أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رافع الصفار - شقاوات محلة المهدية















المزيد.....



شقاوات محلة المهدية


رافع الصفار

الحوار المتمدن-العدد: 4247 - 2013 / 10 / 16 - 15:24
المحور: الادب والفن
    


عمران أبو قامة
واحد من شقاوات محلة المهدية، بل يذهب البعض إلى القول بأن عمران أبو قامة، وهكذا يلقبه الجميع، هو أحد أشهر شقاوات زمانه. والبعض ممن سمعوا أو شاهدوا شيئا من بطولاته ومغامراته يدّعون بأن سيرته يمكن أن تدون على مئات الصفحات، لتتحول إلى مجلدات توضع فوق رفوف المكتبات، تماما مثل تلك التي تروي قصصا عن (أبو زيد الهلالي) وعنترة..وآخرين.
يقول شيخ طاعن في السن: كان عمران في صباه مليح الوجه، بهي الطلعة، وشعره الأسود يغطي أذنيه وينسدل على الجبين، وقد حذر كثير من الرجال ممن يتصنعون الحكمة والعقل الراجح الأب بألا يترك ولده يسرح ويمرح في الأزقة وفي السوق خوفا عليه من مرضى العقل والجسد والدين، لكن الأب ولشدة فخاره بولده ورجولته المبكرة ينطلق في ضحكة رنانة ويرد عليهم قائلا: ليتجرأ أحدهم ويلمس الولد، عندها فقط ستعرفون من هو عمران. ويسترسل العجوز في حكايته مضيفا: في ظهيرة يوم قائظ، كان عمران في محل أبيه، منشغلا في حفر مقبض منجل عندما اقترب منه شاب معروف عنه في السوق بسوء الأخلاق وقال مخاطبا الصبي اسمع يا عمران، عند ذلك الركن توجد ثلاثة طيور بيضاء، لو ساعدتني في الإمساك بها فسوف أعطيك واحدا منها. ولم يتردد الصبي في القبول. في الركن المعزول، راح الشاب يلاطف عمران ويداعب شعره المنسدل فوق جبينه، بعدها دفعه إلى الجدار، وانحنى لينضو عنه جلبابه. لكن ما حدث في اللحظة التالية لم يكن في الحسبان، إذ انتفض الشاب متراجعا إلى الوراء، ثم اندفع إلى وسط السوق وهو يعوي والدم يتدفق من بين فخذيه.
تلك كانت الحكاية الأولى التي جعلت من عمران بطلا يتردد إسمه على الألسن وهو لم يزل بعد صبيا في العاشرة من عمره. عندما صار شابا يافعا بهي الطلعة، تحلم به الفتيات، وتلاحقه نظراتهن من خلال الأبواب والشبابيك والشرفات، بدأت أشهر حكاياته تنسج خيوطها على أفواه الحاقدين قبل أن يضفي المحبون عليها اللمسات الأخيرة. وحسان الأعور، ذلك الشاب المشوه قلبا وقالبا، والذي ملأ قلبه الحسد والغيظ والحقد، هو النساج الأول لفصول هذه الحكاية.
لم يتجرأ أحد من أهالي المهدية أو من خارجها على الدخول ليلا إلى دربونة (أبو قامة)، ذلك الزقاق المهجور المنعزل والذي ينتهي بالخرابة التي تعرف باسم "الطمّة". وتحتفظ الذاكرة بين طياتها بتفاصيل قصة اختفاء (أبو قامة) الذي أعلن في إحدى الليالي على صحبه في المقهى بأنه قرر أن يقضي ليلة الخميس في الطمة وسوف يأخذ معه زادا وماء وشمعة وسيترك الباب مشرعا لكل من يود الانضمام إليه ويشاركه مغامرته على أن يكون أول شيء يفعله في الصباح هو التوجه إلى مطعم (أبو علي) كي يتناول "باقلاء بالدهن مع البيض المقلي"، يتوجه بعدها إلى المقهى لاحتساء الشاي، فمن يرغب في سماع تفاصيل المغامرة يتوجب عليه أن يتواجد في المقهى قبل موعد الصلاة.
في الساعات الأولى من صباح يوم الجمعة تجمع شباب المحلة في المقهى ليحتسوا الشاي والقهوة والحامض والدارسين وعيونهم مشدودة إلى الطريق تترقب قدوم أبو قامة الذي يبدو أنه نسي موعده معهم أو أن عارضا ما أعاقه عن الحضور إلى المقهى في الموعد المتفق عليه. حان وقت الصلاة ولم يظهر أبو قامة، ولم يكن موجودا في بيته. اختفى من المحلة بأكملها. عندها تجرأ عدد من الشباب على الوقوف عند مدخل الزقاق المسحور بعد أن تعوذوا من الشيطان الرجيم، وذكروا الرحمن الرحيم عدة مرات، ثم راحوا ينادون على (أبو قامة) عسى أن يلبي النداء. تكررت أصواتهم متقطعة، مترددة، مرتعدة أكثر من مرة ولكن دون جدوى. لم يرد عليهم سوى الصدى. رحل أبو قامة، ولم يرجع إلى أهله وبقيت سيرته تروى في مجالس الرجال ومجالس النسوة وكلما طلب طفل من أمه أن تروي له حكاية أو إن أرادت تلك الأم أن تزرع الخوف في قلب إبنها وتدفعه إلى النوم كي تتفرغ لرغبات زوجها.
ووجد حسان الأعور بين تلافيف هذه القصة فرصة ذهبية للإيقاع بالنجار والتخلص منه. وجاءت البذرة الأولى في المقهى: صدقوني لن يميط اللثام عن سر الدربونة غيره. الفتى من عندكم، لديه الشجاعة والجرأة والفطنة والحلم ورجاحة العقل، ولو ضاعت هذه الفرصة فلن تعوضوها. بعدها راحت دائرة الحكاية تكبر وتتسع وتزداد عمقا وتأثيرا، ووصلت نتف منها أسماع النجار وأبيه وعدد من الأصدقاء المقربين. قال له أبوه: لا تندفع، قد يكون وراء الحكاية دوافع خبيثة تريد بك شرا. وكان عمران يرى في عيون صحبه والآخرين تفاصيل رغبة عارمة متأججة لم يكن قادرا على تجاهلها. قال لأبيه: ليس أمامي من سبيل آخر يا أبي. وهكذا، وفي ليلة اكتمل فيها القمر، حمل معه زادا وماء وشمعة وتوجه إلى دربونة أبو قامة ليقضي الليل بطوله بين أحضان الجن والعفاريت والطناطل ومخلوقات أخرى لا يعلم عنها شيئا إلا الله.
مع شروق شمس صباح اليوم التالي خرج عمران من زقاق الفزع منفوش الشعر، ممزق الثياب، حافي القدمين، لكنه ظل منتصب القامة، ثابت الجنان. وسكان محلة المهدية، رجالا ونساء، شيبا وشبابا وأطفالا تجمعوا بعد انتهائهم من أداء صلاة الفجر على بعد بضع خطوات من مدخل الزقاق يترقبون اللحظة التي يظهر فيها النجار. وحالما حانت تلك اللحظة تعالت صيحات الناس: عاد عمران، عاد عمران. لكن البعض منهم، وربما لضعف البصر، وشحة الضوء، واختلاف هيأة القادم نحوهم تراءى لهم أنه شخص آخر، فرفعوا أصواتهم معترضين وقائلين: ليس عمران، انه أبو قامة. والآخرون يؤكدون: عمران، إنه عمران. بل انه أبو قامة. عمران، أبو قامة. وهكذا اجتمع الإثنان في شخص واحد.
عندما صار بينهم، حملوه على الأكتاف مهللين مكبرين وساروا به إلى حمام السوق. بعد أن حلق لحيته، واغتسل وشرب الدارسين على الدكة وارتدى ملابسه توجه الى المقهى تحف به كوكبة من أصدقائه المخلصين الذين صاروا يعرفون فيما بعد بأنصار السيد عمران أبو قامة. وفي المقهى التي غصت بالزبائن الذين زحفوا إليها منذ الصباح الباكر كي يتمكنوا من مشاهدة وسماع الرجل الذي غلب الجن والعفاريت وصار بحق بطل أبطال زمانه، تصدر أبو قامة الجلسة بين أنصاره ومريديه.
يتنحنح النجار، يتلفت حوله ويقول: حالما اقتربت من الدربونة، توقفت عند المدخل. تعوذت من جلاّب المصائب والرزايا والشرور، وذكرت إسم الرحمن، ثم دلفت الأرض المسكونة. أحسست وأنا أتقدم داخل الزقاق بقوة خفية تسحبني إليها. وكانت الشمس قد سحبت أذيالها، وراحت العتمة تنشر غلالتها في أرجاء المكان. اقتربت من باب خشبية مواربة، دفعتها بكفي، فأنّت متوجعة متأوهة. عبرتها إلى مجاز مظلم، هواؤه فاسد مشبع بالرطوبة. ينتهي المجاز بساحة دائرية مفتوحة إلى السماء، تتوسطها جنينة صغيرة مسورة تنهض فيها مجموعة من أشجار الليمون والبرتقال الطالعة بأغصانها المتفرعة إلى الأعلى. ومن بين جذوع الأشجار رأيت ضوءا ضعيفا يتراقص، فسرت عندئذ في جسدي رعشة خوف. لكني رغم ذلك الخوف الذي راح يتفرع في دمي، تقدمت باتجاه مصدر الضوء. رفعت رأسي أريد أن أتطلع إلى النجوم التي ترصع صفحة السماء، فلم أر السماء ولم أر النجوم. كانت هنالك كتلة عديمة الشكل، هائلة في الحجم تحجب السماء تماما. فجأة راح ذلك الشكل المهول يطلق أصواتا غريبة على الأذن، كأنه يطلق هواء فاسدا من جوفه، أو يطلق أصوات احتجاج واستهجان من بين شفتيه. تعوذت من الشيطان الرجيم، وطوقت نفسي بإسم رب العزة، علام الغيوب، خالق الأنام وواصلت سيري باتجاه الضوء المرتعش. دنوت من حجرة بابها مفتوح وينبعث منها ذلك الضياء الواهن الذي قادني إليها. رحت أتفحص محتوياتها، وأنا أتعجل الدخول قبل أن يلجأ الطنطل، تلك الكتلة الهائلة المعلقة فوق رأسي، إلى رفعي اليه أو ربطي إلى جذع إحدى الأشجار، وكان في تلك اللحظة يطلق صفيرا طويلا يعلن فيه عن إستهجانه واستنكاره.
أرضية الحجرة مغطاة بالفرش والأغطية، والضوء المتراقص ينبعث من فانوس يتدلى من السقف. سمعت صوتا أجشا ينادي علي قائلا: اخلع نعليك وتفضل بالجلوس أيها الآدمي. وكان الصوت يأتي من مكان ما في الغرفة، لكني لم أتبين وجود أحد. لم أقو على الحركة. بقيت متسمرا في موضعي عند المدخل. عاد الصوت يكرر قائلا: اخلع نعليك أيها الآدمي وتفضل بالجلوس. خلعت نعلي وتقدمت إلى منتصف الحجرة، وقرفصت جالسا على الأرض وأنا أتلفت حولي. طيور الفزع راحت تفتح أجنحتها في صدري، والظلال القاتمة ترقص في أحضان الضوء الشاحب فوق جسدي، على الأرض، في الزوايا وعلى الجدران. لا أحد غيري. ويأتي الصوت ليؤكد ذلك: لا أحد غيرك، فأستجمع شيئا من جرأتي المسفوحة عند قدمي طنطل الخوف وأطلق صوتي قائلا: أين أنت؟ ومن تكون؟ ويختلط صدى صوتي بصوت الآخر: لا تقلق، فأنا مجرد باب سحري، وسوف أسمح لك بالمرور إلى بغيتك لو تمكنت من إشباع فضولي. يتهدج الصوت في حنجرتي وأنا أتساءل: وماذا تريد؟ يمتد السكون عميقا، يتغلغل بين ثنايا محطات الرأس، ويمتزج بمويجات الخوف المتدفقة من نبع الروح. أجمع شظايا صوتي مرة أخرى: لماذا لا تتكلم؟ ماذا تريد؟ يأتي الرد سريعا حاسما: بل ماذا تريد أنت؟ ما الذي أتى بك إلينا؟ صدقوني، عندما قلبت الأمر مع نفسي، لم أجد عذرا أو سببا مقنعا يدعوني إلى خوض تلك المغامرة. رحت أقلب الخيارات في رأسي لعلِّي أجد الرد الذي يشبع فضول السائل. ولم يطل بي الأمر إذ عاد الصوت ليقطع علي حيرتي ويحسم الأمر: لا تتعب نفسك. لن تقنعني بأسبابك. هنالك سبب واحد، ولن تجرؤ أنت على الإفصاح به. البشر، أيها الآدمي، كائنات مغرورة ومجنونة. أردت أن أعترض، أن أعلن عن إحتجاجي على تلك الإهانة التي وجهت لبني البشر، فرحت أجمع شتات أفكاري، وأرتب الكلام كي أعلنها صرخة مدوية في وجه ذلك الكائن المسخ الذي وصم البشر بالغرور والجنون. لكني، أحسست بعد حين، بأني لا أملك أفكارا ولا أجيد كلاما ينفع في التصدي لتبجح الكائن الخفي. وبصراحة، آثرت ألا أثير غضبه، فيسلط علي من الشرور مالا أطيق. عاد الصوت متسائلا: لو سألتك عن أكثر الكائنات ظلما لبني جنسه، ترى أي الأسماء ترد إلى ذهنك؟ أدركت عندها سر اللعبة، وقررت مجاراته: الإنسان بالطبع. قال: هل أنت متأكد؟ قلت: نعم، الإنسان، أكثر الكائنات ظلما لبني جنسه. قال: ذلك هو الكلام الحق، الإنسان هو أكثر الكائنات ظلما لأخيه الإنسان. في كل أفعال الإنسان ظلم يقع على الإنسان. الغش، النفاق، الكذب، التنكيل بالآخرين، الإعتداء عليهم، إستصغارهم، إحتقارهم، سرقتهم، وأكبر الفواحش قتلهم من دون حق. لم أتكلم. بقيت على صمتي. عاد ليقول بعد لحظة صمت: أحسنت أيها الآدمي. سأسمح لك الآن بالمرور إلى بغيتك. وفجأة ينفتح الجدار عن دهليز طويل مضاء بفوانيس متدلية من السقف، وإشعاعات الضوء المرتعشة تتحرك فوق السقف، والجدران، والأرض، والأبواب المغلقة المتراصة على الجانبين. عاد الصوت يحثني للعبور إلى الدهليز: هيا تحرك قبل أن ينتهي الوقت. فنهضت متحركا عبر الجدار المفتوح إلى دهليز الأسرار. ركبني عندها إحساس غامر بالخوف. عشرات الأبواب المغلقة تصطف أمامي. ومن دون إرادة مني، التفت إلى الوراء كأني أريد التراجع والفرار. لكن، هيهات، كان الوقت قد فات، وعاد الجدار إلى حالته الأولى، أصما وصلبا. قلت متسائلا: ما كل هذه الأبواب؟ أجابني الصوت قائلا: كل ما في الدنيا من أسرار. الولادة والموت، الخير والشر، الفضيلة والرذيلة، السعادة والتعاسة، الحب والكراهية. عدت إلى التساؤل والحيرة تضرب حصارها حولي: وما المطلوب مني الآن ؟ جاء رده سريعا، حاسما يقطر سخرية وتشفيا: لاشيء، كل الخيارات أصبحت الآن بين يديك. قلت ودخان الغضب يندفع بقوة إلى قمة رأسي: أين هي هذه الخيارات؟ قل لي، أين الخيارات؟ أطرقْ بابا يُفتح لك. ويطلق ضحكة رنانة مدوية. عندها استدرت ناحية الجدار الأصم وانطلقت بالصراخ: أطرقُ بابا، ينفتح فارتمي في أحضان شرور العالم، أو أسقط في الجحيم أو بين ذراعي الموت. كنت أتوجع من ألم راح ينتفخ في صدري: إسمع، كائنا من كنت، ورحت أضرب الجدار بكلتا ذراعي، وقد تملكتني حالة من الهستيريا، هيا افتح لي الباب. دعني أرجع من حيث أتيت. إنني متنازل عن هذه الرحلة المشئومة ( في الواقع كنت مسلوب الإرادة، والكلمات تخرج مني رغما عني كاشفة عن حقائق مخجلة لم أكن راغبا في الإفصاح عنها على الإطلاق ). رحت أصرخ بأعلى صوتي وأواصل الضرب على الحائط حتى هدني الإعياء. وعندما اختنق الصوت في حنجرتي، وتباطأت أنفاسي، وأنا أتكوم على الأرض عند الجدار، وأرهفت السمع، لم يطرق سمعي سوى صمت مرعب يختلط بطنين آخر ضحكة أطلقها الصوت الخفي والتي راح صداها يتردد في رأسي.
أدركت وأنا أغطس في بركة اليأس بأنه لا مفر من ركوب الفرس الجامح، والانطلاق نحو المجهول. نهضت واقفا على قدمي، تقدمت إلى الأمام بخطوات قصيرة متباطئة، راحت تتسع تدريجيا وتتسارع، والأبواب المتراصة على الجانبين تتراجع إلى الوراء، ولم يخطر في بالي أن أطرق بابا منها. واندفعت عبر ذلك الدهليز، أريد نهايته، لعلي أجد فيه منفذا ينقذني من المصيدة التي سقطت فيها. رحت أعدو، خطواتي تتسارع وتزداد إتساعا، وأنا أضرب الأرض بعنف وقوة، وكنت ألهث، أعب الهواء، ثم أطلقه في شهقات متلاحقة، كنت كمن يعدو خلف سراب يريد اصطياده دون جدوى. كان ذلك ضرب من العبث وكنت أطلب المستحيل، والمرء قد لا ينال المستحيل إلا في أحلامه.
توقفت كي ألتقط شيئا من أنفاسي متكئا على أحد الأبواب. وفجأة تسمرت في موضعي إذ أحسست بالباب تتحرك إلى الداخل. تراجعت إلى الوراء وشهقة رعب حبست الأنفاس في صدري. عندها لفحت وجهي خلجات نسمة اندفعت من خلال الباب الموارب، محملة بعبق التف حول رأسي فأصابته نشوة، وتغلغل بعض منه إلى أعطاف الروح فانتشت هي الأخرى، وبت كالسكران، مبعثرا ومتناثرا. ودون إرادة مني خطوت إلى الداخل، وأغلقت الباب خلفي، كأني لا أريد أن يشاركني أحد من الجن أو الإنس تلك الجنة. وجدت نفسي وسط جنينة شبيهة بتلك التي يرد وصف لها في حكايات ألف ليلة وليلة. أشجار يانعة الخضرة تتدلى من أغصانها المتشابكة فوق الرؤوس فاكهة من شتى الأنواع والألوان. وفجأة، تجسدت أمامي حسناء باهرة في جمالها وروعة فتنتها. أقبلت نحوي والبسمة ترفرف فوق محياها. بادرتني بالقول: كنت متيقنة من حضورك، فأتيت لاستقبالك. أمسكتني من ساعدي، ثم أضافت قائلة وهي تسحبني إليها: هيا تعال معي. تحركت معها وأنا في حالة ذهول تام، أكاد لا أصدق بأنني برفقة إحدى آيات الخلق الرباني. تبعتها وأنا مطوق بتمائم من سحرها الفتاك، مسلوب الإرادة، فاقد البصر والبصيرة، وقدماي تضربان الأرض خلفها، مشدودا إليها بقيود أقوى من سلاسل قدر مجنون أعمى حتى اقتربنا من أرض يتكاثف فيها الشجر وتشتد فيها العتمة، فأحسست بكفها يزداد ضغطا على ساعدي، فسرت عبر ظهري مويجات من قشعريرة باردة. وتحت إشعاعات ضوء القمر المنسلة من بين الأغصان المتشابكة، تكشفت أمامي حقيقة أخرى يتجمد لها الدم في العروق. الحسناء راحت تتلاشى بين الضوء الشاحب والعتمة كي تتشكل في هيئة مخلوق غريب، قبيح، مفزع. تحولتْ الى غول تتطاير من عينيه بروق الشر، وتلتمع فوق أنيابه البارزة شهوة القتل. فتح الغول فمه وأطلق صوتا كالخوار، فأدركت أنني هالك لا محالة. هل أعلن عن استسلامي وينتهي الأمر؟ كان فزعي وغريزة حب البقاء أقوى وأكبر من أن يتركا لي فسحة للتفكير في ذلك. قفزت في الهواء ووجهت ساقيّ نحو صدر الغول. أفلتَ يدي من قبضة كفه وهو يفقد توازنه ليرتطم بجذع شجرة. وكانت تلك فرصتي للهرب والخروج إلى المنطقة المكشوفة حيث تسبح الأشياء في ضوء القمر، فامتطيت صهوة الفزع، وانطلقت أسابق الريح. في لحظة ما، لا يمكن محاصرتها تماما، لحظة تمر كالوهم، أحسست باني مسكون بكائن أقوى وأسرع، ويملك قدرات خارقة. رحت أجري كالريح، وأطير في الهواء عندما برز حجر من الأرض، قبيح كوجه الغول الذي يطاردني وأمسك بقدمي، فانقلبت الدنيا، ثم عادت فاستوت. انقلبت ثانية، ثم استوت. ارتطمتُ بالأرض بقوة وكانت منحدره، فرحت أتدحرج إلى الأسفل حتى غبت عن الوعي.
عندما رفعت رأسي وتلفت حولي بعينين غائمتين، خرق بصري ضوء حاد. كنت ممددا على الأرض قرب شجرة في باحة الدار، وشمس الصباح تتمطى بكسل فوق الجدران وعلى الأرض، ولم يكن هنالك غول أو طنطل أو عفريت أو كائنات أخرى غريبة.

سعدية عمران النجار
حكايتها على كل لسان، لكن أحدا لم يجرؤ أن يجهر بها أو حتى أن ينوه بجانب بسيط منها أمام مهدي عمران محمد النجار. ومهدي عمران بدوره لم يسأل أو يطلب من أحد أن يروي له الحكاية، وبوسعه أن يقرأ تفاصيلها في عيون الناس من حوله وفي نظراتهم وهي أشبه بسكاكين تقطِّع في أحشائه. آه يا ابن الزانية، والله لن أدعك تهنأ بلحظة واحدة من عمرك بعد اليوم.
في صباح اليوم الذي غادر فيه مهدي عمران محمد النجار المدينة متوجها إلى العاصمة عثروا على حسان الحسيني مرميا فوق كدس من الزبالة خارج المدينة مذبوحا وعضوه الذكري محشورا بين شفتيه.
وفي التحقيق الذي أجرته الشرطة، أكد شهود عيان بأنهم شاهدوا حسان لآخر مرة في الحانة عند منتصف الليل. ويقول صاحب الحانة بأن حسان دفع حسابه وغادر الحانة لوحده بعد انتصاف الليل بنصف ساعة تقريبا. وعندما طرح المحقق عددا من الأسئلة تتعلق بالأشخاص الذين يحتمل أن يكون القاتل واحدا منهم، التزم غالبية الشهود بالصمت. بعضهم ردد إجابات مبهمة، وآخرون أنكروا تماما معرفتهم بأية تفاصيل لها علاقة بالقضية.
لكن شقيق المجني عليه، عزيز الحسيني، لم يتردد لحظة واحدة في توجيه إتهامه مباشرة إلى مهدي عمران النجار. وعندما سأله المحقق: هل لديك ما يؤكد إتهامك ؟ أجابه عزيز الحسيني قائلا: الحكاية التي لفقت ضد أخي. يقولون بأنه كان على علاقة مشبوهة بسعدية عمران وأن له يد في هروبها من بيت أهلها.
في مساء ذلك اليوم قامت الشرطة بمداهمة بيت عمران النجار بحثا عن إبنه مهدي عمران محمد النجار، لكنها لم تعثر عليه لا في البيت ولا في أي مكان آخر من المدينة. وإستنادا لشهادة عدد من الرجال الموثوق بهم فإن مهدي رحل إلى بغداد واستأجر تحت إسم مستعار غرفة في فندق قريب من الميدان، بعد أن تأكد له أن أخته سعديه موجودة في أحد البيوت المشبوهة في منطقة الصابونجية.
مع هبوط الظلام توجه مهدي النجار الى أحد أزقة الصابونجية وبحسب الوصف الذي حصل عليه توقف أمام باب خشبية صماء مرصعة بالمسامير الكبيرة السوداء، والفانوس المعلق فوق الباب يرسل إشعاعات ضوء شاحبة متراقصة. ضرب مهدي الباب بجماع كفه بقوة ضربتين متتاليتين ووقف ينتظر. بعد برهة انشق الباب عن وجه ملون، تتوسطه عينان شرستان. نعم. ماذا تريد ؟ رد عليها بنبرة هادئة: عابر سبيل. قالت وهي تنسحب إلى الداخل بصوت ينم عن الاشمئزاز: الله يعطيك. دفع الباب بقبضة يده، فتراجعت إلى الوراء مذعورة. على مهلك، لست شحاذا. أنا مسافر ولدي توصية من (أبو اسماعيل). أجابته بصوت مرتعد: أنت مخطئ. نحن لا نستقبل أحدا. أمسك بها من رقبتها وسحبها إليه فغص الهواء في بلعومها. إسمعيني، لا أنوي إيذاءك، ولكني لن أتردد لحظة واحدة في قتلك. قوديني إلى الداخل. رآها تجلس مع اثنتين أخريين في باحة الدار. نهضت واقفة حالما تعرفت عليه. تقدم نحوها. لم تتحرك من موضعها. أمسك بها من شعر رأسها المضفور وسحبها إلى الأرض. وضع قدمه فوق صدرها، ثم دفع الخنجر بقوة في بلعومها، فتدفق الدم عنيفا بين أصابع كفه. راح جسدها ينتفض تحت قدمه. عيناها تبحلقان في وجهه، وفمها نصف مفتوح وصراخ النسوة وعويلهن يلعلع في أذنيه، لكنه لم يسحب قدمه عن جسدها حتى توقفت الحركة فيه تماما.

صالح مهدي عمران
أبصر النور وأبوه مرمي خلف قضبان السجن، فنشأ وترعرع في كنف جده الحاج عمران مهدي النجار. وعندما خرج أبوه من السجن كان له من العمر ست سنوات، وكان جده يفكر في إلحاقه بالورشة كي يتعلم أسرار مهنة أجداده، لكن أباه أعلن اعتراضه قائلا: لا، سيذهب صالح إلى المدرسة. وهكذا كان صالح أول طفل يخرج عن مألوف العائلة في توارث مهنة الأجداد لتنفتح أمامه أفاق جديدة في الحياة.

علي مهدي عمران
تخرج في جامعة بغداد، أكاديمية الفنون الجميلة، قسم النحت في 30/6/1979. أظهر موهبة فذة في التعامل مع الكتل الخام والقدرة على تحويلها إلى أشكال معبرة ناطقة. لفت الأنظار اليه وهو لم يزل إبن العاشرة عندما كان يلجأ إلى جمع قطع الخشب الصغيرة في ورشة جده ويقوم بتقطيعها إلى أشكال وأحجام مختلفة، يعمد بعدها إلى تنظيمها فوق سطوح خشبية في تشكيلات تثير الدهشة والإعجاب.
وكان أبوه أول المعجبين. أين تعلمت هذا يا ولد؟ فيتبسم علي دون أن يجيب. لم تكن لديه القدرة على استخدام الكلمات للتعبير عما يعتلج في داخله. وفي سنوات الدراسة حظي باهتمام وإعجاب مدرسيه، وكان مشاركا دائما في جميع المعارض الفنية، ولعل الكؤوس والميداليات التي تملأ البيت تؤكد ذلك. في الكلية أيضا نال رعاية أساتذته الذين حثوه على تطوير قدراته بتوسيع ثقافته ومعارفه بالاطلاع على النظريات والمدارس الفنية وآثار عمالقة الفن في العالم. وهكذا بدأت تتفتح أمام علي عوالم سحرية جميلة، وصار يتحدث عن رغبته في إكمال دراسته في إحدى العواصم الأوربية بعد حصوله على شهادة البكالوريوس. جاءته اللطمة الأولى بعد تخرجه مباشرة. وجد نفسه دون مقدمات بين فكي وحش الخدمة العسكرية. كابوس مروع تهشمت عند صخوره سفينة أحلامه الوردية، وتحولت طموحاته إلى محض سراب يتمدد لامعا عند أفق أرض قفر يباب. التحق بوحدته العسكرية يوم 10/9/1979 وليس في رأسه سوى شيء واحد، اليوم الذي يطلق فيه سراحه فترد له حريته وكيانه وأحلامه. في ذلك اليوم جاءته اللطمة الثانية عندما قبرت أحلامه والى الأبد في أرض موحلة عند الحدود. قالوا له: صدرت لنا الأوامر بالتحرك إلى مدينة زرباطية. تساءل وهو في حالة من الذهول: ولكني أكملت خدمتي ولابد من تسريحي. هز الضابط رأسه قائلا: الجيش الآن في حالة إنذار قصوى، والتسريح من الخدمة لا يتم إلا إذا عادت الأمور طبيعية مرة أخرى.
رغم كثرة القوالين والمتقولين إلا أنهم جميعا يتفقون على أن وحشا كاسرا يظهر أحيانا في جلد إنسان بهي الطلعة، ذا مخالب وأنياب وعينين حمراوين تسلل إلى بركة الزيت وألقى فيها عود ثقاب مشتعل، فشب حريق هائل غطت نيرانه قبة السماء، فتنفتح بوابات الجحيم على مصارعها وتنطلق شياطين النار إلى الطرقات تدق طبول الحرب: بيان صادر عن القيادة العامة للقوات المسلحة. بسم الله الرحمن الرحيم. "إنّا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتضر" صدق الله العظيم. يا أبناء أمتنا المجيدة. أيها العراقيون الأماجد. أيتها العراقيات الماجدات. في تمام الساعة الرابعة من فجر يوم الثلاثاء المصادف 31/8/1982 شن العدو الإيراني الجبان هجوما على قطعاتنا في القاطع الأوسط، فتمكن خلال ساعات الهجوم الأولى من تحقيق خرق على بعض وحداتنا العسكرية المتقدمة. وقبل أن ينجلي غبار المعركة وتتكشف الحقائق على أرض الواقع، راح العدو المغرور يزمر ويطبل ويتغنى بانتصارات لا وجود لها إلا في خيالات قادته المجانين. يا شعب العراق المعطاء. من أجل أن تعود الأمور إلى نصابها ونضع حدا للجعجعة الفارغة، ونخرس الأصوات الحاقدة، قام أبناء القائد المظفر، أحفاد علي وسعد وخالد والمثنى والقعقاع، الذين لا ينامون على ضيم، ولا يرتضون ذلا أو مهانة، وفي الساعات الأولى من صباح هذا اليوم المجيد بشن هجوم كاسح ماحق. أيها العراقيون النشامى. في تلك البقعة الغالية من أرض الوطن، البقعة التي حاول التتار الجدد أن يدنسوها بأحقادهم، نشبت معركة ضروس تجلت فيها معاني البطولة والشهامة والرجولة، وكشف عن معدن الرجال. أيها الرجال، الرجال. أيها الرجال الأبطال. دحرتموهم، وأخرجتموهم من أرضنا صاغرين، مقهورين، أذلاء، ملعونين إلى يوم الدين. بوركتم أيها النشامى، بوركت أيديكم، فلقد كان يوما آخر من أيامنا الخوالد، كتبتم فيه سطور ملحمة أخرى تضاف صفحاتها إلى كتاب الزمن الجديد في عهد القائد البطل المنصور. الله أكبر. الله أكبر، وليخسأ الخاسئون.
ضجيج الأناشيد المحتدمة، والخطابات الحماسية المنفعلة، وأخبار القتال والمقاتلين تؤجج القلق في النفوس المكروبة فتزيدها اختناقا. وكانت الأم أول من رفعت عقيرتها بالتساؤل: هل أصاب ولدي مكروه ؟ وأبوه لم يغمض له جفن منذ بدء الهجوم، لم يقرب الطعام، فمه متيبس، لا يتكلم، دائم الحركة كأن نارا تستعر في داخله. عادت الأم تكرر عليه تساؤلها: هل أصاب ولدي مكروه ؟ يجيبها برما بصوت مشدود: إهدئي يا امرأة، إبنك بخير.
في الساعات الأولى من مساء ذلك اليوم المشّرب بالحزن، سرى الخبر بين الناس كسريان النار في الهشيم، وكان مهدي النجار في غرفته يؤدي الفاصل الأخير من صلاته عندما دخل عليه إبنه عامر وجلس مقرفصا إلى جانبه. قال الأب وهو مطأطئ رأسه: ماذا وراؤك؟ يخيم على المكان صمت ثقيل تتصّاعد منه رائحة الفجيعة. يجاهد الإثنان كي يبقيا خارج دائرة الألم. يلتفت الأب ناحية ولده: ماذا أصابك؟ تكلم. ماذا تريد؟ يقول الإبن: سمعت أن جنديين حضرا من الجبهة، وموجودين الآن في مقر الحزب. ويسكت، محاولا أن يلملم شتات أفكاره المتناثرة، ومنتظرا المبادرة من الآخر، لكن أباه يظل مختبئا خلف جدار صمته منشغلا بالبسملة وترديد كلام مبهم نصف مسموع. يعود الإبن ليقول: أريدك أن تأتي معي إلى مقر الحزب لرؤية هذين الجنديين، لعلهما يعرفان شيئا عن علي. يرفع الأب رأسه ويستدير ناحية إبنه. إذا كانت تلك مشيئة الله فلا راد لقضائه. تتساءل الأم : ماذا جرى؟ هل أصاب ولدي مكروه؟ يهز مهدي النجار ذراعه في الهواء برما ويغادران البيت في طريقهما الى مقر الحزب.
أحد الجنديين المكلفين بمرافقة عدد من توابيت شهداء المعركة الأخيرة في حالة من السأم والضجر، قال لصاحبه المضطجع على أحد الأسرة في غرفة الحرس: اسمع، أريد أن أسكر. وقبل أن يدخل في جدال عقيم مع صاحبه سارع إلى استبدال بدلته العسكرية بملابس مدنية وانسل خارجا من المقر إلى أقرب نادي اجتماعي. استقبله عند المدخل المشرف الذي طلب منه أن يسجل إسمه في سجل الزائرين، توجه بعدها إلى صالة مترامية الأطراف تكتظ بالرواد والضجيج والدخان فغمره إحساس بالارتياح، وجمجمته لن تشكو الليلة من الأرق المبرح، وسوف تهدأ الضجة من حوله وتسكت أصوات الانفجارات وتتحول غرفة الحرس في المقر إلى مكان تشيع فيه حرارة الدفء والطمأنينة.
عند مدخل مقر قيادة شعبة الحلة لحزب البعث العربي الاشتراكي جلس اثنان من الحرس متقابلين، ساكتين، كل واحد منهما منشغل في دوامة همومه، مكتئبين، الحزن يمرح فوق وجهيهما. يرفعان رأسيهما ناحية المدخل حيث يقف النجار وإبنه. ردا على تحيتهما. وعليكم السلام. يضيف أحدهما قائلا: تفضل. يقول النجار: نريد أن نقابل الجنديين اللذين، ويسكت. لم يجد في رأسه شيئا آخر يقوله فيلتفت ناحية ولده مستنجدا. يبادر عامر الى القول: نريد أن نسألهما عن أخي الموجود في الجبهة. يقول أحدهما وهو يشير بذراعه في اتجاه معين: ابحثا عنهما هناك في غرفة الحرس.
كان أحد الجنديين جالسا على الأرض يصلي، والآخر نائما على أحد الأسرة. ظل النجار وإبنه واقفين عند الباب حتى انتهى الجندي من صلاته. ألقيا عليه التحية، فنهض الجندي واقفا ورد على تحيتهما ودعاهما الى الدخول. جلس النجار وإبنه على حافة أحد الأسرة وجلس الجندي على السرير المقابل، وقد فتح ساقيه وحشر ذراعيه بينهما. أهلا وسهلا، وعيناه تتفحصان الوجهين الشاخصين أمامه. أهلا وسهلا. وراح يفرك كفيه ويتلفت حوله كأنه يبحث عن شيء مفقود. أهلا وسهلا، والحيرة البلهاء تتمدد فوق وجهه. ويقرر النجار أن يدخل في الموضوع وينقذ الجندي المسكين من دوامة المتاهات التي يوشك أن ينجرف عبر دروبها: ولدي في الجبهة معكم. لعلكم تعرفون شيئا عن أخباره. يسأله الجندي: ما إسمه؟ يجيبه النجار قائلا: علي مهدي النجار. يظل الجندي ساكتا كالأبله كأن الأمر لا يعنيه البتة. يرفع الجندي النائم رأسه عن الوسادة ويقول بنبرة تقريرية جافة: قرأت هذا الإسم في قائمة المفقودين. هكذا تأتي الخاتمة حاسمة كي تسكت أكداسا من التساؤلات التي كانت تجيش في صدر الأب فتغوض في أرض مصفرة جرداء تسفعها ريح صحراوية باردة تطلق عويلا يبعث القشعريرة في النفوس المرتعبة.

صالح مهدي عمران

بعد تخرجه في جامعة بغداد، كلية التربية، قسم اللغة الإنجليزية صدر أمر وزاري يقضي بتعيين السيد صالح مهدي عمران النجار بوظيفة مدرس للغة الإنجليزية على الملاك الثانوي في محافظة بابل. وإستنادا لذلك أصدرت المديرية العامة للتربية في محافظة بابل أمرا بتنسيب السيد صالح مهدي عمران النجار إلى ثانوية الكفل المختلطة لتدريس إختصاصه. يتصاعد دخان الذكريات. يقول صالح وهو يتحدث إلى كأسه، غير آبه بالعيون الشاخصة إليه: تصوروا، أول مرة أسمع فيها بالكفل كانت عندما استلمت أمر التنسيب. قال الموظف وهو يدفع بوجهي نسخة من كتاب التنسيب: غدا تباشر في مدرستك. عندها تجرأت وتساءلت بصوت مرتبك مهزوز: وأين هي هذه الكفل ؟ رفع الموظف رأسه ونظر في وجهي باستغراب: وأين يمكن أن تكون، في الكفل طبعا. ولم أقو على رفع صوتي بالتساؤل مرة أخرى فانسحبت في صمت وحيرة.
قال علي وهو يبدو أكثر استغرابا من موظف الثانوي: لا أدري، ولكني مازلت أذكر تفاصيل دقيقة عن السفرة المدرسية التي قمنا بها إلى آثار بورسيبا. الطريق الزراعي المتعرج والمليء بالحفر والمطبات. التلة المغطاة بالحجارة، ذات الانحدارات الحادة وذلك الفتى الذي تعثرت قدمه بحجر فسقط إلى الوراء وراح يتدحرج بقوة إلى الأسفل، وتلك الغرفة الغريبة ذات الأجواء السحرية الغامضة التي تقع في مكان مرتفع يصعب الوصول إليه. ضريح ملفوف بقماشة خضراء وشموع مضاءة، وشيخ طاعن في السن يلبس السواد ويعتمر عمة كبيرة الحجم خضراء اللون. تملكني الفزع فوقفت عند الباب ولم أدخل. قال لنا المعلم: هذا هو مرقد النبي إبراهيم الخليل. وأذكر أيضا عندما ارتقينا التلة إلى قمتها، وكان المشهد من هناك يسحب الأنفاس من الصدور، ويجعل الرؤوس تدور والسيقان ترتجف، طلب منا المعلم أن نجلس على الأرض. قال لنا: لعلكم تعرفون بأن العراقيين قاموا ببناء دولة عظيمة هنا في بابل وقد حكمها ملوك عظماء تمكنوا من حفر أسمائهم على صفحات سجل التاريخ. منهم على سبيل المثال الملك الشهير نبوخذ نصر الذي قاد جيشا جرارا إلى أرض كنعان كي يلقن اليهود درسا لن ينسوه، فدك قلاعهم فوق رؤوسهم، واقتاد آلافا منهم أسرى إلى أرض بابل. وكان هنالك في العراق شيخ تقي صالح ورع يحظى باحترام وتقدير الجميع، يقال له ذو الكفل. هذا الشيخ كانت له مواقف مؤيدة ومساندة لليهود الأسرى في بابل، فكان وكيلهم وكفيلهم وضامنهم لدى الملك مما حدا باليهود إلى اتخاذه نبيا لهم. وضريح هذا الرجل موجود الآن في مدينة صغيرة تحمل إسمه وتقع على الطريق المؤدية إلى النجف.

كازينو أبو سراج
تقع هذه الكازينو على ضفة نهر ( شط الحلة ) مباشرة حيث يمكن للجالس داخل المقهى أن يتأمل صفحة مياه النهر، والضفة الأخرى والجسر القديم المزدحم بالمارة والباعة الجوالين المزروعين على امتداد الجسر ينادون على بضاعتهم المفروشة على الأرض، شفرات ومعاجين حلاقة، صابون، عبوات شامبو، أمشاط، دبابيس، حفاظات أطفال، علب حليب جاف، سيجاير، سمك حي. والذين يرتادون المقهى هم في الغالب زائرون دائمون يعرفون طريقهم إلى مقاعدهم. أما الغرباء فمع أولى الخطوات يركبهم الارتباك، وتتملكهم الحيرة، وتزوغ أبصارهم بين الرؤوس والأجساد المكتظة داخل المقهى. ورواد المقهى من كل الأصناف والمشارب، فمنهم العمال الكسبة من زبالين وكناسين وحمالين وباعة متجولين وأجراء في محال ومعامل ومصانع يملكها غيرهم وربما الدولة، ومنهم الموظفون من مختلف المراتب والفئات، وهنالك أيضا العاطلون عن العمل. جميع هؤلاء يمارسون كل شيء داخل المقهى، المسموح والممنوع وحتى المحرم، يشربون الشاي والحامض والقهوة والكاكاو وكل أنواع المياه الغازية وأحيانا الكحولية، في السر طبعا، ويدخنون السجاير الأجنبية والمحلية بالفلتر وبدون فلتر والنارجيلة، ويلعبون الدومينو والطاولي والشطرنج والبليارد، ولكنهم لا يلعبون الورق لأنه ممنوع من قبل الحكومة، لكنهم يقامرون في كل هذه الألعاب، ويقامرون أيضا في سباق الخيل، ويتحدثون في كل شيء، في أعراض الناس، في المبادئ، في التجارة والسياسة والأخلاق والدين ويعقدون صفقات مربحة في البغاء واللواط. رغم كل ذلك فان ذاكرة الناس ربطت دون سبب واضح بين المقهى وشريحة المعلمين والحزب الشيوعي.
من محاضر اجتماعات خلية أنصار متقدمين

حزب البعث العربي الاشتراكي. أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة.

محضر اجتماع خلية الأنصار المتقدمين في منظمة الإسكان/ شعبة الحلة.

1. من أحاديث السيد الرئيس القائد صدام حسين ( حفظه الله ورعاه ). حول حديث سيادته مع نخبة من مقاتلينا الشجعان أثناء تقليدهم أنواط الشجاعة.
2. قواطع الجيش الشعبي والتدريب العسكري. تهيئة مجموعة من المقاتلين للالتحاق بالقاطع الجديد.
3. الخفارات والحراسات. تبليغ الرفاق بجدول الخفارات الخاص بمقري الفرقة والشعبة لشهر مايس، مع التأكيد على ضرورة الالتزام بالمواعيد المبينة في الجدول والتبليغ عن أية حالة طارئة قد تحول دون حضور الرفيق إلى الخفارة قبل أربع وعشرين ساعة على الأقل.
4. الاشتراكات. جمع الاشتراكات. التبليغ بعدم التأخر في دفع الاشتراك، وأن يكون الدفع بموجب النسبة المقررة.
5. الموضوع الثقافي. الوحدة الوطنية. كيف نحميها ونمنعها من التصدع. تسليط الضوء على محورين أساسيين: المحور الأول: الأخوة العربية الكردية. المحور الثاني: الفتنة الطائفية ودور قيادتنا في إسكات الأصوات المغرضة التي تحاول أن تزرع هذه البذرة بين صفوف شعبنا الموحد.
6. النقد والنقد الذاتي.
7. الغياب.

عامر مهدي عمران

تعوّد صالح أن يقوم بزيارة أبويه كل يوم جمعة منذ أن استقل في دار لوحده مع زوجته وابنته الوحيدة. وحالما تطأ قدماه أرض البيت، تتهلل أسارير أمه بالفرحة وتتعلق عيناها الكليلتان بقامة ولدها البكر الذي بدأ الشيب يغزو شعره. يجلس إلى جانب أمه على الأرض المفروشة بالبسط والسجاجيد بعد أن ينحني ويقبل رأسها. تصب له الشاي وتقول: أين البنت؟ يخرج علبة السجاير من جيبه. يشعل سيجارتين. يجيبها والدخان يتمطى فوق رأسيهما: حملة تنظيف وامتحانات وواجبات أخرى. بالمناسبة، أين أبي وأين عامر؟ يعلن الحزن عن نفسه في عينيها. تقول بانكسار: منذ أن رحل علي لم أعد أعرف ماذا يجري في البيت. عامر يدخل ويخرج كالغريب، وأبوك ساكت طول الوقت لا يتكلم مع أحد.
كان عامر في غرفته يقرأ في كتاب. يسأله صالح وهو واقف عند الباب: ماذا تقرأ؟ يرفع رأسه ناحية أخيه: تفضل، مجرد رواية للتسلية. يتقدم صالح بضع خطوات إلى الداخل: أليس الأفضل أن تقرأ دروسك. يغلق عامر الكتاب. لا أظن. الدراسة والنجاح تعني التسريع في رحيلي إلى الجبهة، وأنا بصراحة لا أريد أن أموت بهذه الطريقة التي لا معنى لها على الإطلاق. يدنو صالح من النافذة فيطالعه جذع شجرة التوت العملاقة التي تتوسط الدار. أمك تشتكي منك. ينهض عامر واقفا. يرمي الكتاب على الطاولة. تشتكي مني؟ لماذا؟ إنني أحافظ لها على حياتي، وأظن أن ذلك هو غاية مناها. يتبسم صالح. يقول بهدوء: حسنا، مادمت كما تقول حريصا على حياتك، إذن يجدر بك أن تفكر مليا في رفقتك لعصبة الطبالين والزمارين و الشعّارين. يجلس عامر على حافة سريره وفمه نصف مفتوح. لم أفهم. ماذا تريد أن تقول؟ يخطو مبتعدا عن النافذة. هؤلاء الأشخاص مراقَبون. أعني عليهم مراقبة من قبل الأمن والحزب. التقارير المرفوعة عنهم تؤكد بأن لديهم ارتباطات مشبوهة واتصالات بجهات أجنبية، وأحزاب معادية للثورة، وبصراحة، وجودك بينهم قد تكون له مخاطر كبيرة، على مستقبلك وربما على حياتك أيضا.
عامر مهدي عمران النجار، أحد طلبة أكاديمية الفنون الجميلة/ قسم المسرح/ السنة الثانية. متزمت حد التحجر في آرائه وأفكاره التي استقاها من الكتب التي يواصل التهامها ليلا ونهارا خاصة تلك التي تتحدث في الشيوعية ودولة البروليتاريا والماركسية اللينينية والواقعية الاشتراكية، و..و، إلى جانب ما كان يلتقطه من أحاديث أولئك الكبار الذين يسعد أيما إسعاد عندما تسنح له الفرصة لحضور جلساتهم التي تتوزع في أماكن غير محددة، في حديقة الجبل، في إحدى مقاهي باب المشهد، في كازينو أبو سراج، في أحد بيوتات الجامعين أو الطاق أو جبران أو في أحد الأندية الليلية الرخيصة، ولعل نادي العمال هو المكان الأثير لدى زمرة الفنانين، ربما لسعة صالته واكتظاظها بالرواد، وعدم وجود تلك القيود التي تفرضها بقية النوادي على زبائنها مثل اللباس اللائق، والمحافظة على الهدوء، وعدم الإفراط في الشرب أو تجاوز حدود اللياقة في السلوك.
كانت ليلة خميس، وعصبة الفنانين مجتمعة في نادي العمال، والصالة الفسيحة مكتظة بالبشر والضجيج والدخان، وصوت عبر مكبرات الصوت يعلن عن البدء ببيع بطاقات الدمبلة. ينهض أحد الفنانين. يقول بنبرة مسرحية وهو يدفع بكرسيه الى الوراء: حسنا، سأمتطي راحلتي وأنطلق صوب طلل الحبيبة حيث أذرف الدمع، وأتمخط، وأتبول، وأغتسل ثم أعود إليكم بعد أن أتخفف من أحمالي. يلتفت إليه أحد الجالسين ويجيبه بذات النبرة المسرحية الرنانة: هيا انطلق يا أخي قبل أن تفسد علينا المكان بأحمالك.
بعد برهة من الزمن المسفوح على موائد السكر والعربدة يعود الفنان إلى كرسيه، وعلى ما يبدو أنه لم يتخفف من أحماله، بل زاد عليها حملا جديدا. كان ممتقع الوجه، والسيجارة المعلقة بين شفتيه تهتز، ولم يحاول أن يرفع كأسه فتفضحه كفه المرتعشة. خلال لحظة سرت عدوى الفزع إلى الآخرين. يتساءل أحد المحدقين في وجهه: ماذا أصابك ؟ هل أنت مريض ؟ ينحني بجذعه إلى الأمام. تندفع أجساد الآخرين عبر المائدة نحوه. يقول همسا: الجيش يحتل المدينة. يقاطعه صوت متهدج سكران: وما شأنك في ذلك، دعهم يحتلونها. يضيف المرعوب قائلا: هذا ليس كل شيء، رجال الأمن والشرطة يطوقون النادي، وكل من يخرج يتعرض لتحقيق وتفتيش دقيقين، ولا أظن أننا سنتمكن من النجاة منهم.
يؤكد شهود عيان بأن الجمع في النادي لم ينفض إلا بعد انتهاء لعبة الدمبلة، عندها بدأ الحشد ينسحب تدريجيا والموائد تخلو من الزبائن. ويفيد جميع الشهود باستثناء واحد أو اثنين بأن الأمور ظلت طبيعية جدا ولم يظهر ما يثير الريبة طوال الوقت الذي قضوه داخل النادي وأثناء خروجهم منه.
أحد الشهود أكد قائلا بأنه لاحظ أثناء خروجه من النادي وجود عدد من رجال الأمن عند البوابة الرئيسية إلا أنهم لم يحاولوا اعتراض أحد من الداخلين أو الخارجين. لكن عامر مهدي النجار والذي كان موجودا في تلك الليلة في نادي العمال لم يرجع إلى البيت ولم يظهر في أي مكان آخر. في ساعة متأخرة من تلك الليلة المشئومة عاد مهدي النجار إلى إرتداء ملابسه مرة أخرى وخرج يبحث عن ولده عامر، فاعترضته مفارز الأمن والشرطة والحزب والجيش التي كانت تحتل مداخل الأزقة وتنتشر في الطرقات والاستدارات والمنعطفات والجسور وعدد من المقاهي التي أصحابها أو أبناء أصحابها من البعثيين الثوريين. ونفس السؤال يتكرر: إلى أين يا حاج ؟ يفتح الحاج ذراعيه وهو نصف تائه، نصف حائر: أبحث عن ولدي. يتكرر التساؤل: ومن هو ولدك ؟ ما إسمه ؟ يمسك الدوار برأسه. أيهما يختار الأول الذي تركه بإرادته، أم الثاني الذي دفنوه وأحلامه على الحدود، أم الثالث الذي يريدون الآن أن يختطفوه منه. الصغير، خرج من البيت هذا الصباح، ولم يعد حتى هذه اللحظة. يخرج شاب طويل القامة، مفتول العضلات من الظلمة ويقول: ومادام صغيرا، كيف تتركه يتأخر في الخارج كل هذا الوقت ؟ يتبسم برعب: لا ليس صغيرا إلى هذا الحد. انه شاب. طالب في الكلية. يتثاءب آخر، كان جالسا على الرصيف. ينهض واقفا، ينفض بنطلونه من الخلف بكلتا كفيه. عد إلى البيت يا حاج وانتظر حتى الصباح. لن يكون سهلا عليك أن تبحث عنه الآن.
في ساعة مبكرة من صباح اليوم التالي، يحضر صالح إلى البيت، مكفهر الوجه، حزينا، ملتاعا يوشك على الانهيار. الأمر سيئ، سيئ. رجال الأمن اعتقلوه. يترنح الأب كأنه نخلة عتيقة سامقة تسفع رأسها ريح عاتية. ليس من الحكمة أو الشجاعة أن يقف المرء في وجه الغول ويدعي البطولة. كان الله في عونك يا ولدي.

تقرير حزبي
حزب البعث العربي الاشتراكي. أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة.
الموضوع/ تحركات أشخاص معادين للحزب والثورة.

تنفيذا للتوجيهات الحزبية المتعلقة بمراقبة الأشخاص الذين يشتبه بانتمائهم إلى حركات معادية، ونتيجة لتواجدي اليومي في كازينو (أبو سراج)، فقد لاحظت أن أعدادا من عناصر الحزب الشيوعي العميل بدأت في الآونة الأخيرة تتكتل في مجموعات تتواجد بشكل منتظم ملفت للانتباه داخل المقهى وتحت ذرائع شتى، مثل ممارسة لعبة الشطرنج، البليارد، المطالعات الأدبية والفكرية. أو الانتماء لمجموعة الفنانين المثيرة للاستنكار والاستهجان بل وحتى الاشمئزاز في كل شيء، ملابسهم المزرية والمضحكة، شعورهم الطويلة المنفوشة، أحاديثهم الفجة المليئة بالسباب المقذع المنافي لأبسط قواعد الالتزام الأخلاقي والاجتماعي.
مع نفر من هؤلاء الذين اعتادوا أن يتأبطوا كتبا لا يعرفون منها غير عناوينها، كان المدعو عامر بن الحاج مهدي النجار يأتي إلى المقهى كل يوم تقريبا..حتى صار واحدا منهم، يجالسهم ويدخل معهم في نقاشات ( فكرية ومذهبية وثقافية ) ويتحدث معهم في الترابط الجدلي والديالكتيك والمادية والمثالية والواقعية النقدية والواقعية الأشتراكية، ويصل بهم الأمر أحيانا وبأصوات بالكاد يمكن للمرء أن يسمعها إلى التحدث في الدين وفروضه بأسلوب ساخر لا يجوز للرجل المسلم المتدين أن يسكت عليه. إن ما دفعني إلى ذكر المدعو عامر مهدي النجار دون غيره إنما هو حرص مني على سمعة عائلته التي عرفت بمواقفها المشرفة من الثورة وفكر حزبها القائد حزب البعث العربي الاشتراكي، كذلك سمعة شقيقه الرفيق صالح النجار أحد أعضاء منظمتنا.

للاطلاع..، ودمتم للنضال.

النصير المتقدم، عبد عون عبد الله العذاري.

قرار
حزب البعث العربي الأشتراكي. أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة.
الموضوع. تجميد عضوية.
قررت قيادة شعبة الحلة لحزب البعث العربي الاشتراكي تجميد عضوية الرفيق صالح مهدي النجار عضو منظمة الإسكان، وإعفائه من كافة مسئولياته، وسحب سلاحه وذلك لتستره على أخيه المجرم عامر مهدي النجار الذي ثبت ارتباطه بحركة سياسية مشبوهة لديها اتصالات بجهات أجنبية تخطط للقيام بأعمال تخريبية من أجل زعزعة الأمن الداخلي وتهيئة الأجواء للقيام بتمرد عسكري لإسقاط النظام الثوري في العراق.
أمر إداري
وزارة التربية.
المديرية العامة للتربية في محافظة بابل
ذاتية الثانوي
العدد: 44351
التاريخ: 30 / 8 / 1985

الموضوع: تنسيب.
بناء على مقتضيات المصلحة العامة، قررنا تنسيب السيد صالح مهدي عمران النجار مدرس ثانوية 17 تموز للبنين الى ديوان التربية في شعبة الحسابات بدرجة ملاحظ. لاتخاذ ما يلزم، وإعلامنا بتاريخ الانفكاك والمباشرة.

توقيع
المدير العام للتربية في محافظة بابل.

من محاضر مركز شرطة الجبل
العدد: 2127852
التاريخ: 1/6/1990
الموضوع: اختفاء فتاة

بتاريخه أعلاه وفي تمام الساعة السابعة مساء قام السيد مهدي عمران النجار بمراجعة مركز شرطة الجبل للتبليغ عن اختفاء حفيدته المدعوة إيمان صالح مهدي النجار البالغة من العمر خمسة عشر عاما. يقول الجد بأن حفيدته خرجت في الصباح كالمعتاد إلى المدرسة، لكنها لم ترجع إلى البيت. ذهب أبوها إلى المدرسة فأكدت له المديرة بأن ابنته متغيبة عن الدوام طوال ذلك اليوم. زار الأقارب وسأل الأصدقاء ومن لهم معرفة بابنته لكنه لم يعثر لها على أثر. قام بتدوين إفادة الجد المفوض الخفير جساب عودة الحسناوي

إعلان في صحيفة محلية
صاحبة الصورة فتاة في الخامسة عشرة من عمرها، ترتدي تنورة رصاصية اللون وقميصا أبيض (زي مدرسي) شعرها طويل مجدول في ضفيرتين، خرجت من البيت صباح يوم الأربعاء المصادف 1/6/1990 ولم ترجع حتى الآن. على كل من تتوفر لديه معلومات تساعد في الوصول إلى مكان الفتاة يرجى الاتصال بمقر الجريدة، وله مكافأة مجزية من صاحب الشأن.

إيمان صالح مهدي النجار
إيمان صالح مهدي النجار صبية جميلة، شعرها الطويل المشرب بحمرة خفيفة مضفور على الدوام في جديلتين، وجدّتها هي الشخص الأثير لديها للقيام بهذه المهمة، وقد تجهش بالبكاء إذا ما تولى الأمر شخص آخر. قضت طفولتها في بيت جدها، ولعل أتعس اللحظات في حياتها عندما رضخ أبوها لرغبة أمها واضطر أن يستأجر بيتا، وذهبوا ليعيشوا بعيدا عن جدتها. أعلنت الإضراب عن الطعام، ولم تتوقف عن البكاء حتى اضطر أبوها في النهاية إلى إعادتها الى بيت جدها. كانت تحمل الشرائط الملونة والمشط وطاسة الماء وتذهب للجلوس في حضن جدتها دون استئذان مسبق، فتضمها الجدة إليها وتغمرها بالقبلات ثم تبدأ بتسريح شعرها بالمشط بعد أن تبلله بالماء وهي تقص على أسماع حفيدتها قصة الشاب الذي سلبت عقله جنية خرجت له من الماء في ليلة مقمرة. قليلة الكلام، تحلم كثيرا. يقول جدها بأنها أخذت الكثير عن أبيه الذي قرر أن يعتزل الدنيا وينطوي على نفسه في حجرته الصغيرة لا يغادرها إلا لقضاء حاجاته الضرورية، خاصة بعد رحيل رفيقة عمره التي أصيبت بمرض الكوليرا، عند انتشار الوباء في أواخر الستينات، ولفظت آخر أنفاسها في المستشفى بعيدا عن أهلها وأولادها وأحفادها. عافت نفسه مباهج الحياة، ولم يبق له سوى التفرج على الدنيا من خلال كوة زجاجها ملوث بغبار الزمن. وفي يوم مشهود، اكتظت فيه الجوامع والمساجد والمقابر والمقرات الحزبية بتوابيت الشهداء التي تم نقلها من خطوط الجبهة المشتعلة في شاحنات مبردة، خرج عمران من عزلته حاملا كفنه تحت أبطه، وتوقف في باحة الدار أمام ولده وقال بصوت فيه مرارة: لم يعد وجودي بينكم ممكنا. إنني راحل. وخرج من البيت. الحكاية التي شاعت وانتشرت بين الناس بعد ذلك تؤكد أن أكثر من شخص شاهدوا عمران وهو يحث الخطى متجها نحو دربونة أبو قامة. عندما اختفت إيمان صالح مهدي عمران النجار شاعت حكاية بين الناس تقول بأن الفتاة رأت جدها في المنام يدعوها للحاق به في دربونة ( أبو قامة )، فنهضت في صباح اليوم التالي وهي عازمة على الهروب من دنيا البشر إلى عوالم أحلامها الجميلة.


ليبيا / الزاوية 1999



#رافع_الصفار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الذين عصبوا عيني (نسخة منقحة)
- صفحات من -جامع كوابيس الأحلام (رواية قيد الانجاز)
- رشوة
- إنتفاضة
- العراق بعيون أجاثا كريستي - 3
- العراق بعيون اجاثا كريستي - 2
- العراق بعيون أجاثا كريستي - 1
- عندما تصطادني الكلمات - 6
- عندما تصطادني الكلمات - 5
- عندما تصطادني الكلمات - 4
- عندما تصطادني الكلمات - 3
- عندما تصطادني الكلمات - 2
- عندما تصطادني الكلمات
- حالة تمرد


المزيد.....




- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رافع الصفار - شقاوات محلة المهدية