أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أريج النبواني - الاختفاء















المزيد.....

الاختفاء


أريج النبواني

الحوار المتمدن-العدد: 4120 - 2013 / 6 / 11 - 01:30
المحور: الادب والفن
    



في البداية ، لم تصدق الناس قصة الاختفاء.
- كيف و قد رأيناها البارحة في (رام رتان) ، محل الخضروات الهندي ؟ قال أصدقاء العائلة بينما كانوا يقلبون فجلاً سيشترونه للتخليل.
- ألم تكن في حديقة (ماونتن فيو) مع ابنها الأسبوع الماضي ؟ ألا تذكرون ؟ لوحنا لها. كانت تلبس لباسها الهندي الأزرق.
- نعم. لم تلبس أبداً ثياباً أميريكية.
- لوح الصبي كذلك. ربما هو في الثانية. ربما سنتان و نصف؟
- يشبهها بعينيه السوداوين الواسعتين و تلك الغمازة.
- للأسف ، لم يعد هناك أمان في هذا المكان.
كان الجميع يعتقد أن الأمر كذلك ، و الزوج أيضاً. جريمة. "و إلّا " ، قال للمحقق الذي أتى إثر اتصاله بالشرطة " فكيف تختفي مرأة هندية ترتدي لباساً هندياً تقليدياً لونه أصفر و حذاء للمشي نوع (نايكي) بهذه البساطة ؟" كانت قد خرجت لتمشي مساء كعادتها بعد أن يعود من عمله. "نعم و حدها ". تقول أنها تحتاج هذا الوقت لتكون وحدها. مع أنه لم يفهم السبب ، لكنه كان سعيداً بأن يلعب مع ابنه بالكرة ربما ، ريثما تأتي لتحضير العشاء.
"هل تخاصمتما ؟" أضاف المحقق عابساً رافعاً أنظاره عن ملاحظات يكتبها. و نظر الزوج إلى عينيه مباشرة و قال أنهما طبعاً لم يتخاصما.
كان لاحقاً يفكر في ما قاله المحقق بينما كان جالساً في مكتبه أمام الكومبيوتر أو مستلقياً على سرير ما زال يبدو له مليئاً برائحتها. لكنه يعلم أن هذا من صنع خياله ، فالشراشف كانت قد غسلت مسبقاً. لقد قال الحقيقة ، فهما لم يتشاجرا ، أليس كذلك ؟ كان يفخر بصدقه و يعلم ابنه أن الكذب حرام. "ألا ترى ما حصل لأنف بينوكيو ؟" حتى الآن ، فهو لا يحاول خداع طفله عندما يسأل عن أمه ، لا يقول كما نصحه البعض أنها ذهبت في رحلة. "لا أعلم " يقول. و عندما يتكدر وجهه النحيل و يبكي منادياً أمه ، متى ستأتي ؟ كان يحضنه بابتذال و يحاول أن يمسح شعره كما كانت تفعل ، لكنه لم يستطع أن يقول له ما أراد أن يسمع "قريباً ستأتي " ، و كل ما قاله كان " لا أعرف ".
لم يتشاجرا فعلاً. لم تكن ، و الحمد لله ، من صنف النساء اللاتي يحترفن الشجار كما هو حال بعض زوجات أصدقائه. بل كانت هادئة ، على الأقل في حضوره ، رغم أنه حين كان يأتي إلى البيت فجأة كان يسمعها تغني لابنها. صوتها لم يكن الأفضل ، ولكن فيه بعد و ثقة. أو يسمع ضحكتها و هي تركض وراء ابنهما في الغرفة. " ماما قادمة إليك " تقول و يضحك الاثنان بفرح حتى إن رأياه تصمت و تحاول تهدئة الطفل ، ثم يذهبان للقائه بقبلة اعتيادية.
لم يكن لديه ما يشتكي منه. ألم يكن قد طلب هذا بالتحديد حين سألته أمه متى تزوجه ؟ فقد كبرت و تريد أن ترى حفيداً قبل موتها ؟ " إذا وجدت فتاة جميلة " كتب لها " ليست وقحة مثل بنات (كالكوتا) هذه الأيام ، و بدون أفكار غربية ، فتاة تكتفي بأن يتخذ زوجها كل القرارات في البيت ، ولكن يجب أن تكون ذكية و جامعية " ، على الأقل قضت سنة في الجامعة كي يقدمها لأصدقائه باعتزاز.
أخذ طائرة إلى (كالكوتا) ليتعرف بعدة فتيات اختارتهن أمه. لكنه الآن لا يستطيع تذكر أي منهن. لقد جلست أمامه ، نظرها في الأرض ، و ياسمين في شعرها ، شال حرير رقيق غمر كتفيها تماماً مثل كل الأخريات. اعتقد أنها كانت متوترة ، ربما تتمنى أن يختارها. لكن عندما نظرت إليه ، كان في عينيها نظرة تفحص باردة تشبه الاشمئزاز ، كانت تتساءل إن كان (هو) يصلح أن يكون زوجها. أرادها في تلك اللحظة ، و تزوجا خلال أسبوع رغم عناد أمه. هل رأت تلك النظرة في عينيها ؟ هل أحست أن هناك شيئاً مختلفاً في هذه الفتاة؟
كان زوجاً صالحاً. لا يمكن لأحد أن ينكر ذلك. سمح لها أن تعيش كما تريد ، حتى أنه كان يشركها القرار. عندما قاما بتجديد المطبخ ، أرادت قطع بورسلان زهرية و رمادية ، سمح بذلك رغم أنه يفضل الأبيض. أو عندما أرادت الذهاب إلى محمية (يوسمتي) بدلاً من مدينة (رينو) ، مع علمه أنه كان سيضجر مللاً هناك بين الشلالات الجافة و الطرق الترابية الممتلئة ببراز الدببة. أحياناً ، طبعاً ، كان يضطر أن يكون حازماً ، عندما أرادت العمل أو الذهاب إلى الجامعة أو شراء الثياب التي تلبسها الفتيات الأمريكيات مثلاً. لكنه كان يلطف أجوبته دائماً كأن يقول " أنا سأعتني بك و بمستقبلك " أو " أنك تبدين أجمل بثيابك الهندية التقليدية ، أكثر أنوثة ". كان يشدها إلى حضنه ، يقبلها ، يضمها ، و تنتهي تلك الطقوس بهما في السرير.
كان ذاك هو الأمر الآخر الذي اضطر فيه للحزم. الجنس. فهي كانت دائماً ترجوه ألا يقترب. " ليس اليوم " أو " ليس لدي رغبة " تقول. لم يمانع ذلك. فهي الفتاة الهندية المؤدبة التي أراد. لا يتوقع أن تتصرف كالنساء الأمريكيات في أفلام البورنو التي كان يشاهدها أحياناً ، تصرخ و تتشاقى و تقوم بحركات يتصبب عرقاً لمجرد التفكير فيها. لكن تمنعها كان يشط عن أنوثة عادية. كانت على سبيل المثال تبدأ مشاريعها الخمسية بعد العشاء ، فتمسح الأرض و تغير الملاءات وووو. الليلة التي سبقت اختفاءها ، كانت قد بدأت بتنظيف الشبابيك ، أخرجت السائل المنظف و قطع قماش قديمة فور ذهاب ابنهما للنوم ، رغم أنه طلب منها الذهاب إلى غرفة النوم. طبعاً لا يلام إذ صرخ في وجهها في هذه الحالة. حرص دائماً ألا يوقظ الصبي بصراخه ، أو إذ شدها من ذراعها و جرها إلى السرير مثلما فعل تلك الليلة ، كان دائماً حريصاً ألّا يؤذيها ، يفتخر بذلك ، حتى أنه لم يصفعها يوماً كما يفعل بقية الرجال الذين تربى بينهم مع نسائهم. و كان يقول لنفسه دائماً أنه سيتوقف أن رجته فعلاً ، إن بكت. لكنها بعد مدة استسلمت و كانت تتوقف عن معاندته و تسمح له أن يفعل ما شاء. لكن ذلك لم يكن بالجديد ، و لا يمكن أن يكون له علاقة باختفائها.
مضى أسبوعان دون أية أخبار عنها رغم أن الزوج أعلن في الجريدة المحلية و اشترى نصف صفحة في (الهند في الغرب) ، و التي طبعت منها نسخ عدة و علقت على الأعمدة في الطريق. كانت فيها صورة لها تحت ضوء الشمس ، كأنها كانت تنظر بعمق خلف العدسة. " امرأة مفقودة " كتب على الإعلان "مكافأة بقيمة مئة ألف دولار " كيف له أن يحصل على مبلغ كهذا ؟ سأل أصدقاؤه. لا يملك هذا المال ، قال ، و سيكون الأمر صعباً ، سيتدبر الأمر ، لكن زوجته أهم من مال الدنيا. ليثبت ذلك ، ذهب إلى البنك ذلك اليوم و طلب استمارات ليقدم طلب قرض مقابل رهن بيته. كما أنه استمر بمكالمة قسم الشرطة ، دون فائدة. "نعمل على القضية " يقولون "فتشنا كل المشافي و أقسام الشرطة و دور العناية الاجتماعية في المنطقة ". حتى أنهم بعثوا بمواصفاتها إلى ولايات أخرى ، و لم يعثروا على خيط يدل إليها. "يبدو أن الموضوع لا يدعو للتفاؤل أبداً ."
أخيراً ، اتصل بالهند ، و من خلال خط دولي متقطع سمع صدى صوته يقول لأمه عما جرى. " ابني المسكين " بكت "تُركت وحيداً ". و تطايرت الكلمة و ترددت في ذاكرته : تُركت . تُركت... كيف يمكن أن يدبر أمور منزله و طفله ؟ "هذا مستحيل ." و عندما اعترف أن ذلك بغاية الصعوبة "هل يمكن أن تأتي فوراً و تبقى فترة معنا ؟" إذا لم يكن ذلك عذاباً لها. "بالطبع " أجابت. ستأتي و تبقى طالما هما بحاجتها. ثم لم هذا الهراء الأميريكي عن العذاب ؟ هو ابنها. أليس كذلك ؟ ستكلم عائلة الزوجة أيضاً. ليس مضطراً أن يتعامل معهم بموضوع حساس كهذا.
خلال أسبوع واحد ، أغلقت شقتها التي عاشت فيها منذ وفاة زوجها ، حصلت على تأشرة سفر اضطراري ، و كانت في طريقها. "كأنها كانت بانتظار حدث كهذا " قالت بعض النساء بغبن. تلك النساء كن صديقات زوجته ، بل ربما "رفيقات " للتصحيح. كانت غامضة و منطوية ، و كان هذا يناسبه تماماً. كان "سعيداً بذلك " أخبرها عدة مرات أنه يحب أنها لا تمضي ساعات في مكالمة نساء هنديات أخريات. أغضبه ذلك الهراء عندها ، ربما لأن الفكرة كانت تتصاعد في عقله عندما لاحظ أ سعادة أمه البالغة في المطار و وجهها الذي بدا فجأة كأنه أصغر بسنين عدة.
"حقاً أن البعض لا يرى إلا ما يريد رؤيته " قال لأصحابه. ألم يعتقدوا أن وجود أمه كان أمراً ضرورياً ؟ "بالطبع " أجابوا. "انظر كيف تدير أمور المنزل بمهارة ، كيف تمسح الغبار عن الأثاث ، تطوي الغسيل و تضعه في أماكنه ، هذه المرأة الذكية اكتشفت كيف تعمل الغسالة في وقت قياسي ". كانت تطبخ أطباقه المفضلة ، و التي لم تنجح زوجته في تعلمها بنفس الطريقة ، و اعتنت بالطفل جيداً. كانت تمشي معه كل مساء ، تغمره في فراشها عندما يبكي ليلاً في غرفته. قال لها أن زوجته لم تفعل ذلك أبداً. كان لديها إصراراً أن يكون مستقلاً و يعتاد الاعتماد على نفسه. " ما هذا الهراء ؟" قالت. " يا لحظك يا رجل !" قال بعض أصحابه ، وافقهم بهزة رأس صامتة ، رغم أنه بعد ذلك قال لنفسه كيف تكون تلك المفارقة في أن يحسد الآخرون رجلاً لاختفاء زوجته.
بمرور السنة الأولى ، أصبحت ذكرى الزوجة تخفت شيئاً فشيئاً. لم يكن حبه لها أقل ، أو صدمة اختفائها كانت أشد وطأة ، و لكن لم تكن تطرق أبواب تفكيره ليل نهار. كان يحدث أن تكون لديه مكالمة مع أحد عملائه ، أو أن يكون سارحاً في ما يراقبه على شاشة التلفزيون بعد العشاء ، أو يقود سيارته لإيصال ابنه إلى درس الرياضة عندما ينسى أن كان له زوجة و أنها اختفت. حتى عندما كان يتنبه أنه بدأ ينسى ، كان يحس بألم بسيط لا يتعدى ذلك الذي يعتريه عندما تلمع أضراسه إثر تناوله شيئاً بارداً بسرعة. كذلك الصبي ، لم يعد يسأل عن أمه. كان ينام طوال الليل و قد زاد وزنه بعض الشيء. " لأنه الآن يأكل طعاماً جيداً " قالت الجدة ، التي أصبح يدعوها "ماما " مثل أبيه.
كان من الطبيعي في تسلسل الأحداث أن أزال صور الزوجة من زوايا المنزل و استبدلها بصوره مع الطفل و التي أخذها أصدقاؤه في رحلة إلى مدينة الألعاب (غريت أميريكا)، و أخرى للصبي في أحضان جدته يحمل بالوناً أحمر من عيد ميلاده. بسمته ، تقول الجدة ، كأنها بسمة أبيه عندما كان صغيراً.
وضع الصور القديمة في ظرف كبير و دفعه إلى داخل درج كي يريها لابنه عندما يكبر. و عندما سألته أمه مجدداً " هل أتخلص من هذه الثياب لأمنحك مساحة في الخزانة ؟" لم يعارضها. و عندما سألته أن يقوم بإجراءات العزاء فقد مر أكثر من سنة ، وافق أيضاً. حتى حين اقترحت أن يتزوج من جديد فهو ما زال شاباً و الطفل بحاجة إلى أم ، ظل صامتاً و لم يعترض.
كانت الأم تطهو طبقها الشهير ، الزهرة مع الكاري ، يوماً و احتاجت بعض الزعفران الذي أصرت أنه سر الوصفة. كانت البقالة الهندية مغلقة في ذلك الوقت المتأخر ، و لكنه تذكر أن زوجته كانت تحتفظ ببعض البهارات في الرف الأعلى. أحضر كرسياً و نظر ، لم يجد أية بهارات ، لكنه وجد شيئاً كان قد نسي أمره : علبة الشاي التي طلب من زوجته أن تخبئ فيها مجوهراتها لحفظها في حال تعرض البيت للسرقة. لم تكن تحتفظ بشيء ثمين فيها ، فقد كانت مجوهرات عرسها الثمينة محفوظة في صندوق تأمين في البنك. فكر أن يأخذ كل الموجودات إلى البنك في الصباح. لكنه عندما رفع العلبة ، تفاجأ بأنها خفيفة الوزن ، فتحها فلم يجد سوى بعض وريقات وردية للف المجوهرات.
وقف للحظات حاملاً العلبة حابساً أنفاسه. لكنه ذكر نفسه أنها لم تكن امرأة أنيقة و منظمة ، كان يضطر دائماً لتنبيهها أن شيئاً ما كان في المكان الخطأ. قطع المجوهرات يمكن أن تكون في أي مكان ، في درج مكياجها ، تحت أكوام الكتب في الغرفة الإضافية حيث كانت تقضي معظم وقتها تقرأ.
رغم هذا ، لم يكن يتصرف بشكل طبيعي ذلك المساء ، لاحظت أمه ذلك. " ما الذي حصل ؟ لا تتكلم أبداً. هل أنت بخير ؟" أجابها بأنه يحس بألم في صدره ، و أنه "نعم " سيرى طبيباً. لن ينسى أن يأخذ موعداً. هل لها أن تتركه و شأنه الآن ؟ سأل.
في اليوم التالي ، ترك عمله بعد الظهر. لم يذهب ليرى الطبيب. توجه إلى البنك. في ركن صغير يعبق برائحة العفن ، فتح صندوق التأمين ليجد كل مجوهرات زوجته قد اختفت. لم تأخذ أياً من أشيائه هو القيمة.
بدأت أطراف المكان تتلاشى و تزداد عتمة و كأنه حدق في الضوء لمدة طويلة. أغمض عينيه بكفيه و حاول أن يتخيل كيف وضعت ابنها في عربته ذلك الصباح و مشت عشرين دقيقة إلى البنك ، فقد كان لديهما سيارة واحدة يذهب بها إلى عمله ، كان يملك أن يشتري أخرى ، و لكن ما فائدة السيارة الثانية ، قال لأصحابه ، و زوجته لا تعرف القيادة ؟ ربما جلست في نفس هذا الركن ، رفعت أقراط الزمرد ، عقد اللؤلؤ ، سلسلة الذهب الطويلة. تخيل كيف لفت القطع بعناية في كيس صغير شفاف كالذي تضع فيه الخضار في البقالة ، ثم وضعته في حقيبتها. أو أنها فقط رمت القطع بفظاظة و لم تكترث للعقد التي تسببتها في السلسلة أو لاحتكاك قطع الزمرد ببعضها في عتمة الحقيبة بينما يضحك ابنها و يصفق لأصوات رنين القطع.
لم يستطع أن يتناول شيئاً على العشاء تلك الليلة ، و قبل النوم ، قضى نصف ساعة برياضة قاسية على جهازه الرياضي في غرفة العائلة. " هل جننت ؟" سألت أمه. لم يجبها. استلقى أخيراً على سريره ، لكن عناءه المفتعل لم يكن كافياً ليجعله ينام كما كان يأمل. كانت تجتاحه آلام بسبب الرياضة القاسية ، رأسه كان ينبض ألماً بخيالاتها التي لم تتركه و شأنه. رفع أغطية السرير فوق رأسه ، و كانت تعبق برائحة شعرها من جديد. أين تكون الآن ؟ و مع من ؟ لا يمكن أن تكون وحدها في كل هذا. أحس أنها لا تستطيع أن تفعل شيئاً وحدها. كان يفكر بها كعروق الزهرة البنفسجية الرقيقة التي زرعاها في حديقة البيت الخلفية ، و إحدى الأيام في بداية زواجهما ، كتب لها قصيدة عن إحساسه هذا. تذكر كيف عندما قرأ القصيدة حدقت في عينيه طويلاً بنظرة لم يستطع تفسيرها ، و أخذت منه الورقة ببسمة صغيرة. كان فكره يجول بكل الرجال الذين تعرفهم ، و لكن معظمهم من أصدقائه الهنود المتزوجين و المستقرين في بيوتهم إلى الآن.
شعر بالسرير حاراً مليئاً بالطيات المزعجة. تقلب مثل طائر مأسور. ضرب المخدة ، رمى الغطاء إلى الأرض ، حتى أنه فكر أن يوقظ الصبي ، يهزه ، و يسأله من كان يلتقي بأمه. و كأن كان للطفل حاسة سادسة ، استيقظ باكياً ، رغم مضي وقت طويل لم يفعل فيه ذلك ، كان يصرخ إلى أن انقطعت أنفاسه. ركض أبوه و جدته ليريا ما أصابه ، و لكنه دفع بهما صارخاً "اذهبا. أريد أمي ".
جلس الأب في غرفة الجلوس بيده كأس براندي بعد أن هدأ الصبي و عاد للنوم ، لم يكن يشرب من قبل. كان يعتقد أن الخمر دواء الضعفاء ، لكنه لا يقوى أن يعود إلى سريره بعد ، و لا المخدات المبعثرة على الأرض. فكر : هل يخبر الشرطة ؟ و ما الفائدة ؟ ماذا لو وصل الخبر إلى أصدقائه ؟ ستقول أمه أنها كانت تعلم منذ البداية. "ألم أخبرك ؟" ستقول. على كل حال ، يمكن أن تكون قد ماتت أصلاً ، قتلها أي شخص كانت تريد أن يوصلها لمكان ما ، أو حبيب متوحش مليء بالغيرة. أحس بمرارة النشوة لتلك الفكرة ، لكنه خجل من نفسه لاحقاً.
جر جسمه إلى سريره عنوة و بترنح من جراء تلك الكأس ، تلمس طريقة إلى الدرج تحت ملابسه الداخلية حيث الظرف المليء بالصور ، سحبه و دون أن ينظر ، مزق الصور قصاصات صغيرة. أخذها إلى المطبخ حيث آلة طحن الزبالة. كانت زمجرة الآلة تهزّ المنزل كله. كان يخاف أن تحس أمه و تسأل ما الذي يحصل ، عندما توقف الصوت ، أخذ نفساً عميقاً ، " النهاية " كان يعتقد ، غداً سيكلم محامياً ليستفسر عن إجراءات الزواج ثانيةً. سيخبر أمه أن ليس لديه مانعاً أن تتصل بأقربائها ليجدوا له زوجة جديدة ، لكن هذه المرة لا يريد فتاة جامعية ، لا يريد فتاة جميلة حتى ، يفضل فتاة بسيطة من قريته الأصلية ، فتاة من عائلة فقيرة تكتفي بما سيقدمه من وسائل راحة ، فتاة تكون أماً حقيقيةً لابنه.
لم يكن يعلم حينها أن تلك لم تكن "النهاية "، أنه حتى حين سيداعب زوجته الجديدة ، طفلة بقلب طيب رغم أن لها مخيلة محدودة ، أو سيساعد بناته لإنهاء وظائفهن المدرسية ، أو يربي ابنه المراهق المتمرد ، سيفكر فيها. هل هي حية ؟ سعيدة ؟ و بغضب شديد مفاجئ يعلم أنه جنوني ، تخيل جسدها معلقاً بأعشاب البحر في قاع المحيط حيث رماه أحدهم ، ممزق ، تتهاتفه الأسماك. لكن كل ما بقي في ذهنه كانت صورة وجهها المليء بالرضى و هي تهز ابنها و تغني بلغتها البنغالية : طفلي الصغير سيتزوج ، ست مئة طبل.... بعد سنين ، عندما يصبح عجوزاً في دار للعجزة ، زوجته قد ماتت ، بناته في مدن بعيدة ، ابنه لا يكلمه ، سيظل مبهوراً بذلك الفرح الجامح في وجهها ، و يقول لنفسه ثانيةً : كم كانت تكرهه حتى تخلت عن كل ذلك.
لم يكن للحين عنده أية من تلك الهلوسات بعد. أطفأ آلة طحن الزبالة بشيء من الرضى ، أحس أنه أكمل عمله على أحسن وجه ، بعد حمام طويل ساخن كما كان يحبه حين تحيل قطرات الماء صدره محموماً محمراً ، ذهب إلى السرير ، و غرق فوراً في نوم عميق.



#أريج_النبواني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- استقالة


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أريج النبواني - الاختفاء