أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - أحمد الحارثي - رهانات الثورة وأخطبوطات الثورة المضادة في المحيط العربي















المزيد.....



رهانات الثورة وأخطبوطات الثورة المضادة في المحيط العربي


أحمد الحارثي

الحوار المتمدن-العدد: 4145 - 2013 / 7 / 6 - 17:05
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية
    


رهانات الثورة
وأخطبوطات الثورة الـمضادة
في الـمحيط العربي
كثر الحديث هذه الآونة الأخيرة عن ضرورة التجرد وأخذ المسافة اللازمة في مقاربة والتعاطي الفكري والسياسي مع واقع الثورة في المحيط العربي، في مواقدها الأساسية الساخنة كما في الحواشي المهددة. وذلك ليس من باب الغيرة العلمية والنزاهة الفكرية والرغبة في التحلي بالموضوعية، وليس بدافع تيسير السبيل وتنوير الطريق أمام المعنيين بالتغيير المجتمعي أو صانعي التاريخ المحتملين. لكن بغرض مناوأة الثورة من خلال التركيز حصرا على هفواتها ومنزلقاتها، قصد تمويه معانيها وتشويه صورتها والتشويش على رهاناتها. وقد ذهب البعض إلى حد التشكيك في نقاوتها ونكران تلقائيتها وتبخيس أدائها، بل وصفها بالمؤامرة الدنيئة. واجتهد في "تفكيك خيوط" والكشف عن الدسائس الدفينة التي تقف وراء اندلاعها، وتعقب آثار الدلائل التي تقبع في ثنايا وجزئيات وتفاصيل الأحداث المواكبة لها. فيما نذر البعض الآخر نفسه لمنازعة جدوى ومغزى الحدث في حد ذاته، بإفراغه من محتواه، ثم تلقين الدروس بنبرة أستاذية متعالية حوله، قبل القيام بهجوم عنيف على مفجريه.
هكذا تضخم الخطاب المناوئ للتغيير. وساهم في تأجيجه بقدر كبير صعود الإسلام السياسي إلى سدة الحكم.
من نافلة القول إن العمل على نحت المفاهيم الملائمة لفهم واستيعاب الحدث هو أصغر هموم هذا الخطاب. لأنه خطاب إيديولوجي رخو، يبذل قصارى جهده لتبرير الوضع القائم الذي يستهويه سكونه؛ ويبرع فقط في إسالة فيض هائل من المفردات الهجينة والجوفاء، الغرض الوحيد منها حجب جوهر العلاقة السياسية السائدة وطبيعة نظام الاستبداد والفساد.
تتقاطع وتتشابك هنا أخطبوطية الثورة المضادة برهانات الثورة في المحيط العربي، لنسج خطاب سياسي وإيديولوجي هدفه الأسمى زرع اليأس وتجفيف منابع الأمل في تحقيق التغيير المنشود وسط هذا الفضاء الجغرافي والتاريخي القاحل، المكتوي بنيران الاستبداد والتخلف والجهل. فقد ظل العالم العربي على الدوام موضوع الرهانات الدولية؛ وما فتئ يلهث وراء هوية مفقودة، بعد أن ضل طريقه في البحث عن وطن بعيد.
1. أخطبوطات الثورة الـمضادة
مباشرة بعد التفجر الفجائي للغضب الشعبي في الشارع "العربي"، وحتى قبل انقشاع غيوم اللحظة وإسقاط رأس النظام في كل من تونس ومصر على التوالي، بدأت أنسجة الثورة المضادة تتشكل بتدرج تصاعدي، وبكيفية أكثر فأكثر تنظيما ونسقية. وقد ساعدت عوامل شتى على تقوية هذا الارتداد وأضفت عليه طابعا خاصا، أهمها ضيق نفس الحركية الثورية بحكم طبيعتها التلقائية، ثم تذبذب وضعف حلفائها الطبيعيين أو المفترضين، فضلا عن ضغط التدخل الخارجي وتنوع أطرافه وقنواته وأشكاله.
مع اندلاع الثورة في تونس كما في مصر، كان يبدو واضحا تماما للجمهور وهو في عز المعركة من أجل الكرامة والحرية أن انتزاع حقه في تقرير مصيره رهين بمدى قدرته على تعجيل وتيرة الاحتجاج، باقتران مع الرفع من سقف مطالبه المشروعة. كان يتوقف حسم الصراع وتحقيق الانتصار على السرعة في الإنجاز، أي استملاك الشارع بخطى حثيثة والتمكن على الفور من تفكيك الكتلة الحاكمة وقطع أوصالها. إنه من الأهمية بمكان تكثيف الضغط على النوى الصلبة للنظام وعدم إمهالها أية فرصة للاستفادة من الوقت والتقاط أنفاسها واستعادة قواها. فالإرباك الذي يحدثه تضييق الخناق عليها ينهك قدراتها على تنظيم هجوم مضاد لسحق التمرد في مهده، ولا يترك لها الحرية في الاستعانة بالقوى الأجنبية، الإقليمية منها أو الدولية.
ومن محاسن الثورة في المحيط العربي أن شرارتها امتدت من تونس لتطال على التو مصر، أكبر وأقوى بلد في شمال إفريقيا والشرق الأوسط؛ مما شكل دعامة قوية ووفر حصانة نسبية للثورية التونسية ومثيلاتها في المحيط المباشر. لأنه لولا الانشغال الكامل للنظام المصري السابق بالدفاع عن نفسه، وإحساسه بقرب انهياره، لما تردد لحظة عين، وهو أحد المعاقل الأكثر رجعية في المنطقة، في اتخاذ زمام المبادرة لنصرة أنظمة الاستبداد وتزعم الهجوم المضاد للثورة في الجوار المباشر وفي المحيط العربي بأسره. بدلا من ذلك، أودى سقوط رأس ذلك النظام واشتداد الصراع من أجل بناء المستقبل ودولة المؤسسات، ثم التنافس لكسب رهان الاستحقاقات الانتخابية، إلى فرض أَوَّلِيَّة السياسة الداخلية على الاعتبارات "الجيوإستراتيجية". هذا، فضلا عن تَكَشُّف المعطى البنيوي الكامن في ترسُّخ القطرية، وخلفها تنامي الطائفية والإثنية؛ مقابل تراخي روابط القومية ومشاعر الانتماء إلى الأمة.
بموجب هذا الإكراه العابر الذي يحول دون استرجاع مصر لموقعها الطبيعي في المنطقة، حدث فراغ في ساحة الصراع الإقليمي، اختلَّت معه موازين القوة مثلما ارتبكت سياسة المحاور.
وقد ساهم فيه أيضا الوضع الغامض والهش في العراق الذي ظل يعاني من دوامة العنف وعدم الاستقرار منذ إسقاط نظام صدام حسين عبر تدخل عسكري أجنبي تحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ثم حالة سورية حيث تتحول الثورة ضد النظام إلى ما يشبه الحرب الأهلية.
لم يبق إذن من قوى إقليمية "مؤهلة" مؤقتا للعب دور ريادي في العالم العربي سوى الدول البترولية، المحصنة وراء اقتصاد الريع. هكذا وجدت الأنظمة الأكثر استبدادية في شبة الجزيرة العربية والخليج المعترك خاليا من المنافسين الإقليميين التقليديين، والفرصة سانحة للنهوض بهذه المهمة الاستراتيجية تحت قيادة المملكة العربية السعودية. فلم تعد هذه الأخيرة تكتفي بوظيفتها الإقليمية السالفة كقوة مالية ذات تأثير فرعي في صنع القرار "العربي"، وكذا في تكييف بعض القرارات المرتبطة بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المحافل الدولية؛ ولا برسالتها التبشيرية الهادفة إلى نشر الإيديولوجيا الوهابية خلسة عبر مختلف أنحاء العالم، وفي المقدمة عوالم العروبة والإسلام. بل إنها أضحت تتطلع إلى أكثر من ذلك، إلى احتلال موقع استراتيجي أقوى نفوذا من السابق، إذ أصبح في وسعها اليوم المراهنة على امتطاء موجة الإسلام السياسي الجارفة لوضع يدها على البلدان العربية الأكثر هشاشة، والتحكم عن قرب في مصائر بلدان "الربيع العربي". وتتوخى من وراء ذلك، بالتواطؤ مع الغرب وارتضاء الدول العظمى بطموحاتها، الحصول على موضع أمامي يسمح لها برسم معالم خريطة التحالفات وتراتبية القوى الإقليمية في المنطقة.
إلا أن طارئ تراجع النفوذ الخارجي لكل من مصر ثم سورية حاليا، وقبلهما العراق، والذي فرضته أعراض تاريخية معروفة، فسح المجال واسعا أمام توسط دول الجوار الإسلامي المباشر والتصاقها بالشؤون الداخلية لبلدان "الربيع العربي". إذ شجع بوجه خاص تركيا وإيران على الدخول على الخط وملء حلبة الصراع الإقليمي بحثا عن توسيع النفوذ عبر القيام بدور الوساطة، ومن ثمة محاولة تصدير النماذج السياسية الجاهزة، إن لم يكن بعث الروح في الإيديولوجيا السلطانية القديمة.
ليس غريبا أن تتفاعل، ولو بحماس زائد أحيانا، تركيا وإيران مع الثورات في المنطقة العربية، في محاولة لغزو مشهد الأحداث الإقليمية، وجريا وراء تحقيق مصالح وبلوغ أغراض أنانية ليس إلا. بحكم وزن القوة الاقتصادية والسياسية/العسكرية التي يحضى بها كل واحد من هذين البلدين على حدة، فإنه في وسع كلاهما النزول بثقله في رقعة الشطرنج الكبرى في الشرق الأوسط والتأثير على أطراف المعادلة الإقليمية. بل قد تسعفهما رابطة الإسلام والعمق التاريخي للعلاقات التي تشدهما بالعالم العربي في السعي إلى اختراق مجتمعاته باستثمار الدين، والاستفادة من إضعاف أقطابه المنافسة والمزاحمة لهما على الصعيد الجهوي، في أفق بسط نوع من الوصاية أو الهيمنة على بعض أطرافه الضعيفة والمُعرَّضة، حيث قابلية الانجراح أقوى.
في حين قد يبعث على الاستغراب رد فعل إسرائيل وسلوكها "البارد" إزاء وقائع ومستجدات الثورة في المحيط العربي. باغتها الحدث بكل تأكيد؛ ثم أربكها المرأى المُهذَّب للثورة بطبيعتها السلمية وتطلعاتها الديمقراطية، قبل أن يفرض عليها الركون إلى موقف الحياد التام اتجاه الأحداث والأطراف الفاعلة فيها. ما يجب أن يسترعي النظر حقا هو كون هذا المعطى الجديد أعجز الدولة الإسرائيلية عن وضع أية استراتيجية أو خطة لتحيين سياستها الإقليمية، التي احتبست في الجمودية والانتظارية؛ كأنها غير معنية بالإعصار الذي يهز بلدان المنطقة ولا بالمتغيرات الجيوسياسية الحاصلة أو المرتقبة، طالما لم تشعر بتهديد فعلي وآني لكيانها وأمنها الداخلي. فقد أذهلها بالفعل الاضطراب الثوري الذي يجتاح رقعة جغرافية ملغومة وذات حساسية بالغة بالنسبة إليها. لكن تصرفها ليس عديم الرؤية، متعطِّل، غير مفكر فيه؛ ولا يمكن أن يوحي أو يتسم بعدم المبالاة. وإنما ينم عن وعي مُعوَّد على اليقظة والحذر في التعامل مع الطوارئ واستشعار الخطر، ويعبر عن إدراك جيد بالمصالح الاستراتيجية المصيرية وبالمسؤولية الأولى الملقاة على عاتق الدولة العبرية، والمتمثلة أساسا في حماية الكيان وحراسة الحدود المرسومة بالنار. إنه يعكس القدرة على تحديد مكامن التهديد الحقيقية ورسم التكتيك الملائم لتلافيها أو مواجهتها، بعقل سياسي بارد.
تفتقر دولة إسرائيل إلى رؤية شاملة قادرة على تمكينها من تجاوز قصورها عن التقاط واستيعاب الحدث في كليته، بتشعباته وتشابك خيوطه، ونهج سياسة إقليمية جديدة لفك العزلة القاتلة التي تشكو منها، والتوجه فوق كل شيء نحو إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية. لكنها تراقب الوضع عن كثب؛ وعينها لا تفارق إيران التي ترى فيها عدوا مرحليا والمصدر الرئيسي للخطر الذي يتهددها، سواء من بعيد عبر ترسانته العسكرية، أو من قريب عبر امتداده الاستراتيجي في لبنان ثم تحالفه العسكري مع سورية. وباستثناء خرجاتها العسكرية المتتالية في سورية ضد الجيش النظامي وحلفائه، يبقى أن إسرائيل لم تتدخل إلى حدود الآن في شؤون باقي الثورات في المحيط العربي، لا في الاتجاه المضاد لها ولا في التبعية لها؛ واكتفت بمراقبتها بعين ساهرة.
أحيانا، قد تكون أنجع وسيلة لفرض الوجود وتعزيز الهيمنة هي الإمساك عن السياسة التدخُّليّة، التزام الصمت والسكون، حفاظا على جوهر العلائق القائمة بين الأشياء والفعل فيها. فموازين القوة واضحة، تميل لصالح إسرائيل التي يسندها سلاح الردع النووي الذي تحتكر حيازته في الفضاء الإقليمي، والتي تقف بالمرصاد لكل من يتوق إلى امتلاكه.
بقطع النظر عن سياسة النفاق والكيل بمكيالين، دأب الغرب، ووَرْبا إسرائيل، على ممارسة الخطابة حول الديمقراطية وضرورة نشر قيمها في المنطقة، من أجل إنعاش الرقي وضمان السلم وتحقيق التعايش السلمي بين الدول/الأمم والأديان، وعليه محاربة التطرف الديني والإرهاب الدولي.
ومما لا يُسَلَّم به أن يستمر المعنيون بالأمر في غيِّهم وتسلطهم بتوظيف المسألة القومية جنبا إلى جنب مع وطنية مزعومة، زائفة.
مع ذلك، يلزم الإقرار بأن القضية الفلسطينية سوف تظل المعضلة الأصلية التي تقف حجر عثر أمام كل محاولة للخروج من الأزمة وتهدئة الأجواء في الشرق الأوسط، وإعادة السلام إلى الفضاء المتوسطي. لأنه طالما لم تتم الاستجابة في الراهن للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، بما في ذلك حق العودة وفق القرار الأممي 194، وتمكينه من تقرير مصيره وبناء دولته فوق ترابه لما قبل 1967، عاصمتها القدس، لا يمكن أبدا تلافي الاصطدام؛ مهما كان مآل التحولات الجارية.
وإذا كان، آخر المطاف، في وسع دولة إسرائيل أن ترضى جيدا بالأنظمة الجُورِيّة كما الليبرالية حولها، وهذا ما يوحي به تعاملها الحالي والسابق مع الدول المحيطة بها، فإن إنجاح ثورات بلدان "الربيع العربي" وتوسيع رقعتها هو الكفيل بتوفير الشرط التاريخي لإحداث تغيير في موازين القوى الإقليمية. إن السلاح الأقطع الذي تمتلكه إسرائيل، ولا تتردد في استلاله واستعماله في مواجهة المحيط، يكمن في كونها واحة منفردة ينعم فيها المواطن بالديمقراطية والرقي، وسط صحراء قاحلة ترزح فيها الساكنة تحت نيران الاستبداد والتخلف.
لذلك فإن إرساء دعائم الديمقراطية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بما تعنيه من زرع لقيم الحرية، وصون للكرامة الإنسانية، وتقدم اقتصادي واجتماعي وعلمي وفني، هي الطريق الأمثل لاكتساب ما يكفي من القوة والمناعة لفرض الإرادة واسترجاع الحقوق، وفي قلبها الحقوق الفلسطينية المشروعة.
على ضوء التحولات السياسية الداخلية الجارية حاليا في بلدان العالم العربي، والتفاعلات الإقليمية والدولية المتفرعة عنها، تثابر دولة العربية السعودية على عملها في تزعم الهجوم على الثورة من أجل توجيه مسارها نحو الارتداد، وفي نفس الآن تلافي أو الحد من احتمال انتشار "عدواها"؛ وذلك برفقة قطر، وبدعم من باقي الدول الخليجية.
في حالة ليبيا، وإلى حد ما سورية الآن، استفادت الثورة المضادة من بطء الأداء وعسكرة الصراع باللجوء إلى حمل السلاح، أي من استطالة المواجهة قبل إسقاط رأس النظام؛ إذ خاضت حملة استباقية تغازل التغيير بهدف احتوائه، واستعدت بما فيه الكفاية للعب دور حاسم في ملء فراغ السلطة القادم لا محالة.
في حين، فرضت عليها سرعة الإنجاز وسلمية المعركة في حالة تونس ومصر التريط والتربص. ثم عملت على تهدين المخاوف بالتستر خلف لبوس وشعارات الثورة، قبل الشروع في تنظيم الهجوم المعاكس سعيا وراء إجهاضها بهدر طاقاتها وهدم مكتسباتها. وقررت أخيرا تسريع الحسم في طبيعة الحكم البديل، والمرور على التوِّ إلى الاستحقاقات الانتخابية التي كان باديا للعيان أنها ترجح كفة تيار الإسلام السياسي، الذي لم يساهم أصلا في معركة التغيير. في كل الأحوال، الثابت في هذه الدينامية هو المحافظة ومعاداة التحول الديمقراطي المنشود؛ والمتغير هو حدة البغضاء أو المودة اتجاه هذا الحكم الفردي أو ذاك، ومدى صداقته مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص.
وليس غريبا أن تقوم المملكة العربية السعودية باستقبال الرئيس التونسي المخلوع، وإسعاف نظيره المصري بالضغط لتأمين خروجه بسلامة من المحاكمة، واستضافة الرئيس اليمني السابق للعلاج من تشييط أصابه إثر تفجير استهدف اغتياله. إنها تنصب الشر للثورة، ويصيبها الهلع كلما لوحت في الأفق احتمالية نجاحها وبلوغها أهدافها المعلنة، التي تنادي بالحرية واحترام الكرامة الإنسانية. فهذه القيم تهدد كيانها وتوجد على النقيض تماما من الوهابية وعقيدتها السياسية. في وسع العربية السعودية إلحاق أضرار بليغة بالحركيات الاجتماعية في دول الجوار العربي، بفضل نفوذها المالي القوي، علاوة على احتضانها للقواعد العسكرية الأمريكية؛ مثلها في ذلك مثل دولة قطر المُسَخَّرة التي تتماهى مع القناة التلفزية "الجزيرة". وهذا ما حصل بالفعل في البحرين يوم 14 مارس 2011، حيث حاصرت القوات العسكرية السعودية والخليجية البلد من أجل نجدة النظام القائم، وسحقت في الدم التمرد ضد الاستبداد، مما أودى إلى شل فعالية حركة الاحتجاج والرفض. وذلك بمبرر صد المد الشيعي والمؤامرة الأجنبية وبنيَّة إضفاء سحنة طائفية دينية على الصراع السياسي. وتم نهج نفس الأسلوب في حالة اليمن؛ إذ، على خلفية القَبَليَّة هذه المرة، فرضت دول الخليج على الأطراف المتصارعة خطة لنقل السلطة إلى نائب الرئيس اليمني السابق عبر استفتاء شكلي، ونُظِّم لهذا الغرض انتخاب رئاسي بتاريخ 21 فبراير 2012 لاختيار مرشح وحيد، وتخلى الرئيس السابق رسميا عن السلطة يوم 27 فبراير.
مما لا شك فيه أن "الربيع العربي"، في الشرق الأوسط كما في شمال إفريقيا، لا يخلو من رهانات جيوستراتيجية دولية وإقليمية.
تتحمل العربية السعودية وحدها مسؤولية تدويل الصراع الداخلي في البحرين ثم في اليمن؛ وقامت بدور كابح للدينامية الاجتماعية، حالت فعاليته دون تغيير نظام الحكم في كل من هذين البلدين. وتفعل إيران نفس الشيء بالنسبة لسورية، إذ تدفع في اتجاه أقْلَمَة النزاع لحماية النظام الدكتاتوري السوري من الانهيار. إلا أن هيئة الحرب الأهلية التي تأخذها المعارك الدموية في هذا البلد تهدد بجره نحو هاوية الاقتتال الطائفي وجعله لعبة بين أيادي الدول الأجنبية. بل إنه قد يتحول في أية لحظة إلى وحل يصعب الخروج منه بسبب تقاطع وتنافر المصالح الجهوية والدولية المرتبطة به، والتي هي شديدة التعقيد، وبالنظر إلى استيلاء النظام السوري على لبنان وقدرته على تفجيره في الوقت المناسب.
قد يكون في متناول البحث العلمي عقلنة أفعال الدول الحديثة، أو إخضاع سياستها إلى منطق الحساب والقياس، لا سيما بشأن الربح والخسارة، النفع والضرر، أو حتى تنازع البقاء وفق قيم العصر. لكن الأمر متعذر شيئا ما بالنسبة للكيانات الدولتية اللاهوتية أو شديدة الاعتزال، التي تسبح في فضاءات ما ورائية، خارج التاريخ. في باقي العالم، تتنافس وتتصارع الدول بعقل مُنظَّم لتجديد إنتاج الحضارة المادية وتسلق المراتب في تسلسل الأمم، سعيا وراء المجد والتألق. بينما تكتفي أنظمة الحكم الفاسدة في الأقطار العربية، وعلى قدر ما في كل من إيران وتركيا، باستهلاك خيرات وخدمات الدنيا ووعد الناس بالجنة في السماء لتعويض حرمانهم من حقوقهم الإنسانية في الأرض، ولا تبالي البتة بالهوة التي تفصلها عن مركز الكون وما آلت إليه البشرية من تحضُّر. في عصر يحتكم إلى القانون الطبيعي لتنظيم شؤونه الدنيوية، وإلى المؤسسات لإنتاج القرار السياسي، من الصعب بمكان التنبؤ بتصرف سلطة إلهية أو نظام حكم استبدادي يستمد مشروعيته من الحق الإلهي ويعتنق عقيدة لاهوتية ترجح تفوق الإيمان على العقل. يعود سلوك مثل هذا إلى الظواهر غير المتوقعة، التي تتحدى المعقول والاحتمال.
وفيما لو سلمنا بامتثال حكام العربية السعودية وإيران لنوع من العقلانية في نهج أية استراتيجية أو خطة بعيدة المرمى، وقمنا بالتمعن في طبيعة الأهداف غير المعلنة والوسائل المتاحة لتحقيقها، فسوف نكتشف درجة اشتباه الرؤية لديهم وجنوحهم إلى زرع الأوهام واستجلاب الكوارث. يغترُّ أشياخ شبه الجزيرة العربية بأهْليَّتهم لتحقيق الحلم العربي وبعث الأمة الإسلامية المسلحة بنقاوة العرق وبالمذهب الوهابي. في قالب متضاد، يتوهم نسق حكم ولاية الفقيه في إيران باسترجاع عهد الإمبراطورية وأمجاد الفرس، عبر طوبا الإسلام السياسي ونصرة العقيدة الشيعية.
في الراهن، يبدو بديهيا أن إيران لن تتخلى أو تتراجع بسهولة عن مساندة النظام السوري، لأنها تعي جيدا حجم الخسارة التي ستتكبدها وخطورة العزلة التي سوف تعاني منها لا محالة في حالة وقوعه وتغييره بنظام مناوئ لها. فالمحور الإيراني السوري يسمح لها بتثبيت أقدامها في العراق، وكذلك في لبنان؛ ومن ثم تكثيف الضغط على إسرائيل؛ وتوسيع هامش مناوراتها في تدبير قضية الكردستان؛ وتقليص فعالية الدور التركي بالمنطقة؛ ومنافسة النفوذ الإقليمي لكل من مصر والعربية السعودية. فوق ذلك، يمنحها هذا التحالف الاستراتيجي إمكانية التحصن في وجه الحملة التي تشنها ضدها الولايات المتحدة، بدعم من الدول الغربية وإسرائيل، التي تضعها ضمن قائمة "محور الشر"، وتتهمها بمساندة الإرهاب الدولي وبالعمل على تخصيب اليورانيوم ذو الجودة العالية، العسكرية، قصد حيازة السلاح النووي. مثلما يتيح لها الفرصة لتجنيد الساكنة ثم التحكم أكثر في الوضع السياسي الداخلي، وبعث النعرة القومية من أنقاضها، ونشر المذهب الشيعي على نطاق أوسع.
بالعكس، تناور وتتآمر العربية السعودية، بالتواطؤ مع قطر وبدعم من باقي دول مجلس التعاون الخليجي، ضد النظام القائم في سورية وتراهن على سقوطه، لأنها تعتقد أن الحكم لن يقع سوى في قبضة تيار الإسلام السياسي الراديكالي، السُّنِّيّ. على وجه اليقين، تقود عقيدة كبح المد الشيعي إلى تعزيز وتوسيع قاعدة الحلف المناوئ لإيران، بدءا من استعمال "جامعة الدول العربية"، ووصولا إلى مغازلة تركيا ومهادنة إسرائيل. لكنها تخفي الغاية النهائية التي تحركها، وهي تحصين الذات وتعبئة الجهود لحماية الريع النفطي والدفاع عن المعاقل الأكثر رجعية والأقصى تخلفا حضاريا في العالم العربي والإسلامي. وذلك بمشاركة القوى العظمى الحريصة على حفظ مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، وتأمين تزويد اقتصادياتها بالموارد الطاقية اللازمة. إلا أن الحلف الإيراني/السوري يُعَوِّل هو أيضا على سند روسيا والصين، مثلما تستفيد منهما العربية السعودية في قيادة الثورة المضادة في المحيط العربي.
2. رهانات الثورة في الـمحيط العربي
لا تستند إلى حجج دامغة أطروحة التشكيك في الطبيعة الثورية للأحداث التي كانت بلدان "الربيع العربي" مشهدا لها. فما وقع في هذه البلدان هو بالفعل من جنس الثورة، كما تجسدت في التاريخ؛ كظاهرة نادرة. يتولد هذا الحدث النوعي من تحول فكرة إلى واقع مادي، لحظة تلاقيها بحركية اجتماعية كامنة وانصهارها فيها. على وجه الدقة، الثورة هي تغيير للمؤسسات السياسية بوسائل جذرية، وقطع مع الوضع القائم أو العهد السابق؛ أي قلب مفاجئ للنظام السياسي عبر حركة شعبية، باستعمال العنف وتجاوز الأشكال القانونية أحيانا.
لا تنجو أبدا الفكرة في صفائها الأصلي من شطط الممارسة، من خلق وتوسيع الهوة بين الواقع والعالم الخيالي. ويظل دوما الاعتقاد في خيالية الثورة الشاملة يراود ضمائر الشعوب الراغبة في صنع وتغيير مجرى التاريخ. وهذا ما حصل مع الثورات الكبرى التي شهدها العالم عبر مختلف العصور والمحطات الحضارية؛ والتي لا تتميز في شيء عن بعضها البعض سوى من حيث طبيعة وشدة القطيعة التي أحدثتها مع الماضي.
في الأزمنة الحديثة، قامت ثورات رفيعة السُّمُوّ، ذائعة الصيت، تردد صداها في مختلف انحاء العالم، وغيرت رأسا على عقب مجرى التاريخ. أنتجت الحضارة المادية؛ وأشاعت على نطاق واسع القيم الإنسانية الكونية التي أبدعها الفكر الثوري، بدءا من فلسفة "الأنوار" والعقيدة الليبرالية، ومرورا إلى الفكرة الاشتراكية. أعظمها شأنا: الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية في القرن الثامن عشر، الثورة البلشفية في أكتوبر 1917، الثورة الصينية في 1949.
عانت الشعوب دوما من هاجس الثورة المضادة المتربصة بها، ولم تسلم أبدا من ضرباتها، القاضية أحيانا. قاست المحن من أجل أن تُكلَّل الثورة بالنجاح وتتمكن من استكمال كافة حلقاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلى الحد الذي يطال فيه التغيير كلية النظام والعلاقة الاجتماعية التي يرتكز عليها، بما في ذلك علاقات الملكية والإنتاج والتوزيع والاستهلاك، فضلا عن القيم السائدة.
وما يُستنْتَج من مختلف التجارب التاريخية هو استبعاد إن لم يكن استحالة قيام الثورة المطلقة، أو الدائمة. في اللحظة ذاتها التي تحقق فيها الثورة القطيعة مع التقليد وتحطم ركائز النظام القديم، تحتفظ بما تحمله في أحشائها من هذا وذاك وتستعمله في عملية البناء وتشييد دولة المستقبل.
طال زمنها أو قصر، لا بد للثورة أن تنتقل من حشد وتجنيد الجماهير إلى بناء وتأسيس السلطة البديلة، التي لا يمكن نصبها من عدم.
من حيث النوع، تميزت الثورة في بلدان "الربيع العربي"، بكُنْهِها السياسي الخالص؛ إذ لم يطل التغيير كافة البنيان المجتمعي، وانحصر في قلب النظام القائم.
وبما أنها كانت تلقائية، ولم تفرز قيادة منظمة قادرة على تحضير البديل، فإنها اغترَّت بوعد الجيش النظامي التزام الحياد أن لم يكن الوقوف إلى جانبها حتى تتمكن من بلوغ أهدافها المعلنة. لم يتمثل العيب في الاحتفاظ ببقايا العهد القديم، وإنما في عدم اختراق الجيش في اللحظة المناسبة، وتكثيف الضغط على قياداته وأركانه العامة، بهدف تقليص هامش المناورة لديه إلى أقصى الحدود الممكنة. ذلك أنه لا نجاح للثورة بدون انضباط الجيش للقيادة السياسية والشرعية الديمقراطية. وقد كان للجيش نصيب في إحداث التشوُّهات التي شابت عملية تعويض النظام السابق بنظام جديد، عبر تسهيل الارتداد عن أفق التغيير وتسويغ سرقة الثورة والعودة إلى الماضي.
إجمالا، يمكن القول أن الأجواء السياسية في المنطقة أضحت بالفعل غائمة، ممطرة، وحبيسة المناورات الداخلية والخارجية. فقد استحوذ أنصار التقليد والمحافظة على أثمار "الربيع العربي"، بفضل المعونة المالية الواردة من دول الخليج، وسند النواة الصلبة للنظام البائد المدعومة بالجيش والأجهزة الأمنية، ثم ضعف قوى جبهة الحداثة. أدت الارتدادات السياسية المتتالية إلى تراخي الروابط بين القوى الثورية الأصيلة، التي تنامى شعورها بالانخذال والتثبيط، وما انفكت تكابد العزلة في غياب حلفاء أقوياء.
على الصعيد المحلي، يكمن الرهان الأساسي للثورة طبعا في العامل الذاتي، أي مدى قدرة وإصرار الجماهير الغفيرة، صانعة الحدث، مواصلة كفاحها بحزم من أجل فرض التغيير الجذري. لكن المحيط الموضوعي لا يشجع على ذلك، بل يدفع في اتجاه إفشال هذا الاحتمال، إذ يوحي باستئناف الاستبدادية لمسيرتها الجهنمية وإعادة إنتاج نوع متشدد وشرس من التسلطية، ورهن مستقبل الأجيال القادمة لعقود طويلة. لأن شيمة الثورة تكمن بالضبط في طابعها الفذ، باعتبارها لحظة تاريخية خارقة العادة، تمتزج فيها عبقرية فكرة بحركية اجتماعية جنينية، صاعدة. فضياع زمن الثورة لا يعوض بسهولة، لقلة تكراره.
وفي ظل أنظمة ظلامية وجائرة، لا يمكن المراهنة بالمرة على الإصلاح، رابع المستحيلات هنا، بيد ما هو مجرد إجراء سياسي مبتذل في مكان آخر، قد يتيح فرص استدراك التقصير.
توَّ تحكمه بمقاليد السلطة، انتصب الإسلام السياسي كقوة مانعة للتغيير وقلعة محصَّنة للمحافظة والدفاع عن التقليد، في خدمة الثورة المضادة. منذ ذلك الحين، يتحيَّل لإخفاء الطبيعة اللاديمقراطية لمشاريعه المجتمعية، الخليطة المبنى والحائرة، التي تلقى ترجمة لها في برنامجه السياسي الضبابي والفضفاض. لأنه يتعذر عليه تماما نفي انتمائه الإيديولوجي ومرجعيتة الفكرية الماضوية، وفي الوقت ذاته التنكر لمشروعية المطالب والقيم الحضارية التي قامت من أجلها الثورة. بعبارة أخرى، يصعب عليه مماشاة العصر والتقليد في آن واحد دون فقدان جوهر هويته السياسية، دون التنازل عن دمج الدين في السياسي وتجاوز مقولة "الإسلام هو الحل". يضعه هذا التناقض أمام مأزق حقيقي. حاليا، يجاهد في تعتيم الأجواء السياسية الداخلية قصد حجب تأبُّد واقع التسلط والتخلف الذي كان وراء انفجار الغضب الشعبي، ويجدُّ إلى تحويل المنطقة إلى ساحة للصراع المذهبي والطائفي. ويتعزز هذا التوجه بدخول السلفية الجهادية تدريجيا اللعبة السياسية. في حين، قد تقود مساعي أسلمة الجيش إلى تكريس الاستقطاب الديني وتأكيد تراجع الحافز القومي.
في المقابل، لا يمكن التعويل على اصطفاف حزبي بديل، قادر على مناهضة التقليدانية السياسية وصد هجومها المنظم ضد المكتسبات الحقوقية والحضارية. إذ تعاني القوى الحداثية النزعة، وبخاصة منها اليسارية، من آفات التمزق والانتظارية والانهزامية، زيادة على تفشي النعر القومية وتضخم الميولات الثقافوية والقبلية في أحضانها...
أمام هذا الواقع الذي يبعث على اليأس، لم يبق من عنصر مُؤَمِّل إلا نشاط المجتمع المدني الناشئ، والفئات الاجتماعية التي تشعر بأنها الخاسر الأكبر من عملية احتواء الثورة.
من الآن فصاعدا، تتراءى حيوية الحركة النسائية والحقوقية، مثلما يتأكد تنامي الضغط الشعبي والمطالب السياسية.
على المستوى الإقليمي، يتبدَّى جليا غموض السياسة الخارجية لدى حكومة الإسلام السياسي في بلدان الثورة، خاصة في مصر وفي تونس، حين يصطدم المشروع الأصولي بإكراه واقع محلي عنيد وبيئة جهوية عدائية. في مفترق الطرق، ثمة فلسطين. إثر هزيمة 1967، ذهب زمن القومية العربية كعقيدة دَوْلِيَّة، وحل محله عهد القطرية والواقعية السياسية الذي تُوِّج بمعاهدات السلم التي أصبحت سارية منذ 1979. لقاء مصلحة الدولة أو بمقتضى الشروط التاريخية الحالية، يمثل الكيان الإسرائيلي محك اللحظة، وأول امتحان تجتازه السلفية الدولتية وهي في موقع الحُكم. فأهون تحدي ستواجهه هذه الأخيرة في المدى القريب هو كيفية تدبير العلاقة مع العدو الصهيوني وفق مذهب الأمة الإسلامية. راهنا، يوحي سلوكها بإذعانها لنفس الخط السياسي الذي كان ينهجه النظام البائد اتجاه القضية الفلسطينية؛ واستبقاء التكتل المعتدل الذي تشكله مع الوهابية الرسمية في جناح الولايات المتحدة، والذي يقوم على مهادنة إسرائيل إن لم يكن التواطؤ معها على خلفية التحالفات الاستراتيجية التي تضم الجميع. يتأكد هذا الأمر مع استمرار السياسة الاقتصادية السابقة، سجينة التبعية المالية؛ واصطفاف أهل السُّنَّة في مواجهة القوس الشيعي، بامتداده السوري.
في هذه الأثناء، لم يطرأ تغيُّر على العلاقات الثنائية والمتعددة الأطراف بين أقطار العالم العربي، الموسومة أصلا بالجمودية؛ باستثناء التقارب المصري/التونسي النسبي، والتطاول الخليجي على قرارات "جامعة الدول العربية" لتدجين التحول. بدل التأثر بالحدث وترجمته في توجهاتها، تحاول هذه المؤسسة الفعل فيه بضبط تفاعلاته ومنع تجذره، بمساعدة التكتلات الخليجية والمغاربية.
أما على الصعيد الدُّوَلي، فلم تتوضح بعد معالم السياسة الخارجية لدى دول "الربيع العربي"، ولو أنها تميل إلى الحفاظ على متانة العلاقات مع الدول الغربية وأولويات العهد السابق، دون التضحية طبعا بالروابط التقليدية مع الصين وروسيا. لم تتغير استراتيجيات الغرب المتشبث فوق الحد بمصالحه الأنانية، دون اعتبار لمصير الغير، الذي ينظر إليه بعين مليئة بالعجرفة والنرجسية. طالما يستمر في استغلال الآخر بنهب واستنزاف موارده المادية، طبيعية كانت أم بشرية، يتنكر بوقاحة للقيم الإنسانية الكونية والمبادئ الحقوقية. أقصى ما يطيقه في الحاضر هو الإصلاح المحافظ. وأكثر ما يهاب هو القطيعة الجذرية لأنها تهدد في العمق سيطرته شبه المطلقة على الفضاء المتوسطي، باستثناء التواجد الروسي في سورية؛ وكذا نفوذه الثقيل في الشرق الأوسط، ما عدا إيران. بنفاقه المعتاد وازدواجية خطابه السياسي وانتقائية معاييره الحقوقية، لا يتردد في شن الهجوم على أنظمة الاستبداد الشرقي عند ما تنفلت من قبضته، ولا يخجل من التملق لها حينما تطاوعه.
مقابل ذلك، ترغب الصين وروسيا في إبقاء الوضع الراهن في حاله، لأنه لا يتعارض مع مصالحهما الاستراتيجية الحيوية. يجمع بين هذه المصالح الاحتراس الدائم من الغرب المهيمن ومحاولة الحد من تأثيره، خاصة عندما يشهر سلاح حق التدخل في الشؤون الداخلية للدول. لكن أكثر ما تخشاه الصين وروسيا هو "الربيع العربي" ذاته، لأن أمواجه قد تمتد لتطالهما، وذلك بحكم المشاكل الداخلية وهشاشة التنمية السياسية لديهما معا. ويبقى أن الصين، التي تتحصّن وراء قوتها الاقتصادية المتصاعدة، تسعى قبل كل شيء إلى ضمان تزويدها بالمواد الأولية والطاقية الضرورية على المدى الطويل، في حين تولي روسيا الأولوية لنفوذها السياسي والعسكري.
من سوء حظ الثورة إذن أنها تفتقد لحلفاء... لكنها لم تقل كلمتها الأخيرة...
إذ من المحتمل جدا أن تستأنف سيرها وتألقها هناك، وتندلع شرارتها هنا.



#أحمد_الحارثي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- افتتاحية اللاءات: -لا- للشعبوية، -لا- للصبيانية
- انحرافات المغرب السياسي: من الصبيانية السياسية إلى الصبيانية ...
- المغرب في زمن الثورة الضائع
- -الربيع العربي--: حالة المغرب
- الربيع العربي
- العالم الجديد بين طوبا الأمس وواقع اليوم: الصين-عالم


المزيد.....




- الحوار الاجتماعي آلية برجوازية لتدبير المسألة العمالية
- الهجمة الإسرائيلية القادمة على إيران
- بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ...
- من اشتوكة آيت باها: التنظيم النقابي يقابله الطرد والشغل يقاب ...
- الرئيس الجزائري يستقبل زعيم جبهة البوليساريو (فيديو)
- طريق الشعب.. الفلاح العراقي وعيده الاغر
- تراجع 2000 جنيه.. سعر الارز اليوم الثلاثاء 16 أبريل 2024 في ...
- عيدنا بانتصار المقاومة.. ومازال الحراك الشعبي الأردني مستمرً ...
- قول في الثقافة والمثقف
- النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 550


المزيد.....

- ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي / الحزب الشيوعي السوداني
- كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها / تاج السر عثمان
- غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا ... / علي أسعد وطفة
- يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي / محمد دوير
- احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها / فارس كمال نظمي و مازن حاتم
- أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة- / دلير زنكنة
- ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت ... / سعيد العليمى
- عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة / حزب الكادحين
- الأنماط الخمسة من الثوريين - دراسة سيكولوجية ا. شتينبرج / سعيد العليمى
- جريدة طريق الثورة، العدد 46، أفريل-ماي 2018 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - أحمد الحارثي - رهانات الثورة وأخطبوطات الثورة المضادة في المحيط العربي