أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - أحمد الحارثي - -الربيع العربي--: حالة المغرب















المزيد.....



-الربيع العربي--: حالة المغرب


أحمد الحارثي

الحوار المتمدن-العدد: 3439 - 2011 / 7 / 27 - 22:25
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
    


كلنا تونسيون
كلنا مصريون
كلنا ...

"وها هو اليوم لهيب الثورة يشتعل من جديد، رويدا رويدا؛ قد يولد جانبيا العنف، وقد يحدث التغيير بدون سلاح."
أحمد الحارثي، نوافذ، عدد 39-40 مارس 2009، صفحة 25.
في ظل المناخ العالمي الجديد، سوف تستعيد السياسة عافيتها والإيديولوجيا مكانتها، وستتراجع مظاهر الدعارة الفكرية والثقافية، والشعبوية، والسطحية، والتسيب.معاداة الفكر النقدي والقيم الكونية هي سمة دائمة للنخب التي ترتعش حين يفوح نسيم الحرية وتنزعج عند ما يتأجج صوت الرفض والاحتجاج.
أحمد الحارثي، نفس المرجع، صفحة 37.
"ما يبرر الخوض في موضوع الثقافة الاحتجاجية، ليس لمعان تاريخها القريب، بل انبعاثها في واقع اليوم كتعبير جنيني عن ممانعة قيد التجسد في ظل العولمة؛ إذ يتجلى في الأفق قدوم حركات اجتماعية قوية سوف يكون لها لا محالة وقع مدوي وشأن خاص في السنوات القليلة المقبلة. أعيننا تتأجج تدريجيا موجات جديدة من الاحتجاج والرفض على الصعيدين العالمي والمحلي، مماثلة لسابقاتها ومتميزة عنها في نفس الآن، قد تحمل معها طوبا جديدة، أو تضطر إلى صب غضبها في نوع من البراغماتية السياسية. لكنها لا تعمل سوى على تجديد أو إعادة صياغة وترتيب القيم الإنسانية الكونية: الحرية، العدالة الاجتماعية، المساواة، الحق في المشاركة وفي تقرير المصير الاقتصادي وفي العيش الكريم... بالأمس فاح نسيم الحرية عبر طوبا ثورة عنيفة فاشلة أو بعيدة الاحتمال، واليوم من غير المستبعد قيام ثورات هادئة، منزوعة السلاح. الأهداف لم تتغير كثيرا: التطلع إلى الحرية والعدالة الاجتماعية والسلم. وليس في مستطاع أي مخلوق إقبار الحلم بعالم أفضل، عالم جديد..."
أحمد الحارثي، نوافذ، عدد 37-38، ماي 2008، صفحة 18.
"كراهية الفكر الحر، حقد روح الاحتجاج والرفض، حجب التاريخ، محو الذاكرة، كلها طبائع تحملها دوما النخب والفئات المحبة للنظام والضوابط، التي ينتابها الذعر كلما أحست بنسيم حرية. وهكذا ذابت حمية الحريات في الفردانية القاتلة، وتم اختزال التطلع إلى الحرية والمساواة في النخبوية. لكن المسألة الاجتماعية ما زالت مطروحة على جدول الأعمال، في ارتباط وثيق هذه المرة بالمسألة الديمقراطية. فالحركات الاجتماعية الجديدة جددت التعبئة، والمواطنة تسترد عافيتها وحقها، ونقد العلاقات السلطوية فتح فضاءات جديدة للتحرر. (...) سيل الحركات الاجتماعية يتجمع تدريجيا كي يصب في نفس الأهداف: مناهضة أوضاع الفقر والمجاعة، التسلط، الظلم (...) والحزب السياسي هو الذي في مستطاعه أن يركب مجموع هذا التدفق الاحتجاجي.
الواقع الراهن يبين أن دواعي الاحتجاج والرفض والانتفاض هي أكثر حدة وجسامة من السابق: أزمة اقتصادية، نيوليبرالية متوحشة، تسلط سياسي، مظالم اجتماعية، فقر ومجاعة، ...، انهيار القدرة الشرائية للمستضعفين، هجرة سرية، حروب أهلية، فساد مالي وإداري، إفلاس حزبي، فردانية معممة، فراغ ثقافي وفكري، الخ...
أمام هذه التحديات الكبرى، كل شروط الانفجار متوفرة.
أحمد الحارثي، نفس المرجع، صفحة 39.
خلافا إذن لما ظل ينظر له المفكر عبد الله العروي طيلة سنوات، لا يمكن استيعاب الليبرالية دون المرور منها فعليا، لأنها ضرورة تاريخية.
أحمد الحارثي، نفس المرجع، صفحة 40.
تتيح الشروط التاريخية الراهنة على الصعيد الكوني، بفضل التفاعل المكثف بين الأمم في عصر الثورة المعلوماتية، العديد من الفرص أمام المجتمعات المتأخرة لإرساء دعائم الانتقال السلس والهادئ نحو الحداثة السياسية. لكن التشدد في الاستبداد قد يدفع مجددا نحو اللجوء إلى العنف النظم، المشروع؛ أو إلى الانتفاضات الحضرية العفوية؛ او إلى الإرهاب الأعمى.
أحمد الحارثي، نوافذ، عدد 45646، نونبر 2010، صفحة 25.



"الربيع العربي"
حالة المغرب

أحمد الحارثي

لم يسلم المغرب من تبعات "الربيع العربي"، مثله في ذلك مثل معظم بلدان المنطقة العربية. بل امتدت العدوى لتطال بأشكال مغايرة بلدان أخرى خارج المنطقة: إيران، الصين، ثم مؤخرا إسبانيا، إلخ.

منذ البدء اتسمت الحركة الاحتجاجية التي انطلقت في المغرب ببعض الخصوصية التي لا تخرج عن نطاق ما هو عادي وطبيعي في مثل هذه المنعطفات التاريخية المفاجئة. فالسمات البارزة المشتركة للحدث، العامة، لا تلغي الظروف الخاصة بكل بلد على حدة.

إثر اندلاع الثورة في تونس، خيم جو من الصمت التام على المشهد الثقافي والسياسي المغربي، مشوب بالريبة والحذر والانتظارية. في الحقل الإعلامي، تجندت أقلام صحفية للهجوم على الثورة، باستصغار شأنها والتشكيك في مصداقيتها ونواياها، ونعتها بشتى الأوصاف القبيحة إلى حد اعتبارها جرثومة خبيثة، زرعتها إسرائيل في جسم الأمة العربية. كان يتخيل للمتلقي أنها ثورة منبوذة، سحابة صيف عابرة، لا تسترعي كل هذا الاهتمام.

في تخبط لا مثيل له لردود الأفعال والمواقف المناوئة للثورة، انقلب فجأة التوجه الإعلامي، خاصة بعد دخول الخطاب السياسي الرسمي على الخط متبوعا بشكل ذيلي بالحزبي التقليدي. كأن الكل كان يترقب انبعاث إشارة من هنا وهناك لاتخاذ الموقف، بدأ يشيد معظم الفاعلين السياسيين والإعلاميين بالنموذج المغربي، الحداثي والديمقراطي، الذي تطمح الثورة التونسية إلى تقليده واتباعه. في تجاهل تام لكون نظام بنعلي كان يحاول استنساخ النمط المخزني لتسييج الحقل السياسي التونسي. دون الاستغناء عن عادة ترويج مقولة الاستثناء المغربي والخصوصية المحلية، استقر الرأي لحظة على أن المغرب يعاني من مشكل "حكامة" وليس من نظام حكم.

ثم جاءت ثورة مصر لتبث الدعر والرعب في قلوب رموز الاستبداد والفساد؛ وتقلق الأحزاب الوطنية والسلفية التقليدية: "الكتلة الديمقراطية" و"حزب العدالة والتنمية" الأصولي. تغير تصرف النخبة الحاكمة والدولة، وكذا الأحزاب المحسوبة على اليسار التقليدي، خاصة بعد تنظيم المسيرة الاحتجاجية الأولى التي أطلقتها حركة 20 فبراير التي تأسست على التو.

1. بعض مميزات حركة 20 فبراير

قبل بروزها الرسمي، لم تكن معالم هذه الحركة واضعة، إذ شابها نوع من الغموض، ثم الارتباك والتخبط في الشعارات، جعل العديد من الملاحظين والمتتبعين يشككون في البداية في جديتها ونواياها. تأجج هذا اللبس بشكل مبهم وغريب في اختيار تاريخ 28 فبراير لانطلاقتها وتحديد عنوانها -تسميتها، وهو التاريخ الذي يصادف ذكرى تأسيس "جمهورية" البوليزاريو. أحدث هذا التعثر رجة استطاع ائتلاف الشباب تجاوزها بأقل تكلفة، لكن تبعاتها قد تكون أثرت على حجم المنضوين تحت لوائها.

لا تتوفر لدينا في الآن معطيات وافية ودقيقة حول نشأة وتطور بنية حركة 20 فبراير، تسمح بالقيام بتحليل مفصل لديناميتها الداخلية وهيكلتها، ورسم خريطتها السوسيوسياسية مع رصد ميولاتها المذهبية والسياسية. لكنها لا تختلف في طبيعتها وشكلها كثيرا عن الحركات المماثلة التي يشهدها العالم العربي. باستثناء بعض المظاهر التي يمكن حصرها فيما يلي.

- غياب عنصري الفجأة والعفوية

ساهم في تغييب عنصر الفجأة عامل طبيعي تمثل في حالة الاستنفار والترقب التي أعلنت عنها خفية الأنظمة العربية، خاصة بعد نجاح الثورة في مصر؛ بل التجأت حتى إلى اتخاذ قرارات سياسية استباقية لاحتواء الغضب الشعبي، كالزيادة في الأجور مثلا. أما فيما يخص عامل العفوية، فإن ضعفه ساعد بالتأكيد على تسهيل وتقوية الاختراقات السياسية للحركة من طرف السلطة المركزية والتنظيمات الحزبية والنقابية والجمعوية على حد سواء، دون الحديث عن الجانب الأمني. ما ترتب عنه نوع من المس باستقلالية الحركة، وقد يؤدي إلى شل ديناميتها، أو ربما إجهاضها في المدى المنظور.

تظل مع ذلك الحركة محكومة في استمراريتها بمدى قدرتها على تجاوز هذه الاختراقات، التي لم تسلم منها غيرها من الحركات الاحتجاجية المشابهة الجارية حاليا في البلدان العربية؛ وتجديد وتحصين نفسها بالحفاظ على استقلاليتها التنظيمية والسياسية، والتحكم في رسم سقف أهدافها وجدولتها وتحديد كيفية تحقيقها، وكذا التشبث بطبيعتها السلمية في المطالبة بالتغيير.

- الضعف الجماهيري والتهميش السياسي

تتسم حركة 20 فبراير أيضا بضعفها الشعبي نسبيا. لم تحشد المسيرات التي نظمتها جماهير غفيرة من المحتجين كما كان يتوقعه البعض، رغم تنوع الفئات العمرية والشرائح الاجتماعية التي انخرطت فيها. وإذ استطاعت أن تغطي أهم المراكز الحضرية في البلاد، فإنها لم تنفذ إلى القرى والبوادي؛ ما يضفي عليها الطابع الحضري المميز لمعظم الانتفاضات الجارية في الشارع العربي.

على امتداد مدار التاريخ البشري، القديم والحديث، تنهض دوما النخب بدور طليعي في صنع الحدث، لكن في ارتباط وثيق بالقاعدة الاجتماعية العريضة: الشعب. تذوب في بحر الدينامية التاريخية المستحدثة كل العناصر الأخرى المشكلة للمجتمع.

تبقى الجماهير الواسعة هي الغائب الأكبر في الحركة الاحجاجية في المغرب.

باستثناء امتدادات "اليسار الجديد" والإسلام السياسي الراديكالي، وبعض الجمعيات الثقافية والمهنية، ترددت كثيرا مختلف أطياف الحقل السياسي والنقابي والجمعوي في احتضان حركة 20 فبراير، وبعضها أعلن رسميا موقفه السلبي منها. إلا أن معظمها اضطر في الأخير إلى المشاركة في المسيرات الاحتجاجية الأولى؛ بهدف واضح: احتوائها، لكن دون جدوى. ما دفعه إلى الانسحاب منها، خاصة على إثر الخطاب الملكي في 9 مارس، والتسبب نسبيا في عزلها وتهميشها حزبيا وسياسيا وجماهيريا. لكن مرد الإخفاق الذي تشكو منه يرجع جوهريا إلى السلوك الإلحاقي المدمر للقوى السياسية التي طغت عليها.

- بطء الإيقاع وسرعة الأهداف

بحكم افتقادها أو إفقادها مقوم العفوية، اختارت الحركة المشي بخطى ثقيلة، بوثيرة بطيئة، بحذر؛ وقررت تنظيم مسيرة احتجاجية على رأس كل شهر، في يوم الأحد. في البدء، تراوحت عموما الشعارات التي رفعت في المسيرات بين المطالبة بتحسين الأوضاع الاجتماعية والتعبير عن الرغبة في إصلاح النظام، وشابتها عيوب الكثرة والتضخم، والتشتت -إلى حد التنافر أحيانا، والشخصنة. بتواضعها وضبابيتها، لم تركز المطالب على أهداف محددة واضحة، مرحلية؛ لم تخضع لنوع من التدرجية، من الاجتماعي إلى السياسي مثلا، بل قدمت مجموعها دفعة واحدة يختلط فيها الاجتماعي بالاقتصادي والسياسي بالثقافي والحقوقي، والشامل بالفئوي، إلخ. بعد حين، تركز الهدف في مطلب الملكية البرلمانية.

طغت طقوس الفرجة والاحتفالية والاستعراض على المشاهد. ولم تنزلق المسيرات إلى مستنقع الفوضى والمواجهة مع قوى الأمن، ما يؤشر على سلمية الحركة الاحتجاجية وهدوئها، وعدم تجاوزها للحدود المرعية.

ثم جاء الخطاب الملكي في 9 مارس ليعد بالإصلاح، قبل الإعلان عن فتح ورش التغيير الدستوري في الزمن المنظور، وتحديد الشكل والآلية السياسية والحيز الزمني القصير جدا لصياغة مشروع القانون الأسمى الجديد، ثم المصادقة عليه وتنظيم استفتاء حوله. وتم تنصيب المجلس الوطني لحقوق الإنسان خلفا للمجلس الاستشاري السابق؛ والزيادة في أجور الموظفين قدرها 600 درهما للفرد توزع مناصفة على الجميع كيفما كانت السلالم الإدارية.

2. تشنج النخب وحدة ردود الفعل

لكن الحركة المطلبية الشبابية استمرت، معتبرة أن هذه الخطوات في درب الإصلاح غير كافية، وبعضها لا يعدو أن يكون مجرد وعود واهية. استقر رأي الحركة الاحتجاجية في النهاية على تحديد هدف مركزي عماده إقامة ملكية برلمانية وتقعيد دستور جديد عبر آلية المجلس التأسيسي. وهو نفسه المشروع الذي ما فتئت تنادي به في السابق بعض التشكيلات السياسية والنقابية المحسوبة على اليسار التقليدي والعديد من رجالات الفكر، قبل أن يتخلى عنه عمليا الجميع تحت إكراهات الظرفية أو الانتظارية، إن لم يكن بسبب الإغراءات التي يوفرها النظام القائم. عوض أن يكون هذا المطلب المشروع -والمأمول بالنظر إلى ما تشهده البلاد من احتقان باطني- محط إجماع ويتم الالتفاف حوله في ظل الشرط التاريخي الراهن، أودى على العكس من ذلك إلى انشطار صفوف المنخرطين في موجة الاحتجاج.

تتحمل التيارات الراديكالية المحسوبة على اليسار والإسلام السياسي، فضلا عن بعض الفعاليات الثقافوية، مسؤولية كبيرة في ما آلت إليه حركة 20 فبراير من وضع مأزوم، عنوانه العزلة والغربة وفقدان زمام المبادرة... غير أن تطرف أجهزة الدولة والتشكيلات السياسية والنقابية والجمعوية التي تدور في فلكها، والتعامل مع الشباب المحتج بأسلوب استئصالي وإفراط في استعمال القوة -غير المادية، يبعث فعلا على القلق.

- عدم تناسب حدة الرد مع تواضع المطالب

مقارنة مع حجم حركة 20 فبراير وسقف مطالبها، ما يبعث فعلا على الاستغراب هو جسامة رد فعل الدولة، مدعومة بمعظم الأحزاب والنقابات والجمعيات والزوايا ومجالس العلماء والفقهاء، فضلا عن جيوش من الفاعلين المدنيين والأساتذة الجامعيين والمثقفين، إلخ. لم يتم الاكتفاء بتجنيد وسائل الإعلام السمعي البصري والمكتوب، وتشجيع تنظيم المسيرات الشعبية الموالية للنظام، بل الزج بشخصيات حكومية تعتبر حسب البعض من العيار الثقيل في المعركة الإعلامية الشرسة، يتقدمهم وزراء "السيادة" الذين لم يعهد المواطن مشاهدتهم في منصات الحوارات التلفزية -حتى في اللحظات الحالكة التي كانت تمر بها بعض الملفات والقضايا المصيرية في البلاد. رمت الدولة بكل قواها السياسية والمدنية في ميدان المعركة، إلى حد قد يغري الملاحظ بأنها تلعب آخر أوراقها، مستعملة الذخيرة الثقيلة.

تطغى على المشهد ملامح الدراما الهزلية. تستئسد النخبة المخزنية الجديدة، بكل أطيافها، على الشباب؛ وتبدو كأنها كتيبة من القناصة، إن سمحت الاستعارة، تلجأ إلى استعمال المدفعية الضخمة، بعيدة المرمى، لإصابة طرائد صغيرة: مجموعة من الأرانب، سرب من الحمائم !...

عوض الاحتكام إلى العقل والمنطق، والتعامل الإيجابي والمثمر مع المطالب المرفوعة، عمدت النخبة المخزنية الجديدة إلى تهويل ما يحدث، ودفعت في اتجاه الإهلال بالشباب "المشاغب" وتقديمه كبش تضحية للحفاظ على مواقعها المهددة وتحقيق مراميها الخاصة، على حساب الصالح العام. وقصد التغطية على خطتها المستورة، حرضت على تنظيم حملة ممنهجة ضد من تصنفهم بشرذمة من المناوئين للنظام، الخارجين عن إجماع الأمة –"السحري"، يصادرون حركة الاحتجاج في الشارع ويزعجون المارة والتجار... عادت إلى الأساليب الهجومية التقليدية، المتمثلة في خلق الضجيج الإعلامي من أجل الدعاية لمحاسن المغرب السياسي ومحاولة تلميع صورته، بتسخين مفرط لوسائل الإعلام العمومية والخاصة، والتهليل بالإنجازات العظيمة التي تحققت في مغرب الحداثة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والنماء الاقتصادي، إلخ؛ ذلك المغرب الذي أضحى رقيه يضاهي في هذه الميادين مستوى الدول الغربية ذاتها، ويحتدى به في المحافل الدولية. وتتقن في نفس الآن تضييق الخناق على الفكر الحر، بل ممارسة نوع من الإرهاب الفكري، ونبذ كل ما من شأنه أن يشوش على أهتار وهذيان الخطاب الذي تشيعه والموجه حصرا إلى الاستهلاك الداخلي. وتستعمل لهذا الغرض الإيديولوجيا الوطنية المتآكلة لرص الصفوف في مواجهة العدو الخارجي الذي يتربص دوما بالأمة، والشوفينية لردع المخالفين -الخارجين عن الصف- تحت طائلة التهمة بالتواطؤ مع الأجنبي.

فهؤلاء الشباب ليسوا لقطاء زمانهم، إنهم منغمسون فيه حتى النخاع. فهم وليدو صيرورة تاريخية معقدة يتداخل فيها المحلي والكوني، وعصارة مخاض عسير دام عدة سنوات في مواجهة الاستبداد بالفكرة والفعل. كان مقدر لهم أن ينتفضوا اليوم أو غدا، وجاء "الربيع العربي" ليسرع تفتح قريحتهم وإعلان غضبهم. لا يمكن نعتهم بالفطرية أو بالتلقائية في الوعي والتفكير، في إدراك الحدث وكيفية الانخراط فيه، لأن عقولهم مشحونة بركام الفكر الذي تحقق على امتداد عقود من الزمن، وذاكرتهم مليئة بأحداث الماضي القريب، بحسراته المتكررة وكوابيس أحلام جيل بكامله. يتجلى ذلك فيما يعبرون عنه من أفكار وقيم إنسانية كونية، ضحى الجيل السابق من أجل زرع بذورها في التربة المحلية.

وإن توهم "رجال المطافئ" بإخماد نار الغضب والرفض اليوم، فلن يلبث جمرها أن ينبعث لا محالة في الغد، ربما أكثر اشتعالا وشرارة، طالما لم يتم رفع الأسباب باقتلاع جذور الاستبداد والفساد والظلم الاجتماعي.

أما هؤلاء الذين ينصبون اليوم العداء للشباب المحتج، فإن أغلبهم كان البارحة يتطرف لفظيا يسارا أو يمينا في التعبير عن نفس الأفكار والمطالب، ويحرض على مناهضة الفساد والاستبداد والتفقير، بحثا ليس في إحداث التغيير، بل فقط استعمال الغضب الشعبي مطية لولوج السلطة الحكومية. والفرق بين الأمس القريب والحاضر هو الخوف من افتقاد المواقع السياسية والاجتماعية المحصل عليها والمؤمنة في ظل الوضع القائم، والتي تستدعي الاستماتة من أجل الحفاظ عليها، إن لم يكن تقويتها على ظهر موجة الاحتجاج. لا حاجة للجميع بالحداثة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد التي من شأنها العصف بهذه المكاسب الثمينة. لأن طبيعة التركيبة الاجتماعية للنخب التي نشأت في جوار ومن صلب الدولة، جعلتها تنسلخ تدريجيا عن أصولها الاجتماعية التقليدية، بعد أن تمكنت -عبر صيرورة طويلة من المد والجزر- من تحقيق مآربها النفعية وتشكيل قاعدة اقتصادية تابعة وغير مستقلة، لا يرتبط مصيرها بالسوق الحرة والتنافسية، بل بدواليب "الإدارة" حصرا.

لغة المصالح وحدها تفسر إذن تلاحم معظم أطياف المشهد السياسي، رغم شدة تناقض مشاربهم الفكرية والإيديولوجية، في شن الحرب على حركة الاحتجاج والرفض. أما الحديث عن الخطر الخارجي وتهديدات الظلامية واليسار العدمي المتطرف والفتنة الداخلية، فهو مجرد خطاب تمويهي، ديماغوجي، تخذيري؛ الغرض منه أساسا اقتصاد الإصلاح الفعلي وكسب الوقت لإعادة تثبيث ركائز النظام التقليدي. إنه في الحقيقة خطاب ليس بالجديد في الحقل السياسي المغربي. كما تحفظه الذاكرة، فقد تم تشغيله بكثرة في السابق: "حالة الاستثناء"، "السلم الاجتماعي"، "السكتة القلبية"، إلخ. ويستنسخ بحذافيره في الآن بعد استهلاكه على امتداد نصف قرن من الزمن، دون أدنى تغيير، حتى في المفردات المستعملة... والحال أنه، بعيدا عن الذهان الهذياني الذي يعمي الإيديولوجيا الوطنية، وعن تهاويلها المعتادة، يعرف كل متعقل بأن المخرج الحقيقي والوحيد لكل هذه المخاطر، الوهمية والفعلية، التي ينتقيها ذلك الخطاب الرجعي لتبرير مقاصده وتمرير مشاريعه الارتدادية، تجد حلها الأمثل في إرساء دعائم الديمقراطية والعدالة، بدءا من الصحراء إلى الأمازيغية ومرورا بالتطرف الديني والإرهاب واليسار المتطرف، إلخ.

وقد بلغت هذه الحرب الكلامية قمة العجرفة والخساسة عندما استبدت البلادة بعقول البعض إلى حد تكفير وتجريم المعارضين للتوجه السائد.

بدل جعل رموز الفساد ينسحبون من المشهد السياسي، بل تنحيتهم، يتم الدفع بهم إلى الواجهة. وهم الذين كانوا بالأمس القريب يحضرون استخلاف أبنائهم وأحفادهم ويرشحونهم لاحتلال مناصب سامية، وينصبونهم نوابغ سنجابية (Eminence grise) للنظام؛ قبل أن يضطروا إلى إخفائهم عن الأعين في انتظار جلاء ما يعتقدونها سحابة صيف عابرة. تستدعي الأوضاع التي تمر منها البلاد التعامل السليم والراشد مع مطالب الشباب المشروعة، والمتواضعة، بتفهمها ومحاولة الاستجابة إليها، وفتح حوار بشأنها، خاصة أنها لا تهدد الاستقرار وليست تعجيزية.

- جودة الوعي وحداثة الفكر لدى الشباب...

كشفت الحركة الاحتجاجية عن رقي وجودة الوعي لدى الشباب وتوفرهم على تكوين فكري وسياسي نوعي وعالي مقارنة مع ما هو سائد في الساحة العمومية. تبين ذلك بشكل جلي من خلال الجدل السياسي الذي فرضته الظرفية، التي أتاحت الفرصة لتألق طاقات ووجوه جديدة، ظلت مغمورة طيلة سنوات. يرجع السبب في استكنان هذه الفئة من الشباب أساسا إلى تعفن المشهد السياسي وانغماس الأحزاب في الانتظارية القاتلة والانهزامية المقرفة، وفقدان الأمل في عزيمتها على رفع لواء الكرامة والحرية وخوض معركة حقيقية ضد الفساد والاستبداد. هكذا تبددت بسرعة مقولات العزوف السياسي وتدني الوعي وأفول الإيديولوجيا وموت السياسة ونجاعة الواقعية؛ مثلما هجرت مفاهيم العهد الجديد للسلطة والعدالة الانتقالية والجهوية الموسعة والتنمية البشرية والتناوب التوافقي والتعاقد الضمني. في غفلة عن الأحزاب الذيلية -التي وضعت كل رهاناتها في سلة الاستحقاقات الانتخابية، المهملة في الوضع المستحدث، والتي لم تكن تقوى حتى على المطالبة بتعديل الدستور-، بادرت الدولة إلى فتح ورش الإصلاح الدستوري، معترفة عمليا بوجود اختلال في اشتغال النسق السياسي وتقادم القانون الأسمى للأمة وعدم التوازن في توزيع السلط. قبل أن يضطر الجميع إلى الإقرار بها رسميا، استمرت الأزمة السياسية كامنة تحجز التطور الاجتماعي في البلاد على امتداد سنوات عديدة، دون أن تتجرأ النخبة الحزبية والفكرية على الكشف عنها وتقديم مقترحات لتجاوزها.

خلافا للاعتقاد الذي ظل سائدا، لم تكن الشبيبة المتعلمة تقتل وقتها في المقاهي أو تستهلك الإيديولوجيا الدينية في المساجد، أو تجري وراء سراب نجومية وهمية، بل كانت في معظمها تسبح في فضاءات الشبكة العنكبوتية بحثا عن الذات والمعرفية ومعنى الحياة والتواصل مع الغير، وأحيانا مع الآخر البعيد جغرافيا وتاريخيا، والقريب إنسانيا وقيميا. أصبح الكون في متناولها افتراضيا، بقيمه الحضارية وفكره التحرري وقوانينه الوضعية وخيراته الرمزية وتألقه العلمي وتقنياته الهائلة؛ وأصبح في الإمكان قياس المسافة التي تفصل الواقع المحلي عن العالم. أضحت عملية الحصول على المعلومة أو التحصيل العلمي في غاية السهولة والسرعة، رغم كثافة المعطيات المتوفرة وتشعبها وتشابك خيوطها؛ خاصة إذا كانت مقرونة بإمكانية فتح الحوار المباشر مع المنتجين والمؤلفين والمستهلكين لها، ما يعمق المعرفة ويرفع من جودتها. تراجعت نجاعة التراكم الكمي في التلقين إلى الخلف فاتحة المجال أمام القدرة على التركيب وتملك المعارف النوعية.

هذا ما لم تستوعبه جحافل النخبة الثقافية والسياسية والإدارية. فقد جعلها الكسل وضائقة الفكر تفزع وترتبك بشدة من هول الصدمة التي تلقتها في مواجهة توغل الوجوه الشبابية المغوارة -"الوافد الجديد"- في الفضاء العمومي، وبخاصة في البرامج الحوارية المتلفزة التي تألق فيها الشباب. مقابل حيوية الفكر والجرأة في التحليل و"نارية" الخطاب وطلاقة اللسان، فضلا عن بشاشة الوجه أمام الكاميرا -الذي يسعفه التعود على الويب كاميرا- لدى المخاطبين الجدد، يبدو الفاعل الحزبي والمدني التقليدي متخلفا وشائخا، يغرق خطابه في المزيد من التفاهة جراء الاستخفاف بالعقول والتمادي في الاختباء وراء اللغة الخشبية الركيكة. فهو لم يع بعد أن سلطة الخطاب، والسياسي منه على وجه الخصوص، تستند من الآن فصاعدا ليس على الخطابة الفضفاضة والنظريات الجامدة، أو المكر الحزبي والإداري، وخبايا الكواليس السياسية، بل على وضوح الرؤيا والانسجام المذهبي واستقامة الخط السياسي وفاعلية البرنامج والالتزام بالوعود.

يقتفي الشباب المغربي آثار مسالك ومتاهات الشبيبة العالمية. وإذ تستوقفه أكثر السجالات السياسية الساخنة الدائرة هنا وهناك، فإنه لا يمكن له عدم الانتباه إلى العقلانية التي تحكمها؛ ويتسلح بها في نظرته إلى ما يروج محليا.

3. الاستثناء وقوانين التطور الاجتماعي

ما فتئت الموجة الثورية في أقطار العالم العربي تكشف عن تصلب وبلادة الحاكم المستبد، تعنته وعناده، غروره المفرط بنفسه، تشبثه بنظامه إلى آخر رمق، عدم قدرته على التقاط دلالة وحدة اللحظة التاريخية. تتكثف مظاهر الاستثناء هنا، في هذا التحجر السلطوي الذي يجعل أولياء الأمر والمتنفذين المحيطين بهم غرباء في عالم اليوم، لا مثيل لهم في باقي المجتمعات المعاصرة. سواء في حالة انتدابهم على خلفية القانون الوضعي، النص الدستوري، أو عبر مأسسة أنفسهم إما بالقوة وإما باستعمال الأعراف والتقاليد، لا يتزحزحون عن كراسي المسؤولية كيفما كانت الكوارث التي يتسببون فيها، ولا يضعون أبدا نصب أعينهم التخلي عن الحكم. لا يخطر ببال أحدهم الاستقالة من المنصب. بل يكرهون أكثر من أي شيء آخر التنازل على شبر واحد من ضيعات "مملكتهم الخاصة"، من نفوذهم. وعند ما يدوي صوت الاحتجاج والرفض في الشارع، يكتفون بصم آذانهم مطلقا، ورفض الإنصات حتى لصدى الغواش والنيران التي تلتهب البلاد والعباد وتضع ما تبقى من سلطانهم على شفير الهاوية. في البدء، كان ربما في وسع الحاكم تلافي الأردأ واقتصاد الانهيار السريع، بتقديم تنازلات حقيقية وفي الوقت المناسب، لكن جبروته وصولته حالا دون ذلك. ولم تنفعه في شيء جحافل المفسدين التي كانت تحتمي به، وبين عشية وضحاها أصبح محيطه القريب يتبرأ منه، تاركا إياه في عزلة قاتلة، يواجه المصير الذي ينتظره.

نعثر على بعض النماذج الاستثنائية القريبة من أنظمة الحكم هذه، في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء مثلا، أو في الشرق الأدنى، بل حتى في رومانيا سابقا، لكنها تبقى هامشية وضعيفة مقارنة مع ما يحدث في الأقطار العربية.

وكلما اقتربنا في المنطقة العربية من القبلية والعشيرة والمذهب الديني المنغلق والتسييج العسكري للساكنة، كلما تبدو الأنظمة أكثر تشددا واستعدادا لمعانقة خيار إشعال فتيل الحرب الحقيقية، حرب نظامية انفرادية، في مواجهة المدنيين العزل.

خارج هذه الفروقات الدقيقة، ليس هناك استثناء داخل الاستثناء، نفي للقاعدة المشتركة، المتمثلة في أنظمة حكم تسلطية تمتد بجذورها إلى العهود الغابرة، وتحتفظ بملامح "الاستبداد الشرقي". مكنتها الحقبة الاستعمارية من استيراد التكنولوجيا السياسية والمؤسساتية بدون روحها؛ وفرضت عليها الاندماج في الاقتصاد العالمي وما يسمح به من عملية تحديث اقتصادي وعلمنة (Sécularisation) غيرت أسلوب العيش والكسب لدى الساكنة، عبر توسيع السوق وإدخال أنظمة تعليم وصحة ومواصلات ومرافق اجتماعية وبنيات تحتية عصرية، بما في ذلك وسائل المراقبة الترابية. يتجسد الوازع المشترك فيما بينها وبين باقي الأنظمة السياسية الحديثة في طبيعتها اللاديمقرطية ونوعية فسادها؛ في التقليدانية السياسية، واللاهوتية الفكرية والإيديولوجية المتحكمة في إعادة إنتاجها.

ثمة بالطبع خصوصية الساكنة الأصلية المحلية، التي اقتحمت في سابق العهود الحكم السلطاني في بلاد الإسلام، من فرس وصقالبة وأمازيغ وزنوج، دون نسيان حالة الأكراد والأقباط واليهود، إلخ. لكن قوة الامتزاج البشري وغلبة المنظومة الفكرية والإيديولوجية العربية الإسلامية في أقطار المحيط العربي، وكذا التاريخ الحديث لهذه المنطقة الجغرافية، كلها عوامل تؤكد "الاستثناء العربي" ولا تلغيه.

من هذه الزاوية، ليس من الغريب في شيء أن تحتمي الأنظمة العربية بمقولة الخصوصية وتشد نفسها قبل الغير إلى وهم الاستثناء. بمجرد انطلاق الثورة التونسية، حاول كل من النظام المصري السابق، وبعده الليبي، ثم اليمني، والسوري، إلخ، الاختباء وراء طلاء الانفراد بمقومات المناعة التي يستمدها من شرعيته التاريخية والديمقراطية وإنجازاته العظيمة والتفاف الشعب حوله.

لم يسلم الخطاب السياسي الرائج في المغرب من هذه النزعة التي تلاحقه كلما حل بالعالم حدث مقلق: الإسلام السياسي، التطرف الديني، الإرهاب الدولي، الأزمة المالية العالمية، حقوق الإنسان ووضع الأقليات، إلخ.

ما الذي يمكن أن يجعل المغرب استثناء؟ بالمعنى الذي نتحدث عنه في هذا السياق، لا شيء؛ ما عدا خصوصية الواقع المحلي التي هي سمة مشتركة بين جميع المجتمعات والدول المعاصرة، التي تبقى مع ذلك خاضعة لدينامية التاريخ البشري الشامل في عالم اليوم.

إذا وضعنا جانبا خريطة العالم الإسلامي -"السياسية"-، وإرث الأندلس المشترك، ينتمي المغرب جغرافيا وتاريخيا إلى الفضاء العربي وإلى المنطقة المغاربية؛ فهو جزء تجزأ من هذه ومن ذاك. ثمة التاريخ ماقبل الإسلامي، لكنه لا يغير جذريا المعادلة التي نحن بصدد الحديث عنها، خاصة إذا وضعنا نصب أعيننا ثقل ودلالة ميراث الإمبراطورية في عصر المرابطين والموحدين، وغيرهم من الأمازيغ الذين حكموا المغرب باسم العروبة والإسلام.

لم يطله بالفعل التوغل العثماني في المنطقة، لكن عزلته كانت نسبية، لا تعفيه من تأثير الخلافة الإسلامية.

تميز سقوطه تحت وطأة الاستعمار الغربي المباشر بتعدد الغزاة، وتقسيم أطرافه بين مستعمر مجهز بأسلحة الثورتين الصناعية والبورجوازية، وآخر ميركنتيلي وشبه إقطاعي؛ زيادة على الوضع الدولي الخاص لمدينة طنجة. تم الاحتفاظ بمظاهر سلطة المخزن الذي فرط في السيادة وفضل التوقيع على معاهدة الحماية لضمان بقائه، وقبل احتلال البلاد من طرف الأجنبي وإخضاعها له. ثم تأسست حركة وطنية سلفية في ارتباط وثيق بالمشرق العربي. في حين نجح المستعمر في القضاء نهائيا على نظام ونفوذ القبيلة كوحدة سياسية وعسكرية ومؤسسة قضائية، وفي تهدئة البلاد وجعل الدولة المنظم الوحيد للمجتمع. وفرض القانون الوضعي على سائر مناحي الحياة الاجتماعية، باستثناء العائلة.

نجحت بالفعل الكولونيالية في غرس الرأسمالية التي أصبحت تحدد طبيعة العلاقة الاجتماعية؛ و، بفضل دهاء المقيم العام اليوطي، في تنظيم الدولة وإخضاعها لإرادة الحماية دون الاضطرار إلى تصفية النظام المخزني القديم بالكامل.

بعد جلاء عهد الحماية، ورثت دولة الاستقلال -الجديدة- الركيزة (Armature) السياسية والمؤسساتية والقانونية التي خلفها الغزاة الفرنسيون. وعملت على تطويعها في الموعد لإعادة بناء الحكم السلطاني التقليدي، في زي عصري؛ بدءا من إرساء دعائمه في الأرياف، قبل حصوله على قبول النخب الحضرية. كأن المخزن يأخذ بثأره، إذ بمجرد استعادته لعافيته بفضل الحركة الوطنية السلفية ذاتها، سوف يعمل جاهدا على وضع السلطة الحقيقية كاملة في يده، باسم الأصالة، ويحتفظ بالمظاهر الخارجية للمعاصرة، مقتفيا آثار الطريق التي نهجها المستعمر.

تتبلر الخصوصية المغربية في هذا المعطى المركزي، تقعيد العلاقة السياسية على التقليد ولفظ مأسستها. يشترك فيها، بتفاوتات طفيفة لا تمس الجوهر، مع باقي أنظمة الجامعة العربية؛ حيث تضاهي الجمهوريات الملكية الملكيات الرئاسية في احتكار السلطة المركزية.

يتقاسم أيضا المغرب ميزة أساسية أخرى مع بلدان المنطقة العربية تتمثل في كونه لم يشهد في تاريخه الحديث ثورة اجتماعية بالمعنى الدقيق للعبارة. في شرق وغرب المنطقة، اكتفت حركات التحرر الوطني بطرد المستعمر دون اجتثاث منابعه المحلية وبنيات الاستقبال الداخلية التي دعمته؛ لم تكن مصحوبة بثورة ضد القوى الرجعية والإقطاع. حتى في حالة الجزائر التي شهدت حرب تحرير طويلة وشرسة. ثم توالت الانقلابات العسكرية هنا وهناك لتعيد إنتاج التسلط السياسي والتخلف، دون الحسم مع الماضي، مع التقليد. يرجع السبب في ذلك جوهريا إلى تذبذب الفئة الاجتماعية المؤهلة للنهوض بهذه المهمة التحررية المزدوجة، إن لم يكن غيابها: عادة الطبقة الوسطى أو البورجوازية وطنية؛ وإلى افتقاد المرجعية الفكرية والإيديولوجية الملائمة للعصر: طغيان السلفية الوطنية والقومية، هامشية القيم الحداثية.

- عناصر للتفكير

شهد المغرب خلال العقدين الأخيرين تطورات كثيفة، غيرت ملامحه العمرانية والبشرية، وانعكست آثارها بشكل ملحوظ على صعيد الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. أفرزت ظواهر سوسيولوجية غير مسبوقة. بغض النظر عن تردي الأخلاق وتفشي الفساد، ما يسترعي الاهتمام هو انتشار العدوانية في السلوك الاجتماعي لدى المغاربة. تكتسح موجة العنف والاحتقان الداخلي كل أماكن الاحتكاك الاجتماعي بين الأفراد والجماعات، في المصالح العمومية والإدارة وفضاءات الاستهلاك الجمعي والأحياء السكنية والأسواق التجارية، أو حتى في الوسط العائلي الحميمي، إلخ. ويلقى ذلك ترجمة وفية له في "حرب الطرق" مثلا.

يعيش المغاربة على إيقاع ما يشبه الحرب الأهلية، يتناحرون فيما بينهم، يفرغون مكبوتاتهم الفردية والجماعية في العلاقة الاجتماعية المبسطة، المشخصة، المباشرة؛ غير السياسية. قد تطال عجرفتهم أحيانا رجل الأمن -باسم حقوق الإنسان-، لكنهم يهابون أكثر من أي شيء السلطة ورموزها. ما يدل على أن المشكل الأمني غير مطروح بالحدة التي يروج لها البعض بين الفينة والأخرى. فكل مغربي هو ملك وسلطان في حد ذاته، هو فعلا أسد. لا يعترف بحرية الآخر وحقوقه، هو كائن بطبعه المكتسب لا ديمقراطي. يبدو كأنه لا يفهم معنى سلطة القانون المجردة سوى في مادية الإكراه، في العنف الدولتي المشروع. حتى حين يصطدم بجزئيات عنف الآخر، العنف الفردي، فإنه لا يمكن له أن يستسيغ بأن القانون هو في الأصل اتفاق، عقد؛ لأن الكيان الفوري للدولة ذاته يرفض الامتثال لعقد اجتماعي يحد ويضبط تدخله في المجتمع.

لا تنحصر الظاهرة في الجمهور، بل تشمل مجموع النخب، الإدارية والحزبية والفكرية والثقافية والإعلامية. يعتمد الجميع نفس النمط الشخصاني في تسيير الممالك الصغيرة التي توضع تحت نصرفه، بضيعاتها وخدامها ووسائل (إعادة) إنتاجها؛ يشن الحرب على بعضه البعض؛ يستئسد ويعتدي هذا على ذاك؛ يتعالى المحظي على من يبدو له أقل حظوة؛ وتتراكم الأحقاد والضغائن... في حين، عوض الاحتكام إلى السوق والتنافسية لتحسين الجودة والمردودية وتخفيض الأثمنة، يستبد بالنخبة الاقتصادية الحسد إلى حد تخريب المنافس وتنحيته نهائيا بوسائل غير مشروعة.

تخترق ثقافة الدولة هذه مغاربة المهجر، الذين بمجرد ولوجهم التراب الوطني يغيرون تصرفهم. إنهم، بتحويلاتهم للعملة الصعبة، يساهمون فعلا بشكل كبير في تحسين ميزان الأداءات؛ ويعانون مع ذلك من سوء المعاملة والابتزاز، في نقط العبور الحدودية، في الطرق، في المصالح الإدارية، في ميدان الاستثمار، إلخ. إلا أنهم يكتفون بنقل رؤوس الأموال والبضائع إلى الداخل دون القيم والثقافة والمهارات والخبرات، ما يقلص من دورهم في تحديث البلاد. مثلهم مثل مغاربة الداخل، لا يوازون بين الحقوق والواجبات، يطالبون بالمشاركة في المؤسسات واستهلاك خدمات الدولة دون الالتزام بالمسؤولية المترتبة عن ذلك، الاجتماعية منها على وجه الخصوص. فقد بلغت الانتهازية والانتفاعية ببعض نخب المهجر إلى حد اللجوء إلى نوع شاذ من الهجرة المضادة، حيث تجنح إلى الحصول على وظائف إدارية والاستفادة من أجواء الفساد واقتصاد الريع في المغرب -البيت الخلوي-، مع الاحتفاظ بالإقامة الأساسية والوضع المهني والمكاسب المحققة في بلد الاستقبال.

تحت ضغط القهر وسياسة التدجين: الغرفة الخلفية المتحكمة في اللاشعور الجماعي، انتشرت بشكل مهول هذه الثقافة الأنانية العدوانية، المعادية للحق والقانون؛ وأضحت تشكل قنابل موقوتة وتربة خصبة لتغذية الفتنة في أية لحظة مواتية، أو إشعال فتيل حرب أهلية مدمرة في حالة حدوث فلتان أمني. إذ هي تبدو طاقيا أقوى من النعرات القبلية والعشائرية أو التعصب الديني، خاصة -وهنا تكمن ربما المفارقة- أن المغرب لم يشهد في تاريخه الحديث ما يشبه "الفوضى الخلاقة": أحداث فتاكة تجعله يهاب السقوط في مستنقع الاقتتال ويعي جماعيا معنى التعاضد والالتحام في شدة المحن...



#أحمد_الحارثي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الربيع العربي
- العالم الجديد بين طوبا الأمس وواقع اليوم: الصين-عالم


المزيد.....




- نقار خشب يقرع جرس منزل أحد الأشخاص بسرعة ودون توقف.. شاهد ال ...
- طلبت الشرطة إيقاف التصوير.. شاهد ما حدث لفيل ضلّ طريقه خلال ...
- اجتياج مرتقب لرفح.. أكسيوس تكشف عن لقاء في القاهرة مع رئيس أ ...
- مسؤول: الجيش الإسرائيلي ينتظر الضوء الأخضر لاجتياح رفح
- -سي إن إن- تكشف تفاصيل مكالمة الـ5 دقائق بين ترامب وبن سلمان ...
- بعد تعاونها مع كلينتون.. ملالا يوسف زاي تؤكد دعمها لفلسطين
- السيسي يوجه رسالة للمصريين حول سيناء وتحركات إسرائيل
- مستشار سابق في -الناتو-: زيلينسكي يدفع أوكرانيا نحو -الدمار ...
- محامو الكونغو لشركة -آبل-: منتجاتكم ملوثة بدماء الشعب الكونغ ...
- -إيكونوميست-: المساعدات الأمريكية الجديدة لن تساعد أوكرانيا ...


المزيد.....

- عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية / مصطفى بن صالح
- بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها / وديع السرغيني
- غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب / المناضل-ة
- دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية / احمد المغربي
- الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا ... / كاظم حبيب
- ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1) / حمه الهمامي
- برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب / النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
- المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة / سعاد الولي
- حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب / عبدالله الحريف
- قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس / حمة الهمامي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - أحمد الحارثي - -الربيع العربي--: حالة المغرب