سلام عبود - باحث تربوي وناقد وروائي - في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: هل إعادة كتابة تاريخ العنف مهمة بحثية وثقافية ضرورية لبناء المجتمع المدني المنتج؟


سلام عبود
الحوار المتمدن - العدد: 4160 - 2013 / 7 / 21 - 14:25
المحور: مقابلات و حوارات     

من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة, وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى, ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء, تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا -108- سيكون مع الأستاذ سلام عبود - باحث تربوي وناقد وروائي عراقي-  حول: هل إعادة كتابة تاريخ العنف مهمة بحثية وثقافية ضرورية لبناء المجتمع المدني المنتج؟

الانتقال من الخطابات السياسية الى البحث العلمي


إن المجتمع العراقي، الذي تعرض الى كوارث فريدة، مريرة، لم يتعرض لها مجتمع آخر بنفس القسوة والعمق، أحوج من سواه الى النقاشات العلمية والدراسات التي تعني بالإنسان وعلاقاته الإجتماعية وبنائه النفسي. وربما يكون هذا العوز، مقارنة بطغيان الانشغال بالكتابات السياسية الفجّة،الآنيّة، والخطرات الأدبية، مظهرا من مظاهر الخلل في بنية الثقافة الوطنية، التي لم تستطع حتى الآن وعي ذاتها، من الداخل، وعيا علميا متوازنا، يمكـّنها من رؤية الحقائق الاجتماعية وتفسيرها ووضع الحلول والمعالجات لها على ضوء مناهج العلم. ولم يزل بعيدا عن المنال تحويل هذه المعارف الى وسيلة من وسائل انضاج قرار الحاكم والسياسي، أو تهذيب ممارساته وتصحيح دوافعه وأوهامه.
إن العلوم الاجتماعية والنفسية والجهود التوثيقية لم تزل في طورها البدائي عندنا. لذلك تغرق كتاباتنا في لجج الانشاءات السياسية، وتجرفها سيول الخطرات الأدبية والفنية، باعتبارها هدف الثقافة الاوّل! وهو أمر تجاوزته المعارف الأوروبية التخصصية منذ قرون. الأمر الثاني هو اكتفاء البحث الاجتماعي عندنا بوصف وتفسير الظواهر الدراسية، وفي أحسن الأحوال تبصير القارئ بأخطارها وحسناتها، وبما هو إيجابي أو سلبي فيها. لكن المهمة الحقيقية هي التوغل أبعد في مجال الكشف عن المسببات الثقافية والنفسية للأحداث وبواعثها الداخلية، وعدم الاكتفاء بمظاهرها الخارجية المباشرة، أو العامة. أي تفسير البواعث السالفة نفسها، وردها الى أصولها الأبعد والأعمق، من طريق تحديد منابع ظهورها داخل النفس البشرية، وفي إطار الفعاليّة الاجتماعية، باعتبارها مجالا ثقافيا جماعيا لنشاط الأفراد، وخزانا لتراكم خبراتهم. وعلى الرغم من صعوبة هذه الغاية، لا يسعنا إلا مناشدة الدارسين وحثهم على أن يقوموا بتعضيد هذا الضرب من الكتابات، لكي تكون الصورة أوفي، ويكون الانشغال العلمي أكثر جدوى، وأكثر أصالة وعمقا.
لا أحد في العراق يستطيع أن يدرس واقع العنف اليومي بعمق تحليلي كاف. نظرا لسرعة تتابع وقائع العنف واستمرارها وشمولها وتنوعها، ونظرا لغياب عنصر التوثيق البحثي والقانوني والجنائي وتضارب مصادره. وربما يكون أقصى ما يمكن الوصول اليه، في أحسن الأحوال، هو التركيز على رصد اتجاهات سير الأحداث ووصفها والتعليق عليها. إن هذه النتيجة، مهما كانت إيجابية- ناقدة وفاضحة للإرهاب والعنف والشروالخلل - تـُجيّر في نهاية المطاف لفائدة التيارات العنفية المتصارعة، ولمصلحة استمرار حالة الفوضى والضياع السياسية. لأنها تغدو مجرد تحصيل حاصل، وجزءا من بنية الحالة النموذجية المطلوبة من قبل مديري ومحتكري معادلة العنف، وملمحا من مكونات المناخ العام النفسي والشعوري والمعرفي، الذي تريد القوى المتصارعة جر المواطن اليه جرا، وطمره فيه. أي وضع المواطن في دوامة غير منقطعة من الأفعال العنفية وردود الأفعال، وربطه وجوديا وشعوريا بعجلتها، وإشغاله بها. وهذا يقود بدوره، مع طول وتكرار الأحداث وتواترها، الى وقوع المواطن بشكل حتمي، فريسة للإحباط التام واليأس والملل، وقبل كل ذلك يصاب بحالة من فقدان اليقين والبلبلة التامة. بهذا يغرق المواطن في تفاصيل الأحداث غرقا مميتا، ولا يعود يقوى على تفسير الأحداث وردها الى جوهرها الحقيقي، وأساسها. وهذا ما تريده القوى الأنانية المتصارعة: وضع المواطن في حالة إرباك شعوري دائم، حتى يفقد مقدرته على الرؤية السليمة والإحساس الطبيعي، وتاليا تتشتت إرادته ويفقد مقدرته على اتخاذ القرار المناسب. للخروج من هذا المأزق – باعتباره جزءا من محيط ومناخ البحث العلمي- يتوجب البحث عن منظور جديد، إحصائي تركيبي تحليلي، يتولى مهمة رصد وجمع الحلقات الصغيرة، حتى المهملة، ولكن النموذجيّة، التي نمر عليها يوميا مرور الكرام، والتي تبدو هامشية وتافهة. أمّا الخطوة التالية فتقوم على ربط الوقائع ببعضها، والخروج منها باستخلاصات، تتجاوز حدود الحدث التفصيلي اليومي المهمل، وتتجاوز في الوقت عينه حدود الغطاء التبريري، العاطفي أو الدعائي المثير، الذي يغلف تفاصيل الحدث اليومي ومقاصده السياسية. بهذا ربما نفلح في الاقتراب من لبّ الفعالية العنفية ومصادرها الداخلية، المحتجبة تحت الأبخرة الدينية، وتحت غبارالأتربة العرقية والمناطقية والخلافات السياسية.
ومما يجب ذكره هنا، هو أن شعوبا كثيرة قبلنا، عاشت حروبا قاسية، اندفع علماؤها ومؤسساتها العلمية الى دراسة دوافع تلك الكوارث بسبل شتى، منها التحليل النفسي والاجتماعي، وعدم الاقتصار على الخطابات والانشاءات السياسية، أو حتى على التدوين التاريخي وحيد الجانب.
البحث العلمي في كماشة الموضوعية الشكلية
على الرغم من صدور غير كتاب يتناول ظاهرة العنف السياسي في العراق، إلا أن الحاجة الى تعميق بحث هذا الموضوع لم تزل قائمة وملحّة، لأسباب عديدة، منها أن البحوث المنجزة عن العنف لم تزل شحيحة وعامة، ولم يزل الدرس والبحث التوثيقي في هذا الموضوع في بواكيره التجميعية الأولى؛ أما التحقيق والضبط والمقارنة والتمحيص والتحليل فما زالت بعيدة المنال. إن المرء يسعد حينما يقرأ صفحات خفية من التاريخ العراقي بقلم سياسي عراقي مثل حازم جواد، الذي تولى مهمة خطيرة في حقبة دموية سابقة. ويشعر المرء بسعادة أكبر حينما يجده يتحلى ببعض الروح الناقدة والصراحة غير المتوقعة. لكن ذلك التاريخ المروي على لسان أعلى سلطة في جهاز العنف السياسي، في واحدة من أحلك تواريخ الشعب العراقي، يثير مئات التساؤلات المتعلقة بصحة وتأويل ودرجة صدقية الروايات والرواة. أحداث يعرفها الناس جميعا، أضحت وقائعها أقرب الى الحقيقة الثابتة بسبب كثرة تداولها، لكنها لم تزل تثير الشكوك، بل تضج بالتناقضات: لماذا عدلت رسالة انتحار عبد المحسن السعدون المكتوبة باللغة التركية؟ أين اختفى بعض شهود مصرع الملك غازي؟ هل كان إعدام فهد والقادة الشيوعيين ضرورة قانونية أم حقد سياسي ؟ ما نتائج مثل هذه الأحقاد الدموية في صناعة تاريخ العنف؟ هل حقا أن عبد السلام عارف جرد مسدسه خلسة ليغتال عبد الكريم قاسم، وأن محبا يقظا هجم على المتآمر وجرده من سلاح الجريمة!؟ إذا كان استسلام عبد الكريم قاسم قد تمّ ربطه بمكالمة هاتفية، وبأمل ما، كان مفترضا أن يصدر عن عبد السلام عارف، على طريقة المعاملة بالمثل، فكيف نفسر استسلام المهدواي، الذي كان دمه أحد شعارات الانقلاب التحريضية الكبرى؟ من أصدر أوامر قتل سلام عادل ورفاقه؟ وما موجبات ذلك القتل، ومن نفذ وأشرف على حفلات تقطيعهم؟ لماذا سكت الحلفاء على جرائم تصفية صدام للقيادات البعثية والقومية والعسكرية والإسلامية؟ من هم قادة ومنفذو فرق جهاز الاغتيالات الصدامي ومكتب العلاقات العامة والشُّعب الخاصة؟ ما الصلة التي تربط أجهزة المخابرات بفئات المثقفين والكتاب والفنانين في حقبة البعث؟ ما السبب وراء نشوء ظاهرة تكرار اطلاق سراح المعتقلين الإسلاميين المعارضين اللافتة للنظر بعد اعتقالهم في تهم عسكرية خطيرة من قبل سلطة الدكتاتور؟ ما ارتباط إعلان قيام الجبهة بين البعث والشيوعيين بتصفية جماعة ناظم كزار؟ لماذا لم يذهب الحزب الشيوعي الى المعارضة، السلمية والمطلبية في الأقل، بديلا من عنف الاحتلال وعنف التكفيريين والطائفيين؟ لماذا قتل عدي وقصي بدلا من أن يؤسرا؟ ولماذا حدث هذا أيضا مع الزرقاوي في قبوه تحت الأرض؟ مثل هذه الأسئلة يصح تعميمها على أحداث كثيرة، منها انتحار وإسقاط سياسيين عراقيين، واغتيال بعضهم وإعدام آخرين، في حقب مختلفة، في الداخل والخارج. إن مصادر التاريخ العراقي، المتعلقة بالمسؤوليات الجنائية، وبتوثيق الأحداث، جزء من التباسات الواقع العراقي، وربما تكون جزءا من خصائص هذا الواقع وتشوهاته البنيوية التأسيسية، التي تجعل الدوران في مسارات الخطأ حالة دائمة، والتي تعني أن العنف في الواقع، والعنف مدونا كوثيقة، يعيشان الحالة ذاتها: الإنغلاق التام.


تصحيح التاريخ بأثر رجعي

كتابة التاريخ على يد قتلة تائبين، مهما كانت درحة صدق توبتهم، تحيل التاريخ الى مبهمات سردية مليئة بالأفكار المضللة. هذا الأمر لا ينطبق على حازم جواد حسب، وزير داخلية انقلاب 14 رمضان الدموي، بل على غيره أيضا من قادة تلك الحقبة التائبين. مذكرات القيادي البعثي السابق هاني الفكيكي، " أوكار الهزيمة"، لا تقل فسادا عن مذكرات حازم جواد. عند تحليلها نجد أنها مصممة لغرض منح القتلة شهادات براءة. وربما تصل الأمور حدودا أبعد، حينما يظهر كاتب المذكرات بمظهر المنقذ. وربما لا يكتفي بذلك أيضا، حينما لا يتورع عن الوقوف موقف الناقد لضحاياه، بعد سنين طويلة على إنزال العقاب الظالم بهم. "في أوكار الهزيمة" مثلا يحاول الفكيكي سرد واحدة من أعظم الأفعال جنونية في تاريخ العنف، وأعني بها جريمة "قطار الموت". وبدلا من أن يقوم الفكيكي برواية التاريخ، الذي ساهم هو شخصيا في صنعه، نراه يخلق لنفسه بطولات وهمية تدين الضحايا وأنصارهم، وتحيلهم الى ناكري جميل.
يذكر الفكيكي، (ص 278 ) بأن البكر وعبد السلام قررا اعدام الضباط القاسميين والشيوعيين الـ 450 الموجودين في سجن معسكر الرشيد، وأسندوا حججهم بحركة حسن سريع وبفتوى من المراجع منهم الحكيم جلبوها مكتوبة على ورق.
لكن الفكيكي يدعي أن الفريق البعثي رفض فكرة الإعدام وقرر سرا، من وراء ظهر عبدالسلام والبكر تهرب السجناء الى نقرة السلمان.
يقول الفكيكي:
" تحركنا بسرعة لتهريب هؤلاء الضباط المعتقلين، خوف ان يتكرر ما حدث سابقا في قصر النهاية، خصوصا ان عبدالسلام طلب الى عبد الغني الراوي عند مغادرتنا القاعة التحضير لاعدام 150 ضابطا شيوعيا، الأمر الذي رفضه الراوي – قائد الفرقة الثالثة، وغير بعثي - بسبب قلة العدد وتواضعه. وبعد التداول مع حازم وعلي تقرر تهريب الضباط المعتقلين الى سجن نقرة السلمان في تلك الليلة إن أمكن، وتمت تهيئة ما توفر من عربات السكك الحديد. وبسبب الحر الشديد وقلة الماء وصعوبة التنفس في عربات الشحن توفي أحد المعتقلين، وعانى الآخرون عذابا شديدا، ولو عرف هؤلاء المسافرون سر القطار الذي أسرى بهم ليلا الى السلمان، لبحثوا له عن اسم آخر غير قطار الموت" ( ص 280)
لا أحد يعرف أي اسم يود الفكيكي لضحاياه أن يختاروا. ربما، قطار الموت السعيد!
لقد فاتت على الفكيكي أمور تفصيلية صغيرة ولكنها مهمة، منها أن "قطار الموت" ضم مدنيين أيضا، وأنه جعل قرار إعدام السجناء باسم البكر وعبد السلام مرة وجعله ثانية باسم رشيد مصلح، وفي مقدار دقة عدد السجناء المعنيين برحلة القطار. والأهم من كل ذلك طريقة تأويل الحدث، الذي يدرك الفكيكي أن أمر توليه شخصيا تلك المهمة لا يقبل التأويل أو الإنكار. فهو مخترع فكرة "قطار الموت" ومنفذها، بتفاصيلها غير البريئة كلها: شحن مئات السجناء في عربات مصفحة مخصصة للنقل البضائع في شهر تموز! وأن هذه الجريمة مسجلة باسمه الشخصي، يعرفها انقلابيو تلك الحقبة، ولا يستطيع أحد إنكارها أو التنصل من مسؤولية القيام بها.
كان الفريقان (العسكري والمدني) مختلفين في طريقة التنفيذ، وليس في مضمون العقاب. وقد نجح الفريق المدني في إقناع الضباط بأنهم سيتولون تنفيذ المهمة بطريقتهم الخاصة، من دون إثارة مشاكل كبيرة، من طريق خنقهم في قطار الشحن. يدعي الفكيكي أنه جرؤ على مخالفة إرادة البكر وعبد السلام تضامنا مع الشيوعيين! أي عقل سخيف يصدق هذا! كيف تم توقيت سير القطار؟ كيف زج المنقذ الرحيم بهذا العدد من السجناء دون ماء وهواء، في شهر تموز الحارق؟ وكيف يمكن إخفاء مئات العسكريين والمحكومين بالاعدام "الخطيرين" عن عيون ومسامع البكر وعبدالسلام؟ وهل تقع السماوة في الاتحاد السوفيتي؟ لم يحدث في تاريخ البشرية أن شحن سجناء في عربات شحن تحت حرارة بلغت أكثر من خمس وأربعين درجة مئوية. إنها عملية شوي وليست عملية انقاذ! لقد كان قطار الموت إعداما مبتكرا، لئيما على الطريقة البعثية، لا يكلف القتلة ثمن رصاصة واحدة.
حازم جواد والفكيكي وغيرهما من المثقلين بصور الضحايا، لا يكتفون بتزوبر التاريخ، واللعب على أوتار العنف بمهارة الرواة القتلة، بل يقومون أيضا بتقطيع (منتجة) تاريخ العنف، لكي يصبحوا أبطالا ومنقذين، بدلا من أن يكونوا قتلة ومجرمين، سابقين. ومن المؤسف أن يقوم بعض سياسيي الفريق الآخر (الضحايا) بالمتاجرة الفجة بأحداث التاريخ، وحشوها بحكايات تقتل مضونها الإنساني الغني بالعبر، كما جاء في كتابات القيادي الشيوعي جاسم الحلوائي، الذي نقل صورة هزلية لقطار الموت، مقارنة بالصورة الإنسانية المؤثرة، الصادقة، التي رسمها السيد مهدي أحمد الموسوي، أحد ركاب العربة الثانية من قطار الموت.
وفي مقالة لمحمد سعيد الصكار، يعيد الصكار رواية الفكيكي الملفقة من دون تعليق، كما لو أنه يبارك ما ورد فيها من أكاذيب. يقول الفكيكي:
‮«‬لقد اتخذ رشيد مصلح قراراً‮ ‬بإعدام‮ ‬450‮ ‬شيوعياً‮ ‬كانوا معتقلين في‮ ‬السجون،‮ ‬دفعةً‮ ‬واحدة‮. ‬والذي‮ ‬جهّز قطار الموت الشهير هو أنا،‮ ‬إنقاذاً‮ ‬للشيوعيين من هذه المذبحة الجماعية الرهيبة،‮ ‬فاتصلت فوراً‮ ‬بمصطفى الفكيكي،‮ ‬وكان‮ ‬يومها مديراً‮ ‬للسكك وطلبت منه تجهيز قطار على وجه السرعة لنقل المعتقلين،‮ ‬فردّ‮ ‬مصطفى بأن ذلك مستحيل لعدم توفر قاطرات لهذا العدد وبهذه السرعة،‮ ‬فقلت له‮: ‬جهّز أي‮ ‬قطار حتّي‮ ‬لو كان شاحنات حديد؛ ( كان من الممكن تصديق المنقذ بعض الشيء لو أنه زوّد سجناء "شاحنات الحديد" بحرعات ضئيلة من الماء، على سبيل الشهامة!) وهذا ما حصل‮. ‬فقطار الموت لم‮ ‬يكن قطاراً‮ ‬للموت،‮ ‬بل قطار إنقاذ من مذبحة جماعية‮». ‬
) الحوار المتمدن-العدد: 3316 - 2011 / 3 / 25 - 08:31 (
في رواية الفكيكي الثانية جرى ربط الإعدام برشيد مصلح، الحاكم العسكري العام في انقلاب 1963، الذي نُسب اليه البيان رقم 13 ، القاضي بتصفية الشيوعيين. وهو بيان صادر عن المجلس الوطني لقيادة الثورة، الذي كان الفكيكي عضوا فيه. ومن المعروف أن رشيد مصلح أعدم عام 1970 بعد اتهامه بالتجسس لصالح المخابرات الأميركية، وهناك من يتهمه بأثر رجعي بأنه سعي الى القيام بانقلاب على سلطة البعث في 1963، وأنه شارك عبد السلام عارف في إسقاط حكومة البعث الأولى. إن طالب شبيب، الذي يؤكد للفكيكي ارتباط مصلح بالمخابرات الأميركية، مغموز هو الآخرمن قبل البعض بأنه على ارتباط باللبناني إيليا زغيب، الذي يُلمّح الى أنه كان همزة وصل غامضة بالمخابرات الأميركية. بهذا نكون أمام سلسلة لا تنقطع من التبريرات والالتباسات والاتهامات والاحتيال على التاريخ، بأثر رجعي.
لقد أكثرنا من الأمثلة المأخوذة من تاريخ الشيوعيين العراقيين لسببين رئيسين: الأول، طول الحقبة الزمنية التي عانى فيها الشيوعيون من بطش وملاحقة السلطات في العهود كافة، من دون استثناء. وعلى الرغم من أن خصومهم لا يبرئونهم من ممارسة العنف أيضا، إلا أنهم كانوا الشريحة الأكثر استهدافا من قبل أجهزة القمع، حتى قبل ظهور كيانهم السياسي الى العلن. أما السبب الثاني فيتعلق بكثرة المشتغلين في مجال الثقافة في صفوف الشيوعيين، وبارتباطهم بالنشر والإعلام، الذي يفترض أن يجعل منهم الشريحة الأكثر عناية بالتاريخ الوطني، وتاريخ حزبهم تحديدا. لكن ذلك لم يحدث، على العكس، قاد انحسار دور الشيوعيين الاجتماعي والسياسي والتنظيمي الى تعاظم الاضطراب الفكري في صفوف شرائحه المثقفة. ازداد هذا الاضطراب بعد فشل الحزب في ايجاد سبيل تمكنه من استعادة بعض من دوره السياسي التاريخي الريادي. وقد انعكس هذا الإخفاق بوضوح تام على مجمل النشاط العقلي والفكري للمثقف الشيوعي الحزبي، الذي أثبت أنه عديم النفع عند الانعطافات السياسية الحادة.
إن ضعف الوعي التوثيقي، وشيوع ظاهرة العنف وتحولها الى فعل مألوف، متمم للوحة الواقع، ساوت بين الجميع في مجال التهاون في حفظ وصيانة التاريخ واحترام مضمونه.
لذلك لا يصح تفسير التاريخ من دون امتلاك تفصيلاته، ومن دون إحكام السيطرة على توثقيه، ومن دون تمحيص مرجعياته ومصادره والأدوار الشخصية لرواته. ولا يصح تحويل الروايات الى دعاية صحافية عابرة، لمجرد الثرثرة. فقد يخدم مثل هذا السلوك، مهما كان نزيها، الجانب الشرير والخاطئ من التاريخ على حساب الحقيقة.
عند العودة الى مذكرات ابراهيم الداوود، الرجل الذي قدم السلطة الى حزب البعث، على طبق من ذهب ، يتحول التاريخ الى مهزلة مبكية، تشبه انقلابه العبثي، الذي كلف الشعب العراقي أربعة أجيال، ولم تزل أجيال أخرى تنوء بثقل ذلك الانقلاب الأرعن. في مذكراته يتحول الداوود الى بطل شهد وقاد أبرز مفاصل اللحظات الانقلابية الخطيرة في تاريخ العراق الحديث: قيادته لعملية الاستيلاء على قصر الرحاب، حضوره إعدام عبد الكريم قاسم، دوره في حادثة القاء القبض على نوري السعيد، وغيرها من الأخيلة، التي تؤكد أن انقلابه في السابع عشر من تموز 1968 كان مليئا بالأخيلة المريضة أيضا.
إني أذكر حادثة محزنة عشتها شخصيا، حينما طلب مني أحد قادة الشيوعيين- كان حديث العهد بالوضع الذي كنا فيه في عدن- أن أقوم بتوفير فرصة لطبع كراس يضم أسماء حزبيين ومواطنين مظلومين تعرضوا الى أذى النظام الديكتاتوري، لغرض توزيعه على الرأي العام ونشره بين الناس. كان ذلك باكورة العمل الإعلامي المعارض للنظام، بعد اليأس من عودة التحالف مع البعث الى خندقه الواحد. توجهت الى العلاقات الخارجية باللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني، لغرض استحصال الموافقة على طباعة الوثيقة وتوزيعها. حينما تسلم المسؤول اليمني الوثيقة راح يقلب فيها بإمعان، ثم رفع رأسه اليّ وقال: كل هؤلاء تعرضوا للاضطهاد؟ فأجبته، نعم، كما هو وارد في النص والبيانات. عجل الرجل معقبا: أكثر من ألف حالة دفعة واحدة! قلت له: نعم، أكثر من ألف ومئتين حالة. قال: هل كلهم مظلومون، يستحقون التضامن بنظركم؟ أجبته: نعم، كما ترى من البيانات. ودعت الرجل وهو يَعِد خيرا، وقبل أن أغادر مكتبه سألني بتهكم: يا رفيق إذا كانت قيادة الحزب تعتبر كل هؤلاء ضحايا حقيقيين اليوم، ماذا كانت تعتبرهم يوم أمس، قبل أن تيأس القيادة من إمكانية العودة الى أحضان البعث؟ لم أجب، فهو يعرف حقيقة موقفي. لكن الأمر كان كذلك حقا. بشر تسحقهم عجلات السياسة والعنف من دون أن يوثق أحد تاريخهم. ففي وطن يكون فيه الإنسان رخيصا، يصبح من الشاق جدا الوصول الى نتائج جدية تمحص الروايات المختلفة وتكون صورا نوعية تفسر حقائق الحياة المؤلمة. ومن المحزن جدا أن بعض هذه الأسماء، التي وردت في الوثيقة، ظهر مجددا في دعاية الحزب، في مرحلة البحث عن شهداء للبيع، بعد سقوط سلطة البعث.
هذه الحادثة ذكرتني بحادثة مماثلة رواها لي الدكتور الشهيد توفيق رشدي، تتعلق بتهجير الكرد. يقول والعهدة عليه: كنت في انتظار عزيز محمد، سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، لكنه لم يصل في الموعد، وهو الدقيق في مواعيده. وحينما وصل وجدته متأثرا بشدة، وراح يشرح سبب تأثره والدموع تترقرق في عينيه. قال توفيق، قال عزيز: إنه أثناء مروره باتجاه ساحة الأندلس، رأى تجمعا لعدد من حافلات النقل الكبيرة، وحينما دقق في ملامح الركاب فطن الى أنهم جميعا من النساء والرجال والأطفال الكرد، توقفوا لسبب ما، وراح بعضهم يرجو الناس لكي يجلبوا لهم بعض الأكل والمشروبات، لأنهم كانوا ممنوعين من النزول. يقول عزيز محمد: أثار الأمر فضولي فاقتربت منهم، ورحت أسألهم عن وجهتهم، فاكتشفت أنهم مهجرون من قراهم الكردية الى مدن جنوبية. قال توفيق سألته بسخرية: وماذا بعد؟ أجاب عزبز: هذا كل شيء. قال توفيق: وماذا ستفعلون؟ أجاب السكرتيرالعام بحماس: سأفتح الموضوع فورا مع الرفيق عامر عبدالله، لكي يتشاور مع الرفاق الحلفاء حول الأمر. عقـّب توفيق: يتشاورّ؟ أجاب عزيز: نعم بالتأكيد، هذا أمر لن نسكت عليه. يقول الشهيد توفيق رشدي: منذ تلك اللحظة غسلت يديّ ورجليّ من هذه القيادة الحساسة جدا.
في غير مناسبة قرأت مقالات تتحدث عن تجفيف الأهوار باعتباره فعلا إجراميا، بعثيا صرفا. وهذه معلومة تاريخية مثيرة للاشمئزاز، تم تكرارها كثيرا. لأن تجفيف الأهوار بدأ في ظل التحالف مع الشيوعيين، وعلى يد الوزير الشيوعي مكرّم الطالباني، وبواسطة خبراء ري محسوبين على الشيوعيين! وحينما يسمع المرء حديث وزير الثقافة السابق مفيد الجزائري عن صيانة الإرث الثقافي العراقي يحس بالاشمئزاز نفسه، لأن بيع الارشيف اليهودي، وسرقة 170 ألف قطعة أثرية، واحتلال مواقع أثرية عظيمة الأهمية في بابل وكركوك والموصل من قبل قوات أميركية و"حليفة"، ونهب الإرث التاريخي الوطني، من قبل عصابات متخصصة تحت دوافع قومية شوفينية، تم في زمنه. ولم تمر تلك الأحداث من دون تخلق خلافات داخلية مكتومة ومخنوقة. كان توقف المسارح ودور السينما أبرز ملامح حقبته الذهبية، التي لم تشهد احتجاجا ثقافيا واحدا يوازي احتجاجات منع بيع الخمور، التي قادها أنصار الوزير المذكور.
من يكتب التاريخ إذاً؟
 


العنف السياسي ومشكلات البحث العلمي


حينما يتحدث شخص ما عن مسؤوليته في حدث انقلابي كارثي راح ضحيته المئات، وينسب الى نفسه شرف تصفية خصوم "خونة"، من دون أن يخشى استخدام أقواله وثيقة إدانة جرمية، تستوجب عرضها على الانتربول والمحاكم الدولية، إن تلكأت السلطة القضائية الوطنية في ذلك، فإن حقوق المواطنين وكتابة التاريخ، معا، لا تعدوان أن تكونا ضحية مباشرة لسوء الفهم، وسوء المصير. مثل هذا الأمر، ولكن على نحو أصغر، قرأته مرة في صفحة شيوعية تتحدث عن نصيرة شابة قتلت ( أعدمت) في منطقة "بشتآشان" الكردية، كتب تحتها : استشهدت في أقبية الأمن العامة. ومن المحزن أن بعض أقارب الشهيدة ظل، على الرغم من علمهم بالواقعة، يتشبثون بالرواية الكاذبة، لأنها أكثر نفعا لهم. لمن يهدون دمها! هذا ما اسميته بالكرم السياسي والتبرع الحزبي الطوعي بالحقوق. وربما يكون دم رفاق تلك الشهيدة، شهداء مجزرة "بشتآشان"، دليلا آخر على عمليات بيع الشهداء في سوق السياسة. مثل هذا الكرم نجده في مناحي الحياة كافة، في السياسة وفي الثقافة وفي الثروة وفي المسؤولية الأخلاقية. إن الأمثلة المأخوذة من تاريخ الشيوعيين العراقيين تؤكد على أن الجهل بالتوثيق آفة عامة، قد تلحق الضرر بالتاريخ، حتى على أيدي الضحايا أنفسهم. لأن كتابة التاريخ علم يتوجب احترام مقاييسه وإتقان شروطه الفنية والمنهجية. ففي مجال البحث والدراسة نجد صورا منفـّرة من الكرم البحثي، الذي يؤسس أفكارا ويبني تاريخا على ضوء وقائع مغشوشة، أو على ضوء تفسيرات نفعية، دعائية. وإذا توغلنا في التاريخ العراقي نجد ما هو أبشع من تلك الأمثلة التي أوردتها وأكثر تعقيدا. ففي عريضة جماعة الأهالي الى الملك غازي في 10 أيار1936 ، وهي الخطوة التي قادت الى إسناد أول انقلاب عسكري عربي، انقلاب بكر صدقي، قدم جعفر أبو التمن والجادرجي وحكمت سليمان عريضة تصور الأوضاع السياسية في العراق، جاء في بعض فقراتها أن الحكومة: " أشاعت في العاصمة التقتيل العام دون رحمة بجريح او مستسلم... على ان مثل هذه الاستباحة مع كونها عمل فظيع لم يسبقها اليه أية أمة من الأمم، إلا في أساطير العصور المظلمة، مثير للحفائظ، مهيج للشعور والعواطف، مهدد للوحدة بالتمزق"( خالد التميمي- جعفر أبو التمن- ص 375). حينما ندقق في عبارات الوثيقة نجد أنها تتحدث على لسان قادة أجلاء وثقاة، لهم شأن كبير في السياسة والسلطة العراقية، يستخدمون عبارات مرعبة مثل " إشاعة التقتيل العام" " دون رحمة بجريح أو مستسلم" و" استباحة" و" أساطير العصور المظلمة" وغيرها. من هم القنلى والمستباحون؟ كم عددهم؟ من قتلهم؟ لماذا؟ لم يجب أحد على تلك الأسئلة بطريقة قانونية ودستورية حتى اليوم، على الرغم من أن الفريقين المتقاتلين يحتكمان الى الدستور، والأهم من هذا أن الفريقين تداولا السلطة. كيف نفهم هذا؟ لو أن العريضة كاذبة فإن القانون يجيز أن يساق كاتبوها الى العدالة بتهمة التحريض على "تهييج الشعور والعواطف"؛ وإذا كانت العريضة صحيحة، لماذا لم يقم الطرف المدعي بتحويل العريضة الى صحيفة اتهام قانونية؟
إن الذين يتباهون بحصافة النظام الملكي ودستوريته لا يقولون للناس لماذا لم تظهر التحقيقات نتائج ذات قيمة قضائية في حوادث خطيرة، منها اغتيال توفيق الخالدي وبكر صدقي ومحمد حيدر رستم، ومجزرة كاورباغي، ومجزرة سجن الكوت وغيرها؟ ومن الحوادث التي غدت مصدرا للخيال القصصي، حادثة الفرهود الشهيرة، التي تعرض لها اليهود العراقيين. ما العدد الحقيقي للقتلى؟ والأهم ما السبب الجوهري، الذي قاد الى ذلك؟ وما دور الوصي عبدالإله وشرطة وزارة الداخلية في تكوين مناخ الواقعة، وفي استمرار حدوثها، باعتبارها غطاء تبريريا دعائيا لعودة الوصي المنتصر - بواسطة القوات البريطانية- على خصومه "القوميين الشيوفينين".
تم تأويل الفرهود طائفيا، لأن الصدام الأول وقع في حي الأكراد. وبما أن توجيه الاتهام الى الكرد يفقد الحدث قيمته الدعائية. لذلك تم تأويل "الكرد" طائفيا على أنهم كرد حقا، ولكنهم كرد فيلية، أي شيعة. ولم يتم التعامل معهم قوميا، بل طائفيا، حتى يكتسب الحدث مضمونا يخدم الفريقين: الحكم والمشروع الصهيوني. أما سياسيا فإن اتهام قوات الانقلابيين الكيلانيين بذلك يتناقض مع تسلسل الوقائع. لأن الفرهود حدث بعد يوم من اعلان القضاء على الانقلاب. شارك في القضاء على الانقلاب بعض قوات الليفي، كما قام اليهود بالتهليل وترديد عبارات اللوم والشتم للانقلابيين، بتحريض من أتباع عبدالإله ونوري السعيد والقوى العاملة لصالح الحركة الصهيونية. تم ذلك بمكبرات الصوت في دور السينما المملوكة لليهود. ولم تتم مراعاة أن اندحار الجيش العراقي تم على يد قوة أجنبية محتلة، قدم بعضها بقيادة غلوب باشا من الأردن. فسقوط الانقلاب ضد الوصي، الذي تم تهريبه بواسطة الأميركيين ثم البريطانيين، تضمن في داخله انكسارا وطنيا في مواجهة عسكرية مع دولة محتلة. إن موقف الجهات الصهيونية في هذا الجانب كان واضحا في صيغته الاستفزازية العلنية والفاضحة. كما أن عبدالإله رغب في استثمار الحدث لتأكيد سوء أفعال الانقلابيين وبربريتهم، والايحاء بارتباطاتهم الدولية الموالية للمحور. ومن الناحية الشخصية فقد تم اتخاذ الحدث وأصدائه الواسعة غطاء يستر مجيئ الوصي على عربة بريطانية، بعد هروبه في سيارة أميركية.
بعد انتهاء المعارك بين القوات العراقية والبريطانية قامت الاذاعة العراقية بإعلان خبر القضاء على حكومة رشيد عالي وهروبه مع قيادة الجيش. وبالمقابل حثت الإذاعة الموطنين على مؤازرة الوصي عبدالإله وإستقباله منتصرا. في اليومين التاليين، اللذين دعي الناس لاستقبال الوصي، حدثت فيهما واقعة الفرهود، ضد اليهود العراقيين في بغداد.
إن العبرة من هذا المثال تكمن في درجة صدقية كتابة التاريخ، وفي مقدرة المجتمع على تدوين أحداثه بفطنة وأمانة، لغرض إعادة دراستها واستخلاص العبر منها. إن أرقام ضحايا الفرهود، على ضوء الروايات المختلفة، تجعل الحدث "ألهية" مفضوحة أكثر من كونه مأساة. فقد جعل بعضهم العدد أقل من عشرين شخصا، ورفعت جهات آخرى الضحايا الى أكثر من ألف وخمسمئة ضحية. بين الرقمين بون شاسع لا يقبله منطق. هذا مثال مأخوذ من التاريخ القريب.
هذه الأمثلة وغيرها تبين لنا أن حس التوثيق، والوعي القانوني، لا يرتبطان في ثقافتنا، حتى لدى أرفع قادتها وأنظفهم ضميرا، بالجانب الحقوقي والدستوري وبقوانين المواطنة، وإنما يرتبطان بحركة التجاذب السياسي اليومية والصراعات المرتبطة بها. إن التوثيق ثقافة لا ترتبط بالبحث العلمي وحده، بل ترتبط بالوضع الحقوقي للفرد، وترتبط بدرجة رئيسة بمكانة الفرد في إطار العلاقات الاجتماعية، وبسبل فهم الحقوق المدنية اجتماعيا. فقد يحتفظ المجتمع بمسودات شعرية لشاعر كبير أو متواضع، ياعتبارها وثيقة أدبية هامة تستحق التخليد، لكنه في الوقت عينه لا يقيم مكانة خاصة للحقوق المدنية، فنراه يتعامل باستهانة تامة مع أخطر وثائق الحياة: حق البشر في الحياة والحرية.
حينما نقرأ الشريط الإخباري لقناة العراقية التلفزيونية نصاب بالذعر عندما نجد أن عدد الإرهابيين المقتولين يوميا يزيد في المتوسط على خمسين. أين تذهب الحكومة بجثثهم؟ هل سيأتي علينا يوم نكتشف فيه مقابر جماعية لآلاف البشرالمجهولين؟ كم عدد أمراء القاعدة الذين أعلنت السلطات عن قتلهم واعتقالهم على مدار السنوات المنصرمة؟ كم أميرا لدى القاعدة؟ هل نصدق الحكومة أم نكذبها؟ وكيف نعرف الحقيقة؟ إن التوثيق لا يتعلق بالعنف وحدة، بل بمجالات الحياة كافة: كم عدد السجناء في العراق؟ ما تعداد سكان العراق؟ كيف توزع ميزانية العراق؟ ما عدد القتلى والمصابين من المدنيين؟ لماذا لم يقتل أي سياسي حزبي كبير حاكم، بعد مقتل عز الدين سليم والحكيم، بينما يسقط شهريا في الشوارع آلاف المواطنين الأبرياء، جلهم من الفقراء؟ هل صنع العنف توافقات داخلية خفية تحفظ "توازن الموت" ومعادلاته ومناسيبه وسقوفه، وربما حتى أشخاصه ونوع ضحاياه؟ أين ذهبت وثائق الدولة العراقية وحزب البعث؟ من تقاسم رشوة تهريب الإرشيف اليهودي؟
غير مرة قام العسكري، الولوع بالدم، عبدالغني الراواي، قائد الفرقة الثالثة، بتقديم ذكرياته للناس، التي كرر فيها، بتبجح وعدم خشية، مسؤوليته عن إعدام سجناء سياسيين، من دون أن تطاله يد القانون أو العقاب. وقد سجل هاني الفكيك هذه الواقعة، حينما تحدث عن قمع حركة معسكر الرشيد في الثالث من تموز عام 1963. ومن ضمن ما رواه، أن عبد السلام أمر الراوي بالبدء باعدام 150 منهم، لكن الرواي رفض " بسبب قلة العدد وتواضعه" ( أوكار الهزيمة، ص 280)
قد يتبادر الى الأذهان أن سبب هذا العزوف البحثي يرتبط برغبة القوى الظالمة والحاكمة في طمس معالم الجرائم السياسية. لكن رسالة ذات دلالات خاصة، نشرها موقع (الناس) في 26-8-2009 ، بقلم الاستاذ محمد علي الشبيبي، تميط اللثام عن أسباب آخرى لا تقل خطرا عن ظلم الحكام، أهمها استفحال مرض الجهل بقيمة التوثيق أولا، وضعف الاهتمام بالإنسان باعتباره صاحب شرعية دستورية في الوجود والعيش وحفظ الكرامة والمكانة الاجتماعية. في تلك الرسالة ( المناشدة ) الموجهة الى الشيوعيين، لام الكاتب مخاطبيه على ضعف اهتمامهم بالتوثيق، وذكر ضمن ما ذكره، أن الصحافي الشهيد أبا سعيد، عبد الجبار وهبي، سرّب وثيقة إدانة ضد السلطة الملكية، تتعلق بمجزرة سجن الكوت، حررها بنفسه تحت عنوان (من أعماق السجون)، وقام بنقلها الى وارشو حينما ذهب عام 1955 للمشاركة في مؤتمر الشباب. وقد حصل السيد محمد علي الشبيبي على تلك الوثيقة وقدمها الى صحيفة (طريق الشعب)، التي نشرت بعضا منها قبل ايقافها من قبل سلطة الحلفاء. ويبدو أن الوثيقة اختفت مجددا. وقد أبرزت تلك الرسالة نواقص كبيرة في موضوع توثيق تاريخ الشهداء والسجناء ومنتهكي الحرية والكرامة الاجتماعية. ودللت على أن الإهمال جزء من ثقافة وتقاليد أبناء مجتمعنا، بمن فيهم أصحاب الحق وأصحاب الدم المهدور ظلما. والشبيبي المذكور هو ابن شقيق شهيد لامع من شهداء الحركة الوطنية العراقية، حسين الشبيبي (صارم)، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، الذي أعدم عام 1949. وقد تلقى المصير ذاته أربعة قادة شيوعيين آخرين، أنكر الشيوعيون أحدهم: الشهيد يهودا صديق، ومسحوا خامسهم مسحا تاما من صفحة التاريخ، الشهيد ساسون شلومو دلاّل. لكنهم احتفظوا بأسماء الشهيدين يوسف سلمان ( فهد) و زكي بسيم (حازم)، الى جانب اسم الشهيد حسين الشبيبي. وهنا يضاف سبب جديد الى أسباب الاستهانة بتاريخ الإنسان هو الحسابات القومية والعرقية والمذهبية الظالمة.
شحة المصادر وما يلازمها من ضعف في التوثيق، وقلة وتضارب ما وصلنا من معلومات وأخبار ووقائع، لا يؤهل ولا يغري بالانتقال من مرحلة التجميع والعرض الى التحليل النوعي، بحثا عن مضامين الظواهر واتجاهاتها وخصوصياتها المميزة. لقد حاول د. علي الوردي مبكرا القيام بمثل هذه الخطوة، وكان رائدا ومؤسسا، لكنه لم يتمكن من تحقيقها على نحو مرض. فقد غرق في التاريخ. ولم يتمكن عالم الاجتماع فيه من تطويع التاريخ لهذه الغاية. بل على العكس، ابتلعته الأحداث، فضعف المسلكان في دراساته عن تاريخ المجتمع العراقي، كما أضاف تردده الفكري قدرا محسوسا من الضعف، ضيّق ملكة النقد لديه. في حين أننا رأينا هذه الملكة ساطعة ومشرقة لدى باحث آخر أقل تخصصا، هو معروف الرصافي، في تناوله موضوعات أكثر إثارة للمشاعر، وأخطر مادة.
كانت مفاجأة كبيرة لي حينما وجدت أن هناك من يتفنن في إغلاق سبل الوصول الى منابع العنف والشر في المجتمع. حدث هذا قبل الاحتلال، حينما كنت أعدّ مادة كتابي (ثقافة العنف). اتصلت بجهات عديدة تدعي مناهضة العنف والاستبداد والديكتاتورية، لكني رجعت خالي الوفاض. قـُيّض لي مرة الاتصال بالحركة الكردية في العراق، التي كانت تستضيف صحافيين وزائرين ومطبلين من كل حدب وصوب ، عربا وغير عرب. كان هدفي عرض مشروع ثقافي متكامل، على نفقتي الخاصة، يهدف الى توثيق وتحليل جهاز العنف من جوانبه كافة: السياسية والثقافية والقانونية، وتكوين مركز يستبق قيام القيامة الكبرى، وما يلازمها من ضياع محتمل للوثائق التاريخية وأصحابها. وقد وجدت فكرة تدوين تاريخ العنف قبولا وتحبيذا من قبل أحد أبرز الوجوه الثقافية الكردية: فلك الدين كاكائي، الذي استحسن الفكرة وطلب مني مهلة قصيرة لكي ينقلها الى حيز التنفيذ. لم ولن تساورني أدنى الشكوك في صدق وحصافة كاكائي صحافيا وإنسانا، فهو جدير بالثقة والتقدير. لكنني تفاجأت، بعد عدة أشهر، بآخرين يطلبون مني الإجابة تحريريا عن السؤال الأحمق التالي: أولو ألأمر يريدون أن يعرفوا ما الهدف من هذا المشروع؟
هل حقا يحتاج توثيق العنف الديكتاتوري الى هدف، لكي يكون مشروعا ثقافيا مقبولا؟ أليس توثيق العنف، بذاته، هدفا، بل أسمى الأهداف! منذ ذلك الحين أصبح "الهدف من هذا" شاغلي الرئيس. وأصبح الشر، لا العنف وحده، مادة بحثي الأساسية، التي لم تزل تقود خطواتي في الحياة وفي التأليف. تلازم العنف والشر لم يكن شيئا جديدا في منهج تفكيري. ففي روايتي (أمير الاقحوان) جعلت إله الشر بطلا للرواية، ولم يكن العنف سوى مظهر حسي للشر. وفي (ذبابة القيامة) كان العنف المادي والروحي، الجسدي والنفسي مادة الرواية الأساسية. لكن السؤال الشرير عن " الهدف من هذا" دفع تفكيري الى مدى أبعد من العنف، الى غايات تاريخية ووجودية وفلسفية وأخلاقية، تتجاوز حدود تسجيل وإدانة العنف أو تفسيره. أضحى لزاما عليّ أن أذهب الى أبعد نقطة أستطيع الوصول اليها، مبتدئا بنفسي. وقد كانت روايتي ( زهرة الرازقي) بحثا جديّا عن طفولة الشر.
الحاضر يعيد تزوير التاريخ
لم يزل البحث الدراسي في موضوع العنف يتم من طريق الذكريات، أو من طريق استعراضات رقمية، أو رصد أحداث مثيرة، أو من طريق وضع العنف ضمن سياق تاريخي للأفراد والمعارك السياسية والحقب. مثل هذه البحوث يراد بها، في الأعم، تدعيم فكرة سياسية ما، وترجيح أخرى، من دون أن يكون العنف، بذاته، مادة خاصة، وموضوعا للمعاينة والتحليل واستخلاص النتائج. لم يزل العنف جزءا ملحقا بحدث تاريخي وسياسي ما، أكثر من كونه مادة بحثية مستقلة، لها خصوصيتها الجنائية والتنفيذية ومغازيها ومرجعياتها الاجتماعية والسلوكية والنفسية، ودلالاتها الثقافية. لهذا السبب تبدو هذه المهمة عسيرة ومربكة.
إن المهمة الراهنة للبحث العلمي هي الانتقال بموضوع العنف من التوثيق الخبري، والوصف السياسي، الى البحث النوعي في الظاهرة، وفي أشكال ظهورها في مرحلة تاريخية معينة، وسبل تطورها، والأهم من كل ذلك، البحث في أشكال انتقالها من جيل الى جيل، وأساليب تأثير الخبرات العنفية ببعضها، باعتبارها تاريخا بشريا حيّا، معيشا. إن العنف يتحول، عند الممارسة، من وظيفة إجرائية تنفيذية لمواجهة الخصوم، الى نهج سياسي وسلوك اجتماعي وما يرافقه من ردود أفعال بشرية ومهارات فنية متبادلة. أي يقوم العنف بنسج شبكة من المؤثرات النفسية والعقلية والفنية الدفاعية والهجومية، نستطيع أن نسميها بناء ثقافيّا. أي إنها وحدة متكاملة من خبرات عملية وعاطفية، مصحوبة بمنظومة تنفيذيّة وبغطاء روحي وأخلاقي وقانوني مساند، تحكمها سلسلة متبادلة من عناصر الاستقبال والإرسال، والاستجابة والرفض. وهي وحدة لفرط تماسكها تقترب كثيرا من صفات وخصائص "النظام". لأن عناصرها تتحرك بتفاعل شرطي وضروري مع بعضها البعض. وكما أن صناعة السينما تخلق وعيا سينمائيا وذائقة وردود أفعال نفسية وشعورية ومقلدين ومتأثرين، فإن العنف يفعل ذلك أيضا، وبقوة مضاعفة ومركبّة. لأنه يمس الأطراف المشمولة بالعنف كلها: الممثل والمشاهد والمنتج والمخرج وكاتب النص، وحتى الجهاز الفني المشرف والمنفذ للعمل، وفي النهاية المنتـَج العنفي نفسه، باعتباره خبرة وعبرة وسلعة ووسيلة تربوية اجتماعية.
من مساوئ الإنسان- وهي حسنة دفاعية هامة وضرورية في منظومة البقاء والحفاظ على النوع- أنه ينسى. وإذا أراد أن يتذكر فهو يتذكر بطريقة سببية، تقوم على المقارنات القائمة على شحن الدفائن الكامنة تحت اللاوعي. لهذا تُنسب شرور الاحتلال الأميركي، وفساد الحكم كله، الى حقبة صدام حسين، بما في ذلك العنف والتزوير وشراء شركات الكهرباء الوهمية والزرقاوي والقاعدة وغيرها من الشرور. ولم يكن نظام البعث يرى في نفسه سوى تصحيح لأخطاء وجرائم حكومة العارفين وما سبقها، ولم يكن انقلاب عارف سوى تصحيح لانحرافات "المنحرفون" في انقلاب رمضان 1963، ولم يكن انقلاب رمضان الدموي سوى تصحيح لانحرافات تموز، ولم تكن "ثورة تموز" 1958سوى تصحيح لـ "انحرافات" الحقبة الملكية، ولم يكن احتلال العراق بريطانيّا وتأسيس المملكة العراقية سوى تصحيح للاحتلال العثماني... هكذا تمتد حلقات التصحيح وتترابط من دون انقطاع، وتمتد معها متوالية العنف الهندسية اللانهائية. ولكن، على الرغم من كثرة عمليات التصحيح المضللة، لا نعثر على أفق صحيح واحد، ذي طبيعة منهاجية شاملة، على الإطلاق. بل نعثر على سلسلة تبريرية كاذبة، ترتبط عضويا ببعضها برواط أعمق بكثير مما يفرق بينها. وفي موضوع العنف، نستطيع أن نثبت هنا، أن الحلقات التاريخية السابقة، المنفصلة شكلا، متصلة اتصالا عضويا محكما، يكاد أن يكون مدهشا في بعض الأحوال. إن نقل وتوارث الخبرات يصيب الدارس بالخرس وهو يرى سياسيا شيعيا يبرر الوقوع في براثن الأميركين بالقول: إنهم أفادوا من تجربة ثورة العشرين، التي قادها الشيعة وحصد ثمارها السنة. وفي الجانب المقابل، يحاول سياسيون سنة الإفادة من التجربة ذاتها، ملوحين بالعنف وسيلة لا لطرد المحتل، وإنما لاقتسام الأرض. وتلك إفادة رابحة وخلاقة بحق، استثمرت الدرس التاريخي جيدا- النصر والهزيمة- وأفادت منهما إفادة تامة، ولكن من طريق تسليم الوطن بأكمله الى أجنبي، لم يكن يطمع، حتى في الخيال، بمثل هذا الكرم الوطني، وبمثل هذه المعرفة الدقيقة ببواطن التاريخ وتطبيقاتها السخية، ولكن الشريرة والمؤذية. هذه ليست مفارقة لإثارة الفضول. هذه حقيقة المأساة العراقية القائمة، التي لم تعد تثير سوى الإحباط لفرط بشاعة وبلادة منفذيها وحجم استهانتهم بكرامة الإنسان ومحتواه، الإنسان اسمى المخلوقات من الناحية المثالية العامة، وغاية العمل الحكومي من الناحية الوظيفية والعملية.
إن نقاط تشابه الخبرات العدوانية للاحتلال البريطاني مع خبرات الاحتلال الأميركي ليست قليلة، وهي ليست تشابها طارئا أو عفويا، بل هي تجارب ودروس متبادلة. ولا ينحصر تبادل خبرات الشر في مكان محدد، بل هو تراث بشري عالمي. حينما يتفحص المرء عقوبة أسامة بن لادن بعد قتله، يصاب بالعجب لغرابتها، أو لغرائبيتها، كفعل يصدر من دولة عظمى متحضرة: حرق جسده ونثره في المحيط! مثل هذه العقوبة نفذها المستعمرون البريطانيون بحق جثمان زعيم الثورة السودانية محمد المهدي (توفي 1885 )، الذي نبش المستعمرون الانكليز قبره، وألقوا رفاته في البحر، لكي لا يكون قبره مزارا. إن المستعمرين يتوارثون الأخيلة البربرية. أما الشعوب فإنها تتذكر عند الحاجة الضرورية حسب.
وإذا كان المستعمرون يتوارثون خبرات العنف، فإن بعض رواة التاريخ وشهوده يتوارثون التخريجات والصناعات التبريرية السياسية. وهذه المهمة ليست حكرا على السياسيين وجهاز الدعاية التابع لهم، بل تمتد غالبا لتضرب بعمق قلب الواقع الثقافي والبحثي والدراسي أيضا. لذا تشيع، غالبا، عند التحولات الجسيمة أفكار مضطربة، تحاول تكييف الماضي على ضوء مصالح الحاضر. ومن هذه التكييفات ما شاع مؤخرا عند الحديث عن أساليب القمع السياسي في ظل النظام الملكي. فقد أشيعت سلسلة مترابطة من الآراء الشكلية، التنزيهيّة ، متصنعة الموضوعية أو الاعتدال، وفي أحيان كثيرة الكرم في إطلاق الأحكام، لكنها في حقيقة الأمر أساءت الى التاريخ. لأنها رسمت صورة مزورة تماما للمشهد السياسي الواقعي، وأخذت تعيد تأسيس الحدث التاريخي على ضوء خيبات ومساوئ الحياة الراهنة، وعلى ضوء حسابات شخصية، وكسب نفعي متعجل، لا صلة لها بالحقيقة التاريخية أو بالبحث العلمي. ومثل هذه الآراء نجدها لدى دعاة اليسار واليمين معا. لقد وصل الحال حدا كريها حينما تم تنزيه حتى هولاكو والحجاج من شرورهما. ومن تلك الآراء الباطلة، التي أريد لها أن تكون قراءة تاريخية مستحدثة، القول بديموقراطية النظام الملكي وانحداره التدريجي نحو القمع. هذا ما نقرأه في كتابات الدكتور كاظم حبيب، مكررا الفكرة التي أشاعها الدكتور أحمد كمال مظهر، القائلة: " إن أكبر خطأ قاتل ارتكبه النظام الملكي في العراق يكمن في موقفه من الديمقراطية، فعلى العكس من منطق الأشياء سار الخط البياني لتطور الديمقراطية في العهد الملكي من الأعلى إلى الأسفل، لا من الأسفل إلى الأعلى، ويتحمل الجميع وزر ذلك, ولكن بدرجات متفاوتة" ورد هذا القول في مقدمة كتاب عبد الرحمن إدريس البياتي" سعيد قزاز ودوره في سياسة العراق حتى عام 1959 " المؤسسة العربية للطباعة والنشر ببيروت 2001".( الحوار المتمدن- العدد 1760- 10-12-2006)
لم يتوقف السعي الى إعادة قراءة التاريخ بأثر رجعي على تحسين صورة النظام الملكي. ففي الحقبة الطائفية جرى تحسين صورة أكثر جزاري العراق دموية وبشاعة: ناظم كزار. ففي غير موضع بدأنا نرى سعيا الى جعل ناظم كزار يقترب من مرتبة الشهيد. ففي كتابات حسن العلوي نجد تلميحات الى مثل هذا الأمر، تربط بين مقتل كزار وخيط انتقامي مناطقي، ذي بعد طائفي. ولم يكتف مشايعو الاتجاهات الطائفية بالتلميح، بل ذهبوا الى التصريح، معتبرين ناظم كزار ضحية للمعركة الطائفية، التي قادها صدام ضد منافسيه الشيعة.
ومن منطلقات مشابهة تماما، ولكن على أساس قومي شوفيني، راح منتفعون نفـّاجون يعيدون رسم صورة أحد رموز العهد الملكي السيئة، وزير الداخلية سعيد قزاز. وقد ذهب هؤلاء الى تحسين ملامح قزاز، من منطلقات عرقية خالصة، متخذين من أخطاء محاكمات المهداوي التهريجية، وسيلة لتبييض صفحة وزير الداخلية السوداء.

الفوضى الفكرية الخلاقة


تلك الأفكار حلقة من سلسلة من الفرضيات الاعتباطية، التي لم نعثر على ما يدعم وجود عناصر تحققها في الواقع، عند مراجعتنا للتاريخ المذكور. لا تتوقف خطورة هذه الفرضيات على ما حوته من خلل، فقد جعلها البعض مسلّمات تاريخية راح يؤسس عليها طائفة من الأحكام والتصورات السياسية اللاحقة، هدفها تدعيم فكرة القبول بالأمر الواقع القائم بعد الإحتلال الأميركي، نظرا لتشابه المرحلتين. ففي مرحلة الاحتلال الأميركي شاعت مقارنات تبريرية سطحية كثيرة أغرقت الإعلام العراقي، بسبب ضيق أفق الواقع، وتمركز الأنانية السياسية بشكل متطرف. فالبعض يتحدث عن ديموقراطية ملهمة اجترحها السياسيون العراقيون بعد سقوط النظام الديكتاتوري. يقيم هؤلاء فرضيتهم هذه على دليلين، أولهما: كثرة عدد الصحف وما رافقها من انفلات الرأي، وثانيهما: الانتخابات. يتناسى هذا الفريق أن عدد الصحف المطموسة الهوية الثقافية وطنيا، والانتخابات القطيعية، غير المنتجة سياسيا، لا تصنعان مضمون الديموقراطية، التي تقاس بمقدار فعالية الآليات الدستورية في الممارسة الواقعية. إن كثرة الصحف والانتخابات، المقحمة على بنية سياسية وثقافية خربة ومفككة، هي العنوان الحقيقي للواقع الراهن. ففي مملكة الطوائف السياسية، يكون بيع وتداول الكلام ظاهرة طبيعية نابعة من حدة الانقسام المجتمعي، وليست نابعة من الوحدة البنائية للعلاقات الروحية والوطنية. أي إنها ليست دلبلا على وجود نظام متكامل للحرية، بما فيها حريتا التعبير والاختيار، وإنما هما مظهران مقحمان بشكل قسري على هيكلية غريبة، مشوهة، لا تسمح إلا بإفراغ هذين المظهرين من محتواهما الحقيقي، وتحويلهما الى أداة دعائية ممسوخة، يراد بها إدامة عملية تقاسم المجتمع سياسيا وتحاصص ثرواته وجغرافيته وقدراته البشرية والروحية. هذه الديموقراطية المشوهة، القائمة على العنف والتمزق الوطني والتقسيم العرقي والطائفي والنهب العلني، المعطلة لمصالح المجتمع بأسره، دفعت أنصار النظام القديم الى تذكير الناس بأفضلية النظام السابق، لأنه كان يحفظ الأمن للناس. وتلك حجة تبريرية، تشبه تماما حقيقة تعدد الصحف والانتخابات في العهد الجديد. لكنها حقيقة فاسدة أيضا. لأن من ينطق بها يتناسى تماما موضع ومكانة تلك "الحقيقة" في البناء الإجتماعي كاملا: النهب والتزوير والعنف المتنوع، تدمير محتوى الإنسان، تخريب التاريخ الثقافي، وتدمير القاعدة الاقتصادية، وتحطم أسس المجتمع العراقي، وتفكيك روابطه الروحية في ظل النظام السياسي الجديد، يقابلها الأمان الفردي، ولكن وسط الحروب الدموية والقمع السياسي الجماعي المزمن والشرس، وسحق الإنسان باسم الوطن المسحوق أيضا، وسياسة دفع البلاد وتسليمها لقمة سائغة في أفواه المحتلين في ظل النظام السابق. كلا المثالين يستندان الى عناصر "حقائق" من الواقع، لكنهما ينسيان وضع تلك الجزئيات ضمن نظام إجتماعي عامل ومنتج وطنيا. ففي العراق الجديد أصبح الحديث مباحا في حدود كبيرة، بسبب تمزق الإرادة السياسية الحاكمة، وليس بسبب ديموقراطية هذه القيادة ووحدة تفكيرها وقوة إيمانها بالتعددية والمثل الديموقراطية. فالمرء يستطيع أن ينتقد البارزاني في السليمانية بيسر، ويستطيع أن ينتقد الطالباني في أربيل بنفس القدر، ويستطيع أن ينتقدهما معا في مدينة الصدر. وفي كركوك يستطيع أن ينتقد من يشاء، ولكن عليه أن يحسب بدقة لا تقبل الخطأ موقع وجوده في أقسام المدينة العرقية والطائفية المختلفة. إن مفهوم حرية التعبير في النظام الديموقراطي يرتبط بحجم التمتع بالحرية الدستورية العادلة وطنيا، وليس بعدد الصحف وعدد الكلمات المؤيدة والمعارضة فئويا. فهذه الكثرة في غير موضعها، أفقدت الكلمة مضمونها وجعلتها تصبح أكثر عجزا وخرسا من الصمت. أما الانتخابات من دون وجود تعداد سكاني، ومن دون وجود دستور "وطني" متماسك قانونيا، ومن دون وجود رقابة نيابية حقيقية وقضاء مستقل، وقانون للأحزاب والثروات الطبيعية، جريمة سياسية، وملهاة يتسلى بها سياسيون لصوص، مبتدئون وطارئون ومهلهلون. في زمن الديكتاتورية كان القول ممنوعا، لكنه كان مغلفا بالأمان القهري، القائم على العنف الحكومي الشامل، والاحتكار العقائدي والحزبي، الذي يفرض صمت القبور على الجميع. أمان الموتى البعثي هذا، قابله صراخ وعويل سكان المقابر الديموقراطية. إن ذلك يعني أن الواقع العقلي العراقي لم يزل سجينا في تلك المعادلة المختلة، التي تسود الواقع السياسي القائم الآن، والتي تصنع قطبي الجذب فيه: الموت صمتا، أو الموت صراخا.
لم تكن المفاضلة بين أنواع الموت، والتفنن في صناعة قدر عراقي قائم على معادلات الموت، حكرا على السياسيين وحدهم، بل كانت البضاعة الرائجة لمثقفي الاحتلال قبل وبعد الغزو.
يقول الكاتب إبراهيم أحمد: " أما الاشفاق على الضحايا – ضحايا الغزو ونتائج الاحتلال- فأنا أعتقد ان هذا ينبغي أن يتفجر بغضب حقيقي حين يبقى الناس تحت سطوة صدام وأبنائه وطغمته من أبناء العوجة فسيرون كم سيتضاعف عدد الضحايا مرات ومرات وبأساليب أكثر بشاعة من الحرب المنظورة من قبل العالم" ( المؤتمر- 11، 17 نيسان 2003)
وفي العدد نفسه من صحيفة (المؤتمر)، يكتب الشاعر صادق الصائغ : " كم سيكون يا ترى عدد قتلانا من المدنيين – بالأحرى سعة مجازرنا - لو استجبنا لسيناريو مناهضي الحرب، أترانا نستطيع، ووافقنا على ترك رقابنا، كما في المرة السابقة، نهبا لهوايات صدام الجهنمية المعروفة..."
توارد الخواطر الدموية العجيب هذا، بين إبراهيم أحمد وصادق الصائغ، لم يكن تشابها في التفكير، كما يحسب القارئ، طيب القلب. بل هو مجرد ترجمة محلية، فورية، لأمر تعبوي صادر من جهة حربية أجنبية. عدا هذا التشابه التعبوي، نجد أن الشاعر والكاتب المذكورين جاءا الى الحرب من جهة اليسار، وأنهما عملا معا على تنظيم الخلايا والقوائم الثقافية لمرحلة ما قبل الغزو، ثم عملا مستشارين خاصين لدى قيادة الاحتلال عند بدء الغزو. إن أفكار الكاتبين، التي يقارنان بها سبل موت العراقيين، وأشكال اختيار أفضل طريقة للموت، نموذج جديّ على أن الاستهانة بالإنسان وبحرمته نابعة من سيطرة فكرة الشر سيطرة مطلقة على وعي الجماعات التي روجت للاحتلال، حتى غدت فكرة المفاضلة بين الأشرار والقتلة والمجرمين المعيار القيمي الأوحد، الذي تبنى به مفاهيم الحرية والديموقراطية. لذلك طالب الكاتب إبراهيم أحمد المثقفين العراقيين بـضرورة التخلص من "عقدة الحياء الوطني الزائد عن اللزوم". لقد فاجأ هذا السخاء الثقافي التعبوي حتى المحتلين، الذين وجدوا أنفسهم عاجزين عن تفهم حجم قسوة ما يجري على أرض الواقع، بما فيها بشاعة أفكار مادحيهم، التي فاقت كل تصور.
حينما نتحدث عن الأحصائيات والأرقام ربما تذهب عقول البعض مذهبا بعيدا عن مقاصنا. فقد تبدو الحسابات العددية ( الضحايا، القتلى ، المنتخبين، عدد الصحف، عدد الأحزاب، عدد زائري العتبات المقدسة) جاذبة للبعض، عند النظر اليها من بعدها الظاهري والشكلي، أو من السطح. لكنها سرعان ما تتهاوى حينما ننظر اليها بقليل من التمعن والتحليل. وهذا الأمر يسري أيضا على فكرة قراءة موضوع الديموقراطية في النظام الملكي، وعلى تحليل حقبة الدكتاتورية، وعلى موضوع الحرية الأميركية التي جاءت مع الاحتلال، وعلى أجزاء كثيرة مؤثرة من تاريخنا الاجتماعي.
خاتمة
إن البحث عن مصادر الحقيقة التاريخية لا يتأثر بالعناصر الفنية فحسب، كطرق وأساليب جمع المعلومات والوصول اليها والتحقق منها ونشرها، بل يرتبط بقوة أعظم بالغاية المراد تحقيقها (الهدف) وبالمنهج. وكلا الأمرين يرتبطان بقوة بدرجة نضوج وتطور وعي الظواهر اجتماعيا. لذلك نرى أن البحث التاريخي لدينا لم يزل في القعر، رغما عن تقدم مناهج البحث عالميا. فلم يزل يسود صراع بين الرغبة في سرد محتوى المعايشات ( كشف الظواهر) وبين العوامل الذاتية والموضوعية المحيطة بالظاهرة. ويزداد الأمر صعوبة في ظل ضعف التخصص البحثي، وغلبة التحزب على مرجعيات البحث، التي لا تتيح حرية انضاج قاعدة مستقلة لجمع المعلومات، ولا تنتج أساسا واقعيا علميا للتحرك صوب الاستقراء أو الاستنتاج المجددين الخلاقين، المتحررين من ضغط المحيط الاجتماعي، ومن أسر حاجاته الآنية.
إن تدريب المجتمع على احترام حقوق الإنسان، يتطلب ويشترط قيام تغيير ثقافي ثوري وانقلابي، يطيح الصورة التقليدية المورثة، المعششة في أذهاننا عن الإنسان، المزروعة عميقا في الواقع السياسي، التي هي نتائج لعهود طويلة من موجات العنف السلطوي ومن حقب قهر المواطن. إن بناء المجتمع المدني المنتج يشترط قيام تمهيد حقوقي وثقافي وأخلاقي جديد، يهشم تهشيما تاما حرية احتكار العنف سلطويا، ويعمل بمثابة ناظم مثالي أعلى، يجبر السياسيين والحكام والمحكومين على احترام سقفه المعترف به إنسانيا - قانونيا وأخلاقيا- في الممارسة اليومية. وهذه المهمة تقع، بدرجة أولى، على عاتق المواطن المتنور، والمثقف الإنساني، المتجرد من ميوله الشخصية والحزبية والفئوية.

# ### #
إن دراسة المجتمع نفسيا واجتماعيا على أسس علمية، ربما تسهم في إيجاد أجوبة نافعة، تميط اللثام عن السؤال الإشكالي الكبير: ما دور الفرد والجماهير في عملية صنع الواقع؟ وإعني بالواقع وجهيه: الفاسد الكالح، والمنتج المشرق.
إن كل ما سيأتي به هذا الحوار، مهما كان ضئيلا، أو مهما كان صادما، سيكون مادة لتطوير عملية تبادل الأفكار، باعتبارها القاعدة الميدانية لتدريب النفس على ممارسة نقد الذات، وباعتبارها المصدر الحيوي للإمداد بالأراء والمعلومات والحقائق، والمصدر التفاعلي الأقوى لتجديد أساليب التفكير وطرائقها، ولفتح ثغرات في مناطقها المغلقة، أو المعتمة.
بالحوار ليس لدينا ما نخسره، سوى أخطائنا وضعفنا ومخاوفنا.