الورقة الثانية من أوراق - فكرية سياسية - في الصيرورة و العنصر الأساسي

سارة سلام

الحوار المتمدن-العدد: 4242 - 2013 / 10 / 11 - 23:05
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    

إن العناصر في ترابطاتها؛ تداخلاتها؛ تفاعلاتها و تأثيراتها المتبادلة، المكونة لهذا الشيء أو ذاك، منظورا إليها من داخل هذا الأخير في علاقاته المختلفة و المتفاوتة بأشياء أخرى تشكل كلا، أي "وَحَدَة أَعْلَى"، هو فيها هذا الشيء عنصرا (أنظر مثالنا في الورقة الأولى: كوكب الأرض و عناصره المكونة له ـ المجموعة الشمسية ـ "درب التبانة" ..)، هي بالضرورة المادية مختلفة و متفاوتة، و معها و بالضرورة إياها تختلف و تتفاوت ترابطاتها المادية التي تنسجها هذه العناصر فيما بينها في صيرورة تكوينها للشيء وسط أشياء أخرى.
هذه العناصر، هي، كما الشيء ارتباطا بأشياء أخرى، ليست كلها، في صيرورات تَكَوُّنِها؛ تَمَوْقُعِهَا و تَنَسُّجِ ترابطاتها، على مستوى واحد من التكون و التطور في صيرورة تكوينها للشيء وسط أشياء أخرى. و لا هي ، في صيروراتها تلك، على مستوى متساو من الأهمية التي يحتلها أي عنصر منها في صيرورة تكون الشيء و تطوره وسط أشياء أخرى.
فمليارات الخلايا العصبية، في صيرورة تَكَوُّنِها؛ تَمَوْقُعِهَا و تَنَسُّجِ ترابطاتها فيما بينها و بالخلايا الذبقية في صيرورة تكون دماغ الجنس "البشري" و التي هي فيها العنصر الأساسي، لا تتكون أي واحدة منها هكذا لحظة واحدة، و لا هي هكذا كلها دفعة واحدة. كما هي، في صيرورتها تلك، لا تتطور بإيقاع واحد، و لا حتى عناصرها التي في صيرورتها تُكَوِّنُهَا، هي الأخرى كذلك.
إن صيرورتها تلك هي داخلية لصيرورة تكون الدماغ، و هي فيها حاسمة. كونها تحتل، ارتباطا بصيرورة الخلايا الذبقية مثلا، العنصر الأساسي في صيرورة تكونه. فأي خلل في صيرورة هذا العنصر الأساسي قد يكون مصيريا في صيرورة تكون الدماغ. و هو بالضرورة المادية ينتج خللا في صيرورة العناصر المرتبطة بتكونه و تطوره، أو في صيرورة العناصر المتكونة لاحقا عليه و بارتباط معه. هذا الخلل لن يحد كخلل في صيرورة تكون الدماغ و فقط، بل يصل مداه المادي عناصر مادية أخرى مكونة للمولود القادم في حال إن كان هذا الخلل في صيرورة العنصر الأساسي، غير أساسي ـ أي مصيري ـ في صيرورة تكون هذا الدماغ. و إلا ينتهي حامل هذا الأخير قبل تبلور أولى أطوار وجوده الاجتماعي الفعلي. نقف اللحظة على إحدى العمليات المصيرية في صيرورة الخلايا العصبية و الحاسمة في صيرورة تكون دماغ الجنس "البشري"، و هي عملية غياب الانغلاق العلوي للأنبوب العصبي التي بها يغيب ـ لاحقا ـ تكون هذا الدماغ، لتنتهي في الغالب صيرورة تكون المولود القادم قبل تبلوره الاجتماعي الفعلي، أو في أقصى الحالات لحظات بعد ذلك. نستحضر هنا أسبقية صيرورة تكون الجهاز العصبي الذي فيه تحتل الخلايا العصبية العنصر الأساسي، في صيرورة تكون الجنين.
للإشارة، فقد التقطنا هنا مقارنة بما تتضمنه صيرورة تكون دماغ الجنس "البشري" من تعقيدات، فقط أهمية صيرورة الخلايا العصبية كعنصر أساسي ارتباطا بصيرورة الخلايا الذبقية مثلا في صيرورة تكون الدماغ. محاولين من جهة، عدم إغراق هذه الورقة بكل تلك التعقيدات. و من جهة ثانية، محاولين عدم العودة بصيرورتها تلك، إلى ما تتضمنه من صيرورات داخلية لها، كصيرورة تشكل الصفيحة العصبية و الأنبوب العصبي. أو العودة بكل تلك الصيرورات إلى صيرورة تطور و تحول هذا الدماغ في صيرورة تطور و تحول هذا الجنس. فهي كلها، بالنسبة لنا، يحكمها منطق مادي واحد من التكون و التطور و التحول. فالأول، تكون الشيء(×)، هو صيرورة تشكل عنصره الأساسي ارتباطا بصيرورة تشكل عناصره الأخرى، و هي كلها، في صيرورة ترابطاتها؛ تداخلاتها و تفاعلاتها، تصير هذا الشيء في تَنَسُّجِ علاقاته بأشياء أخرى. و الثاني، تطور الشيء، و هو مجمل صيرورة عناصره المترابطة فيه في صيرورة هذا الشيء وسط أشياء أخرى. و الثالث، تحول الشيء، و هو صيرورته شيئا آخر وسط أشياء أخرى، و ما تشترطه بالأساس هذه الصيرورة من تحول عنصره الأساسي مترابطا و متفاعلا بصيرورات عناصره الأخرى. و هي صيرورة تحكمها ديالكتيكية الانقطاع و الاستمرار.
إن التمييز بين صيرورات العناصر المكونة في ترابطاتها للشيء من جهة، و بينها و بين صيرورة هذا الشيء من جهة ثانية، هو كما التمييز بين ترابطات هذه العناصر الداخلية للشيء من جهة، و بينها و بين علاقات هذا الشيء بأشياء أخرى من جهة ثانية. هذا التمييز، و هو مزدوج متداخل، يتحدد على أساس الموقع المادي الذي نحتله في الشيء ( أنظر الورقة الأولى: موقع النظر)، و بالتحديد، على أساس العنصر الذي في صيرورته تنطلق صيرورة تكون هذا الشيء (أو تحوله)، و على أساسه تتأكد صيرورات العناصر الأخرى المكونة لهذا الشيء، صيرورات داخلية للشيء من دون أن تكون هي طريقه الأساس في صيرورة تكونه (أو صيرورة تحوله) على الشكل الذي هو ـ الآن ـ عليه وسط أشياء أخرى.
فمن موقع الخلايا العصبية، وحدها، العنصر الأساسي لتكون الدماغ، يمكن التمييز المادي الفعلي من جهة، بينها كصيرورة أساسية و بين صيرورات العناصر الأخرى المرتبطة بها و هي صيرورات داعمة لها في صيرورة تكون الدماغ (صيرورة الخلايا الذبقية مثلا). و من جهة ثانية، بين صيرورات تلك العناصر و صيرورة تكون الدماغ حيث لا تؤدي الأولى للثانية في غياب (أو خلل أساسي في) صيرورة العنصر الأساسي ( في السياسة كما سنرى في ورقة سياسية لاحقة، هذا هو حال القوى السياسية الإصلاحية من طبقة البرجوازية الصغيرة الغارقة فعليا في صيرورات تلك العناصر و البعيدة طبقيا ـ سياسيا عن صيرورة العنصر الأساسي لتحول أو تكون الشيء. و أخطر تلك القوى، هي تلك التي تمارس التضليل الإيديولوجي باسم هذا الموقع الأساسي).
كما أنه لو كان مرجع النظر هو الصفيحة العصبية، و هو طور سابق على تشكل الأنبوب العصبي في صيرورة تكون الدماغ، لكان تحولها إليه ـ أي إلى الأنبوب العصبي ـ من ذاك الموقع، هو صيرورة الشيء شيئا آخر. لتصبح معه صيرورة الأنبوب العصبي و ترابط و تموقع مليارات الخلايا العصبية العنصر الأساسي لتكون الدماغ، من زاوية النظر تلك، شيئا (مستقبلا) مجهولا. (هذا ما تعبر عنه كذلك في السياسة أحزاب البرجوازية الصغيرة الإصلاحية، و أخطرها خط الانتهازية التحريفية ـ حالة تونس و المغرب مثلا ـ حين تصرخ في وجه الخط الثوري بفتح الباب أمام المجهول. سنتطرق لهذه القضية الطبقية بامتياز في ورقة سياسية لاحقة).
لهذا، و من موقع العنصر الأساسي، الخلايا العصبية هنا، تكون صيرورات الصفيحة العصبية و الأنبوب العصبي مثلا، هي صيرورات داخلية و جزء تطوري ضمني لتشكل و ترابط و تموقع الخلايا العصبية في صيرورتها عنصرا أساسيا لتكون الدماغ.
هكذا يتحدد إذن التمييز بين صيرورات عناصر الشيء و صيرورة الشيء، على أساس الموقع المادي الأساسي الذي نحتله فيه و الذي منه يتم النظر إلى صيرورة تلك العناصر في صيرورة الشيء. أي من موقع العنصر الأساسي الذي به يكون هذا الشيء كما هو ـ الآن ـ عليه، أو لا يكون، أو يكون شيئا آخر في غياب عنصره الأساسي ذاك.
إننا لا ننفي هنا علاقات التداخل و التأثير المتبادل بين صيرورات كل تلك العناصر المكونة لهذا الشيء أو ذاك، كما لا ننفي تبادل أهمية الأدوار التي قد تحملها صيرورة أي عنصر منها من طور إلى آخر من أطوار صيرورة تكون الشيء و تطوره. إلا أنها كلها ترجع، في سلسلة تداخلاتها؛ تفاعلاتها و تأثيراتها المتبادلة، إلى عنصرها الأساس الذي به يكون هذا الشيء كما ـ الآن ـ هو عليه، و من دونه لا يكون.
ما نود التأكيد عليه ختاما و بالتحديد في هذه الورقة، هو أننا نجد دائما في كل شيء، أي شيء، عنصرا ماديا أساسيا من دونه يستحيل الحديث عن هذا الشيء كما هو ـ الآن ـ عليه.
هامش الورقة الثانية
(×) ننطلق في الحديث عن تكون الشيء، على أساس هو تحول لشيء ما قبله، و هي عملية لا متناهية من لا نهائية المادة.

ـ على هامش المثال الذي طرحناه في هذه الورقة الثانية، نورد مقتطفين ـ أوليين ـ لمن هو مهتم بما يسمى ب "الحتمية البيولوجية" ("الوراثية" أو "الجينية") التي يسوق البعض لها دعما لأطروحات فكرية هي في العمق عرقية عنصرية بائدة.
يقول بيير كريسينس، طبيب الأمراض العصبية و باحث في مختبر علم الأمراض العصبية ما قبل الولادة:
«Le cerveau fœtal n évolue pas en vase clos. Certes, un poids génétique dicte le calendrier des grandes étapes à suivre, mais le poids de l environnement module ce programme établi dès la conception. Par environnement, il faut comprendre les autres organes du fœtus et l environnement maternel et extramaternel.»
كما نجد في خلاصات ل" دراسة دماغ الأجنة الحيوانية" لمعهد علوم الأعصاب بفرنسا، الفقرة التالية:
«Au cours du développement, l environnement prend peu à peu le pas sur le programme génétique. La nature «sent» quelles modifications apporter en fonction des événements.»

#سارة_سلام (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات