أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - حسن ابراهيم أحمد - تنمية الثورة، مهمات ملحة















المزيد.....



تنمية الثورة، مهمات ملحة


حسن ابراهيم أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 4250 - 2013 / 10 / 19 - 10:17
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


بعد السكرة تأتي الفكرة، والمخاض يعلن ولادة مولود جديد. وسواء كان ناضجاً سليماً، أم خديجاً ضعيفاً، فإن مستقبله يتحدد في اللحظة التالية. عند هذه اللحظة الجديدة يجب ألا ينظر إلى الوراء، بمعنى ألا يشكل الماضي محور جهد يحتاجه المستقبل. قد يكون هذا الماضي مترعاً بالأخطاء، لكن يجب ألا يتوقف التحرك إلى الأمام، إلا أن يحتاج الواقع الاجتماعي إلى ترميم.
يقولون، الثورة كالقطة تاكل أبناءها، قد يكون هذا صحيحاً، لكن يجب ألا يتلهى الحراك بتقديم الضحايا على مذبح الأخطاء للتصويب وتطهير جسم الثورة، إذ أنه عند الغوص في مرحلة كهذه، وفي مهمة كهذه، يكون ضياع الجهد الثوري واستنزاف الإرادات حيث تبدأ التصفيات والتصدعات والأخطاء، ولا تنتهي، ويحكم الشك نشاط الثوار، ويبدأ العوار بالظهور، ويبدو للبعض أن تنقية الثورة، هو الخطوة الأولى الصحيحة لتحقيق الطهرانية التي بدونها لا انطلاق إلى المستقبل، لما تشكله الأطماع إلى المكاسب من إعاقات محتملة. والخشية في هذه الحال أن تقف الثورة عند هذه النقطة أو العقبة، فلا تتجاوزها، ويكون ما أنتجته مسخاً، أو نكون بحاجة إلى ثورة تالية على الثورة. والإشارات القادمة من تونس ومصر، أجد فيها مبرراً لما أقول.
من كان يرى أن الطهرانية الثورية تحكم المتحركين وتشكل بنيتهم الفكرية والسلوكية، يكون واهماً، فالثورة والثوار أيضاً هم تعبير عن مصالح. الثورات التي سُمّيت بالربيع، يجدر أن تُسمى خريفاً في بعض حالاتها، بل شتاء صقيعياً، بل محنة وكارثة، فلا مجال لمقاربتها بالربيع، بالنظر إلى الدمار المادي والمعنوي والأخلاقي، حيث لا يمكن وصف تدمير الأوطان وتمزق اللحمة الاجتماعية وانتشار الموت والدماء إلى حدود مرعبة، بأنه نشاط أو فعل ربيعي، ولا يمكن إعفاء الثوار من المسؤولية عن ذلك، مثل الأنظمة، وفي حالات أكثر، ما ينزع عنهم صفة الثوار حين يتوجه عنفهم ضد قوى الداخل من أبناء الوطن، ولن يكونوا قادرين على التباهي بثورتهم في المستقبل لأنها ولّدت كل هذه المآسي. فالثوري الحقيقي يكون حريصاً على كل قطرة دم، وعندما يرى أن الدماء يمكن ان تسيل بغزارة، يعيد التفكير بأسلوب الحراك، وزمنه ووسائله وقواه..إلخ. فعندما نريد إنهاء وضع لا أخلاقي، يجب أن نتوجه إلى ذلك بأخلاقية أرفع ليست موضع شك.
لاأرى أن المنتصر يجب أن يشعر بالفخر بما أنجز في حالة كل هذا الدمار في بلده، وعندما يكون الموت كثيراً، أو عندما يكون الأجنبي قد وجد موطىء قدم في بلده بحجة المساعدة. هذه أشياء تجلب الخزي. لكن عندما تحدث دون القدرة على العودة عنها، فالأولى والأهم التفكير بالخطوة التالية، وعليها يمكن أن يتوقف لتصحيح المسار، وإن كان الزمن متأخراً، حيث يجب أن تنصب الجهود الوطنية الصادقة، ويتخذ الحراك مسارين متوازيين يعتبران تنمية للثورة. الأول، يتمحور حول تجاوز السلوكات السلبية وإزالة آثارها، والثاني، وضع أسس للمستقبل والانطلاق بلا تردد.
هل يفقد الثوري عواطفه، أم هل يصاب بـ(العمى الثوري)، وربما الصمم وغيره؟ تحضرني حكاية المرأتين اللتين تنازعتا على طفل، تدعي كل منهما أنها أمه، وعندما لم تتراجع أي منهما، قال لهما القاضي، سنقسم الطفل نصفين، لتأخذ كل منكما نصفاً، عندها صاحت الأم الحقيقية: لا، أعطها إياه.
الثائر الحقيقي لا يدمر ما يثور من أجله، وتكون مسؤوليته أن يجمع لحراكه أسباب النجاح، فإن وجد أن الثمن أكبر من المنافع، يتوقف، يؤجل، يغير الأسلوب..إلخ، أما أن يفكر بالحصول على النتيجة بأي ثمن، يكون سعيه مرفوضاً، لأن بعض الأثمان لا يجوز أن تدفع، والتفكير بدفعها جريمة، والعمى عنها وعن تقديراتها يعد نافياً للثورية. لكن عندما يحدث ما يحدث ويصبح واقعاً، يكون الهدف الخروج من المحنة أياً كان حجمها، عندها يمكن تنشيط العمل الثوري للخروج إلى مواقع الأمان والمأمول، وهذه عملية شاقة وطويلة، أطلقت عليها (تنمية الثورة)، ولا أدري إن كان هذا التعبير أو المصطلح قد استخدم سابقاً بهذا المعنى. وهو يؤشر إلى طريقة استهلاكنا (تنفيذنا) للعمل الثوري التالي لإسقاط البنية التي تحدث الثورة ضدها، والطريق الذي سيسلك لإنجاز المراحل التالية.
1- رأب الصدع الوطني: والمباشرة بذلك بإخلاص، تقدم الطمأنينة للقوى التي توجد على الضفة الأخرى، أو خارج الحراك، سواء انتمت إلى منظومة سابقة، أو ربطتها معها مصالح ومواقع معينة، ولم تكن معنية بالتغيير. إن التفكير بمنطق الثأر وتصفية الحسابات، أو اجتثاث قوى معينة، لا ينم عن عقل ثوري بنائي يطمح إلى وطنية مطمئنة تتجاوز الإعاقات، وتنزع الألغام. استحضر هنا موقف معاوية من الأحنف بن قيس بعد صفين وبعد أن أصبح الخليفة، فقد عدّ عليه ذنوباً، فردّ الأحنف: ((يا أمير المؤمنين، لا ترد الأمور على أعقابها، أما والله إن القلوب التي أبغضناك بها لبين جوانحنا، والسيوف التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا، ولئن مددت فتراً من غدر، لنمدن باعاً من ختر، ولئن شئت لتستصفين كدر قلوبنا بصفو حلمك)) قال ((فإني أفعل)).
الواقع مليء بالمتناقضات ولا يستطيع أحد أن يوجه الناس بالرومونت كونترول، وللناس قناعاتهم الفكرية والاجتماعية وغيرها، والثورات ليست بريئة من الأخطاء الكثيرة والمركبة، ولا من الآثام والارتكابات التي حصلت بوعي وتخطيط أو نتيجة استغلال المناخ، وكل ذلك محسوب على الثورات، أرادت ذلك أم لا، لأنها هي التي صنعت المناخ.
من هنا تكون المهمة الأولى التي تضمن سير الثورة إلى الأمام، وتحقيق أهدافها، أو تبقى على خط سيرها الثوري، هي أن تجمع شتات المواطنين المتذررين أو المتناحرين، على أساس وطنيتهم ليس إلا، دون النظر إلى الوراء أو تبني أحكام مسبقة. وأن يصب جهدها لإعادة اللحمة الاجتماعية، وبلسمة الجراح، وأن يفهم كل مواطن أن الثورة جاءت لتعطيه لا لتسلب منه، ولتصحح مسار الحياة وتقدم الفرص، وتحاسب المرتكب فقط، ليكون ما بين يدي الناس أمتن وأجمل يأخذهم باتجاه المستقبل بثقة لا تراجع فيها.
وفي هذا المجال ليس هناك وصفات جاهزة بمقدار ما هي مستنبطة من لحظتها، وليس هناك أساليب دون غيرها، لأن التحرك ينبع من واقع الحياة الاجتماعية بكل قنواتها، ويحتاج إلى الإرادة الفاعلة والفكر المتحرر والحس الوطني.
إن تحكيم الضغائن والأحقاد، القديمة والحديثة، يمكن أن يجر العمل الثوري إلى متاهات تخرج عن القيم الإنسانية والوطنية، إلى عدمية بشعة، وهذا يبقي البلاد رهينة الوضع الذي عملت على الخروج منه.

2- معالجة الانقسامات الوشائجية: من الانقسامات ما يكون سياسياً، ومنها ما يكون على مستويات ثقافية عقدية (طائفية ومذهبية)، أو إثنياً على أساس أقوامي. ما كان سياسياً تسهل معالجته، فعالم السياسة هو عالم الممكنات والحوار والاصطفافات المتغيرة، حيث تبدو الانقسامات السياسية مقدوراً عليها، وفي حال استحكم الخلاف بين القوى السياسية وامتنع التآلف، فإن التوجه المعلن باتجاه الديمقراطية، والذي كان العنوان الأبرز للثورات، يسهّل حل الإشكاليات على المستوى السياسي، بأن يتحول غير الراضي إلى المعارضة، وعندما يصبح جديراً وقادراً على أداء دور فإن الديمقراطية تكفل له فتح الأبواب لذلك.
لكن الانقسامات الأكثر شراسة وعمقاً هي الانقسامات العقدية والعرقية، فهذه تكون من العمق والتمكن بحيث تثيرها الغرائز، ولقد أثبتت العلاقات الوشائجية من هذا الصنف، أنها عصية على الزوال إلا عبر الأزمنة الممتدة، والأجندات الثقافية التسامحية، والنشاطات السياسية والاجتماعية التي تجعلها بمنأى عن الاستفاقة كل حين وآخر، حين يحلو لبعض الهواة والمغرضين (أصحاب الأغراض) أن يتاجروا بكل كبيرة وصغيرة في حياة فئاتهم، بحيث يتم اللعب على الغرائز وإثارة النعرات.
في البلاد المنقسمة، والتي يتغنى أبناؤها بنعمة التنوع والتعايش، تكون الألغام المطمورة كثيرة وسريعة الانفجار، وتحتاج إلى القوى الديمقراطية كي تنزع فتيل التفجير، ولا معدى من اللجوء إلى العلمانية والعقلانية، جناحا الديمقراطية. وعندما لا تكون الديمقراطية شعاراً للتسلق، يمكن أن تكون حلاً أو إطاراً لحلول يصطنعها المجتمع بحراك قواه المنظمة، والتي لديها القدرة على تجاوز الأخطاء التي تتسبب عن نشاطات أو ثقافات بعض الأشخاص أو الفئات. ومن الهام جداً أن تتنبه القوى الديمقراطية الصاعدة لحراك الكتل الوشائجية، وهي كتل صلبة ومتماسكة، يظهر تماسكها وصلابتها أكثر في الأزمات، خاصة حين يكون المجتمع المدني وقواه مغيباً، ولا حضور فاعلاً إلا لقوى المجتمع الأهلي بفرعيه النسبي والعقدي. هذه الكتل تواجه الأزمات مواجهة كيانية، أي بكامل حجمها الذي تتصور أنه مستهدف، بالتالي فإنها لصلابتها، يصبح فعلها كفعل الكتل التكتونية الصلبة التي توجد تحت القشرة الأرضية، إذا يحدث تحركها الزلازل. هكذا هي الكتل الإيمانية أو الأقوامية التي تشعر بالخطر الكياني، ما يدفعها للتماسك، وتكون أكبر عائق للديمقراطية. من هنا تكون العلمانية سبيلاً ناجعاً، على ألا تكون العلمانية الصلبة.
هنا يمكن أخذ الدروس مما حصل في العراق، وما يمكن أن يحصل في سورية، كبلدين متنوعين. وإذا كانت تونس لا تعاني المشكلة بهذا الحجم، ومعاناة ليبيا هي من جهة أخرى، فلدى مصر واليمن حالة تقتضي المعالجة، لكنها لا تبلغ ما في العراق وسورية، وكانت سورية قد نجحت في تجاوز أية مفاعيل سلبية للانقسام الوشائجي، لكن الشيطان قد يلعب لعبته خاصة إذا كان شيطان الأصولية والتطرف المدعوم امبريالياً. والشيطان شاطر، كما يقول العامة.

3- الخروج من العنف: الخروج من العنف، هو خروج من ثقافته أصلاً، لكن بعد حدوثه، يكون الخروج بالتخلص من آثاره ومناخه، والآثار والمناخ حالة نفسية سياسية اجتماعية ثقافية، يمكن أن يكون للجانب المادي دور فيها، حسب التوزيع العادل للثروة وتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة والقضاء على الفساد..إلخ.
العنف في نظر الأنظمة والقوانين حق تمارسه السلطات وتحتكره الدولة، لمواجهة من يعكر صفو حياة المواطنين والبلاد، ويكون ضابطه القانون. لكن قد يتحول إلى ذريعة أو وسيلة لمواجهة الخصوم من أي صنف كانوا، وأول من يجب عليه رفضه هم ضحاياه من القوى المغبونة المستبعدة بالعنف، والتي عدّوها هو العنف الموجّه ضدها أو الذي جوبهت به. وعليها أن تفهم أنه ليس من الواقعي أن ينسحب نظام من الوجود بمجرد أن قال له خصومه ومنافسوه: نحن أولى بالحكم والسلطة، وأي نظام يواجه مثل هذا الطلب سيدافع عن نفسه بسلاح الشرعية التي جاءت به، وقد يستخدم العنف المرخص له بالقوانين، وغير المرخص، أياً كانت درجته أو شكله أو مداه.
عندما لا يجد هذا النظام أن هناك قوى ترد على عنفه بعنف مماثل، ويتحمل الناس قسوته تنتصر الإرادة السلمية، وتكون فاعلة، كما قد تكون قد كسبت ثقة الشعب وتعاطفه مع صبرها وتحملها، حيث لا يستطيع أي نظام الذهاب بالعنف إلى أقصاه وهو لا يجد من يرد عليه لفترة طويلة، لأن هذا سيجعله مداناً حتى من قبل أنصاره ويقلب المسألة ضده، فيجعله يدفع الثمن، لكنه سيتشبث باستخدام العنف ما دام الآخر يواجهه عنفياً، هذا إذا لم يكن هذا الآخر أيضاً يستمد قوته واندفاعه من حالة أجنبية.
يمكن لكل هذه الأفكار والحالات أن تجد واقعها التطبيقي في الحراك الجاري في سورية، وتبادل الاتهامات بالعنف، حتى عندما نسقط مقولة وجود طرف ثالث قد أجج النار بين الطرفين حتى اقتنع كل منهما أن العنف الموجه ضده، هو من الطرف المقابل لا من الطرف الثالث المتواري والذي يؤجج النار، جعل كل طرف يسبغ على تصرفه حالة من الشرعية وحق الرد، علماً أن الجميع خاسرون، لكنني أشعر أن الحالة الثورية هي الخاسر إذ تفرط بأخلاقيتها الثورية وتندفع باتجاه العنف بطريقة كلبية. العنف قد يستخدمه النظام ضد الشعب الأعزل إلى حين ثم يتوقف حين لا يجد مواجهة ويكون الرابح هو هذا الشعب الصابر والعاض على الجراح، وهذا الربح الأخلاقي والمعنوي سيوضع في حساب القوى الثورية ويرجحها، لكن عندما لجأت إلى العنف، لم يعد يصح لها اتهام الآخرين به، فعندما اتهم الآخرين بشيء يعيبهم من الأفضل أن أكون بريئاً منه.
لا أستطيع وسم من يستخدم العنف ضد أبناء وطنه بالثوري، والربط بين الثورة والعنف لم يجلب على البشرية إلا المآسي. مع كثر الثورات التي لجأت إليه تحت يافطة (العنف الثوري). كما لا أرى أن العنف يمكن أن يكون طريقاً لتحقيق الديمقراطية، فهي أمان ومسالمة لا عنف، والعنف يولد العنف لا السلام. ومن تهاون في استخدام العنف ليصل إلى مبتغاه السياسي، ثم أصبح في الحكم، لا يستطيع أن يقدم الضمانات على أنه لن يستخدم العنف ضد مناوئيه ومنافسيه السياسيين في المستقبل إذا هددوا مكتسباته.
الثورة الحقيقية هي ثورة لا عنفية ما لم تكن ضد مستعمر، ولا يصح أن تتماهى مع العنف، فهي حراك هدفه تجاوز العنف المتفشي في المجتمع وضده، وخسارتها كبيرة حين تتحول إلى العنف. هنا يبرز المبرر الأخلاقي، حين توضع الأخلاق مقابل العنف، فمن كان في صف الأخلاق لا يكون عنفياً، ومن كان عنفياً لا يكون في صف الأخلاق، والشرعية تحددها المبررات الأخلاقية، التي قد يحلو للبعض في عصرنا تجريد السياسة منها لحصر السياسة في ميدان المصالح. وعلى القوى التي تتصدى لحالة لا أخلاقية ولا شرعية وفاسدة، أن تكون على سوية أخلاقية عالية. وحين تسقط ثورة ضد نظام في وحول العنف تتساوى معه في لا أخلاقيته التي بررت بها حراكها.

4- تمكين الديمقراطية القادمة: إذا كانت الحالة السابقة تخص الحالة السورية بشكل أوضح، فالكلام على الديمقراطية يخص الثورة في تونس ومصر واليمن حيث أصبحت القوى الثورية مؤتمنة على الديمقراطية وراعية لها، أما في ليبيا فقد شوّه العنف الأمبريالي أيّ توجه سيحصل ووضع البلاد على سكة تبعية لا مرسى لها.
يظهر فساد البنى السياسية والاجتماعية لمن هم خارجها أكثر ممن هم داخلها، لأن زوايا النظر مختلفة، والغاية منه مختلفة، والعيون الرائية مختلفة، فمن كانت له مصلحة، قد لا يرى الثقوب والثغرات في الجدران قادرة على تقويض البنى، مثلما يراها المبعدون أو غير المنسجمين، لكن حذار أيضاً من رؤية هؤلاء غير النزيهة.
الديمقراطية تخرج الناس من الضياع كما يفترض، خاصة في الحالات شمولية النهج ودوغمائية الفكر، والتي يشغل فيها الاستبداد موقع الحسم بين الخيارات غير المتعددة. وهي خروج من هذا الواقع وتمرد عليه عن سابق وعي وتصميم، وآلياتها الواضحة تسعفها، ما لم تتحول إلى دكتاتورية صناديق، أي ذلك النوع من الديمقراطيات التي لا يتاح فيها سوى لأغلبية دائمة لا تتغير أن تنجح في الانتخابات ما يعني نفي الأقليات واستبعادها بمنطق الديمقراطية وآلياتها.
وإذا كانت الديمقراطية هي حكم الأكثرية مع ضمانات للأقليات كما يؤكد آلان تورين، فإن ذلك لا يأتي بالأمنيات والأدعية، إنه يحتاج إلى عمل وجهد وتربية ومقدرة على الخروج من الأخطاء حين تقع بشفافية تعبّر عن نفسها. وهذا كله يسير بفعل الديمقراطية ومنطقها، لا بفعل العنف والإكراه. وإذا أوصل العنف إلى موقع ما، فليس محتملاً أن يكون موقعاً للديمقراطية، ولا يستطيع أحد أن يصل إليها بغير أدواتها ومنطقها وعقلها. والثورات الباحثة عن أفق ديمقراطي يجب أن تعي ذلك، وبوعيها تحكم على نهجها.
لا يصح أن تنفي الديمقراطية أعداءها بأساليب عنفية أو إرهابية وتبقى حينذاك ديمقراطية، إنها تبقى، لكن شيئاً آخر يتوهم أنه الديمقراطية، لكنه يقطع معها. وهنا يجد النهج الديمقراطي مشروطيته، التي عليه أن يستكملها بأن يصل إليها بطريق ديمقراطي لا عنفي.
عندما تأتي الديمقراطية بقوى ضعيفة الصلة بالديمقراطية وعياً ومنهجاً تاريخياً إلى الواجهة السياسية، عن طريق صناديق الاقتراع، قد ينظر البعض إلى ذلك بمنطق الوصول إلى الكارثة، وقد يكون ذلك حقيقياً، لكن يجب الالتزام بهذه النتائج ما دامت تحترم الشكل الديمقراطي في التعاطي السياسي. لكن المأمول أن الانخراط في هذا المناخ، قد يجعل القوى التي تنظر لنفسها أنها كانت مضطهدة ومستبعدة، وهذا ما تركها غاضبة متشنجة، يجعلها تشعر بالاسترخاء والاطمئنان، فتصنع نفسها بنفسها وتربي جماهيرها على نجاحاتها وإخفاقاتها. المرحلة التي تلت الثورات في تونس ومصر، هي التي أوحت بهذه الفكرة، ويمكن اعتبار المرحلة بالنسبة للثورتين لاحقة بمرحلة المخاض الثوري، الذي لم ينجب مولوده المأمول حتى الآن، لأن القوى التي أصبحت في الواجهة لم يعرف لها قدم ولا يد في الديمقراطية، ثقافة وممارسة. والرهان على القوى الديمقراطية الثورية التي لم تنسحب من الميادين حارسة لثوراتها، ولا تسلم إلا بتمكين ديمقراطية لا تنتجها قوى غير ثورية ولا ديمقراطية تعود القهقرى إلى الماضي فتعيد إنتاجه.

5- التفلت من التبعية: التبعية من سمات الأنظمة التي قامت الثورات ضدها، مثل نظام مصر السابق، لكن الأسوأ أن تنجز الثورات التغيير بمساعدة الأجنبي ووسائله العنفية كما حدث في ليبيا، وهو يشبه ما أحدثه الغزو بالعراق، ومثلما يحاول بعضهم فعله في سورية. عندها لن يكون للأنظمة الجديدة فكاك من تبعية لأولياء نعمها.
من له إطلاع على السياسة وعملياتها ومنطقها، يعرف أن وقودها ومحركاتها هي المصالح وشياطينها الفاعلة لا تحركها سوى المصالح، حتى المساعدات التي تقدم باعتبارها إنسانية، قد لا تخلو غاياتها من المصالح. لكن الأهداف الغائية قد تلغي وطنية الحراك، خاصة عندما تكون لقوى جبارة. والقوى الكبرى توظف طيفها الجيوبولوتيكي، وتبحث عما يقوي مواقعها ويعود عليها بالفائدة، وهي تحسن الحسابات المصرفية، فتكون حساباتها قائمة على حجم الفوائد التي تجنيها من مساعدة القوى المندفعة للتغيير تحت إسم الثورة، أو الاحتجاجات، معتبرة كل ذلك استثماراً طويل الأمد أو قصيره. إذ في بال القوى الكبرى استغلال ثروات تحلم بها، خاصة نفط العراق وليبيا، وما تبشر به منطقة شرق المتوسط، ما يعطي التدخلات الخارجية كامل تبريراتها، حين تسعى وتقدر على ارتهان السياسة العامة للبلدان التي تلقت ثوراتها أو حراكاتها أو نظم حكمها، المساعدات.
من هنا يكون من أولى المهمات التي تضطلع بها النظم التي استحدثتها الثورات، أن تعرف ما لها وما عليها تجاه القوى الخارجية. وهي ما لم تكن جريئة ووطنية بحزم ستقع في أسر هذه القوى لأزمنة بعيدة. وقد يجعلها أسيرة هذا الموقف، تلك الممنونية العالية تجاه المساعدات التي تلقتها من الخارج، مضطرة أن تدفع الثمن كما يحدث في ليبيا، رابطة العلاقة أثناء الحراك، وحماس الخارج للتدخل، باستمرارية هذه العلاقة، وكأنها امتداد في السياق ذاته. بينما يحتاج الأمر إلى تقدير الربح والخسارة، ومدى تأثير ذلك على القرارات الوطنية التي تحلم قوى الثورة بإنجازها لتأكيد الاستقلالية كمنجز ثوري.
الغرب الأمبريالي لن يتوانى في محاولة إبقاء نير التبعية في رقاب الشعوب التي قبلته. والتبعية لعنة تاريخية، سواء كانت صغرى قوامها الاقتصاد والسياسة، أو كبرى قوامها الثقافة والفكر ونظم العقل، بحيث تصبح مستدامة. وحديثها طويل متشعب أعددت فيه دراسة واسعة، أرجو أن تنشر حين يكون ذلك ممكناً.

6- الموقف من القضية العربية فلسطين: وهذه من أبرز محددات السياسة العربية منذ أوائل القرن العشرين، ولا تزال. وحولها يتمحور الحراك السياسي العربي، على تراجع في ذلك. لكن هذا الحراك لم ينجز شيئاً حاسماً، إذ زادت الأرض المحتلة، وأضيفت إليها أراضي عربية أخرى، دون أن يستطيع النظام السياسي العربي تلافي أيّ من أخطار ذلك وتردداتها، في حين عبّر عن عجزه وخوره.
لقد عاشت المنطقة العربية على وقع تداعيات ومفاعيل القضية الفلسطينية وتجاذبات القوى السياسية حولها، ودخل تأثيرها كل بيت في بعض البلدان العربية الواقعة على التماس معها. وأصبحت أبرز مقاييس العروبة والتقدم والعمل العربي المشترك، والذي لم يكن فاعلاً في أغلب خطواته، كما أصبحت مجالاً لأشد الضغوط العالمية، ومحور الاتصالات بين العرب والعالم. ويمكن القول إن نظرة الغرب والعالم إلى المنطقة تتحدد بالنظر إلى مغتصبي فلسطين والنفط. وربما جرى السعي عالمياً لربط الموضوعين ببعضهما بشكل أوثق.
لقد انتقل الحقل السياسي العربي من التوحد حول قضية فلسطين إلى الانقسام حولها، والتشرذم على ضفافها، لكن التوحد حولها لم يكن يوماً عملياً وفاعلاً. والآن، بعد أن قالت الجماهير كلمتها في الثورات والحراكات، ولم يعد القادة المتهمون دائماً بالتقصير فيها، وبعد أن اتضح حجم تأثير هذه القضية كمحورٍ هامٍ من محاور السياسة العالمية، لا بد من وضوح الموقف وحسم خياراته.
يتأكد إصرار الغرب على جعل اسرائيل سيدة وحاكمة على توجهات المنطقة وقواها، وربما أصبح واضحاً للعرب أن مكانتهم ومستقبلهم رهينة اتخاذ موقف حاسم وواضح تجاه هذه القضية. بل لقد تأكدوا ربما أن الغرب يجهد لكي لا يسمح لقامة دولة عربية، ولا لقامة العرب أجمعين أن تعلو فوق قامة اسرائيل، بالتالي عليهم أن يختاروا، إما تضاؤل قاماتهم، وطأطأة رؤوسهم أكثر، أو حسم خياراتهم مع اسرائيل ومن وراءها. وهذا برسم الأنظمة المنبثقة من الحراك وقدرتها على تفعيل السياسة العربية العاجزة، وحيويتها في ذلك، بمعنى الانتقال من المفعولية إلى الفاعلية، وذلك ممكن.
إذا كانت ترددات القضية الفلسطينية العربية، وصداها، قد غابت عن الحراكات التي كانت مشغولة بالقضايا الداخلية للبلدان، فعلى القوى صانعة الحراك والنظم المنبثقة عنه، أن تستعيد زخم القضية، لأن الهمَّ الداخلي سواء تراجع أم لا، هو مربوط بها، ولا تصح الاستقالة من مواجهتها، ولا طلب الاستعفاء من تحمل مسؤولياتها. وأرجو أن يكون في كتابي (أبيض وأسود في الحراك الثوري العربي)، بعض ما يغني الموضوع.

7- الموقف من العروبة: العروبة مثل القضية الفلسطينية، ليس الموقف منهما واحداً في الدول التي حصلت فيها الحراكات، فحضورهما القوي في سورية مثلاً، مختلف ربما عن حضورهما في دول أخرى بفعل الظروف. لا حضور له فاعلية في العالم، إلا من خلال التكتلات أو الكتل الكبرى التي تؤكد عناصر الجيوبوليتيك، التي تأكد العرب أن أبرزها في بلادهم هي الموقع والنفط ووجود اسرائيل بينهم، ما جعل الجهد الغربي ينصب على بقائهم متذررين، ما يخدم وجود اسرائيل ويمسك بالثروة النفطية التي تريد أمريكا أن توزعها على العالم بقطارتها.
بقي صوت العرب ضعيفاً ومشتتاً بفعل هذه العوامل، وهو صوت لا يوازي ما يحوزونه من مقدرات تسعفهم في التعبير القوي والفاعل عن وجودهم، وهو الذي يعبّر عنه بالوحدة العربية تعبيراً لائقاً يخدم قرار الوجود الفاعل والموقف الواحد، دون أن تدار رؤوسهم من الخارج بفعل الشياطين التي يصنعها الغرب لهم، ويضخها كما تضخ فيروسات الكومبيوتر لتفعل فعلها.
أعلى أشكال التعبير العربي يكون من خلال الوحدة التي رفعت شعارها قوى عدة وأيدتها جماهير واسعة، وأدنى هذه الأشكال، هو بعض التنسيق فيما يخص العرب وقضاياهم المشتركة أو المتشابهة. ما يجعل معيار الالتزام بالوحدة وإعطائها الأهمية، يؤكد أن المكانة الفاعلة عالمياً، رهينة المستوى المتحقق على هذا المقياس الذي يجب أن يرتقوا به فكراً وممارسة، لإخراجه من حيز العواطف والغرائز والعصبيات إلى فضاء القومية الفاعلة والمتفاعلة إنسانياً. ما أصبح العرب متأكدين منه هو محاولة الغرب الخبيثة لمنع وصولهم إلى التوحد، وإبقاء تلافيهم على الشكليات غير الحاسمة في خدمة وجودهم، حتى أصبح خوفهم من بعضهم يفوق خوفهم من الآخر المتربص، قريباً أو بعيداً، والانسياق وراء فكرة أن الحماية الفاعلة للعربي من العربي الآخر، لا يضمنها سوى الغرب والتبعية له.
هذا الواقع لا يحتاج أن تعيه قوى الحراك الثوري فقط، بل أن تعمل على وضع الاستراتيجيات للخروج من حالة التذرر في الرأي والموقف حول القضايا الهامة، ولنفي الهيمنة الغربية على القرار العربي والركون إلى الواقع المستنقع. إن غياب وعي المسألة أو التعبير عنها من قبل المتحركين في الشوارع في لحظات الحراك، من المفترض أن يتغير بعد أن تستقر الأمور، وتتلمس الشعوب مصالحها، فتتصرف بناءً على ما وعته خدمة لمصالحها التي غامر بها الحكام.

8- تحديد موقع الدين في الواقع السياسي: لا أحد ينكر دور الدين القوي في الواقع العربي، ولا أحد ينكر أهمية الدين للمجتمع. لكن لم يعد محتملاً بقاء فوضى تدخل الدين في كل شاردة وواردة من شؤون الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية العربية. وذلك ليس من قبل مؤسسة أو مرجعية واحدة، بل من قبل كل رجل دين على حدة، حين يريد رفع صوته ممثلاً للدين (الصحيح)، وهذا أسوأ أشكال وصاية الدين على الواقع الذي لا يقدر على الخروج منها. من المفترض أن يكون العرب عبر المراحل التي مروا بها، قد تأكدوا من الدور السلبي للانفلات التشريعي، وانفلات إطلاق الأحكام في القضايا التي تمس الأمة. واستمرار هذا الواقع سيدفع إلى مزيد من التردي والتراجع. وما يريدنا بعض رجال الدين أن ننخرط فيه، هو ما جربناه على مدى قرون، وكان نصيبنا الإطراد في التراجع مقارنة بما يشهده العالم. وربما كان حضور الدين أكثر من اللازم في كثير من الجوانب وبكثير من الفوضى، والعرب لم ينقصهم يوماً رجال دين يتدخلون في كل شاردة وواردة، في حين عانوا نقصاً شديداً ومزرياً في مجال العلماء في العلوم الكونية أو الإنسانية. وفي حين بقي النص القرآني عامراً بالقيم الرفيعة، كانت هذه القيم معدومة في الواقع الاجتماعي عبر التاريخ الإسلامي. المهم في الواقع الجديد، بعد الحراك الثوري، وعلى ضوء الاستنارة التي تحصلت عبر العقود الماضية، أن تكون القناعة قد حصلت بأن الدين يجب ان يكون ثقافة إيجابية ونهجاً أخلاقياً روحياً، وأن يترك حقل السياسة، كي لا يسيء أحدهما للآخر. فالسياسة احتمال ومصالح ودرجات من الممكن وفنون من التحايل والآلاعيب أحياناً، وهي بذلك تبتعد عن القيم الثابتة والأخلاق كثيراً، مما لا يلائم الدين وتوجهاته الإطلاقية.
الدلالات تشير إلى قوة المعركة فيما إذا أرادت القوى الثورية ضبط انفلات التعبير الديني، إذ من غير المعقول أن يبلغ عدد القنوات الفضائية الدينية في شهر أيار 2012 (137) قناة حسبما ذكر رفيق نصر الله على قناة ن ب ن اللبنانية. وأن يكون عدد القنوات الغنائية الهابطة (129) قناة، كما ورد على قناة نسمة التونسية 4/5/2012 وخلال البرنامج المميز (مغربنا في التحرير والتنوير). كلا النوعين وجهان لعملة واحدة، تبرز محنة العقل ومحنة التكنولوجيا أيضاً، حين يكون توظيفها هكذا.

9- معالجة المسألة الاقتصادية: تعبر المسألة الاقتصادية عن نفسها عربياً، بالتناقض بين الإمكانات والواقع أولاً، وبين الدول العربية ودول أخرى تمتلك مقدرات أقل، وصنعت حضوراً اقتصادياً لافتاً، ما يجعل الحالة الاقتصادية للناس كأفراد، وللمجتمع والدولة، هي المعبر الأبرز الأساسي والفعلي والمباشر للاداء السياسي، وأداء المجتمع وفعالياته. إنها تحدد الصورة النهائية لما وصل إليه أي مجتمع.
الحالة الاقتصادية في أي بلد، رهينة الإمكانات المادية والبشرية، أي وجود إمكانية طبيعية لتوليد الخيرات، ووجود استعداد بشري مهاري وعلمي بالكثافة والفاعلية المطلوبة للحصول على الفوائد، وتحصيل منتج يليق بالبشر وواقعهم. وبالعودة إلى ما حققته شعوب العالم أو بعضها، نجد ان أغلبها خرج من إعاقته. وهنا يظهر دور التنمية وثقافة التنمية وإرادة التنمية التي قلت ((إنها تجاوز الواقع تجاوزاً إيجابياً)). وقد يقول قائل إن ذلك قد تحقق، لكن بمراجعة ما حققه العرب مقارنة بغيرهم، ومع امتلاكهم المقدرات أكثر من غيرهم، نجد ما حققوه لا يرقى إلى المستويات الدنيا من الطموح. والأرقام الإحصائية هي التي تشير إلى هذه النتيجة. ضعف القرار السياسي باتجاه التنمية، مضافاً إليه ضعف الأداء العلمي كماً وكيفاً، وضعف الإرادة، والعقل الإيماني الأيديولوجي، كل ذلك يحمل القوى الصاعدة مسؤولية الخروج بالواقع العربي من مأزقه، ويبدأ ذلك بتحرير العقل والإمكانات الاقتصادية من الارتهان للأجنبي ووضعها قيد الاستثمار من قبل الشعب وقراره الذاتي، ما يمكن العرب من تطوير إمكاناتهم الاقتصادية. إنهم يملكون الأموال، لكنهم لا يملكون القرار والإرادة والحرية في إنفاقها لتطوير واقعهم تطويراً جذرياً، في حين يملكون القرار في إنفاقها على كل ما يعود على الغرب وشركاته ومصالحه بالفائدة، دون وضع شعوبهم في الاعتبار.
من شأن قوى الحراك الجديد أن تعرف مكامن الفشل، وأين يكمن أعظم الشر اقتصادياً، فيكون توجيه الإمكانات بحيث تزيل الحنق المتجمع عند الشعوب التي صبرت كثيراً على الاستغلال الرأسمالي والنهب الغربي وفساد السلطات، ما جعل حراكها يتفجر. إنه فشل تنمية المجتمعات وإخراجها من الفقر والإعاقة، فإن استطاعت القوى الصاعدة تغيير الواقع كان لائقاً بما جرى اسم (ثورة)، وإلا هي حراكات اجتماعية لا ترقى في إرادتها وتوجهها إلى سوية الهموم والمطالب الملحة. بل يمكن أن تعزز مفهوم المؤامرة التي يرى الكثيرون أنها هي التي حركت المتحركين وصنعت ما صنعت، مما لم يحصل الشعب منه إلا على الخيبة، بدل أن يمتلك قرار توجيه مستقبله.

10- إرساء نظام للمجتمع: مقاربة الواقع يحتم التفكير بالنهج الاجتماعي الاقتصادي الذي تقود إليه السياسة التي يمكن ان تنتجها القوى الصاعدة، او تحاولها بصدق، موظفة الإمكانات الثورية التي بدت فاعلة. إن الفشل في إيجاد نهج جديد للحياة العربية في الأقطار التي حصلت فيها الحراكات الثورية، سيظهر هذه الحراكات وكأنها لعبة انقلابية من أجل التمكن من السلطة والعودة إلى الواقع الذي أعلنت سعيها للخروج منه، أما إذا كانت الثورة قادرة على الاستمرار والامتداد، والإبقاء على زخمها بإرادة ودراية كاملة لأساليب وإمكانات الخروج من الواقع الناقع، فهنا يظهر فعلاً أن الثورة كانت حقيقية.
إن الصراع بين الفئات والقوى الثورية، من شأنه أن يحدد بعد ذلك شكل وانتماء النظام السياسي، بالتالي أي نهج اقتصادي اجتماعي سينتهج، وأية قوى ستقود البلاد وإلى أين، وإذا كانت القوى المشاركة في الحراك الثوري تنتمي إلى الليبرالية، وإلى اليسار، وإلى التوجهات الإسلامية، وغيرها، فمن المنطقي أن نجد الصراع يتحدد بسعي كل اتجاه لتمكين نهجه. والعالم في عصرنا، وإن كان ليبرالي الهوى والحضور، فإنه يئن من وطاة الرأسمالية الجشعة، والليبرالية غير المنضبطة، كما يخاف من الإسلام المتزمت المنكمش، إضافة إلى أن فشل اليسار في مواقع معينة من العالم، جعله غير قادر على ترميم صورته حتى الآن جيداً.
كل هذا الواقع أو الإضاءات على السلبيات والإيجابيات المعروفة، يمكن أن تساهم في الإنارة، فإما الانغماس في نظام النهب العولمي الذي تقوده الرأسمالية الليبرالية، وتطوي مقدرات العالم تحت سيطرة شركاتها النهابة، خرافية الإمكانات، باعتبارنا منهوبين لا ناهبين، وإما العودة إلى مواقع التزمت المحكوم بفتاوي رجال الدين الذين لم يحسنوا، ويبدو أنهم لن يحسنوا الخروج من الماضي وتوليد الكلام من الكلام لا من الواقع، أو أن نهجاً يعتمد العدالة الاجتماعية، ومساهمات الشعب جميعاً، تقوده وتعمل عليه كل القوى الوطنية الفاعلة، هو الذي سينجح.
هنا نقول، إنه ليس نهج الاشتراكية بصيغتها السابقة، وإنما النهج الذي يصنع عدالة يمكن ان تستفيد من ممكنات الواقع جميعاً، وتوظف طاقات الشعب جميعاً، دون استبعاد وتمييز. المهم أن ينجح لصالح المجتمعات جميعاً، وهنا سيكون تجنب التبعية والهيمنة، وألا يكون توفيقياً أو تلفيقياً هجيناً لا لون له ولا طعم، ولا يملك مقومات الاستمرار.

11- الاختيار بين عولمة وعولمة: توصف العولمة بأنها قدر محتوم لا مناص من الانغماس في غمارها. وإذا كانت العولمة في ظاهرها ليبرالية رأسمالية، وحشية المضمون، قادرة على الاستحواذ بأساليب العصر، فإن الركون إلى ما تريده بدون إبداء مقاومة، يعني إدامة الاستتباع للقوى التي كان الخلاص من تأثيرها أحد الأهداف.
قد تكون الخيارات غير واضحة، لكن يمكن ان تتضح، والباحث عنها يجدها. ومثلما أشرنا إلى انتهاج نهج اقتصادي لا يكون أسيراً لنموذج منقول عن واقع لا يقارب واقعنا، أو ربما إيجاد نهج عربي يستفيد مما عرف في العالم من أساليب يمكن توظيفها لتفعيل الواقع دون ضياع معالم الشخصية ممكناً، لأن الانخراط في عالم إنتاج وأيديولوجيا، يفقد الشخصية الكثير من عناصرها المميزة، مثلما أن الإبقاء على الواقع الموروث بكل تفاصيله التي تحرص عليها قوى معينة، يجعل الحراك دون جدوى تذكر. النهج الاقتصادي قد يصنع دكتاتورية سياسية، والدكتاتورية السياسية، قد تحيل إلى نهج اقتصادي يلائمها.
الغرب لا يهتم بنا، تخلفنا أم تقدمنا، جعنا أم شبعنا، لدينا حكم صالح أم فاسد، ديمقراطيون أم استبداديون. ومهما أعلن عن حرصه على تقدمنا، فهو لا يريدنا إلا أدوات مذعنة، بالديمقراطية أو بغيرها. وإذا كان لا بد من عولمة ننخرط بها، مؤثرين أو متأثرين، فأن نكون مؤثرين أهم وأفضل، كي لا نكون موقعاً للنهب والاستغلال فقط. من هنا يجب الانحياز إلى تلك العولمة التي تتبلور على مساحة العالم، وبقيادة الشعوب وقوى التقدم للخروج من واقع الاستتباع والسيطرة، وضد النهب والاستغلال. وهي أكثر إنسانية وعدالة، يسارية بمنطق بعيد عن احتكار اليسارية من قبل قوى أنتجت نهجاً فاشلاً. العولمة البديلة لا تنفي أيّ مكوّن، على أن تنخرط هذه المكونات في عالم يتجنب إعادة إنتاج الماضي وتمكين قوى النهب. فأي نهج عولمي سينهجه الحراك الثوري العربي، يجب أن يكون محافظاً على المصالح، معبراً عن الشخصية الفاعلة.

12- تمكين العلوم وتوظيفها: يتحدد التوجه المستقبلي لشعوب العالم حسب مساحة الاستحواذ على العلوم وتوظيفها في التنمية وحل مشكلات العمل والإنتاج. ولا خلاف في أن الذي صنع تقدم الشعوب هو العمل، والعلم هو الذي ذلل عقبات العمل وطوره سهولة وإنتاجية. فأصبح العلم والعمل جناحا طائر التقدم والحضارة. وحين النظر إلى الشعوب التي كانت تبحث في ماضيها عما يسعفها في الخروج من تخلفها، ومنها العرب والمسلمون، نجد أن بعضها كالهند والصين وغيرهما وجدت أن تراثها لا يستحوذ على مقومات تحيل إلى شكل النهوض الذي يتطلبه العصر، فاستنفرت الممكن من هذا التراث لتطويره، وأحالت الباقي إلى المتاحف والفلكلور، مع جزيل التقدير والاحترام. ثم توجهت إلى العلوم العصرية تستعين بها لتحقيق نهضتها الجديدة، وتزاحم على مكانة عالمية مرموقة، وقد نجحت حين أخذت في أعمالها بأساليب العلم الحديث الذي يجري تمكينه ليكون من مسارات الثقافة باعتبار أن التنمية هي (العلم حين يصبح ثقافة) كما يقول محمد عابد الجابري.
في حالنا كعرب، آن لنا أن تمكن العلوم الحديثة، لا لنحصل على الشهادات التي تمكن من الحصول على المرتبات، بل لتحويلها إلى واقع عملي وتكنولوجيا من جهة، وثقافة تحيل العقل إلى موقع مرموق يتغلب على الأزمات من جهة ثانية. ولما لم يكن متاحاً التوظيف الجيد للعلم سابقاً، وكنا نكتفي للتدليل عليه بإحصاء الشهادات، فالمأمول من الثورات التي انتفضت ضد الواقع الفاسد أن تنجز ما عجزت عنه أنظمة العجز والفساد!
إن تهميش أرباب العلم ووضعهم فيما لا يناسبهم من مواقع، ودفعهم ليكونوا موظفين مكتبيين ومهملين لا شأن لهم أسهم في إنتاج الواقع الناقع، مع أن هؤلاء في الغالب غير منافسين في عالم السياسة، ولا مطمح لهم سوى البحث العلمي وتطوير واقع العلوم الذي يحول دونه قصور عقل السلطات وضعف الإمكانات والخوف من العقول الفاعلة، بالتالي عدم توفر الإرادة والإيمان بضرورته لدخول العصر، وربما كان للعقل الإيماني وما يشيعه من ثقافة نكدية دور بارز في ذلك.
الخروج من هذا الواقع من أبرز مهمات الحراك الثوري الجديد باعتباره أحد عناوين التقدم، والثورة ستبقى انقلاباً أو تحيل إلى ركود كارثي مالم تتحول إلى تنمية لحراكها وللواقع. فهل هي فاعلة؟!

13- معالجة المسائل الاجتماعية: ومع أن المجتمع لا يتقدم إلا بكليته، فسنشير إلى هذه المهمة بالنظر إلى فئتين اجتماعيتين لكل منهما خصوصيتها. الأولى هي مشكلة الشباب، ولها خصوصيتها وطريقة وعيها ومعالجتها التي تختلف عن الثانية وهي المرأة وواقعها الذي لا يزال سيئاً. وكنت قد عالجت الموضوعين في أبحاث وكتب مستقلة منها ((المرأة في دوائر العنف)) الذي صدر عن رابطة العقلانيين العرب.
الشباب، هذه الفئة العمرية، تقع بين مطرقة الحاجة وسندان الواقع، بين مطرقة الأهل وسندان الدولة، وتتلاقى همة الأهل وهمومهم مع تعميم الدولة للمدارس والجامعات، دون فعالية وارتباط بالحياة وما تفرزه من مشكلات، فالحصول على الشهادات وأمل الدخول إلى الحياة العلمية والاستقرار، أو ضعف التمكن من التعليم والإحالة إلى سوق العمل، ومدى ما يتوفر منه مما يرضي رغبات وطموحات وتخصص الأجيال أو لا يرضى، وتوفر النشاطات الاجتماعية والرياضية، وتحديث الحياة، والارتباط بالتكنولوجيا، وتوفر الحريات ومدى مراقبتها، ومشكلة البطالة، كل هذا وغيره، وطرائق فهمه ومعالجته، هو بعض الخوانق التي لا بد من تجاوزها كي لا تتولد الزلازل المتوالية.
ولا تقل قضية المرأة وما يحيط بحياتها من عنف، عن قضية الشباب، بل تعتبر قضية المرأة العنوان الذي يقرأ منه تقدم المجتمع. فالمرأة تدور في دوائر متداخلة وعديدة ومتشابكة من العنف، من العنف الجسدي إلى العنف الجنسي والاجتماعي والنفسي، إلى مسألة الاستبعاد الاقتصادي والسياسي والثقافي. وتمكّن العقلية الذكورية (البطريركية)، من جعل معاناة المرأة معاناة دائمة.
أشير في الجانب الاجتماعي إلى إشكالية كانت وستكون القضية الكبرى التي تحبط كل خطة للتقدم، وهي ما لم تول العناية الكافية، سيكون كل إنجاز عرضة للفشل وهي المشكلة الديمغرافية، فالتزايد الحالي للسكان وعدم القدرة على السيطرة عليه، سيحيل كل خطط التنمية إلى خطط على الورق لا موقع لها في الحياة العملية. ويتوجب على الحراك الثوري مواجهة هذه المشكلات بعد أن ورثها مع كل ما تثيره من معوقات ومفرزات.
14- عقلنة التغيير والنشاط الاجتماعي: الحقول الكثيرة المطلوب العمل فيها لإنجاز تغيير ثوري تحتاجه الحياة كثيرة تتطلب تنمية الثورة. وما قصدته بهذا المصطلح أو المفهوم لا يعني تصدير الثورة بمقدار ما يعني أن تصبح أكثر فاعلية وعمقاً في المجتمع فتخلص إلى إنجاز مجتمعات تتجدد، وترفض كل ما يعيق تقدمها وتتخلص منه، فأن تُخصص مقاعد للمرأة في البرلمانات، شيء جيد، وأفضل من أن تبقى غائبة أو ضعيفة التمثيل، لكن عندما تتم تنمية الثورة، يحصل الوعي المتكامل في المجتمع وربما يصبح الناس مقتنعين بدون قرارات سياسية، أن يتوجهوا إلى صناديق الاقتراع ويختاروا امرأة لتمثيلهم عندما يجدونها أجدر من الرجل، لا يمنعهم من ذلك أنها امرأة قاصرة وأن ذاك رجل.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإن توجه الناس إلى الانتخابات لاختيار ممثليهم إلى مجالس، يجب ألا يخضع في ظل الثورات إلى قواعد المجتمع الأهلي، فيختار الناس أقاربهم ضمن نظام العشائر والطوائف والأقوام، أو الثقافات التقليدية والمواقف المسبقة، عندها تبدو الثورات كأنها لم تفعل شيئاً، مع ضرورة التنبه أن مثل هذا لا يأتي بقرارات، بل بالتدرج البطيء والتمكن من ثقافة جديدة.
المهم أن تؤول الثورة إلى ثقافة تنبذ الرديء المتهالك القديم ومسبب الإعاقة وتنمي وتفعل كل جديد، مزيلة كل العوائق من طريقه. فتنمية الثورة يعني تمكينها من التغيير الراسخ والعقلاني، ونقل المجتمعات من حال التخلف إلى التقدم. وما ذكرته من مجالات لا يعفى من أن يشمل التغيير غيره. المهم في كل ذلك أن يكون اتجاه التغيير ضامناً التخلص من إعاقات الماضي على مستوى العمق لا السطح الذي قد يشير إلى العودة للوراء ثانية، وألا يشمل جانباً ويترك آخر. تنمية الثورة هي طريقة توظيف العقل والنشاط الثوري الذي تقرأ نتيجته في تغيير المجتمع بكليته من حال إلى حال هي الأفضل والأرقى حتماً.



#حسن_ابراهيم_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اليساري والقومي في الحراك الثوري العربي


المزيد.....




- غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب
- الرفيق حنا غريب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني في حوار ...
- يونس سراج ضيف برنامج “شباب في الواجهة” – حلقة 16 أبريل 2024 ...
- مسيرة وطنية للمتصرفين، صباح السبت 20 أبريل 2024 انطلاقا من ب ...
- فاتح ماي 2024 تحت شعار: “تحصين المكتسبات والحقوق والتصدي للم ...
- بلاغ الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع إثر اجتماع ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 18 أبريل 2024
- الحوار الاجتماعي آلية برجوازية لتدبير المسألة العمالية
- الهجمة الإسرائيلية القادمة على إيران
- بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - حسن ابراهيم أحمد - تنمية الثورة، مهمات ملحة