فقير. فنصب خيمة لتأتي رياح قوية عليها. شكى و صلى و صبر حتى استطاع أن يبني بيتاً من الطين ، و فوراً أتى طوفان ليذيب أحلامه. أخيراً قرر أن يبني بيتاً من الخشب ، لكن البيت تعرض لصاعقة أحرقته. و هكذا ذهب أخونا الى كهف يتضرع ربه و يسأل عن سر تلك اللعنة ، فتجلى له الله و قال : ألا تعلم بعد ، أنا أكرهك. لم أستطع أن أضحك رغم القرار ، بل أصابني ضرب من الجمود لم أعرف أنه سيستمر سنيناً رغم ما سيأتي من تحولات و رغم التكذيب الذي ستزفه تكنولوجيا التصوير ثلاثي البعد لذلك الخبر.
فتحت الحاسوب و دخلت الشبكة. ضربت الأحرف بارتجاف spina وأكمل لي موقع البحث البقية. لحظات و عدت إلى عالم الجنون الصاخب و الآن في رأسي صور وحشية الآلهة التي خلقت هذه الآفات التي تأكل رأسي و تستقطر عيني المتعبتين. كنت قد بدأت أحس بحركة طفلي التي لا تشبه شيئاً في هذه الحياة البائسة بعذوبتها و تفردها عن أي تجربة فوق هذه الارض. أشفقت على جنس الرجال الذين حرمهم الرب من نعمة كهذه. طفلي يعبث داخلي بقدميه الصغيرتين ، بأصابعه الناعمة. يتمدد حد الألم. لكنني أحس أني أطير كلما أيقظتني ركلاته التي ربما أصبحت تتكرر أكثر منذ الخبر. هل أحس بتوتري يا ترى ؟ أم أن تعلقي المتزايد به بدأ يضخم إحساساتي كلها ؟
تمنيت عبثاً لو لم يكن لدي حاسوباً. لعنت أسلاف التكنولوجيا. تمنيت لو كنت أعيش في قرية منسية خارج التاريخ أبني أحلاماً يومية. تذكرت معاناتي اليومية في قيادة سيارتي خلال نفق مظلم ، و كيف كنت أتبارك بنور الشمس إلى لحظة دخول النفق ، حيث تباغتني أشعتها كسخط الآلهة ، تنعكس على زجاج السيارة كثيفة مجتاحة حواسي و تفقدني وجهتي إلى أن أجد نفسي ثانية في عتمة النفق هانئة بعذوبة العتمة و استسلامها. تذكرت مرارة ذلك النور و تسلطه الموروث على سكون الطريق. فوجئت بنفسي أهرب من المطلق الجديد و النور الذي لم يكن أقل من الهواء الذي أتنفسه و الماء الذي أشربه ، وجدتني أحلم بتكسير أحلامي. أنا التي قدست المعرفة أتمنى الجهل و التعامي. عاودتني العبارة التي تقدس الجهل و تعتبره نعمة ، و ضحكت بمرارة. هل دفعتني الآلهة في هذا الطريق المرير و كل هذه التعرجات لتلين عنادي و تعلمني درساً ؟ أليس لدى الآلهة يا ترى أسلوباً تربوياً أكثر إنسانية و أقل استنزافاً لروحي من هذه البربرية الخانقة ؟ أرجو ألا تجيبني الآلهة بأنها تعرف كيف تكره.
4/25/2013
#أريج_النبواني (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟