أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حسن ابراهيم أحمد - اليساري والقومي في الحراك الثوري العربي















المزيد.....



اليساري والقومي في الحراك الثوري العربي


حسن ابراهيم أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 4020 - 2013 / 3 / 3 - 00:55
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    




تكشفت الحركات الثورية التي اجتاحت وماتزال الكثير من المواقع والدول في الوطن العربي، عن مخزونات من الحقائق والمعارف والقدرات، أقل ما يقال عنها، إنها كانت مجهولة حتى في عصر المعلومات والمعارف، وانتشار اقتصاد المعرفة كمصدر للثروة.
سيطول الزمن قبل رفع الغطاء عن كل أسرار هذه الثورات وتحليل الدروس التي تأسست في نشاطاتها. خاصة أنها أدهشت العالم، لأن أياً منها لم يكن متوقعاً، أو على الأقل لم يكن محسوباً له أن يجري بهذه الطريقة. وربما كان حدوثها كما حدثت، هو المدهش أكثر منها كحدث.
كل هذا يؤكده من أطلوا على هذه الثورات بالتحليل واستنتاج الدروس المبكرة والأولية. كلهم لم يعلموا ولا يعلمون، كلهم يبحث فيها كحاضر على ضوء الماضي المختزن، أو بالقطيعة معه، وحتى مع الثوري فيه، دون القدرة على إملاء كل الفراغات أو الثغرات التي تنكشف عنها الدراسةولا تجود بها المعلومات، خاصة تلك الإرادة المختزنة، والتي كانت حتى وقت قريب تعاني الموات، فإذا بها بين لحظة وأخرى قادرة على تغيير وجه المنطقة، وربما قد تسهم في تغيير وجه العالم، إذا استكملت مشروعها بالعنفوان والحكمة والدراية المنظورة.
في هذه الثورات ما لا يدّعي أحد القدرة على الوصول إليه، وربما تكمن قوته وفاعليته في هذا الغموض الجميل والجليل، وإذا كان الغموض يذري بأي حراك أو نشاط أو قضية، فإن الغموض هنا هو الفاعلية، ومصدر السر والحيرة والإرباك. وإذا كنت اليوم أحاول الإطلالة على معنيين اثنين وتجليهما في هذه الثورات، فليس من باب ادعاء الإحاطة والعلم بما لا يعلمه غيري، إنما هو محاولة للفهم مشوبة بكل أخطار الخطأ، ومفتوحة على أبواب الصواب والعلم، وتقوم على تقويم وتحليل آراء دارسين وقفوا أمام هذه الثورات بحيرة تشبه حيرتنا.
لا حدود محكمة الإغلاق بين اليساري والقومي، وليسا أقنومين يتواجد كل منهما بعيداً عن الآخر بالضرورة. هما مفهومان متمايزان نظرياً ومشتركان في الكثير من حقول العمل والحراك، فكلاهما يعملان للنهوض بالمجتمعات العربية، وكلاهما يعملان ضد الاستعمار والامبريالية والاستغلال، بل وكلاهما ابتليا بالكوارث ذاتها مثل الاستبداد وضعف الحريات وغياب الديمقراطية والمجتمع المدني...إلخ إذاً لانستطيع القول إننا أمام حقلين يتحدد أحدهما باستقلال وبعد عن الآخر، كما لا يختلط أحدهما بالآخر نظرياً على الأقل.
ومثلما هما شديدا الاقتراب من بعضهما، فكذلك هما شديدا الاقتراب من غيرهما من الحقول كالاجتماعي والثقافي والسياسي وحتى الاقتصادي، لكن اختيارهما للدراسة في نشاط الثورات لا يعني إهمال غيرهما أو ضعف أهميته. وهما يدوران في حقل السياسة عامة.
لا يفوتني أن أنبه مسبقاً إلى ما استشعره من خطر الضغوط والجهود لحرف الحراك الثوري العربي عن مجراه الذي يجب أن يسير فيه. فالمهمة التي عملت قوى اليسار والقوى القومية لإنجازها عبر تاريخهما، سواء فشلا أو نجحا، هي الحرية أولاً. والحرية تعني التحرر من معوقات التقدم مثل: التخلف المعرفي (الجهل) والتعصب والاستبداد والتناحر وغيرها، وقبل هذا التحرر من السيطرة الأجنبية راعية هذا التخلف والأمراض، والتي تتغير طرائق وأشكال أدائها حسب الظروف والممكن، وهذا ما سعت إليه الثورات الحديثة كما القديمة التي فشلت وهو ما أرادت إنجازه نهائياً، بتوجهها نحو الديمقراطية.
وبنظرة سريعة نقول إن جهوداً محلية وعربية وعالمية تعمل بلا كلل لإجهاض هذين الهدفين، فالقوى التقليدية التي كانت سبباً في تخلف مجتمعاتنا، وهي المسؤولة عما آلت إليه أوضاعنا تاريخياً، وكان السعي للتحرر من سطوتها، نراها تعود إلى واجهة المشهد الذي صنعته الثورات في مصر وتونس وليبيا ودلائل ذلك في سورية (وكأنك يا أبا زيد ماغزيت)، وقوى الاستعمار القديم تجدد نشاطها، وأساليبها وتكرر اندفاعها للإبقاء على سيطرتها على مقدراتنا، بأساليب السياسة والضغوط الاقتصادية في مصر وتونس، وبالعودة إلى أسلوب القوة العسكرية الهمجية في ليبيا التي ألحقتها بالعراق دماراً، ومحاولة ذلك مع سورية التي لا تزال ممكنة أو محتملة حين تكون احتمالات نجاحها قوية. ما يعني أن نشاط التحرر العربي الذي دشنته هذه الثورات، يعيدنا إلى ما كان يجب أن يكمل إخراجنا منه.

1- اليسار: أفق الإنسانية الرحب:
لا أستطيع إخفاء ميولي نحو اليسار وشهيتي للحديث عنه، ولا كتم فرحي بأي تعبير من تعبيراته. ولقد أصبح فهمي له أكثر مرونة، ومفهومه في ذهني أكثر انفتاحاً ورحابة متخلصاً -كما لدى الكثير ممن لا أشك بيساريتهم- من الانغلاق والانسدادات التي عانت منها آفاقه عندما ارتبط بتنظيمات بعينها، دون أن يرى العناصر التي تتلاقى معه في فكر ونشاط تنظيمات لا تنتمي لأفقه القديم.
عندما وجدت نفسي إلى جانب صديق قديم في حافلة للنقل، وبعد التحيات، قال لي: ماذا تكتب هذه الأيام؟ وبدون استئذان تناول أوراقاً كانت في يدي، فقرأ ’’انتعاش الأحلام’’ وهو مقال أعددته لصحيفة النور، وعندما وجد أن الأحلام التي أتحدث عنها هي أحلام اليسار والعدالة الاجتماعية، أعاد الأوراق قائلاً: ألم تيأسوا؟ (متناسياً تاريخه) ثم تابع: قليلاً ما تكتب في الصحف، فإذا كتبت كان ما تكتب إما دفاعاً عن أحلامك اليسارية أو أجندات لإنعاش اليسار؟ يا صديقي إن الغصن اليابس لا يورق ولا يثمر، فلا تحاول إعادة المياه إلى أنهاركم الجافة، ولا إنعاش يساركم الميت! لم أجد في كلامه غرابة، فهو ’’شنشنة أعرفها من أخزم’’ ولم استنكره مع شدة يقيني بضلاله وقلة مصداقيته وضعف الدراية الناتج عنها، بل وضحالة فهم اليسار. أنا مؤمن حقاً بأنه سابقاً لم يكون مؤهلاً إلا للموت لعنف أعدائه ضده، ولأن أنصاره سجنوه في قمقم وقطعوا عنه نسغ الحياة.
لم يكن هناك من فائدة في جدال الصديق لأنه اقتنع وانتهى ولا يحاور كي يفهم، وهو قبل أن يحاور مصرُ ألا يفهم ولا يتراجع عن قناعات سار وراءها بعد ما خذلته قوى اليسار العالمي في صورتها التقليدية التي انهارت مع انهيار المعسكر الاشتراكي.
وهنا تجد الإشكالية مناخها الملائم، عندما نحبس الأفكار والمفاهيم أو الرؤى والأحلام، أو التجارب والحراكات، في شكل واحد أو نموذج واحد أو رؤية وتجربة واحدة لا يمكن تجاوزها، أو لا يمكن تصور تجاوزها والانتصار على معوقاتها. فالوعي الضحل، والعقل الإيماني، والفكر المنغلق، وقصور الرؤية، وفقدان الديناميكية الجدلية، من شأنها ألا تدفع الحياة لتقديم أشكال متجددة من التعاطي والغريب أن التجديد يطال الأشكال المتناسلة في الأدوات والأشياء التي ينتجها البشر، فالسلع تجد كل يوم شكلاً جديداً تقدم به، ويرحب به الناس ويفهمون أهمية أن تظهر التجديدات في كل ما يحيط بهم من أشياء، لكنهم قد لا يستوعبون أن الفكر والنشاط الاجتماعي والثقافي الفكري، يحق له أن يتمظهر بمظاهر مختلفة عن المألوف، وان تجارب متجددة وانبثاقات حديثة تتجاوز تلك التي كان معولاً عليها، قد تظهر.
اليسار ليس سلعة وليس جماداً، وليس جمعية أو حزباً. ليس قبيلة تنتسب إلى جد واحد، ولا طائفة إيمانية لها رسولها ورسومها العقدية. ليس مذهباً ولا عقيدة مرسومة لا يجوز تجاوز طقوسها أو الإخلال بصلواتها وحركات متصوفيها ونغماتهم أو أزيائهم الفضفاضة. اليسار ليس سراطاً ولا عمائم أو قلانس أو طرابيش أو قبعات على رؤوس منتسبيه، ولا يحتاج إلى طلبات انتساب إلى صفوفه وتجمعاته وعشائره، ولا ترسيمات حول طرق مريديه.
اليسار هو انعتاق وتجدد إنساني يمزق أو يشقق كل لحاء يغلف حياة الإنسان ونشاطه، مثلما يتشقق لحاء الشجرة باستمرار نموها، فيكون ذلك دلالة استمرارها في الحياة، وهو عندما يقبل التأطير والثبات يقبل أو يؤشر على موته. لا يفقد اليسار طاقته وحركته من أجل التجدد والانعتاق ويبقى يساراً، ما دامت الحياة تدب في عروقه وفي حياة البشرية. اليسار خروج على كل ترسيمات الانغلاق الإيمانية وقيود السجن في أطر جامدة، إنه تعبير عن قدرة الحياة على إنتاج الأفضل لأغلبية سكان المعمورة، والحياة لا تعدم القدرة على ذلك حين يريد المريدون.
متى فهمنا اليسار على هذه الشاكلة، فهمنا أن كل نشاط تقوم به البشرية عبر حراكها، من أجل تحسين ظروف الحياة لمجمل أبنائها أو للجماهير العريضة، هو نشاط يساري، سواء قادته الأحزاب الشيوعية أو أي اتجاه آخر مؤمن بحق الإنسان في التطور والتقدم الذي يجلبه نشاط الناس على صعد الحياة كافة، في السياسة والاقتصاد والثقافة، كما في الحياة الاجتماعية، وهو خروج على حياة وسلطة العشيرة النَسبَية، ولا دخول في لا سلطة الحرية. ليبقى اليمين هو كل نشاط لاحتكار الثروة وزيادة تكديس الأرباح واستغلال البشر والطبيعة والاتجار بدماء الشعوب وسحق الفقراء وإدامة وزيادة فقرهم..إلخ
هكذا نفهم أن اليسار ونشاطه وأحلامه، لا يختفي ولا يتراجع، ما قد يتراجع هو التنظيمات التي تناضل لإنجاز أفق أو مجتمع يساري، وقد يختفي بعضها ويظهر غيره، لكن وبالتأكيد فإن مخزون اليسار من المشاعر والأحلام والأفكار والاستعدادات يزداد كل يوم حضوراً وتجدداً.
والناس يتوزعون يسارياً إلى جهات ثلاث:
الأولى: هم أولئك الذين يرون أنه انتهى، لم يعد موجوداً، وإذا كانت هناك بعض التعبيرات اليسارية تظهر من قبل فرقاء أو أشخاص، فإنما هي أضغاث أحلام، أو من بقايا تاريخ ولّى غير مأسوف عليه، أو ممن لم يسعفهم تفكيرهم وقدراتهم على الخروج من هذا التاريخ أو من هذا الماضي الذي لم يجلب سوى المآسي وانسداد الآفاق للشعوب وهؤلاء يلتقون في النهاية مع مقولات فوكوياما والليبرالية الغربية اليمينية إلى حد كبير. بل هناك من لحق به اليأس من تحريك الواقع العربي ومن زجه العرب في الحراك التاريخي الفاعل، باعتباره حراكاً باتجاه المستقبل والانعتاق كما ترى وتؤكد أو كما تحلم قوى اليسار، يقول الطاهر لبيب: ’’يتذكر جيل الستينات وبعض السبعينات خطاب يسار عربي استفز الممكن، مركسه، بلتره، قومجه، وطنه، عولمه، ناضل، ضحى، مات من أجله ولم يتحرك هذا الممكن الحرون. عندئذ أعلن خطاب العرب السائد خروجهم من التاريخ قبل فوكوياما"(1).
الثانية: من يرى أن الثورة أو عودة اليسار إلى لعب دوره كما عهدناه في الماضي، غير ممكن ما لم تنشأ الظروف أو المناخات الملائمة للثورة التي تحتاج إلى ترسيمات دقيقة. وهؤلاء تجمدت بهم الحياة وتجمد تفكيرهم وانحبس في أطر لا يمكن الخروج منها ’’فالذين حسبوا الثورة في حكم الاستحالة، إنما كانوا يفترضونها على مقتضى هندسة نظرية تنزلت من وعيهم منزلة اليقين الذي لا يتبدل، فالثورة عندهم فعل سياسي واجتماعي تنهض بأمره طبقات ثورية. وهذه تقوم بذلك الأمر متى امتلكت وعيها الطبقي بمصالحها. والوعي هذا وقف على وجود من يحمله إليها وينظمها (الحزب الطليعي أو الثوري).. وبما أن قوى اليسار والقوى الثورية في حال من الضعف والوهن بحيث لا تقوى على النهوض بأدوار ثورية، نجم من ذلك حكماً أن أفق الثورة مقفل وإمكانها مستحيل في الواقع العربي’’ كما يقول عبد الإله بلقزيز.(2)
مثل هذا الفهم لا يقل عن سابقة تصلباً وبعداً عن الحقيقة والواقع، لأنه يغفل عن حركة الحياة غير المنقطعة ليسجنها في قوالب ذهنية جامدة أدت إلى هذا الفهم القاصر الذي أنتجه جمود عقلي وفكري، تبشر ثلوج القطب بالذوبان، ولايبشر هو بذلك. وهذا إنتاج واقع إيماني اكتسب صلابته من جمود العقيدة (أية عقيدة) عند من يؤمنون بها إذا هم سحبوا منهاعنصر الحركة والتجدد، والعقيدة تقطع مع الحرية. ولا حركة ولا تجدد أو حرية مع العقائد الصلبة.
الثالثة: ومع ذلك حدث ما حدث، وهذا ما يعتبر البرهان الذي لا يدحض على أن هناك حراكاً يحدث، يناضل ويحقق بعض مشاريع اليسار كما حدد توجهه. فإذا كانت هذه المشاريع تصبح حقيقة واقعة، فلا يمكن الهروب من أن تسمى أو يشار إلى القوى التي أنجزتها على أنها قوى اليسار. مع العلم أن ما حدث في بعض الدول العربية منذ مطالع 2011 هو حسب رأي سمير أمين: ’’ أكثر من حركة وأقل من ثورة’’.
هنا يجب أن نتوقف قليلاً عن الترسيمات التي وضعت للثورة، فإن اختلفت هذه الترسيمات كان ذلك إيذاناً بأن ما يحدث ليس ثورة، وهذا يعني أن يلتحق هذا الفكر أو هذه الترسيمات بمنطق الجمود الفكري الذي وضع لكل شيء مقاييس أصبحت إيمانية أو عقدية جامدة. وهذا ما منع أن يطلق بعضهم على ما حدث وصف ’’ثورة’’. أما أنا فأرى أن الأصل ليس هو ما يفرضه الفكر هنا، لأن الفكر في النهاية لا حق بالحياة ومستنتج من حراكها، بالتالي فإن الأصل هو ما تقدمه الحياة، ولقد قدمت مثالاً غير ممكن للفكر أن يتجاهله، وعليه أن يدرسه ويتأكد من أنه ليس ثورة فقط، بل ثورة من طراز رفيع. وهنا تتأكد مقولة: إن النظرية رمادية أما شجرة الحياة فخضراء مورقة.
لقد حدثت الثورة، ولم تقم بها سوى قوى اليسار، حتى لو انتسبت نظرياً لأي اتجاه، فالمعوّل هو الهم الذي يوجه الحراك. وهذا يدل على مرونة هذا اليسار وعلى أن النظرة القديمة إليه كانت النظرة إلى يباس الواقع وجفاف المجتمع وعدم قدرته على إنتاج قوى ثورية تقدمية. وكل قوة ثورية تقدمية هي قوة يسارية، ومقولات الثورات تؤكد ذلك. ما تقدم يؤكده سمير أمين عندما يشير إلى أن لدى الشباب الثائر أو المجتمع في مصر ميولاً يسارية على المستوى الاجتماعي. أليس هذا أحد الأدلة على أن الذي أنتج هذه الثورة، ليس سوى ما أنجزه مناخ اليسار وقوة اليسار وفكر اليسار أياً كان الزي الذي يلبسه، سواء كان الليبرالية أو الإسلام أو الاتجاه القومي او غير ذلك؟! اليسار المصري الراديكالي والذي يمثل بقايا أو توجهات اليسار القديم، اشترك في الثورة بعد أن أشعلها الشباب، فاستجاب بذلك لنداء ماضيه وحاضره في الاصطفاف... كما يرى سمير أمين الذي يؤكد أن هؤلاء الشباب ’’يساريون في نهاية الأمر بإيمانهم بالديمقراطية الصحيحة وعدائهم للاستعمار وتوجههم الاجتماعي إن لم يكن الاشتراكي. ولذلك أرى أن التفاهم بين اليسار الراديكالي والأغلبية الكبرى من الشباب يمثل جوهر وأساس مستقبل الثورة لأن المستقبل بيد هؤلاء الشباب’’(3). مع لفت النظر إلى تحذيرنا السابق من أن هناك قوى تعمل جاهدة وبقوة لحرف الثورات عن مسارها.
لقد كان لليسار –ولا يزال- أحزابه وتنظيماته وقواه الحركية الفاعلة، الناشطة أو الخمولة، مع أنه مفهوم يساير الحركة ويقطع مع الجمود، لأن مفهوم اليسار وحراك اليسار هو في إطار التجدد الدائم، وثورته لا تتوقف، فالماء إذا ركد أسن، والفكر والحياة الاجتماعية إذا لم تلق من يسعى لتجديدها وإكسابها ألواناً ومعاني وأشكالاً جديدة، ويستخرج منها عبر الجدل والديناميكية ممكناتها الفاعلة، ستكون في حكم الموات. وهذا من أهم الأسباب التي تدفع إلى عدم حصر ممكنات التجدد بالقوى الممنهجة ضمن قوائم اليسار بصيغته التقليدية السابقة، بل ويدفع إلى البحث عن القوى التي تعبر بنشاطاتها عن أهم ما يجعل الحياة متيسرة للقطاعات الأوسع من الناس، بما تحمله لهذه القطاعات من أمل ورضا وخلاص. إذ اليسار ثوري حتى على نفسه بسعيه الدائم للتجديد، لمصلحة الناس، وكل قوة تفعل ذلك تنتمي إليه.
وتبرز نشاطات اليسار واهتماماته في حقول كثيرة، أهمها: إن الخلاص من الاستبداد من أهم المؤشرات والتوجهات اليسارية المؤكدة على استمرارية النضال من أجل الحرية والكرامة ورفع الظلم عن الشعوب، والاضطهاد عن المضطهدين والمظلومين، وهذا يتنافى ويقطع مع كثير من الأساليب التي اتبعتها قوى اليسار التقليدية داخل امبراطورياتها وحصونها التي بنتها، فلا يمكن أن نقول إننا حررنا الإنسان والاستبداد عليه قائم.
ولا يزال الخلاص من كل أشكال الاستعمار (الاستخراب إذا أردنا الدقة)، سواء في شكله الكولونيالي أو الامبريالي المتجدد عبر حركة العولمة، هو أحد أهم أهداف اليسار التي سعى لتحقيقها عبر حركات التحرر التي تنهض بها الشعوب، بالتالي فإن كل نضال في هذا الاتجاه وفي أي مكان من العالم هو نضال قوى اليسار ولصالح الشعوب، سواء كان للخلاص من الاستعمار القديم الذي يكاد ينقرض، أو من الاستعمار الاستيطاني الذي تمثله اسرائيل، او من الأبارتهيد الذي حصل في جنوب افريقيا وتطبقه اسرائيل أيضاً في فلسطين، أو من الاستغلال والتبعية ونهب الشعوب، كما حصل وتخلصت بلدان أمريكا الجنوبية والوسطى من الهيمنة الأمريكية بنضال قوى اليسار هناك. ولا شك في أن تحول الأمبريالية العالمية إلى الشكل العولمي، يقتضي تجدد النضال وأساليبه من أجل مواجهة هذه الموجة الجديدة، وقد بدأت طلائع النضال بمقاومة أشكال التعولم ونشاطاته التي تنتمي إلى الموجة الاستعمارية المتجددة، بالمظاهرات المناهضة لمنظمة التجارة العالمية والمنتدى الاقتصادي الدولي، من بورتو الليجري إلى داكار، ومن سياتل إلى روما، وفي مواجهة الأزمة المالية والاقتصادية العالمية منذ 2008. وها هي النضالات والتحركات تتجدد ضد قوى الاستغلال والنهب المالي والشركات متعدية الجنسية، في قلب الولايات المتحدة وضمن مدنها وبنشاط أبنائها ممثلاً بحركات مثل ’’احتلوا وول ستريت’’.
إن الحراكات اليسارية العالمية لم تغفل عن الرد نظرياً على من أبلسوا الماركسية باعتبارها انبثاقاً يسارياً هو الأبرز في تاريخ الفكر اليساري الحديث. بل إن التوجه نحو إنصاف الماركسية وإعادة الاعتبار لها بعد كثير من تعثرات العالم الرأسمالي في غيابها عن مناهضته بشكل سافر، بدأ من القضايا التي يشير إليها كثير من الدارسين. فبريان باري يرى أن مواقف اليسار واليمين من التنوير خلال معظم فترات القرنين التاسع عشر والعشرين تمثل العامل الرئيسي للانقسام بين الفريقين في العديد من دول أوربا الغربية، حيث اعتنق اليسار مبدأ عمومية التنوير، وهنا تنتصب أمامه مهمة إنصاف الماركسية كضرورة فكرية، يقول: ’’فالآن فقط وبعد تهميش الماركسية تهميشاً تاماً، أصبح من الواضح مدى أهمية الماركسية كحامل للواء ما يمكن أن نصفه بالجناح اليساري لحركة التنوير’’ كما يرى ’’إن الماركسية طالما ظلت قوة فكرية، كانت تمثل عنصراً يدعم صلابة عمومية القضية الليبرالية، حيث كانت أفضل الاستجابات للرؤية الماركسية الخاصة بقضية التحرر ذات الطابع العالمي هي استجابة ليبرالية بديلة’’(4) وفي هذا الكلام ما يشي بضرورة الفهم لأفق اليسار الواسع الذي يمكن أن نراه في أي مجال تنويري أو ساع من أجل العدالة الاجتماعية والأنسنة. وهكذا أفاق العالم تحت وقع الضربات التي أوقعتها الامبريالية العولمية بالفقراء وزيادة أعدادهم وتهميشهم في سبيل ربح أكثر ونهب أكثر لمقدرات الشعوب.
وما لا شك فيه أن الحراكات الثورية التي جرت والتي تجري، ما وصل إلى غايته وما لم يصل بعد، والتي ينتظرها كلها كفاح طويل لتثبيت خطاها وترسيخ نهجها وتحقيق غاياتها، هي حراكات في إطار اليسار العربي المتجدد والذي يضيف إلى اليسار العالمي وإلى نضال الشعوب بعداً جديداً، ويحقق له دعماً كبيراً في منطقة تفتقر إلى مقومات الحياة الكريمة، شريطة إبعاد هذه الحراكات عن منطق العنف أو مبادرته والانغماس فيه من جهة، ومن جهة ثانية عدم تسليم رقبتها إلى الذي منه يجب أن تهرب فآثار تدميره ماثلة في بقاع عدة من الوطن العربي، وهو الذي يرفع شعار الفوضى الخلاقة التي لا تصلح إلا لمن يحسن استثمارها، أي القوى الامبريالية.
ولا يزال النضال الذي يستهدف حصول الإنسان على حقوقه الأساسية التي كفلتها له الشرائع والقوانين هدفاً يحفز المناضلين في كل بقاع العالم للاستمرار فيه، لأن تحقق هذه الحقوق نسبي في بلدان العالم حتى المتقدمة، كما أن تناسي النضال من أجل ذلك وإهماله أو عدم استمراريته وفاعليته يجعل هذه الحقوق في مهب الريح وعرضة للانتهاك، لأن قوى الاستغلال والهيمنة جاهزة دوماً للانقضاض على هذه الحقوق وتجريد البشر منها كي تفسح لنفسها المجال لمزيد من الاستغلال. وقد أصبحت هذه الحقوق التي تضمنها التشريعات التي التزمت بها دول العالم، شائعة الانتشار نظرياً، وليس هناك من يجب عليه السهر من أجل تكريسها نهجاً عملياً مثلما هو مطلوب من قوى اليسار أينما وجدت، خاصة في الدول التي تفتقر إلى التطبيق الجيد لهذه القوانين الضامنة لهذه الحقوق، الفطري منه أو المتواضع عليه.
إن الحديث عن حقوق الإنسان في جميع المجالات، يفتح الأفق نحو الحديث عن حق الاختلاف وضمان هذا الحق وصولاً إلى الحق في الخطأ في ظل الاعتبار البشري، ومن بين هذه الحقوق الحق في المساواة والعدالة، نجد صدى النضال في سبيلها وفي التوجهات اليسارية الحديثة، يقول بريان باري: "التصور الليبرالي المساواتي للعدالة لا يغفل عن تلك الاختلافات (القائمة بين الأغنياء والفقراء) أو عن أهميتها: بل على العكس، نجد أن هذا التصور يدين قدراً كبيراً من حالات عدم المساواة على طول تلك الأبعاد التي يمكن العثور عليها في المجتمعات المعاصرة ويعتبرها من أمثلة الظلم. ويرى تايلور أنه محسوب على اليسار، وهو في ذلك يشترك مع غيره من مؤيدي سياسة الاختلاف"(5) كما أن ضمان حق الاختلاف في بعض الحالات يمكن أن يتعدى المطالبة بالمساواة إلى المطالبة بالحرية، كما في وضع المرأة في البلدان المتخلفة ومنها البلدان الإسلامية، فمساواتها بالرجل يعني ذلك في واقع متخلف، أن نحكم عليها بالتخلف وبالبقاء رازحة في سجونها، من هنا يجب أن يكون مطلب الحرية هو الضامن لخروجها مما هي فيه، وهذا ما يفترض أن يكون من اهتمامات التنوير القادم(6).
ولا تزال الديمقراطية المضيّعة في عالم اليسار الراديكالي والتقليدي مطلباً شعبياً لا تنتظم المطالب الأخرى بدونها فهي صانعة المناخ الذي يمكن أن تتفجر فيه الطاقات وتلاقي تعبيرات القوى صداها من خلال صناديق الاقتراع وتداول السلطة وفصل السلطات وضمان حقوق الأقلية مع حكم الأكثرية كما يؤكد عالم الاجتماع آلان تورين(7).
إن رفع شعار الديمقراطية لجميع الشعوب من قبل الغرب، والتنكر لها خارج بلدانه إلا حينما يحتاج إليها شعاراً فارغاً أو ورقة ضغط وحجة للقيام بحماقاته المدروسة، يحتم على قوى اليسار في العالم، وفي بلداننا العربية بشكل خاص، باعتبارها مطمعاً، ألا تتوقف عن النضال في سبيلها، وألا تقنع منها بالشكليات كما يريد الغرب. وقد حذر بعضهم من الدعوات إلى ديمقراطية شكلية حتى لو انطوت على الدكتاتورية، يقول جورج طرابيشي: "الديمقراطية لم تعد حقيقة واقعة في الغرب نفسه بين عشية وضحاها. فلماذا يريد المبشرون الغربيون وفي مقدمتهم الأمريكان، أن تبدأ آسيا، أول ما تبدأ بالديمقراطية؟"(8) وواضح من كلام طرابيشي أن الديمقراطيات سريعة التشكل والبناء تنطوي على ما ينقض الديمقراطية!
وإذا كانت بعض القوى التي تنسب نفسها إلى اليسار في الماضي، قد روجت أن الديمقراطية ترف غربي وأن بلادنا غير مهيأة لها، أو أن ظروفنا لا تسمح بها، ومستوى تطورنا الحضاري لم يصل إلى الحد الذي تطبق فيه الديمقراطية، فإن كل ذلك الركام من الحجج قد تهافت في زمننا، وفقدت مصداقيتها ومصداقية من أطلقها، وتبين أنه تم الترويج لها لإعفاء هذه من المهمات التي تقع على عاتقها من تطوير ودمقرطة الحياة السياسية في بلدانها، كي يتم التشبث بالسلطة دون عائق، وإيجاد الحجج اللازمة لقمع القوى الناهضة والمناهضة المطالبة بالحداثة في مجال السياسة، أو أن تكون الأوطان شراكة بين القوى العاملة على الساحة، ما يمكّن البلدان من تحقيق المشاركة الفعلية في بناء أوطان حصينة ينعم فيها الناس بكرامتهم، وهذا من أهم مطالب اليسار الذي تم تصويره على أنه يقع في الموقع النقيض من الديمقراطية، ما جعل هذا اليسار يبدو مشوهاً، والديمقراطية تبدو ميوعة وتنازلاً عن العنفوان الثوري، وهذا من أهم مقاتل اليسار لأن اليسار الحقيقي هو الديمقراطية الحقيقية.
إذا كانت المعاني والمهمات التي يحملها اليسار على عاتقه غير واضحة بما فيه الكفاية في الشعارات التي يطلقها المتظاهرون المحتجون الثائرون، ولا يزالون مستنفرين من أجلها حتى بعد نجاح المراحل الأولى لتحركاتهم، فإن هذا لا ينطبق على شعار محاربة الفساد، فقد كان الصوت المطالب بذلك ولا يزال، يطاول عنان السماء، كما أن هذا الموقف يظهر في ملاحقة الحكام السابقين وأعوانهم قضائياً. بالتالي فإن الحديث عن الفساد وضرورة القضاء عليه كآفة سياسية اقتصادية اجتماعية وثقافية، لا يمكن فصله عن موضوعة التنمية التي اعتبر الفساد من أهم معوقاتها في الكثير من البلدان.
إن التنمية الاقتصادية في أي بلد وفي أي قطاع، بل في كل قطاع، هي عنوان التطور الاجتماعي، وهي الترجمان الأبرز للعدالة الاجتماعية، بحسب المنحى الذي تتخذه. وانحياز التنمية لصالح الشعب وفئاته الأكثر عوزاً، عن طريق تأمين الحاجات الضرورية وتشغيل الطاقات، وتوجيه مقدرات البلدان لإحداث تنمية مستدامة تترافق مع الزيادة السكانية غير المكبوحة ولا المسيطر عليها، تعتبر مهمة وطنية أولى بجدارة، ويعتبر الفساد معوقها الأكبر عندما تنحاز هذه التنمية إلى إنجاز مشاريع تزيد رأس المال تغولاً وتربط الاقتصاد بعجلة الاقتصاد الرأسمالي الامبريالي العولمي من جهة، ومشاركة أرباب السلطة ومتنفذيها في ذلك عن طريق الإثراء غير المشروع من العمولات ونهب أموال الشعب، ومن ثم العودة إلى مشاركة رأس المال المشبوه، أو رأسمال العتمة الذي لا يدرى كيف جاء ولا كيف يتحرك إلا من قبل أصحاب الخبرات الدقيقة. بالتالي يصبح الطرفان طرفاً واحداً متلاحماً ومعززاً للفساد الذي هو بيئته التي نشأ فيها. وهنا يبدو الدور الأبرز لليسار الذي يعمل على كشف كل ذلك وقيادة الجماهير باتجاه مواقف صريحة من الفساد، وقد ظل ذلك أحد مهماته التي توضحت في الثورات الحاصلة حتى الآن.
يعتبر اليسار أبرز المناضلين من أجل حقوق الأقليات، من خلال إشاعة الشراكات الوطنية وثقافة احترام المختلف، وإيجاد الظروف الملائمة لتعبر القوى المختلفة أو المتباينة في أحد مكوناتها العرقية أو اللغوية الثقافية او العقدية الدينية، أو غير ذلك من التكوينات التي تصنع وشائجية مؤثرة لها صلابتها وتعبيراتها ونضالاتها الوجودية، عن أقصى طموحاتها بشكل سلمي ديمقراطي، وأن تقوم بالنشاطات المعبرة عن ذلك بضمانة القوانين الراعية وحماية السلطات المعنية بذلك، دون أن يعتبر أي نشاط من هذه الأنشطة غير التحريضية أو العدوانية، افتئاتاً على المكونات المجتمعية الأخرى أو على أدوارها ونشاطاتها.
بالتالي فإن إشاعة التسامح، دون أن يكون ذلك إشعاراً بأنه تنازل أو منّة من القوي تجاه الأضعف، باعتبار مبدأ المساواة بين الطرفين في سبيل تكوين ثقافة المشترك المجتمعي الذي لا يمس الخصوصيات الوشائجية للمكونات، يجب أن يكون اليسار في طليعة المعبرين عن ذلك دون مواربة أو مداهنة.
نضالات اليسار يجب أن تعمل على ضمان حرية التجمع وتكوين التنظيمات السياسية أو في إطار المجتمع المدني، وصولاً إلى المجتمع التداولي الذي تؤسس له وسائط الاتصال الحديثة، والتي برع الشباب في استخدامها بتواصلهم الحركي الثوري. وهذا مؤشر على أن الخروج من مواقع الإعاقة والانسداد ممكن عندما تنظم طاقات المجتمع فيحسن استثمارها.
لقد وجدت المعاني المذكورة، والمهمات المطروحة على اليسار صداها وتجلياتها في النشاطات الشبابية التي اجتاحت شوارع المدن والعواصم العربية ، معبرة عن توقها إلى إنجاز مجتمعات تحمل هذه الميزات الإنسانية الرفيعة، وتلجم القوى المستشرسة المتغوّلة والتي ظنت وظن معها الكثيرون أنها قدر محتوم على هذه الأمة، وأن أمم الأرض لديها كل الطاقات والقدرات للتغيير والتقدم بينما الأمة العربية ملجومة عن ذلك، ولا تملك الإرادة والخيار أو الروح والفاعلية لإنجاز مثل هذه المهمات العظمى التي تليق بالشعوب الأخرى لصنع مستقبل البشرية.
لقد حصل الظن أن كل الركام الثقافي وكل التحريض وكل الشرح والنضال من أجل مجتمعات أفضل، والتي كان اليسار صاحب الفضل الأكبر فيها، سواء كان ذلك اليسار الذي ينتمي إلى الحلقات الراديكالية التقليدية، أو ذلك اليسار الذي نجده في كل بيت في كل عائلة في كل بنية اجتماعية أو سياسية، معبراً عن انحيازه إلى ماهو أفضل للجماهير المعوذة والمقموعة والمهملة، إنه الذي يقع على الرصيف الآخر من القوى المنخرطة في نهب الشعوب وإشاعة الحروب، وهو كما قلت موجود في كل بنية اجتماعية، ويحتاج إلى مزيد من التمايز والتفارق من جهة العلاقة مع نقيضه، والتلاقي والتلاقح مع القوى الرديفة. وهذا يسار لا يبلى ولا يسقط بالتقادم ولا يفقد عزيمته ونكهته، فهو متوالد متجدد داخل البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، بعيداً عن الأيديولوجيا.
إن إخراج اليسار من محنته النظرية التي أطبقت على فهمه سابقاً، إلى رحابة فهم منفتح تتجه إليه كتابات اليسار وتوجهاته التعبيرية، من أجل إنجاز فهم جديد يحرر اليسار من سجون وقيود الأيديولوجيات والتنظيمات الإيمانية المتصلبة سياسياً واجتماعياً، هو المشروع الذي تعبر عنه الكتابات الحديثة مثل كتاب المفكر اليساري المخضرم: كريم مروة ((نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي)) خير مؤشر على ذلك. ولا يعدم مروة من يلاقيه في هذا النهج وهذا التوجه ضمن الإمكانات أو المنابر المتاحة لمن ينخرطون في هذا المشروع. ولعل ما كان بالقوة قد أصبح بالفعل حسب تعبيرات الفلاسفة، فقد سبقت الجماهير العربية بحراكها وثوراتها كل أشكال التعبير وكل أفكار المفكرين، وأصبح المفكر هو من يجب أن يتعلم من هذه الجماهير، لا العكس، لأن فعلتها هو التعبير الأصدق والأقوى والأرقى.
ومن الأمور التي تجعل العربي اليساري المناضل ينتشي ويشعر بالفرح أن تكون ثورات وطنه، وفي كثير من بلدانه موضع تقدير واحترام، فقد ذكر حلمي الشعراوي في العدد سابق الذكر من مجلة الطريق أن "المنتدى الاجتماعي العالمي" الذي عقد في داكار، في مواجهة المنتدى الرأسمالي العالمي في دافوس، وقد حضره عدد من الرؤساء الأفارقة ورؤساء أمريكا اللاتينية... وقد كانت "الثورة المصرية" موضوعاً رئيسياً عند آلاف النشطاء الحقوقيين والاجتماعيين الذين اعتبروها مثالاً لانتفاضة شعوب الجنوب كلها أمام تسلط الرأسمالية العالمية والطغيان العالمي بما يمثله الشباب للمستقبل.
ما كنت أرجوه من استاذنا حلمي الشعراوي أن يقول الثورة المصرية والثورة التونسية أيضاً، فكلتاهما عربيتان وافريقيتان والتونسية سابقة ورائدة، وليس من المستحب إغفالها في الإشارة لحراك هذا المنتدى اليساري بجدارة. لكن المؤسف أن المركزية المصرية ونرجسيتها، وهي التي تظهر لدى أغلب المثقفين المصريين، الذين لا يضيرهم ولا يضير مصر أو يقلل من مكانتها أن لا يتجاهلوا غيرهم، كانت هي المعبرة بلسان الشعراوي.
ما أريد التنويه إليه بمزيد من التحذير والتنبه، هو أن اليسار عرف دوماً كيف يصنع الثورات التي تنسجم مع رؤى الجماهير وتطلعاتها، لكنه لم يعرف كيف يحافظ عليها ويستثمرها، بينما عرف اليمين كيف يسرق هذه الثورات، ومؤشرات ذلك واضحة في ماضينا، وأخشى أن يكون في مستقبلنا أيضاً.

2- من القومية إلى الوحدة العربية:
يقول د. محمد أحمد النابلسي: "مهما توالت إعلانات وخطط اغتيال العروبة فإن مؤشرات دقيقة تشير إلى استمرارية النوع العربي بما يكرس ديمومة موضوعية للعروبة مهما تعالت صرخات العرب كارهي أنفسهم وعروبتهم ومعها إقحام آلية التوحد بالمعتدي كسبيل للخلاص أو الأمان أو الكسب والتكسب. وأحياناً تشكل هذه الكراهية انتقاماً من الذات لدى الذين يمنعهم فقد الدافع والعجز عن التعقيل وربما حالات الجبن من الانتحار فليجأون لنوع من الانتقام. ومن مؤشرات عدم قابلية العروبة للنهاية حتى في عصر نهاية التاريخ نذكر بقوافل المقاتلين العرب المتدفقين إلى العراق لمحاربة الاحتلال فيه بغض النظر عن جدلية التنظيم والفاعلية... المؤشر الأهم يبقى في تجاوب الشارع مع الثورتين التونسية والمصرية. وفي كلتيهما نشوة العودة إلى حضن العروبة داخل البلدين وفخر الشارع العربي بإنجاز الثوار في البلدين. ما أعاد للشارع العربي قدرته على الاندهاش وهي وفق مبادئ التحليل النفسي الوجودي القدرة الفاصلة بين الفراغ الوجودي الذي عاشه الوطن العربي وبين حالة التفاعل الوجودي التي سادت بين الثورتين ولو بصورة متعجلة وانفعالية فصلت باقي الاحتجاجات عن الثورتين الأم"(9) وهو يرى أن قدرة الاندهاش قدرة عقلانية متطورة، وهي تصنف في مكان أرقى من ملكة التفكير. كما يتحدث عن محاولات استبعاد العروبة كمشاعر ومفاهيم في كثير من الأوساط العربية، فبتحريض أمريكي كانت كلمة عروبة تساوي سورية في ظل أزمة اغتيال الحريري واتهام سورية بذلك، ما يعني ربط العروبة بالقتل والعنف والإرهاب وفي مصر كانت العروبة قد تراجعت، لكنها عادت لها كرامتها واحترامها عندما تدفقت الجماهير بالملايين إلى الشوارع في الانتفاضة المصرية معيدة تجربتها وحقوق إنسانيتها(10) ونحن نشير مسبقاً إلى تناقض هذا الكلام مع الكثير من المؤشرات الواردة فيما سيأتي، وإيرادها من قبيل وضع وجهات النظر مقابل بعضها، ما يفسح في المجال لرؤية أوضح وأشمل.
الفارق كبير بين أن ينتسب الإنسان إلى مجتمع كل شيء فيه مسيج ومحسوب وتحت المراقبة، كل كلمة أو نشاط ثقافي، كل حركة أو نشاط اجتماعي، كل عمل أو نشاط اقتصادي، كل ذلك على مرأى ومراقبة ودراسة وتحليل من العيون الساهرة على أمن الوطن ومصلحة المواطن، ومدى تأثير نشاط أبناء الوطن على ذلك، ولماذا أصبحوا موضع شك جميعاً ومراقبة جميعاً، حتى أصبح العربي هو الذي يصنع الأسيجة لنفسه، وهو الذي يخمن المعايير والضوابط التي تجنبه الخطر؟ وبين انتسابه إلى مجتمع يمارس فيه أنشطته الإنسانية وفق القوانين والقواعد الناظمة لحرية النشاط، ولا يحاسب أمام نفسه أو مجتمعه إلا على النتائج المتحصلة، وما تقدمه للحياة الاجتماعية، أي إن هناك إغفالاً للحساب على النوايا.
لا بد من الإشارة إلى أن الفرد يعرّف بنشاطه وعمله الاجتماعي، في حين أن المجتمع يعرف بمؤسساته الراعية لهذا النشاط سياسياً واجتماعياً وثقافياً واقتصادياً...
قد لا يبدو هذا مدخلاً منسجماً إلى الحديث عن العروبة والقومية والوحدة العربية. لكن ما كتب حول تاريخ الفكر القومي والحركات القومية والنجاحات والإخفاقات التي حققتها أو وقعت فيها هذه التنظيمات، كانت كافية أو غطت الأحداث والمواقع بحيث أن ما يضاف إليها ليس كبير الشأن.
ما هو كبير الشأن الآن، هو المنظور إليه في مرآة الأحداث التي عمت الوطن العربي أو الكثير من بلدانه، كيف يحاسب الاتجاه القومي أو غيره؟ كيف ينظر إلى العروبة كجامع لشتات هذه الأمة؟ وما آفاق بقاء القومية العربية والوحدة حبل خلاص مأمول؟
لا يعني هذا أن الاتجاه القومي يتحمل كامل المسؤولية عن الفشل العربي في الخروج من التخلف، فلا تقل مسؤولية النظم الأخرى التي لم تعتمد الفكر القومي منهجاً، عن تلك القومية، الجميع لم يحققوا ما تأمله الأمة، الإسلاميون، الماركسيون، البورجوازيون الليبراليون، كلهم مثل القوميين سواء منهم من نهج الاشتراكية أو غيرها. جميعهم فشلوا في تحقيق تقدم بلدانهم قياساً إلى بلدان العالم التي كانت توازيهم في المستوى الحضاري وتقدمت، وجميعهم يجب أن يقع عليهم الحساب. وإذا كانت هناك بعض البؤر الضيقة قد تقدمت نسبياً بسبب البحبوحة المادية، فإن ذلك لا يرجع لنشاط وكفاءة النظم الحاكمة، التي قد تكون أكثر رجعية وانغلاقاً، بل تعود إلى تدفق أموال النفط أو عمولات الشركات.
فإذا أغفلنا الاتجاهات الأخرى، أو ركنّاها جانباً لنتحدث عن الاتجاه القومي كموضوع نضعه مؤقتاً وجزئياً وسريعاً ودون استقصاء وتعمق، تحت المراقبة والنظر، فإننا لا نريد أن نطل عليه أو نحاسبه إلا من خلال أدبياته وشعاراته أو المهمات التي كلف نفسه بها ووضعها على عاتقه، وما حققه منها في مرآة الثورات العربية المتلاحقة والمنتشرة من المغرب إلى المشرق، مع ضرورة الإنصاف مسبقاً، وعدم الوقوع في أخطاء التعميم وإنكار كل إنجاز قد تم، أو إلصاق كل التهم ورمي جميع القاذورات عليه، فشركاؤه كثر فيما وصلت إليه حال العرب، دون إعلان براءته.
لقد ساهم الفكر القومي والنشاطات التي صنعتها التيارات والجماعات والأفراد والأحزاب التي انتسبت إليه واختارته طريقاً، في إيقاظ الشخصية العربية في كثير من الأقطار. ولا نقول إن هذا النشاط كان محصوراً أو حكراً على القوميين ومفكريهم ونشاطاتهم وحركاتهم السياسية والفكرية، صاحبة الدور البارز، وربما كان ذلك أكثر وضوحاً قبل انخراطها في الحكم أكثر مما هو بعده لأن جسامة المهمات التي انتظرتها كانت فوق تقديراتها واستعداداتها وإرادتها، فحققت أشياء وفشلت في الكثير.
وإذا كانت مصفوفة الإنجازات لهذا الاتجاه، هي ما يطالعنا به أنصاره أو منتسبوه، أو يصفعوننا بها في كل مناسبة وموقع، وفيها الصحيح وغير الصحيح، فإن ما يطالعنا به منتقدوا الاتجاه القومي بناء على ما حققه يمكن أن نقيسه على محددات نشاط اليسار وهمومه التي بدت أنها تشغله كما كشفنا عنها وأشرنا إليها في تقويم دور اليسار وعلاقة الثورات العربية الحديثة به من حيث ملامستها أو توجهها باتجاه ما ينادي به.
هنا لا أستطيع الفصل بين قوميتي باعتبار انشغالي بالهم العربي الذي يتجلى للمثقف العربي أو لكل فرد عربي على درجة من الوعي، وبين يساريتي باعتبار عدم استطاعتي الفصل بين هموم الإنسان العربي وأحلامه في التقدم. كما لا أستطيع إغفال حلمي الليبرالي في الحرية، لكن تلك الحرية التي تضع في اعتبارها أنني لست فرداً منعزلاً بهمومي وتطلعاتي، بل فرد في مجموع.
على هذه الأٍسس أراقب فشل الاتجاه القومي العربي في التخلص من الاستبداد، وفشله في إبعاد القوى الاستعمارية عن استغلال الوطن العربي، وفشله في تحقيق الديمقراطية، وفي القضاء على الفساد، وفي إحداث تنمية فاعلة تنجز تقدماً يوازي تقدم الشعوب المماثلة، وفي تحقيق حقوق الإنسان، وفي إنجاز التسامح أو ثقافة احترام الاختلاف وصولاً إلى حق الإنسان في الخطأ.
وإذا كانت كل تلك المهام المشار إليها لم تتحقق على يد الاتجاه القومي العربي حتى في البلدان التي حكمها، مع أنها كانت ضمن أهدافه المعلنة نظرياً وفشل في تكريسها دستورياً وقانونياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً..إلخ، فإن ما لايجوز الحيدان عنه في محاسبة الاتجاه القومي هو الهم الوحدوي العربي، ومدى التقدم في إنجاز الوحدة العربية.
إننا لو نزعنا الوحدة العربية من المشروع القومي العربي، ولو أبعدنا همومها عن اهتماماته الفكرية النظرية، فإنه لن يبقى منه إلا القليل، وهذا ما فعلته السياسات العربية وبضمنها سياسات الاتجاه القومي وحركاته وأحزابه، حيث لم تستطيع التوجه توجهاً وحدوياً قومياً شاملاً وصادقاً، وتقوقعت داخل قطرياتها مصطنعة الأعذار. لكن المحلل لا يركن للأعذار، فكل العوائق كانت واضحة وكل الظروف كانت بينة، وكل الإمكانات يفترض أن تكون تحت الاختبار، وقد وضعت الأهداف وحددت بناء على ذلك، وتحت أضواء هذا الوعي وهذا الفهم. أفليس من حق الناس التساؤل والمحاسبة على الفشل؟ أم هل تبقى عملية التسويف واختلاق الأعذار مانعة النجاح أو إعلان الفشل صراحة؟!
لا نأمل كثيراً ممن يفشلون إلى هذا الحد أن يعترفوا بفشلهم، ولا بأخطائهم، وربما كان فشلهم الأكبر في عدم القدرة على قراءة الأحداث والتغيرات في العالم بشكل مفيد، وعدم القدرة على المراجعة والرصد والتحليل، أو عدم الإرادة على تحقيق ذلك، بالتالي عدم القدرة على التجدد ومواكبة العصر، وعدم وضع التنظيمات القومية في بؤرة الأحداث العالمية وإنجاز وعي مواز. فهل تلام الجماهير التي ملأت شوارع وساحات المدن والقرى في الوطن العربي مطالبة بما فشل به الحكام؟
لم يكن الهم القومي واضح التعبير في الحراكات الشعبية لانشغال هذه الحراكات بهموم أخرى، وما بدا منه كان مستنتجاً يحتاج إلى الحصافة في قراءته لقلة التصريح به على ألسنة المتظاهرين، أليس في غياب هذا الشأن عن الشعارات المرفوعة والمتحدث بها بين الشباب الثائر ما يجعلنا نتساءل: كيف جرى تهميش الهم القومي لصالح هموم أخرى امتلأت بها حناجر الناس؟ وإذا كانت الجماهير لا تتواضع على الكذب في مشاعرها، فهل يعتبر هذا من أشكال الثأر أو المحاسبة للأحزاب والحركات القومية التي كان ينتظر منها أن تفعل فلم تفعل؟ ألا يقول هذا الإغفال: إذهبوا أنتم وتنظيماتكم وشعاراتكم وسياساتكم إلى الجحيم فلم نجن منها سوى الفشل والتخلف؟
هذا الذي قاله الناس أو أهملوه، في شعاراتهم وهم يتظاهرون في ساحات المدن العربية، هو ترجمان مشاعرهم، لكن الملفت فيه أنه يتلاقى مع ما كان بعض المسؤولين يعلنونه في مصر مثلاً، فالدكتور النابلسي يقول إن مسؤولين أيام حكم مبارك صرحوا أن مصر قد ضحت كثيراً في سبيل العروبة وقضايا العرب (وكأنها ليست منهم) وهي لم تعد مستعدة لهذه التضحيات وعليها أن تلتفت إلى مصالحها(11). وهنا سأتوقف لمساءلة أي مسؤول مصري عما يأمله وتأمله مصر في الابتعاد عن العرب بل من حضورها في أي معترك عالمي وهي ترى في نفسها ويرى المصريون أن موقع مصر وإمكاناتها وتاريخها يؤهلها لهذه الزعامة؟
مصر غير قادرة أن تتزعم على مستوى العالم أو أن تصبح أحد أقطابه البارزة في وضعها الراهن بسبب عوامل معروفة، ولا تكفي أمنياتنا لمصر أو أمنيات المصريين، لأن هناك دولاً كثيرة في العالم تسبقها في الثروة والحضور والإمكانات. وهي غير قادرة أن تكون زعيمة في العالم الإسلامي لأن دولاً مثل اندونيسيا وتركيا والباكستان وإيران وحتى السعودية تنافسها في ذلك وحضورها أقوى. وعلى مستوى الشرق الأوسط تنافسها بعض الدول المذكورة إضافة إلى وقوف اسرائيل في وجهها، وهي ذات نفوذ عالمي ما يمنع مصر من تحقيق زعامة مرغوبة. وفي افريقيا لن تسمح نيجيريا وجنوب افريقيا وغيرهما لمصر أن تتزعم على مستوى القارة. فلا يبقى لمصر غير البعد العربي الوحيد، ويرى أن سلوك الكثير من المسؤولين المصريين وتغييب مصر عن أمتها والتفريط بحضورها في أحداث الأمة وعدم التنبيه إلى خطورة ذلك، وإلى السياسات التي تريد عزلها وتقزيمها من قبل الغرب واسرائيل، يحط من قيمتها ومن دورها.
وإذا كان بعض المفكرين المصريين قد رأوا أن مصر ستنتهج بعد الثورة سياسة شبيهة بسياسة سورية، وأن القاهرة ستقترب من خط ممانع يعتمد الخيارات العسكرية، كما ينقل النابلسي عن نيفين مسعد أستاذة العلوم السياسية(12) فيبدو أن الأحداث تشير إلى خيبة أمل هؤلاء وأن مصر تغرق في تبعيتها السياسية للغرب وللمال الإسلامي النفطي أكثر مما سبق.
لقد زرعت في أذهان الناس قناعة مفادها أن الوحدة العربية مطلب الجماهير العربية قاطبة، ربما في بعض الأقطار أكثر من غيرها، وأن أعداء الوحدة ومعوقيها هم الحكام العرب حارسو الحدود القطرية، الخائفون على عروشهم والذين يخافون أن تطيح الوحدة بهم، وواضعو نظم وقوانين الدولة القطرية التي تكرس التفرقة. وها هي الجماهير (الوحدوية حسب الزعم) تنزل إلى الشوارع متمردة على الحكام (أعداء الوحدة) لكن دون أن ترفع شعاراً وحدوياً واحداً، ودون أن تجدد في أهدافها تحقيق الوحدة. لقد كانت العروبة غائبة عن الحراك.
إذاً الوحدة لم تجد لها أنصاراً، لا الحكام ولا الشعوب، بدليل عدم الاستجابة لها من قبل الحكام وعدم المطالبة بها يوم تمردت الشعوب وثارت على الحكام أعدائها التاريخيين المتهمين بتعطيلها. هل يثبت هذا الحكم أمام التحري الدقيق، أمام الظاهر المعلن والخفي المبطن؟ ألا يمكن أن نقرأ في الحراك معاني يصرح بها الفعل دون القول؟
إن المقروء في الأحداث التي حدثت وفي الحراكات التي فاقت كل تصور، هو إهمال كل الشعارات العروبية الوحدوية، أو غياب الهم القومي لصالح القطري والمعاشي، ولصالح الحرية والديمقراطية والعدالة والنزاهة وتأمين فرص العمل والشفافية...إلخ. وفي الوقت الذي كان المأثور عن المثقفين العرب أن الجماهير غير قادرة على صناعة التغيير، وهذا أيضاً ما كان يردده زعماء المعارضات من المثقفين، ومن أبرزهم برهان غليون الذي قفز من فكره السابق الذي يصر على حصر إمكانية التغيير بالنخب، ليصبح أحد زعماء الحراك الجماهيري الشعبي، أو الذي لم يجد أمامه مركوباً آخر للوصول إلى ما يريد من الزعامة غير هؤلاء، فاستبدل عقله ورأيه السابق بما وجده سائداً يمكن استغلاله.(13)
قلنا سابقاً وفي أكثر من مجال إن المعادل الموضوعي لمفهوم القومية العربية والشعارات القومية المرفوعة هو الوحدة العربية، ويعتبر إهمالها أو تغييبها عن ميدان الحراك وشعاراته هو مؤشر باتجاه ما، استشعره المعنيون، فسيمر أمين الذي يعتبر أن ما حدث أكثر من حركة وأقل من ثورة، كما أشرنا، يرى أن العناصر التي تكوّن الحراك وتقوده هم الشباب المسيس والمنظم، والذي يقول عن حركته إنها معادية للاستعمار على أرضية وطنية ’’لا أقول إنها بالضرورة قومية عربية، لأن هناك درجات مختلفة من الوعي القومي تظهر أحياناً بينهم، وأحياناً يختفي الوعي القومي لصالح الوعي الوطني المصري فقط’’ ويؤكد أنه ’’لدى هؤلاء الشباب ميولاً نحو التعاون مع البلدان العربية، لكنهم أيضاً يشعرون بنفس الأمر تجاه البلدان الأفريقية والآسيوية وبلدان الجنوب بوجه عام’’ إضافة إلى الميول اليسارية التي يراها ظاهرة عندهم.
عندما نقول إن هناك مساواة في المشاعر والتوجهات ورغبة التواصل الشبابية الظاهرة في هذه الثورات، بين البلدان العربية والآسيوية والأفريقية وبلدان الجنوب عامة، فنحن أمام تراجع أو انحسار في الشعور القومي والتوجهات القومية بشكل واضح، فعندما يساوي الإنسان بين أبناء أمته وغيرهم من أبناء الأمم، يعني أنه ليس لديه شعور خاص أو مميز تجاههم، وليس لهم أية أفضلية في التعاطي والالتزام، وهذه خسارة للشعور والتوجه الوحدوي أو التضامن العربي، فلكي يوجد هذا الشعور ويحقق مطلبه، يجب أن تكون شحنة قوية، أو أقوى من شحنة مشاعره تجاه الآخرين كي يحصل الحافز.
وإذا كان الشباب المصري، صانع الثورة، ليس لديه توجهات قومية واضحة أو مميزة، فإن المنخرطين الآخرين اللاحقين بهم في الثورة من ليبراليين ويسار راديكالي، المنتمين إلى الفئات الوسطى الديمقراطية، هم أكثر بعداً عن التوجه القومي وعن المشاعر الوحدوية، لأن البرجوازية كطبقة في مصر موصوفة بالرجعية كما يرى سمير أمين ولن تكون حاملة للهم القومي أو ليست ذات توجهات قومية، وهي الممثلة لليبرالية في الحراك. وهذا ما يدفع للقول إن الحراك الثوري غاب عنه البعد القومي لصالح أبعاد أخرى وطنية أو محلية او إقليمية أو اجتماعية...إلخ(14).
ويلتقي حلمي الشعراوي مع سمير أمين ويتحدث عن إعادة اكتشاف مصر في افريقيا، مؤكداً أن: ’’إعادة الاكتشاف، لأني أرى وجوب إعادة المصريين لاكتشاف هويتهم الافريقية، إلى جانب العربية التي أكدها التحام ثورة الشعب المصري مع التونسي والليبي’’(15). وإذا كانت الهوية أية هوية ليس في مصلحتها أن تكون أحادية أو منغلقة أو نهائية، بل تغتني بتعدد مكوناتها، فإن وضع الأفريقية إلى جانب العربية كمكون للهوية هو نغمة أخرى قد لا ترضي القوميين العرب الذين ناضلوا لتأكيد قومية مصر، وجعلوها زعيمة العرب والعروبة باعتبارها الأكثر عروبية وانتماء لا ينافسه انتماء آخر إلا كان خاسراً. وهذا يعني أن الخسارة تلحق بالقومية العربية.
ويؤكد الهادي التيمومي أن الانتفاضة التونسية لم ترفع: ’’شعارات دينية أو شعارات قومية عروبية أو شعارات مناهضة للرأسمالية أو للامبريالية او للصهيونية’’(16) وهذا يعني الحياد في المشاعر والتوجهات تجاه أية انتماءات أو صراعات، كانت ولا تزال تؤثر في الواقع العربي تأثيراً شديداً، سلباً أو إيجاباً. لكن ألا يحتمل أن يكون ذلك مؤجلاً ريثما يترسخ نصر الثورة؟!
من ناحية اخرى، فإن القوة القومية من أحزاب وحركات، حددت لنفسها مهمات وجدت أنها هي الأهم لتحقيق أماني العرب كأمة واحدة، سواء استفتي العرب حول هذه الشعارات أو لم يتم استفتاؤهم، فقد بقيت الشعارات النضالية المعلنة لهذه القوى، لم تسقط أياً منها، ولم تساوم عليها، وهي الوحدة العربية، والحرية لهذه الأمة، والاشتراكية في المجال الاجتماعي. وقد رفعت هذه الشعارات من قبل أبرز القوى القومية في الوطن العربي مثل حزب البعث العربي الاشتراكي والاتحاد الاشتراكي العربي، وغيرهما من القوى والتنظيمات. ولقد استنتجت هذه الأهداف من العناصر والمقومات الجامعة للأمة مثل وحدة الأرض واللغة والتاريخ والمشاعر من آلام وآمال ووحدة الحضارة والإرادة...إلخ، وطريقة تفكير القوى الناهضة بها، فإذا اختلت هذه المقومات أوضعف تأثيرها أو الشعور باهميتها ودورها في الاعتبارات الجامعة بين العرب، فهذا يعني اختلال الأسس التي تبنى عليها الوحدة التي ينادى على أساسها بجمع العرب في دولة واحدة، أو بتضامنهم على الأقل.
وما يجب أن يشار إليه كمؤشر على دور وفعالية التنظيمات القومية والدول التي ترفع شعار القومية العربية والوحدة، وفي طليعتها سورية المحكومة منذ نصف قرن من قبل حزب البعث فإننا نرى أن الانتفاضة التي حصلت فيها، قد حصلت ضد هذا التنظيم والنظام القومي، مع الكثير من التحفظات والشكوك والتساؤلات حول الحراك المريب في سورية، حيث اختلط فيه الداخلي بالخارجي، والصادق بالكاذب، والبريء بالمتآمر. وفي هذا مؤشر على موقع القوى القومية أو على أدائها غير المقنع تاريخياً.
من جهة أخرى تظهر الحراكات الثورية الكثير من الاهتزازات بالعلاقات الوشائجية بين أبناء الأمة الواحدة، والكثير من التفارق في السياسات القومية، والكثير من التصدع في المبادئ والمقومات. ففي أواخر الشهر العاشر من عام 2011 مثلاً، أجرت صحيفة صنداي تلغراف وتلفزيون روسيا اليوم لقائين مع الرئيس السوري بشار الأسد، وهو إضافة إلى كونه رئيساً للجمهورية الأكثر إعلاناً عن توجهاتها العروبية بين الدول العربية، فهو الأمين العام للحزب القومي الأبرز وهو حزب البعث، مع ذلك يؤكد في المقابلتين أن سورية ليست تونس أو ليبيا، لا من الناحية الجغرافية ولا السكانية ولا السياسية ولا التاريخية!!
فماذا حصل لوحدة الأرض والتاريخ اللتين هما من مقومات القومية العربية، وماذا حصل لوحدة الشعب العربي على أرضه، كعوامل مساهمة في إغناء الشعور القومي الذي يقوم على أساسه النضال من أجل الوحدة العربية؟ وإذا كانت هذه المقومات قد اكتشف أنها لا تشكل جامعاً للأمة أو عناصر عيش مشترك بين أبنائها توجههم نحو مستقبل مشترك، فما الضمان ألا تسقط غيرها من المقومات؟ وهل تبقى مصداقية الدعوة إلى الوحدة عند التنظيمات القومية كما هي؟!
فيما ذكرناه آنفاً، هناك مؤشرات على تراجع الهم الوحدوي العربي، أو تراجع التمكين التأسيسي فكراً وواقعاً لمقولة الوحدة العربية كشعار من أهم ما يشغل الساحة العربية من شعارات، خلال ما يزيد على نصف قرن سابق، وتراجع شعار الوحدة المحببة إلى الجماهير، يؤسس له محاولة نسف أو تجاهل الأسس التي يقوم عليها وتراجع دورها التاريخي. وهذا ما قرأناه في المؤشرات السابقة، وما يؤكده الساسة العرب الذين فقدوا ثقتهم حتى بالجامعة العربية هذا الجهاز الكرتوني الذي يجمع العرب، والذي فقد عروبته وانتماءه القومي في نظر بعض المسؤولين مثل عبد العزيز بلخادم، الأمين العام لحزب جبهة التحرير الجزائرية، الذي صرح أن الجامعة العربية لم تعد جامعة ولم تعد عربية، وذلك تعليقاً على موقفها من الأحداث في سورية بتاريخ 19/2/2012 لأن الجامعة عملت على استدعاء التدخل الأجنبي عن طريق مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة، في سورية.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإن المعاناة المولدة لهذه الثورات العربية لم تكن الوحدة وهمومها غياباً أو حضوراً، اتفاق العرب عليها أو رفضهم لها، أهميتها أو عدم ضرورتها وتراجع نضالاتهم من أجلها. المعاناة المولدة لهذه الاحتجاجات بعيدة عن قضية الوحدة والقومية العربية، ولها علاقة بسوية عيش المواطنين وكرامتهم وحريتهم وهمومهم الحياتية المباشرة، والخروج بأوطانهم من حالة الخمول والضعف والاستنفاع والارتهان للأجنبي أو السلفية المعوقة للتقدم، إلى مناخ العصر ومناكبة الشعوب والأمم الأخرى.
إن التعبير الأول والمطلب الأول للاحتجاجات، كان مطلب الحرية وإسقاط الاستبداد باعتباره نافياً لحرية المواطن والوطن، ومانعاً له من تحقيق وجوده الفاعل وكرامته. وهذا مبحث آخر. لكن المؤشرات التي تؤكد مصداقية الشباب في بحثهم عن حرية مفقودة أو غير متوفرة، هي الشعارات التي أطلقها الشباب عفوياً في بدايات تحركاتهم، وقبل أن تصبح مركبة في كثير من المواضع، وقبل أن يلعب السلاح دوره في مواقع أخرى، وقد اعترف المسؤولون بأهمية ذلك وبأحقية وأهمية المطالب. وهذا ما أكده رئيس الجمهورية في سورية في أول خطاب له بعد بداية الحراك في سورية، وكأنه يقول نعم الحرية لم تكن متوفرة بالشكل الكافي ومطلبها من قبل الشباب حق، باعتبار أنه لم يكن هناك مطلب غيرها في البداية.
مطلب أو واقع الحرية، لا حق في تراجعه في الحياة العربية بواقع الوحدة. الوحدة متراجعة في الواقع العربي، والحرية أيضاً، وما أظن أن الاشتراكية أقل تراجعاً، بل هي الأكثر تراجعاً بين الأهداف القومية الثلاثة، كما هي في تراجع عالمي، حتى وإن لعب التحايل والتذاكي دوراً في محاولة إبقائها في شعارات مثل اقتصاد السوق (الاجتماعي)، ما جعل السوق يتقدم والاجتماعي يتراجع. لكن اللافت أن مطلب الوحدة ومطلب الاشتراكية أهملا في الحراكات الثورية غير مأسوف عليهما فيما يبدو، وبقي مطلب الحرية يقود أحلام الجماهير. ولهذا دلالاته الصارخة.
ما الذي يمكن استنتاجه أو فهمه مما تقدم؟ هل انتهت القومية العربية والفكر القومي العربي والوحدة العربية أو مشاعر العروبة إلى هذا المستوى من البؤس النظري والعملي الإجرائي؟ أم ان هذا النضالات وهذا الفكر والمشاعر قد تم تأجيلها أو رفضها، أو أنها آلت إلى شكل آخر من أشكال التحقق او التمظهر؟
وإذ انطلق من نفسي أؤكد شدة ترحيبي بهذه الثورات منذ انطلاقتها في تونس بطابعها الشعبي غير النخبوي، وذلك لأنني شعرت منذ زمن طويل اهتزاز ثقتي بالنخب، كما كنت قد استشعرت في الوقت ذاته خمول الجماهير وضعف إرادتها وفقدانها للتنظيم، ماجعلني أشعر بالكثير من الإحباط مثل غيري. لكن عندما استشعرت قوة فعل هذه الجماهير وتأكدت من قوة حراكها ووعيها وتصميمها، عادت إليّ روحي وتنشقت هواء حياة جديدة وكبر قلبي إلى الحد الذي كدت أشعر فيه أن عقلي قد استقال وتوقف عن التفكير لبرهة من الزمن عن هذه اللحظة دون غيرها، لما فيها من الدهشة، ولأني تأكدت ان روح الشعوب قوية فينا، وانتفى موقع موتها من أذهاننا.
وأعود للتذكير أن قوميتي أو مشاعري التي أعتز بها في هذا الجانب، لم تنفصل عن يساريتي العربية غير المنفصلة عن يسار العالم المناضل من أجل كرامة الإنسان، من خلال أممية تبطن رؤيتي ومشاعري. وهذه القومية اليسارية الأممية لم تجعلني أتخلى عن ليبراليتي من حيث اعتزازي بالحرية لي كفرد ولوطني وأمتي كإطار، ولأفراد وشعوب العالم. هذه الأقانيم لاتنفصم ولا تتصارع عندي.
وإذا كنت انطلق من ذاتي فما بدالي شعبياً وعلى المستوى الفكري أنني أتوافق في هذا الأمر مع الأغلبية الشعبية، ومع تيار فكري يستشعر معاني أخرى في هذا الحراك السلمي. مع الإشارة إلى أن توجهه العنفي بالتدخل العسكري الغربي في ليبيا وعنف الإرهاب ومحاولات التدخل في سورية، وتغذية الخلاف بين أبنائها من قبل قوى خارجية، أثار عندي قلقاً ورفضاً، وخوفاً من تزييف الحراك لمصلحة ماضٍ لم نخرج منه بعد، وهو التبعية والخروج من أفق ضيق إلى أفق أضيق، يعتمد خطاباً فئوياً رافضاً للآخر، بدعم من قوى التدخل الغربية الساعية لتحقيق مصالحها.
وجهة النظر الأخرى النافية لتراجع الهم القومي الوحدوي، ولتراجع المشاعر العروبية، والناظرة إلى ما حدث كتأسيس لحراك قومي ملون بلون العصر وله دينامية فاعلة ومؤسسة لمستقبل مبشر، برزت عند المفكر صادق جلال العظم، الذي يرى أن المواطن العربي لم يشعر "منذ زمن طويل نسبياً بتقارب المجتمعات العربية وتشابهها مشكلات ومعضلات وتحديات وانسدادات وحراكات ومخارج وحلولاَ، كما أخذ يشعر في زمن الربيع العربي الثوري الراهن. حتى المعادلة القومية العربية الرومانسية القديمة القائلة بوحدة آلام الأمة وآمالها، اكتسبت أخيراً معنى ملموساً ما، إذ أصبح واضحاً أن آلام وآمال شعوب اليمن وتونس ومصر وسورية وليبيا والبحرين، على سبيل المثال، لم تكن في يوم من الأيام متوحدة عيانياً، وليس رومانسياً، ومتشابهة عملياً وليس تجريدياً، كما هي اليوم، بالفعل، على ما تبين من مطالب المتظاهرين وشعاراتهم واحتجاجاتهم وسلوكهم في كل دولة من الدول العربية تقريباً ويتابع: ’’أظهر الربيع العربي وحدة عربية من نوع آخر أيضاً تجسدت في منهج الأنظمة وأجهزتها الأمنية في التعامل الميداني مع الوضع العربي الثوري المستجد..."(17).
يبدو أن هذه الحراكات وهذه الأنظمة كانت تريد الوحدة العربية والنشاط العربي أو التضامن العربي، بلون محدد ونكهة محددة ومقاسات مدروسة ومراقبة، مغربلة ومنخولة، حتى تصبح مقبولة، وأن التبشير بها على طريقة شاعرها سليمان العيسى:

أطلي علينا وحدة، طيف وحدة بريقاً سراباً، كيفما شئت فاقدمي

لم يكن سوى دغدغة للأحلام والأعصاب والعواطف، بل ربما كانت من الرومانسية التي كانت تلف خطاب الوحدة والخطاب القومي الذي يقوم على الأساس الغرائزي الوشائجي الذي يرجع الأمر إلى الانتماء والعواطف والماضي والقصائد، دون أن تؤسسه إرادة التوجه نحو المستقبل عبر خطوات عملية.
وحدة الآلام والآمال، تعني وحدة الواقع المعاش والمعاناة، بل والبحث عن مخارج، احتفى بها العظم، وعاد للاحتفاء بها في لقاء على إحدى الفضائيات مؤكداً أن هذه الحراكات الثورية أرجعته إلى أجواء الخمسينيات من القرن الماضي، وجعلته يحس بعروبته، مستنكراً القول إن الأنظمة الديمقراطية التي يمكن أن تأتي عقب هذه الثورات، يمكن أن تفرط بالحق العربي، فتتنازل أمام اسرائيل!!
كنت ومازلت أتمنى ان يتحقق كلام وحلم العظم في عدم التفريط والتنازل، ليس أمام اسرائيل فقط، بل أمام أية قوة عالمية كبرى أو صغرى، لكن الأحداث لا تشير إلى ذلك، فشعارات التحرر من التخلف لم تنفع بدليل أن القوى المسؤولة كلياً أو جزئياً عن التخلف عادت من الباب الواسع في مصر وتونس بعد الثورات إلى واجهة المشهد. أيضاً فإن شعارات التحرر من الاستعمار والتبعية لم تتحقق، إذ نلاحظ أن البلدان التي حصلت فيها الثورات قد ظهرت تبعيتها بنسبة ما، كبيرة او صغيرة، لقوى الغرب الامبريالي، فلم تستطع مصر محاكمة أجانب تلقوا أو قدموا أموالاً من الخارج لتمويل نشاطات في مصر، ولم يتوقف الغاز المصري عن التدفق إلى اسرائيل، وكان ذلك من أبرز المطالب. وفي ليبيا بدأت صيحات التقيسم التي تشتم منها روائح الضغوط الغربية والخضوع لها، وهذا المجلس الوطني السوري في الخارج، يستدعي التدخل الخارجي لحسم الصراع لصالحه، وهذا ما يبشر سورية بمصر يشبه مصر العراق أو ليبيا في حال نجاح المسعى. وكل هذا يرد على العظم وعلى المتفائلين بمستقبل يخص التئام شمل العرب.
عبد الإله بلقزيز، رأى أن الوحدة العربية تجسدت في الحراك الثوري العربي بشكل فعلي وعملي. هذه هي المرة الأولى التي تطرق فيها هذه الفكرة مع دليل ملموس او ببرهان كالذي يقدمه بلقزيز لقد كانت الوحدة حلماً، مشروعاً فكرياً، نوايا وتوجهات، فأصبحت الآن واقعاً ملموساً. إذ يرى أن الثورة التي اندلعت في بلد عربي لم تلبث إلا أياماً لا أسابيع ولا شهوراً ولا سنوات حتى انتقلت إلى بلدان عربية أخرى، في الوقت الذي لم تتأثر هذه البلدان بثورات حصلت في بلاد غير عربية سواء في شرق أوربا أو في أمريكا اللاتينية، ليس سوى عدوى ’’قومية الطبيعة والطابع’’ أثبتت أن ’’العوازل والفواصل الحائلة بين المجتمعات العربية أوهن من عوامل الوحدة والتواشج النفسية والثقافية التي تسري فيها وبينها’’ وهي تمثيل تاريخي ناصع الوضوح لانتصار الأفقي على العمودي(18). يذكرنا بلقزيز بهذه المشاعر المشتركة وبالحراك الذي ولدته المصائب، مثل تحرك العرب أثناء العدوان الثلاثي على مصر.
لقد احتوت الأرض العربية ثروات هائلة أصبحت موضع الطمع من قبل القوى العالمية الامبريالية العدوانية، ما جلب لهذه الأمة تعاسة وشقاء لأنها لم تترافق بالإرادة العربية الفاعلة أو الواعدة والواحدة، وهذه ثروة لا تقل قيمة، بل هي التي تعطي الثروات الأخرى قيمتها الحقيقة عندما يتم وضع هذه الثروات قيد التصرف من قبل أبناء الأمة الأحرار، فالحاجة ملحة لتحويل هذه الطاقات وهذه الإرادة من القوة إلى الفعل. فهل نسير مع بلقزيز إلى نهاية الشوط فيكون تدشين الوحدة إيزاناً بتدشين مستقبل الأمة المشرق عن طريق وبجهد الثورات؟؟!!


هوامش

1- مجلة الطريق، العدد /1/ السنة /70/ صيف 2011 ص31.
2- المرجع السابق ص 143.
3- المرجع السابق ص 14.
4- بريان باري، الثقافة والمساواة- نقد مساواتي للتعددية الثقافية، ج1، ترجمة: كمال المصري، سلسلة عالم المعرفة /382/ نوفمبر 2011 ص 16-17.
5- المرجع السابق، ص 111-112.
6- راجع، حسن ابراهيم أحمد، المرأة في دوائر العنف، رابطة العقلانيين العرب + دار بترا، ط1 2010.
7- آلان تورين، ما هي الديمقراطية؟ حكم الأكثرية أم ضمانات الأقلية، ترجمة: حسن قبيسي، دار الساقي، ط2 2001.
8- جورج طرابيشي، المرض بالغرب التحليل النفسي لعصاب جماعي عربي، دار بترا + رابطة العقلانيين العرب، ط1 2005 ص 15.
9- د. محمد أحمد النابلسي، ثورات ملهوفة قراءة مستقبلية للتحولات الشعبية العربية، مركز دلتا للأبحاث المعمقة + دار التنوير، ط1 2011 ص 203-204.
10- المرجع السابق ص240.
11- المرجع السابق ص 244.
12- المرجع السابق ص245.
13- هذا رأي برهان غليون في عدد من مؤلفاته وآخرها حواره مع لؤي حسين، صدر بعنوان: في النخبة والشعب، دار بترا، ط1 2010.
14- سمير أمين، مجلة الطريق، العدد /1/ السنة /70/ صيف 2011 ص 12 وما بعد.
15- المرجع السابق ص153.
16- المرجع السابق ص 99.
17- المرجع السابق ص46.
18- المرجع السابق ص148.



#حسن_ابراهيم_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- هل تتعاطي هي أيضا؟ زاخاروفا تسخر من -زهوة- نائبة رئيس الوزرا ...
- مصريان يخدعان المواطنين ببيعهم لحوم الخيل
- رئيس مجلس الشورى الإيراني يستقبل هنية في طهران (صور)
- الحكومة الفرنسية تقاضي تلميذة بسبب الحجاب
- -على إسرائيل أن تنصاع لأمريكا.. الآن- - صحيفة هآرتس
- شاهد: تحت وقع الصدمة.. شهادات فرق طبية دولية زارت مستشفى شهد ...
- ساكنو مبنى دمرته غارة روسية في أوديسا يجتمعون لتأبين الضحايا ...
- مصر تجدد تحذيرها لإسرائيل
- مقتل 30 شخصا بقصف إسرائيلي لشرق غزة
- تمهيدا للانتخابات الرئاسية الأمريكية...بايدن في حفل تبرع وتر ...


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حسن ابراهيم أحمد - اليساري والقومي في الحراك الثوري العربي