أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عيبان محمد السامعي - إشكالية الدولة والمجتمع في اليمن .. مقاربة أولية















المزيد.....



إشكالية الدولة والمجتمع في اليمن .. مقاربة أولية


عيبان محمد السامعي

الحوار المتمدن-العدد: 4100 - 2013 / 5 / 22 - 19:25
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    



أحد ممثلي الحزب الاشتراكي في مؤتمر الحوار الوطني باليمن


من الأهمية بمكان وفي إطار مناقشاتنا عن واقع التنمية الاجتماعية في البلد أن ندرس جذور الإشكالية التي أنتجت ما نحن عليه اليوم من تردي شامل وعلى أكثر من صعيد, بغية تكوين الفهم الواضح لجوهر المسألة بدلاً من الانغماس في تفاصيل وجزئيات قد نجد أنفسنا ذات لحظة بأننا ابتعدنا كثيراً عن المسار المحدد.
ترجع أسباب الأزمة الوطنية الشاملة التي أصابت الجسد اليمني, وأنتجت الكثير من الاحتقانات الاجتماعية والانقسامات السياسية إلى إشكالية السلطة وأسلوب توزيع الثروة وتعثر بناء الدولة الضامنة والحامية لحقوق الجماعات والأفراد .
إن مفهوم الدولة الحديثة في عالمنا الثالث ـ ومنها بلدنا اليمن ـ لم يتبلور بعد بما يتضمنه من حتمية وجود كيان سياسي مؤسساتي قانوني قوي يحتكر أدوات القوة ويستند إلى شرعية شعبية وحالة من الرضا العام, ناهيك عن ضرورة ممارسته للسيادة الوطنية وخالقاً لأسباب النهوض الشامل مما يؤدي إلى فتح آفاق رحبة من التطور والنمو المتوازن والمتكامل.
إن الدولة في اليمن لم تحضر سوى في تعبيرها المادي الجزئي بما هي أداة قهرية وجباية, بل اتسم الكيان "الدولتي" بالضعف والهشاشة وعدم قدرته على النفوذ والسيطرة على أرجاء البلاد, مما خلق فراغات أمام نفاذ الدولة إلى شرائح المجتمع, الأمر الذي هيأ للأشكال غير الرسمية والجماعات التوسطية من أن تملئ هذه الفراغات وتمارس نفوذها وتعيد صياغة علاقات المجتمع بالدولة بناء لاعتبارات خارجة عن مساقات تطلع الناس وحاجتهم للكيان الجمعي العادل.
وفيما كانت السلطة في مراحل مختلفة من تاريخنا المعاصر تتمركز حول ذاتها, فقد تنصلت عن دورها في إشراك فئات الشعب والقوى السياسية المنافسة لها في عملية البناء والمشاركة في صناعة القرار السياسي وتحديد مسارات المستقبل المأمول. وهو ما أحدث ضموراً في الشرعية السياسية والمشروعية الوطنية للنظام السياسي وسمح بحضور الولاءات "المحلية" ما دون الوطنية وأهدر المزيد من الفرص الثمينة لإمكانية تحقيق التنمية والتكامل الاجتماعي.
وبناء على ذلك حضرت السياسة بكل مفاعليها وأدواتها القانونية وغير القانونية لتستأثر بالمشهد فيما توارت المسألة الاجتماعية وبعدها الاقتصادي والثقافي ما أنتجت أبعاداً مختلفة لأزمة المجتمع اليمني وخلقت أعباء إضافية أثقلت كاهل الناس, وأدخلت البلد في دوامة كادت أن تودي بها في متاهات المجهول.
إننا أمام إشكالية مركبة ومعقدة, تحتاج من الجميع الإدراك العميق لها وكشف أبعادها وتقدير مخاطر ديمومتها. وفي المقابل يتطلب الأمر الابتعاد عن التخندقات السياسية والتحرر من أربطة المصالح الضيقة والتحلي بالمسئولية الوطنية والروح الصادقة بعيداً عن التأثيرات الأيديولوجية والتحيزات العصبوية وحسابات القوة والنفوذ وصولاً إلى صياغة حلول تاريخية توافقية تنقذ البلد وتعيد بناء دولة مؤسساتية حديثة تحتضن الجميع, تتحقق فيها العدالة الاجتماعية وقيم المواطنة المتساوية وتكافؤ الفرص وسيادة القانون.
وكم يتطلب الأمر البحث عميقاً في طبيعة اختلالات الدولة والمجتمع في اليمن ووظائفهما, لما تستدعيه الحاجة الموضوعية والتاريخية في فهم الإشكالية البنيوية وتحليل أجزاءها, ونظراً لمحدودية الإطار فإننا سنحاول أن نتناول أبرز تلك الاختلالات وتفسيرها من واقع تحليل سوسيولوجي للأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية, وصولاً لوضع محددات عامة واتجاهات نراها استلزامية بالنظر إلى فداحة واقع الحال وقتامة الخيارات البديلة.
• البنية الاجتماعية للمجتمع اليمني, ومظاهر الاختلال:
يعود سبب الاختلال القائم في البناء الاجتماعي للمجتمع اليمني إلى عامل اقتصادي سياسي, يتعلق بمسألة الثروة والسلطة وطبيعة توزيعها. فمن المعروف أن اليمن يصنف عالمياً ضمن البلدان الأقل نمواً وهو تصنيف يأتي من ضآلة المؤشرات التنموية وتخلف العملية الاقتصادية القائمة في البلد وليس لمحدودية الموارد كما يحلو للبعض ترديده.
يتصف النظام الاجتماعي السائد في اليمن بأنه نظام تقليدي متخلف يعيق عملية التنمية, فهو يرتكز على نواة الجماعة ذات المنفعة الخاصة أو النظم الأسرية أو الروابط العصبوية التي تُغيّب الفرد وتتسيد على المجتمع, فيستحيل معها تحقيق الاندماج الاجتماعي والوفاق السياسي, ويخلق حالة من التجاذبات المستمرة التي تفتك بالكيان الاجتماعي.
وهو إلى ذلك نظام شبه رعوي تتسيد فيه العلاقات الاجتماعية البدائية, وتحضر بقوة الولاءات القبلية والانتماءات الطائفية والمناطقية على حساب الانتماء للوطن. كما ويتم تغليب مصلحة الجماعة, أو القبيلة, أو الطائفة, أو المنطقة, أو العائلة, أو الجهة على مصلحة المجتمع ككل وبالتالي يفرز المزيد من التوترات والانقسامات المجتمعية.
إن مجتمعاً كهذا لا يستطيع أن يدير شؤونه ولا يمارس دوره في الحياة بفعالية, فهو يوكل مهام إدارة شؤونه لجماعة منتفعة تديرها نيابة عنه, فيصبح الفرد مسلوب الإرادة فهو تابع لنسق اجتماعي سائد يحدد شروط وجوده وطبيعة أدواره.
وتحدد العلاقات الشخصية والقرابية والنفعية في النظام الرعوي المكانة الاجتماعية للفرد والجماعة, فهي تتحدد بمدى قرب الفرد أو الجماعة (سواء كانت جماعة قبلية أو مصلحية أو فئوية أو طائفية أو مناطقية) من السلطة وأدواتها أو بعدها عنها. فالأفراد والجماعات المقربة من السلطان تحصل على امتيازات وتحظى برعاية رسمية, فيما الإقصاء والتهميش والاستبعاد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ينال الأفراد والجماعات البعيدة عنها أو المنافسة لها.
ويشكل النظام الاقتصادي وطبيعة العلاقات التي ينتجها عاملاً إضافياً في تحقيق التماسك الاجتماعي والانسجام الوطني أو عدم تحققهما. فكما هو سائد في بلادنا فإن الاقتصاد الريعي الذي يعتمد في حركته الإنتاجية على مورد اقتصادي وحيد هو النفط, حيث تشكل إجمالي صادرات النفط حوالي 90% من صادرات البلاد فيما تشكل الإيرادات النفطية حوالي 70% من إجمالي الإيرادات العامة للدولة, سبباً رئيسياً في تخلف الدولة والمجتمع والعلاقات التي تنشأ بينهما. فالاقتصاد الريعي الذي يُسقط من حساباته القاعدة الإنتاجية وضرورة تنويع مصادر الدخل الوطني, هو في الأساس ينبني على فلسفة ازدرائية لقيم الإنتاج والعمل, ويعمل على خلق مصالح طفيلية غير مشروعة تبادلية بينه وبين الأشكال غير الرسمية, ويعمد إلى بناء ولاءات تعزز من نفوذه وتؤدي إلى استنزاف الثروة الوطنية وتعميق التفاوت الاقتصادي والاجتماعي يعبر عنه ببروز أقلية فئوية لا تتجاوز نسبة 5% من إجمالي السكان هي من تسيطر على 90% من ثروات البلد في ظل انسحاق الطبقة الوسطى, التي بغيابها تغيب الفعالية الاجتماعية وتتوسع دائرتي القهر والحرمان.
إن المجتمع اليمني يتصف بأنه مجتمع قبلي تقليدي, حيث تشكل القبيلة نسبة (85%) من مجموع التركيبة السكانية, وتكتسب الأعراف القبلية قوتها المادية في الأوساط المجتمعية بما يفوق في غالب الأحيان قوة القانون. وفيما تشكل القبيلة نسق رئيسي في التركيبة الاجتماعية, فإن النخبة القبيلية/السلطة المشيخية/ "المشائخ" تستند إلى هذه "المشروعية" فتحتكر التمثيل أمام الدولة لفئات واسعة من السكان, وعندها تتشكل شبكة مصالح تربطها بالسلطة وفي المقابل تقدم فروض ولاءاتها من خلال إخضاع المجتمع المحلي للنخبة الحاكمة. وتصبح علاقات الإخضاع والسيطرة هي العلاقات السائدة في المجتمع مما تقلل من فرص الحراك الاجتماعي, فسيطرة نسق اجتماعي معين على بقية الأنساق والتكوينات الاجتماعية واستحواذه على عناصر القوة والثروة يحرم بقية الأنساق والتكوينات الاجتماعية من أن تتطور أو تحصل على حقوقها القانونية وتعبر عن مطامحها المشروعة, وبالتالي إعاقة أي إمكانية للتحديث والنماء.
ولا يتوقف الأمر عند هذا المستوى, بل إن هناك اختلالات في المواقع الاجتماعية التي يمنحها المجتمع للفرد, حيث يحضر في المجتمع التقليدي الانتماء ــ بما هو قيمة معنوية أصيلة يحملها الفرد تجاه الكيان الاجتماعي الذي ينتمي إليه ــ كمرادف لثقافة الولاء والخضوع حيث تتحدد مكانة الفرد في مجتمعه ويكون مرضياً عنه بقدر ما يظهره من ولاء للعرف الاجتماعي وتسليم بالموروث التقليدي والتزام بمنظومة رجعية من العادات والتقاليد. بخلاف المجتمعات الحديثة التي تمنح للفرد موقعه الاجتماعي بناء على إسهامه في العملية الإنتاجية وما يقدمه لأبناء مجتمعه من أعمال و إنتاجات تصب في المصلحة الجماعية.
إن هذا الأمر يؤسس لغياب المساواة الاجتماعية وحضور التفاوت والتمييز بأشكال شتى وبصور متعددة. فالتمييز الاجتماعي يقوم على " تعزيز حقوق طرف على حساب انتقاص حقوق الطرف الآخر وإنكار حقه عليه ومصادرته" (د.حمود العودي, العنف والتمييز الاجتماعي (اليمن نموذجاً), 2012م). ويتمرئ هذا الأمر بصورة جلية في ممارسة العنف والاضطهاد التي تلحق بالنوع الاجتماعي من خلال تكريس أدوات القهر ومصادرة الحقوق الإنسانية المواطنية بل وتحديد الأدوار والخصائص والوظائف التي يلزم هذا النوع التقيد بها ولا ينبغي له الخروج عنها.
وتلعب مؤسسات التنشئة الاجتماعية الدور الأبرز في ذلك, حيث تتضافر البيئة الثقافية والسياسية والأسرية والمجتمعية ومؤسسات التعليم بكل مراحله في ذلك. ويبدأ التمييز منذ اللحظات الأولى للميلاد بناء على النوع البيولوجي, فعلامات الابتهاج التي تسيطر على الأسرة بقدوم مولود جديد لا تتحقق إلا إذا كان المولود ذكراً, أما إن كان المولود أنثى فإنه لا يقابل بنفس مشاعر الارتياح, حيث بلغت نسبة تفضيل المولود الذكر على الأنثى 76.9% (د.حمود العودي, مرجع سابق).
وتتحدد الأدوار الاجتماعية للنوع الاجتماعي في التقسيم القهري للعمل بناءً على النوع البيولوجي, فالذكر يمارس أعمالاً ويقوم بوظائف ويكتسب امتيازات لا يحق للأنثى أن تحصل عليها. بل إن مؤسسة التعليم وما تحتويه من مناهج ومضامين ووسائل تربوية فضلاً عن البيئة الثقافية والموروثات الاجتماعية والمرجعيات الأيديولوجية التقليدية والفهم المغلوط لمقاصد الدين تعزز مثل هذا التقسيم, وتكرس النظرة الدونية للمرأة وتسلب حقوقها الإنسانية حتى في مسألة حقها في تقرير مصيرها واختيار شريك حياتها.
ويحضر التمييز في أشكال أخرى, فالنظرة المحتقرة التي تنتقص من ذوي بعض الأعمال والمهن (كالحداد, والحلاق, والجزار, والإسكافي, وعامل النظافة, وما شاكل) تتحول إلى نوع من التفرقة العنصرية ويتجاوز الأمر إلى ربط مثل هذه المهن بالأصول الإثنية والوارثية لمحترفيها, وبالتالي إلباس صورة نمطية لمثل هؤلاء "بوجود خواص اجتماعية وبيولوجية تتوافق بطبيعتها مع ممارسة مثل هذه الأعمال والمهن, بحيث لا يمكنهم العمل في أعمال أو مهن أخرى من جهة كما لا يستطيع غيرهم القيام بها دونهم, فالحلاق حلاق والجزار جزار لا بحكم مهنته فقط بل بحكم مولده ونسبه أيضاً, وهنا لب المشكلة ". (د.حمود العودي, مرجع سابق).
وتنسحب أيضاً أشكال أخرى من التمييز ضد فئات اجتماعية تتصف بأنها فئات "هامشية", فما يطلق عليهم وصف "الأخدام" بقصد التحقير والتنقيص من حقوقهم الإنسانية والاعتبارية وهم في الأصل مواطنون ذوي بشرة سمراء يعاملون بانتقاص, حيث لا يتمتعون بحقوقهم الإنسانية والاجتماعية أسوة بإخوتهم من الفئات الأخرى, فهم يعيشون على هوامش المدن والقرى في بيوت من الصفيح والعشش وفي أوضاع معيشية مزرية للغاية, كما أن علاقتهم بالعمل ضعيفة, حيث يمتهن غالبيتهم أعمال النظافة أو في مهن أخرى "متدنية".
وهناك فئات اجتماعية أخرى ينالها قسطاً وافراً من التفرقة والتمييز الاجتماعي كـ"الجزارين, والمزاينة, والدواشين, والأخضور...إلخ"( ). و" كل هذه الفئات المهنية والنافعة أصلاً [تعاني] من حالة العزل المهني في الأساس والذي أفضى إلى العزل الإثني أو السلالي الحاد لهم من قبل المجتمع من حيث التزاوج بالدرجة الأولى, ومن حيث القبول بالمكانة الاجتماعية والدور الاجتماعي المتكافئ لهم مع غيرهم من بقية الفئات الاجتماعية الأخرى على الصعيد الاجتماعي والسياسي بالدرجة الثانية (...)." (د.حمود العودي, مرجع سابق).
وبلا شك فإن مظاهر الأزمة المجتمعية لا تنحصر فيما أوردناه سلفاً, بل تتسع لتشمل جوانب أخرى مختلفة سنتناولها في وقت لاحق. وحيث كان غرضنا من عرضنا هذا هو حرف الأنظار إلى المسار الحقيقي لجوهر الإشكالية القائمة فإننا معنيين بوضع محددات دستورية واتجاهات لسياسات وتشريعات تسهم في إحداث تغيير في البناء الاجتماعي القائم بما يؤدي إلى خلق أنساق جديدة وإعادة صياغة علاقات الدولة بالمجتمع بما يهيئ الأرضية المواتية للانتقال التاريخي إلى الحداثة والتقدم والمدنية.


** أزمة المنظومة السياسية وتحديات التنمية السياسية في اليمن :

يقودنا الحديث عن التنمية السياسية إلى الحديث عن السياسة بما هي هندسة للمجتمع والدولة, تنتظم من خلالها علاقات الأفراد والجماعات بالنظام السياسي. وحيث أن التنمية السياسية تمثل النظرية التي ترسم توجهات ومضامين الدولة, فإن السياسة لا يمكن أن تتحقق إلا بأدواتها القانونية.
إن ممارسة السياسة خارج شروطها وبغير أدواتها هو عمل اعتباطي وأشبه بمن يريد " تربيع الدائرة"!! بحسب تعبير الفيلسوف الكبير د. أبوبكر السقاف. فالسياسة لا تكون إلا مدنية فهي لا تتحقق إلا في فضاء من الحرية والحوار الديمقراطي وسيادة القانون والفصل الواضح بين السلطات . فلا حديث عن عمل سياسي في ظل ممارسة الاستبداد العسكري أو الجمع بين رئاسة الدولة كمسئولية مدنية ورئاسة المؤسسة العسكرية والأمنية (د. أبوبكر السقاف, دفاعاً عن الحرية والإنسان, 2010م).
إن تخلف العمل السياسي في البلد يأتي من "سيادة قانون القوة لا قوة القانون", وشيوع علاقات الاستحواذ والقوة وانتشار السلاح, وهو إلى ذلك يأتي من حضور طاغي للأشكال غير الرسمية ( العصبويات والسلطة المشيخية والمؤسسة العسكرية والفهم المبتسر للدين) وتدخلاتها التعسفية في الحياة السياسية, في مقابل حضور شكلي للأحزاب والتنظيمات السياسية, وتزييف للعمل الديمقراطي والممارسة المدنية.
ويواجه العمل السياسي في اليمن إشكالات من نوع آخر, مرتبط بالحالة الممارسية للسياسة, التي أتت كتعبير عن ثقافة ترى في السياسة مجالاً خصباً للمناورة والمراوغة و"الإقامة على الكذب", فضلاً عن ابتكار أساليب للتحايل على الدستور ومنظومة القوانين والقيم, وكذا التنصل عن الاتفاقات السياسية والتعاقديات الاجتماعية. إذ يتضح ذلك ـ وبجلاء ـ في اصطناع فجوة ما بين الدساتير والتشريعات كنصوص ومنظومة القيم كمكتسبات وطنية حقوقية إنسانية, وما بين آليات تطبيقها وتجسيدها على أرض الواقع. إن هذا الأمر لا يتم بشكل عفوي معزول, بل يأتي تلبية لحاجة سياسية للحاكم تتمثل في تقويض قوة القانون ومشروعيته في أذهان الناس, من خلال خلق مساحة ذهنية لديهم من عدم جدواه, أو استخدامه في حالات أخرى كأداة لقهرهم أو ترويضهم وتدجينهم بدلاً من تحقيقه للديمقراطية والعدالة.
وليس بعيداً عن ذلك ممارسة حالة من الفساد المعمم, بهدف استكمال حلقات إحكام السيطرة وفرض الاستبداد كأسلوب لإخضاع قوى المجتمع, فالفساد في حقيقته صنو للاستبداد, والحكم المستبد هو حكم فاسد بالضرورة. وما يجدر التنويه إليه في هذا المطاف هو أن الفساد لا يقتصر على صورة أحادية ولا ينحصر فقط في أسلوب الإدارة والحكم, بل هو مؤسسة قائمة على حزمة من السلوكيات والأداءات الممنهجة وأنماط من التفكير والتعاطي مع حاجات الناس والمشروع الوطني.
وحيث تتحول السلطة من مجرد أداة أو آلية رشيدة ديمقراطية لإدارة شئون الناس ومواجهة احتياجاتهم المتزايدة بتنفيذ مشاريع تنموية استراتيجية ومرحلية وإشراكهم في تحديد أولوياتهم ورسم مسارات مستقبلهم, فإنها تستحيل إلى طغمة سلطوية "حكم عضوض" تستنزف الثروات الوطنية وتهدر الكرامة الإنسانية وتنزع عن الناس هوياتهم وتسلبهم إرادتهم, وتحول البلد إلى غنيمة تستحوذ عليها وتتعامل مع سكانها كقطيع وتركة تسعى إلى امتلاكها وتُوريثها..
إن أسلوب إدارة الدولة بالأزمات والحروب كنهج قائم, هو في حقيقة الأمر تعبير عن فشل ذريع لمنظومة الحكم وعجز كامل عن امتلاك هذه المنظومة رؤية وطنية وإستراتيجية تنموية, لذا فهي تجد في افتعال الأزمات وإشعال الحرائق حلاً سهلاً للهروب من الاستحقاقات الشعبية والمسئوليات الوطنية المترتبة عليها.
ليس ذلك فحسب بل إن الطبيعة العصبوية / الأحادية / الثأرية / الطفيلية / الهجينية لمنظومة الحكم تستخدم الحروب كوظيفة اقتصادية وسياسية, بحيث تُدّر لها المزيد من الثروات وتراكم الأموال والنفوذ وتحقق لها استمرارية البقاء في سدة الحكم, وذلك إما بإلباس تلك الحروب التي تشعلها بمشروعية وطنية من خلال تضليل الرأي العام بشعارات زائفة, أو من خلال الخلق المستمر لبؤر التوتر والاقتتال الأهلي ليتسنى لها أن تسود وفقاً لقاعدة "فرّق تسد", وتصبح بالتالي هي المرجعية التحكيمية للأطراف المتنازعة.
إن حالة التزاوج الهجيني وغير الشرعي بين المؤسستين المدنية والعسكرية في منظومة الحكم ــ وهي بالمناسبة حالة طبعت أنظمة الحكم طوال عقود وعهود متعاقبة ـ غالباً ما أفضت إلى نهج ثأري ديكتاتوري فردي أو شمولي في إدارة الدولة والمجتمع. فيتم التعامل مع الخصوم والقوى المنافسة للحكم بروح عدائية انتقامية, فتلجأ السلطة إلى استخدام العنف والتصفيات وأشكال من الإقصاء للآخر المختلف, ومعها تغيب آمال الناس بإمكانية تحقيق نظام عادل, فيغرقون في سديم من الإحباط المعنوي والمادي, تبني هذه الحالة الإنكسارية بينهم وبين المجال العام وممارستهم لحقهم في السيادة الشعبية عوازل سميكة, وهو ما يسمح للطغمة المستبدة في أن تعزز من سطوتها وإحكام قبضتها..
وحيث أن الحكم الديكتاتوري يتخذ أشكال مختلفة لإخضاع المجتمع, تتراوح ما بين الأشكال الناعمة كالتسويغ, والإغراء, والإغواء, والتحايل, والخداع, والتضليل, والتدليس وممارسة الكذب, وصولاً إلى استخدام أشكال قهرية/ عنفية كالإقصاء, والنفي, والاعتقال التعسفي, والتعذيب, والمحاكمات الصورية, والتصفيات الجسدية وشن الحروب, فإن للاستبداد أسباب أخرى, منها ما يتعلق بطبيعة البنية الاجتماعية والعلاقات السائدة التي تتصف بأنها بنية بطركية, تسلطية تلحق المواطن الفرد بالجماعة, فتسحق هويته الكيانية المواطنية لصالح تعزيز حضور الهويات الصغرى المناهضة بالضرورة للهوية الوطنية الجامعة. وهناك أسباب تتعلق بالنظم الثقافية والتراكم التاريخي للتخلف الاجتماعي, فالثقافة العربية نشأت تاريخياً كثقافة أحادية, لا تقبل التعدد ولا ترغب بالآخر المختلف, وهي نظم تقوم على الخيال والتسليم والتبرير, فهي ترفض العقل, ولا تنزع إلى النقد والمراجعة مما تسهم في خلق القابلية للاستبداد والإذعان.
وتأتي حالة التزاوج الثانية, في صيغة تزاوج بين السلطة والقبيلة, فعلاقة الدولة بالقبيلة شهدت خلال العقود السابقة تحولات وتطورات عديدة, تبعاً لوضع الدولة وقدرتها في بسط سيطرتها الكاملة على أرجاء البلاد وجديتها في إنفاذ القانون وتعزيز سلطته. فوجود دولة قوية تتمتع بالشرعية السياسية والشعبية يمكّنها من أن تفرض سلطتها على المجتمع وتصبح هي المرجعية الوحيدة للناس, في حين لو أنها كانت بخلاف ذلك ـ كما هو وضعها حالياً ـ فإن هذا يخلق للجماعات القبيلية والمشيخية مجالاً مفتوحاً في ممارسة سلطتهم الاجتماعية والعرفية القسرية على السكان, وفرض الأعراف والثقافة القبلية التقليدية لتصبح هي القانون الساري. إن "الدول التي لا يسود فيها [القانون] تصبح الأعراف نافذة كما لو كانت قانوناً, أي تكتسب صفة الصورية الحاكمة في المجال القانوني, بينما يلغي القانون في الدول التي يسود فيها العرف [على القانون] (...) لذلك ينحط القانون إلى مستوى العرف, ويرتفع العرف إلى مستوى القانون من حيث تنفيذه فيغدو ظلماً فاجعاً يمس أكرم وأقدس مكونات الضمير ومعنى الحياة. ولذا يسود التشاؤم وعدم الإيمان بالتضامن وإمكان انتصار الخير والعدل في حياتنا. وهنا يكمن الفرق الحاسم بين سيادة [القانون], وسيادة الأعراف" (د. أبوبكر السقاف, مرجع سابق).
إن التطور اللاحق الذي شهدت علاقة الدولة بالقبيلة تمثل في " تمفصل القبيلة بالدولة, حيث لم تعد العلاقة بينهما علاقة تناقضية [ كما كان في مرحلة سابقة], بل باتت علاقة تكاملية. الأمر الذي تمخض عنه تولد نظام سياسي رعوي, يقوم على تقاسم السلطة السياسية بين الدولة والقبائل, وتنازل الدولة عن بعض وظائفها لصالح شيوخ القبائل, الذين تحولت علاقتهم بالنظام في ظل هذا التمفصل بين الدولة والقبيلة إلى علاقة التزام سياسي, وبالتالي باتت القبيلة تمارس بعض مهام الدولة, وتتصرف الدولة أحياناً كقبيلة, فهي دولة ضعيفة مسلوبة القدرة, فعلى الرغم من تواجدها في كثير من مناطق البلاد إلا أنها ضعيفة وخاضعة, وغير قادرة على فرض سيادة القانون." (د.عادل مجاهد الشرجبي وآخرون, القصر والديوان, الدور السياسي للقبيلة في اليمن,2009م). وهو ما ينتج الكثير من الظواهر, كحالات القتل, والاختطاف, وقطع الطريق, والاستيلاء على الممتلكات العامة, تستخدم بعضها كأداة ضغط للحصول على مكاسب وامتيازات غالباً ما تكون غير مشروعة.
وفيما يتمظهر الصنف الثالث لحالة التزاوج غير الشرعي الهجيني الذي ميز أنظمة الاستبداد والاستحواذ في الجمع بين ممارسة المسئولية الحكومية وممارسة التجارة, أو الجمع بين المسئولية الحكومية والزعامة القبلية والتجارة, فإن هذا يعد أخطرها؛ ليس لكونه يؤلف بين أكثر من سلطة وامتياز فحسب, بل لأنه يخلق مصالح طفيلية نفعية تستحوذ على ثروات الشعب, وتعمق من التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية, وتمنع الناس من التعامل المباشر مع الدولة, فالزعامات القبيلية تصبح هي الواسطة بين المجتمع المحلي ومؤسسات الدولة مما يتيح لهم لعب أدوار سياسية من خارج مؤسسات الدولة, كاللجان التحكيمية على سبيل المثال.(د.عادل الشرجبي, مرجع سابق) عندها يجري التقويض الشامل للدولة كمفهوم ومعنى رمزي يستحضره الناس حين تلم بهم الحاجة إلى كيان وطني يحتضنهم ويحقق لهم الأمان والعدالة. كما يجري تقويض أدوات الدولة أكانت أدوات سياسية, أم اقتصادية, أم اجتماعية, أم نظم إدارية وقوانين وثقافة تكرس من قيمة الهوية الجامعة, والانصياع للقانون, والالتزام باللوائح, وإعلاء من شأن قيم العمل والتحفيز للإنتاج والإبداع.
ويبرز تحدي آخر أمام تحقيق التنمية السياسية بمفهومها الشامل, ألا وهو تدني الوعي السياسي في الأوساط الشعبية, والفهم الزائف له في الأوساط النخبوية, فضلاً عن حالة عامة من فقدان الثقة بالعمل السياسي وجدوى أدواته مما ينتج غياباً للمبادرات الذاتية والديمقراطية التشاركية. ويعود سبب ذلك لعوامل كثيرة لعل أهمها: افتقاد النظام السياسي للشرعية الشعبية وعدم توفر حالة من الرضا العام, وتحايله على العملية الديمقراطية والسياسية, وكذا تقادم أدوات العمل السياسي واختلالات تعتور خطابات المنظومة السياسية, بالإضافة إلى التردي الاقتصادي الذي أصاب حياة المواطن وأجبره في كثير من الأحيان على أن يغادر مواقع كان يتواجد فيها بفعالية, إلا أنها أصبحت مع الأيام بفعل سوء الوضع المعيشي مواقع ثانوية هامشية بالنسبة لأولوياته, مقدماً في ذلك مهمة البحث عن لقمة العيش وتأمين أسرته من مخاطر الجوع.
كما لا يغيب عن بالنا تداعيات الثقافة العولمية, ووعودها الزائفة التي تهدف إلى تعميم ثقافة الاستهلاك التجاري, والانغماس في براثن الاستلاب والانهزامية والتحليق بعيداً عن الواقعية واستشعار المخاطر المحدقة.
وحديثنا عن أزمة المشاركة السياسية سيأخذ أبعاد أخرى, فعلى مستوى أدواتها غالباً ما انحصرت في المشاركة بالعملية الانتخابية ورغم ما يشوب هذه العملية من اختلالات وقصور, من حيث طبيعة النظام الانتخابي الذي لا يعكس حقيقية مستوى التمثيل الشعبي, ولا يحقق التنوع المطلوب في جوهر العملية السياسية إذ غالباً ما كانت العملية الانتخابية تعيد إنتاج شخوص السلطة بأساليب مختلفة اتساقاً مع حاجة النظام للاستفراد والاستئثار, ناهيك عن محدودية نسبة المقيدين في السجل الانتخابي من نسبة من يحق لهم التصويت.
أما ما يتصل بالمشاركة النوعية في العملية السياسية, فلا تزال المرأة اليمنية تحرم في كثير من الحالات من النشاط في المجال العام لأسباب اجتماعية وثقافية وسياسية يطول الحديث عنها, وفي الحالات القليلة التي تمارس المرأة حقها في المشاركة في العملية الانتخابية فإنها غالباً ما تحضر كصوت انتخابي لا أكثر من ذلك. وينسحب الوضع على فئات اجتماعية أخرى, فالشباب لا يزال يقود حالة نضالية من أجل أن يحظى بموقع يتناسب مع حجم تواجده ضمن الكتلة السكانية وفعاليته في الحياة. وعلى الرغم من أن السنوات الأخيرة شهدت حراكاً شبابياً واسعاً تجلى ذلك في تفجر ثورة عارمة في 11 فبراير من العام 2011م والتي أسقطت نظام الاستبداد والفساد, حيث كان الشباب يمثلون طليعتها الأولى ووقودها الأنقى, كما كان ولا يزال للشباب الدور الجوهري في تفجر الاحتجاجات الشعبية التي قادها الحراك السلمي الجنوبي وشملت المحافظات الجنوبية منذ يونيو 2007م وما سبق هذا التاريخ من إرهاصات سياسية واجتماعية.
ويجدر بنا في مختتم هذه التناولة العجلى, أن نتعرض لواقع الأحزاب والتنظيمات السياسية ودور منظمات المجتمع المدني في التنمية السياسية. فعلى الرغم من أن التعددية السياسية والحزبية وحرية العمل المدني مكفولة في الدستور والتشريعات المصاحبة, إلا أن هذه العملية لا تزال متخلفة عن السياق الاجتماعي واعتمالاته. فواقع الحال يقول بأن الأحزاب والتنظيمات السياسية تعاني من هشاشة في أبنيتها التنظيمية, وعدم مقدرتها على استيعاب حاجة قواعدها إلى التجديد ناهيك عن الحاجات المختلفة للمجتمع, وفيما تعاني من ضعف في تصورتها البرامجية, فإنها لا تزال حبيسة إشكالات في حياتها الداخلية تتعلق بغياب الديمقراطية الداخلية ومستوى الأداء السياسي والتنظيمي, وصلاتها بجماهيرها ووسائطها التواصلية مع الناس. في حين أن حال منظمات المجتمع المدني ليس بأفضل منها, فهي تفتقد للبناء المؤسسي والوظيفي, كما يفتقر القائمين عليها الكفاءة المطلوبة وتغلب على أنشطتها الجانب السياسي, ويغيب دورها في المجالات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية على أهميته. ويؤخذ على هذه المنظمات أن غاية ما تتوخاه هو العوائد المادية والحصول على المنح والدعم الخارجي, في حين أنها لا تمتلك رؤية حقيقية للتعامل مع حاجات المجتمع وأولوياته في التمكين الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
وفي الأخير, نود التنويه إلى أننا عمدنا إلى تشخيص أوضاع التنمية الاجتماعية والسياسية وتحدياتها كمقدمة منهاجية مطلوبة, بغية استيعابها والإلمام بأبعادها المختلفة حتى يسهل علينا وضع إطار للحلول والمخارج التي تضمن وتحقق عملية التغيير المنشود, وهو ما سنوافيكم به في وقت لاحق...


** آفاق الانتقال التاريخي :

بعد أن قدمنا توصيفاً عاماً لتحديات التنمية الاجتماعية والسياسية, والذي حرصنا فيه التركيز على التحديات الكبرى التي مثلت العقبة الكأدأ أمام تحقيق التنمية الإنسانية العادلة, وفي المقدمة منها تعثر بناء الدولة الضامنة الديمقراطية الحديثة, والتوزيع غير المنصف للثروة الوطنية واحتكار السلطة والانفراد بالقرار السياسي وأزمة المشاركة السياسية. إضافة إلى الاختلالات العميقة التي شابت البنية الاجتماعية والمنظومة العلائقية كالتفاوت الاجتماعي والاقتصادي, وحضور الولاءات القبلية والعصبوية التي تعمد إلى تذويب الفرد / المواطن في بنية الجماعة, وتلحق ضموراً بالهوية الوطنية الجامعة, ناهيك عن مهددات تفكك البينان الاجتماعي المتمثلة في اتساع رقعة الفقر وزيادة معدلات البطالة والأمية وانخفاض الأجور وحضور أشكال من التمييز الاجتماعي والحرمان من شبكة الخدمات الاجتماعية, والافتقار إلى السياسات الإستراتيجية الوطنية الإنمائية.
بناء على ما تقدم نخلص في مختتم هذه الورقة إلى وضع موجهات عامة لإعادة البناء الشامل و"الخروج التاريخي" من حالة التخلف والهدر العام, نجملها في الآتي:
• إعادة بناء الدولة والنظام السياسي على أسس ديمقراطية عادلة, وإعادة البناء هذه لابد وأن تشمل الأبعاد الآتية:
1. البعد الدستوري: يمثل الدستور حجر الزاوية في العملية البنائية, وهو الوثيقة الأولى التي تتمتع بسلطة فوقية لا تعلوها سلطة. انطلاقاً من هذه الأهمية, وكون مهمتنا في مؤتمر حوارنا هذا تتمثل بالأساس في إنتاج صيغة لعقد اجتماعي جديد, فلا بد أن يرتكز على نصوص واضحة وقواعد دقيقة, تلبي تطلعات الشعب في بناء الدولة المدنية الديمقراطية البرلمانية الاتحادية الوطنية الحديثة, وتضع التوجهات الإستراتيجية والتنموية العادلة للدولة القادمة وتحديد مضامينها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والقانونية. وتشدد في مسألة إدخال التعديلات عليها, وتضع قيود محكمة تمنع التحايل عليها أو تجاوزها بأي شكل من الأشكال.
وكم سيكون مهماً أن يحتوي هذا الدستور على مقدمة ديباجية, تكون بمثابة وثيقة تاريخية أو ما يمكن أن نسميه "ميثاق أعظم", يوقع عليه من كل الأطراف المعنية, ويسيّج بضمانات دستورية وقانونية وإرادة جماعية, بحيث يقرّ مضمونه على حرمة الدم اليمني, وتحريم الاقتتال الأهلي, وتجريم العنف والتطرف واللجوء إلى القوة وثقافة تمجيد الحروب, ونبذ الصراعات والثأرات ونوازع الكراهية والأحقاد والممارسات العنصرية. وكذا التأكيد على قيم الإخاء والمحبة والمساواة والتسامح السياسي.
إن لهذا الأمر أهمية بالغة في حال تحققه, فهو سيشكل إعلاناً تاريخياً ورغبة وطنية في ضرورة مغادرة ماضي الصراعات السياسية وجراحاتها, ويقود بالتالي إلى الانتماء إلى عصرٍ من التعايش والتعاون والتضامن والقبول بالآخر والحرص البالغ على روح الانسجام الوطني.
2. البعد الهيكلي والوظائفي: أوضحنا فيما تقدم أن التحدي المركزي والأولي الذي يواجه تحقيق النهوض الشامل هو تعثر بناء الدولة الضامنة والعادلة, والطبيعة المختلة للنظام السياسي, وهو ما يستدعي التفكير العميق في سبل إعادة بناء الدولة, بما يسهم في زحزحة مواقع الأزمات الوطنية والتوخي التام في إيجاد حلول ناجعة وتاريخية. وأتصور أن صيغة الدولة القادمة لابد وأن تحقق التطلعات المشرئبة لعموم الناس في بناء الدولة المدنية الديمقراطية الاتحادية الحديثة, وتوسيع الخيارات الاجتماعية, وتحقيق الشراكة الوطنية في السلطة والثروة.
وأن يتحدد شكل النظام السياسي في النظام البرلماني كشكل اكتسب أهمية كبيرة من طبيعة تجارب البلدان التي نحت في تطبيق هذا النموذج الذي يأتي انسجاماً مع الرغبة في تجاوز إشكالية تاريخية عانت منها اليمن طوال عقود وعهود وهي تركز السلطة واحتكار الثروة بيد فرد أو جماعة استبدادية.
يضاف إلى ذلك الفصل الواضح والتام بين سلطات الدولة الثلاث (التنفيذية, والتشريعية, والقضائية) وتقليص صلاحيات واختصاصات رئيس الجمهورية, ووضع نصوص واضحة تضمن حيادية المؤسسة العسكرية والأمنية وحصر وظيفتها في الدفاع عن سيادة الوطن والحفاظ على أمنه واستقراره, وهذا يقتضي تجريم تسخير هذه المؤسسة لصالح فرد, أو طرف سياسي, أو جماعة, ومنع الجمع بين رئاسة الدولة ورئاسة مؤسسة الجيش والأمن.
3. البعد الديمقراطي والقانوني:
يكتسب النظام السياسي شرعيته السياسية ومشروعيته القانونية من توفر حالة رضا عام بين أفراد المجتمع عنه, وترسخ الثقة بين الدولة ومواطنيها بحيث يشعر المواطن البسيط بأن هناك حاجة ومصلحة حقيقية تتوفر له من استمرار النظام. وأولى موجبات ذلك؛ تحقيق الديمقراطية والتمثيل الحقيقي للإرادة الشعبية والسيادة الوطنية, والتعامل مع أفراد الشعب على قدم المساواة, وتأمين الحقوق والحريات الإنسانية بأشكالها المتعددة والمفتوحة, وإطلاق المجال العام أمام حركة المجتمع المدني واستقلالية هيئاتها عن السلطة وحياديتها عن التحيزات الحزبية؛ لتصبح بمثابة أداة الرقابة المجتمعية والرافعة لمطالب المجتمع والضمانة الأكيدة لسيادة الديمقراطية التعددية ومبدأ التكافؤ وقيم المواطنة وحكم القانون, ومن ضمن هذه الهيئات التي لابد أن تتمتع بالاستقلالية والحيادية والشخصية الاعتبارية: (هيئة حقوق الإنسان, ولجنة شؤون الأحزاب, ولجنة شؤون النقابات والاتحادات المهنية والعمالية والمنظمات غير الحكومية, والمجلس الوطني للصحافة والإعلام ).
يتعزز ذلك مع إنتاج نظام انتخابي جديد يعكس التمثيل العادل لمختلف المكونات السياسية والاجتماعية, ويدفع الناس للوثوق بالعملية الانتخابية من خلال ضمان تحقيق مبدأ تناوب السلطة سلمياً والالتزام بالشراكة السياسية. وهو ما يتوفر في نظام القائمة النسبية الذي يسهم في تفكيك الأنساق الاجتماعية التقليدية العصبوية لصالح حضور الدور المحوري للفرد/ المواطن في صلب العملية السياسية, لكونه يمتلك الإرادة المستقلة ويتمتع بحرية الاختيار والحقوق المواطنية الكاملة غير المنقوصة.
إن إعادة تعريف العمل السياسي بكونه أداة تكريس الوعي السياسي المدني الديمقراطي في أوساط الجماهير, ووسيلة تعيد تطبيع علاقة الأفراد بالقضايا الكبرى يتطلب إحداث تغيير حقيقي في بنية المنظومة السياسية, وتجسيد الديمقراطية الداخلية في بنية الأحزاب وتحديث وسائط تواصلاتها مع الجماهير وتبني المطالب الاجتماعية في برامجها السياسية وتجسيدها في ممارساتها الواقعية.
كل ذلك يستلزم بناء منظومة من التشريعات والقوانين العادلة والضامنة للحقوق السياسية والحريات العامة المتمثلة بحرية التعبير عن الرأي والموقف والفكر والمعتقد, وحق التجمع السلمي والتنظيم السياسي, وحق الاختلاف والتعدد والمشاركة السياسية, وحق المبادرة الشخصية وحرية الإبداع, وحق المرأة والنوع الاجتماعي في المساواة والتكافؤ في المشاركة في الحياة العامة والخاصة؛ باعتبار كل هذه الحقوق مكتسبات إنسانية وحقائق عصرية يستحيل القفز عليها أو الانتقاص منها.

4. البعد الاقتصادي والاجتماعي:
تعود الإشكالية الوطنية وتعبيراتها السياسية إلى جذور اجتماعية واقتصادية, تتعلق في الأساس بطبيعة النظام الاقتصادي والعلاقات التي ينتجها. من هذا المنطلق ينصب هذا البعد على تحقيق هدف مركزي وهو إعادة صياغة البنية الاقتصادية الريعية السائدة بما يجعلها بنية إنتاجية وطنية تركز على تطوير الإنتاج المحلي في القطاعات المختلفة وتحقيق ثلاثية: التنمية المتوازنة والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص لمختلف فئات المجتمع.
ويحتل هذا الهدف الطموح أهمية بالغة في حل جذر الإشكالية الوطنية, فهو ينطوي على الدور القيادي الذي لابد للدولة أن تضطلع به في العملية الإنتاجية وتنظيمها من خلال الدور التنظيمي والتنفيذي والإشرافي والرقابي وضمان التوازن بين مختلف القطاعات الاقتصادية بما يسهم في توسيع القاعدة الإنتاجية وتنويع مصادر الدخل الوطني وتأمين النمو الاقتصادي ذاتي الدفع.
ناهيك عن تحقيق التنمية المتوازنة والعادلة بين الريف والحضر وضمان عدالة توزيع الدخول, وتأمين الحاجيات الأساسية لأوسع الشرائح الاجتماعية من الفقراء وذوي الدخل المحدود وضمان مجانيتها وتحسين جودتها كالخدمات الصحية والتعليم والإسكان والتوسع في شبكة الأمان الاجتماعي ضد الفقر والبطالة والعجز والشيخوخة.
والعمل على تشجيع القطاع التعاوني والقطاع الخاص للإسهام في العملية الإنتاجية وتوجيه أنشطته بما يخدم الاقتصاد الوطني ومتطلبات حاجات المجتمع.
كما لابد أن تتجه عملية النهوض الاقتصادي والتنموي إلى تحقيق العدالة الاجتماعية بأبعادها الإنسانية, وما يقتضي ذلك من توزيع تكاليف الإصلاحات الاقتصادية والسياسات النقدية الضريبية والجمركية وأعباء التنمية على الشرائح الأكثر غنىً وتخفيضها على الشرائح الفقيرة, بما يفضي إلى تقليص التفاوت الاقتصادي وحصول فئات الشعب على ثمرات العملية التنموية, وتأمين الحقوق الأصيلة للقوى العاملة في التأمين الصحي والمعيشي وتحسين شروط وظروف العمل بما في ذلك تحديد حد عادل للأجور وربط سياسات الأجور بالقدرة الإنتاجية وتحديد ساعات الراحة وأيام الإجازات مدفوعة الأجر.
ولا يفوتنا أن نشير في هذا المقام إلى ضرورة إشراك المرأة في العملية الإنتاجية غير الزراعية, والعمل على إيجاد نصوص قانونية تجعل من المرأة الريفية وربات البيوت ضمن قوة العمل باعتبارها تمارس أعمالاً لا تقل أهمية عن تلك الأعمال التي تتم في سوق العمل.
وتتطلب عملية إصلاح مسار العملية الاقتصادية حزمة من الإجراءات والسياسات وإصدار منظومة من القوانين والتشريعات التي تهدف إلى مكافحة الفساد وتجفيف منابعه, والعمل على استعادة الأموال المهربة والثروات المنهوبة من مغتصبيها, وتطوير الأداء المهني والاهتمام بالمورد البشري والشباب والقوى العاملة, وإعادة هيكلة الأجهزة الرقابية والوظيفية ( كالجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة والهيئة الوطنية العليا لمكافحة الفساد والهيئة الوطنية للخدمة المدنية وهيئة تحصيل الضرائب والواجبات الزكوية وغيرها...) بما يجعلها مستقلة مالياً وإدارياً عن السلطة التنفيذية وتكون مساءلة أمام مجلسي النواب والشورى.
كما تتطلب إجراء تغييرات جوهرية في السياسات المالية والموازنة العامة للدولة وسياسة الإنفاق العام لما لذلك من أهمية كبرى تتعلق بالتوجهات العامة للدولة, فالموازنة العامة للدولة ليست مجرد لائحة تتضخم فيها الأرقام المالية بل هي وثيقة سياسية ـ في المبتدأـ تحدد طبيعة التوجهات التنموية والمضامين الاقتصادية والاجتماعية للدولة, التي لابد أن تتأسس على تخصيص أكبر نسب (بما لا يقل عن 90%) من الموازنة العامة في العملية التنموية, وتوفير الخدمات الاجتماعية كالصحة والتعليم والإسكان والضمان الاجتماعي وتخصيص نسب لائقة للبحث العلمي والأكاديمي والإنتاج الفني والثقافي والإبداعي.
أما فيما يتعلق بالجانب الاجتماعي وضرورة إحداث تغييرات جوهرية في البنية الاجتماعية, فإن التفكير لابد أن ينصب في ضرورة وضع محددات تسهم في إعادة صياغة العلاقات الاجتماعية السائدة والبنى القائمة, بما تؤدي في نهاية المطاف إلى تفكيك البنى العصبوية وشبكات المنافع غير المشروعة التي تكونت بفعل حالة الفساد وعلاقات الاستحواذ, والانتقال إلى تحديد الموقع الاجتماعي للفرد بناء على معايير الكفاءة والمهنية والقدرة وحضوره في العملية الإنتاجية وليس بناء على انتماءه لسلطة اجتماعية ناشئة سواء أكانت قبلية أم فئوية أو قربها منها. كما تستلزم وضع سياسات واستراتيجيات وطنية شاملة قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى لمكافحة ظواهر اجتماعية كثيرة: كالفقر والبطالة والجوع والأمية وتغول الفساد والمحسوبيات والرشوة والسرقات بأشكالها بما فيها السرقات الفكرية وعمالة الأطفال وتفشي التسول والثأر وانتشار السلاح وحضور أشكال التمييز والتهميش الاجتماعي ..إلخ. وفي الحقيقة فإن هذا الأمر مرتبط بدرجة رئيسية بالسياسات التعليمية ومضامين المناهج التربوية وبمختلف مؤسسات التنشئة الاجتماعية وحضور العامل الثقافي ووسائط نشر التحديث والوعي التقدمي وكذا العملية التنموية الإنسانية بأبعادها المختلفة والشاملة, وهو حديث يطول ويتشعب وبحاجة إلى إفراد دراسات اجتماعية وأكاديمية وثقافية والاستعانة بخبرات محلية وأجنبية تتناول كل هذه المشكلات من جوانب متعددة وبأسبابها المختلفة وصولاً إلى وضع سياسات وموجهات تعمل على حلها, وهو ما نأمل أن نقوم به في المرحلة التالية من عمر مؤتمر الحوار الوطني كما هو محدد في جدولة أعماله.
وفي الأخير حسبي أني قدمت هذه المساهمة المتواضعة التي أرجو أن أكون قد تناولت فيها القضايا الرئيسية فيما يخص تحديات التنمية الاجتماعية والتنمية السياسية وسبل معالجاتها على أمل أن تثرى بالنقاش والاستفاضة كي تعم الفائدة ويتحقق الهدف المرجو.



#عيبان_محمد_السامعي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الثورات العربية وإعادة الاعتبار للذات الجمعية
- تثاؤب في وجه السماء !!
- المزاح ذو العيار الثقيل !! قصة قصيرة
- الشباب والحالة الراهنة


المزيد.....




- فيديو يُظهر ومضات في سماء أصفهان بالقرب من الموقع الذي ضربت ...
- شاهد كيف علق وزير خارجية أمريكا على الهجوم الإسرائيلي داخل إ ...
- شرطة باريس: رجل يحمل قنبلة يدوية أو سترة ناسفة يدخل القنصلية ...
- وزراء خارجية G7 يزعمون بعدم تورط أوكرانيا في هجوم كروكوس الإ ...
- بركان إندونيسيا يتسبب بحمم ملتهبة وصواعق برد وإجلاء السكان
- تاركًا خلفه القصور الملكية .. الأمير هاري أصبح الآن رسميًا م ...
- دراسة حديثة: لون العينين يكشف خفايا من شخصية الإنسان!
- مجموعة السبع تعارض-عملية عسكرية واسعة النطاق- في رفح
- روسيا.. ابتكار طلاء مقاوم للكائنات البحرية على جسم السفينة
- الولايات المتحدة.. استنساخ حيوانين مهددين بالانقراض باستخدام ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عيبان محمد السامعي - إشكالية الدولة والمجتمع في اليمن .. مقاربة أولية