أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - غسان العزة - لكي لا ينسى المخيم -جَميلة-














المزيد.....

لكي لا ينسى المخيم -جَميلة-


غسان العزة

الحوار المتمدن-العدد: 4277 - 2013 / 11 / 16 - 10:07
المحور: الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
    


جَميلة رحلت دون أن يتذكرها المخيم أو يذكرها أبناءه، تلك المرأة لا بل تلك الأيقونة التي نحتت نفسها من جذور التوت في جبال "خلدة"، أمضت حياتها ما بين جامع الشهداء وبرج باريس الدهيشة وقد كان ذلك فضائها اللامرئي والذي تحسسته راحاتها وروحها مع كل نفس إستنشقته هُناك.
هي ليست ليلى أو دلال أو حتى جميلة بوحيرد نفسها، ولكنها كانت الأجمل من ذلك كله، وذلك لكونها أصل الحكاية أو لا أدري إن كان هنالك تخاطُر ما بين "غسان كنفاني" وروحها ليرويها ويروي أرواح كل من سمعوا عنها، فمن تكن "أم سعد" ؟ أندري أن تكون هي ذاتها جميلة !. جَميلة المخيم وفي بدايات الاحتلال لَهت وأخاها "سعيد" الذي أصبح لاحقاً صانع "مكانس القش" بماء نبع في إحدى القرى فألمتهم عيناهُم، عُرضوا أنذاك على طبيب متخصص في ثَقب العيون فأعماهُم دوائه، كانت تقول لي "طفى قلبي الألماني يا ستي .. طلع الخواجا صهيوني يا ستي". لم أنسى يوماً ولن أنسى مجموعة الثقوب المنتظمة في خداها لقد قام بنقش "الشاقل" على وجنتاها بمثقب معدني وهي تظن أن ذلك هو العلاج، وكأنهُ يؤكد على بقاء احتلاله على وجوه الناس ولم يدرك ذاك المسخ الأحمق أن قلوب الناس لا تُحتَل.
لم تَلِد جميلة، عَنَسَت وهي تحتفظ بخرقتها التي أهدتها إياها إمها قبل اللجوء لِتُزَين بها جدائلها يوم يحين عُرسها، أبقتها جميلة محفوظة في صندوق خشبي عتيق وأبت رفعها راية للأستسلام أو التنازل. في كل مفاصل حياتها في العام 48 أثناء اللجوء أوصدت عليها قفلها، في العام 67 أضافت قفلاً أخر أكبر من الذي سبق، أبت رباطة جأشها الأستسلام ولم تَوهَن، إلى أن أتى عُرسها الذي طال إنتظاره في العام 1987 فَكَت جميلة الأقفال وجدلت شيبتها التي هجرها سواد الصِبا وتوشحت بخرقتها البيضاء وزغردت، في تلك اللحظة إنتفض المخيم وتعالت الأغنيات " طالعلك يا عدوي طالع" وعلقت الرايات بالحجارة على أسلاك الكهرباء وإبتسمت لعشاق هذه الأرض السماء.
إلى أن أتى العام 1993، في غرفتها المتأكلة التي تَعبق برائحة المريمية وإحتراق بابور الكاز، لم تكن غرفة الوكالة المتهالكة تلك إلا بوابة الصراع الذي واكبته جميلة، الراديو الخشبي المثبت على أحد جدران الغرفة شوش وأعطى موجاته الغير منتظمة كالعادة، نهضت عن فراشها وعدلته إلى أن هدأت الموجة وإستقرت، نطق المذيع عبر الراديو وقال "منظمة التحرير الفلسطينية إعترفت بقراري 242 و338". لٌجَت جميلة وذهبت إلى صندوقها مسرعة، خلعت خرقتها البيضاء وأقفلت عليها أقفالها كمن تتهرب من أن يسلبها أحد عذريتها الصادقة، من ثم عادت إلى الراديو وقفت عنده وتحسسته كمن يودع حبيباً بلا رجعة، حملته ووضعته تحت مطوى البطانيات، ورفعت جدلة الثوم المجفف عن كرسي القش الموجود في زاوية الغرفة وعلقتها في مكان الراديو، غَدَت أشعة الشمس النافذه من شقوق الباب الخشبي ذو اللون الأخضر ترسم حزوزاً متناسقة على وجهها، لم أكن أدري ماذا تعني تلك الحزوز المتشابكة المتقاربة المتباعدة إلا عندما عرفني "مظفر النواب" على جماليات الرمانة اليدوية. فما أوحته الشمس لي أن جميلة كانت تُريد أن تنفجر، سألتها ببراءة وقتها "ليش هيك عملتي يا ستي.. ليش ظبيتي الراديو؟" أجابتني "ما عاد إلو لزوم يا ستي" وأخرجت المفتاح الحديدي القديم ذو السلسلة الفضية المعقدة من الباب وأخفته في صدرها تحت ثنايا ثوبها المهترئ فنفَذ من ثقب المفتاح خيط أخر للشمس إستقر على ثوبها ينبئ بإكتمال معالم الرمانة اليدوية.
لم أكن مبالياً جداً بما يحصل من حولي في عالم جميلة لكثرة ما حصلت عليه منها من "زبيب وقطين" في وقتها، يُلهيني كما يُلهي كل من في جيلي من أبناء الحارة. كانت معطاءة تلك الجميلة، تُجفِف البندورة فوق سطح غرفتها وتخزنها للشتاء، لم تكن تحتفظ بالمخزون لها، كانت تحتفظ به لجاراتها وأبنائهن ولأنها أيضاً أقدر من يفهم طيات منع التجول البائسة.
تنادينا وتنادي باقي أبناء الحارة بمن فيهم أبناء "برج باريس" جيراننا، لتطهو لنا الكنافة على بابورها المشتعل، تُجلسنا على الحصيرة تحت "معرش العنب" أمام باب غرفتها تُبرِد لنا الكنافة في الهواء وتضعها لنا وتقول "كلو كلو بالهنى والشفى يا ستي.. الله يحفظكوا للإمياتكوا الصابرات يا ستي" وعندما كبرت فقط أدركت أن ما كنا نأكله تحت مسمى الكنافة كان "شعيرية وسكر" لقد كنتي جميلة بحق وستبقي جميلة يا جميلة.
جميلة لم تَلِد ولكن كنا كلنا أولادها، جميلة لم تُزَف ولكن زَفَت نفسها عروساً للأنتفاضة، جميلة لم تُرَمَل ولكن رَملت نفسها عندما تقاعس بعض أبنائها عن "خلدة" وذكرياتها.
ماتت جميلة وهُدمت غرفتها وقُطعت عنبتها وحُطم باب غرفتها وبيع بابورها للنخاس، ولكنها أخذت خرقتها إلى القبر معها لفت بها المفتاح، وكأن "ناجي العلي" ينبؤنا بأن قلبه هو قلب جميلة فأُسدلت على راحته الستارة وتوقف نبضه عن الرسم، ماتت جميلة وتراكم المخيم فوق المخيم ولم يعد يذكرها أحد هناك.
كانت تلك المرأة هي "جميلة حنين عليان" القاطنة حارة السلام في مخيم الدهيشة، لمجدها ومجد كل الثائرات نُغني ولهُن نحني القامات.



#غسان_العزة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اليسار الفلسطيني اليوم وموقعه من اليسار.. يسار اليمين ام يمي ...


المزيد.....




- الهجمة الإسرائيلية المؤجلة على إيران
- بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ...
- أصولها عربية.. من هي رئيسة جامعة كولومبيا بنيويورك التي وشت ...
- مصدر التهديد بحرب شاملة: سياسة إسرائيل الإجرامية وإفلاتها من ...
- الشرطة الفرنسية تستدعي نائبة يسارية على خلفية تحقيق بشأن -تم ...
- السيناتور ساندرز يحاول حجب مليارات عن إسرائيل بعد لقائه بايد ...
- إعادة افتتاح متحف كانط في الذكرى الـ300 لميلاد الفيلسوف في ك ...
- محكمة بجاية (الجزائر): النيابة العامة تطالب بخمسة عشر شهرا ح ...
- تركيا تعلن تحييد 19 عنصرا من حزب العمال الكردستاني ووحدات حم ...
- طقوس العالم بالاحتفال بيوم الأرض.. رقص وحملات شعبية وعروض أز ...


المزيد.....

- سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول / ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
- سلام عادل -سیرة مناضل- / ثمینة یوسف
- سلام عادل- سيرة مناضل / ثمينة ناجي يوسف
- قناديل مندائية / فائز الحيدر
- قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني / خالد حسين سلطان
- الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين ... / نعيم ناصر
- حياة شرارة الثائرة الصامتة / خالد حسين سلطان
- ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري ... / خالد حسين سلطان
- قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول / خالد حسين سلطان
- نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - غسان العزة - لكي لا ينسى المخيم -جَميلة-