أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عمر بن بو جليدة - تدجين الجنون : بين رعب الوعي البرجوازي و لمعان أولائك الذين ضلّوا السبيل















المزيد.....


تدجين الجنون : بين رعب الوعي البرجوازي و لمعان أولائك الذين ضلّوا السبيل


عمر بن بو جليدة

الحوار المتمدن-العدد: 3982 - 2013 / 1 / 24 - 14:15
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


إذا كان من البيّن أن الجنون أصبح في القرن السابع عشر قضية لها طابع اجتماعي، قريبة بذلك من الجريمة و الفوضى و الفـضيحة، فإنّه لبيّن كذلـك أن العلم الطبي،ليس هو من سـيحدد الـواقـعة الخاصة بالجـنون، و سـيعـزلـها و يستـبعـدها و يـقـصيها، بـل إن" المـرض العـقـلي" الـذي يتـخـذه الـطب موضوعا له،تطوّر ببطء.عندئذ نستـبصـر بأي معنـى يمكن أن نـفهم كـيـف أن فـضاءً باتـولـوجيًا جـديـدًا كـان مـا يـزال مـجـهـولا، فـكـان أن صار، يعـرف طـريقه إلـى الـوجـود، و هـو فـضاء ما نـكاد أن نتبين حقيقته حتـى نتفطن إلـى أنّـه لا يـوجـد تحت سلطة القواعد المتـعارف علـيها في التحلـيل و الوصف الطبيين.
و إذا نحن قلّبنا النظر فسنلاحظ أنّه على امتداد القرن الثامن عشر،تطور الطب،لينتظم داخله، الـزوج: طبـيب- مريض، بما هـو العـنصر المـكـوّن، و لايخـفى أن الصـور المخيالية التي بموجـبها يتـم التواصل، كيفت عالم الجنون، وفق أنماط غير مألوفة.
مـن هنا نتأدى إلى أن " المـرض العـقلـي" فـي العـصر الكـلاسـيكـي لم يـكن موجودا، إذا كان مقـصودنا الـربط الـذي يجـمع المجـنون بجـنونه، فـي هـذا المـستوى بـلـغ فوكو مبلغا بعـيدًا، بالـتأكـيد عـلى أن الـجـنون و المجـنون غـريبان عـن بعـضهـما البعـض. إلاّ أن عـالـم الباتـولوجـيا سـيكون بمـثابة الـحاضن، و سيستوعب الجنون كلية. إن هذا المسخ قد تحقق في الـنصف الـثانـي مـن القـرن الثامـن عـشر، فـقـد أنـسرب أولا إلـى تـقنـيات الـعـلاج، و لـكـن سـرعـان ما بدا للعيان، و وصـل إلـى فـكر " الإصلاحـيين" ليكون قدرة لإعادة تنظيم تجربة الـجـنون، إنّها محاولات للامـتـلاك، تـفصح عما كان ثاويًا في الأزمنة السابقة، من اعتقاد في أنّه بزوغ لحقيقة، أو لنقل ما يجعل معرفة الحقيقة أمرًا ممكنًا.
بيد أن ما هو واضح، هو أنّه تم اختزال التجربة الكلاسيكية للاعقل في إدراك أخلاقي محض للجنون، وبعبارة أكثر حدة: لقد تشكلت الأرضية، على نحو خفي، و الـتي ستمثل نواة كل التصورات التي بلغت هالتها العليا في القرن التاسع عشر باعتبارها علمية. ستنشأ دعـوة قوية حـاولـت صياغـة ما بات يـشـكل شـعـورًا يـؤكـد عـلـى ضرورة تحـرير الـمجـانـين مـن قـيـودهـم: فمـاهـي دلالات تحـرير المـكبلـين؟ هل كانـت فكـًا لقيود الحمقـى، و فتحا لمجالات الحرية و المراقبة؟ أي تركـهـم يكشفون عـن أنفسهم من خلال الموضوعية؟
و لأنّ مأربـنا أن نـؤكـد أن الأمـر إنّـما كـان يـتـشكل وفـق مـسار استـيـلاد حـجـز مـن طـبيعـة استشفائية،فإنّه علينا أن نوضح- لئلا نظن،بأن شعـورًا حـرًا و" سـخـيا بالـحنان" هـو الذي استدعى تلك العناية بمصير المحجوزين و دفـع إلى الاهتمام بهم طبيًا- إنّما هـو اعـتـقاد ساذج، فالأحداث لـم تتبلور في ظل" الحياد الرحيم"، "فإذا كانت الاستعانة بالطـبيب قد تمت، فـإن مـصـدر ذلـك، الخـوف، الخـوف مـن الكيـمياء الغـريبة التـي كـانـت تفـوح بـين جـدران الحجز"(1).
و هاهو"ميرابو" يـوضح أنّـه كان يعـرف كـما يعرف الجـميع أن " بيـساتر" كان فـي الـوقـت ذاته مستشفى وسجنًا: ولكـنّه بمهارة ساخرة أزاح القناع عـن مفارقة لاذعة و كـشـف الوجه الآخر لهذا السجن،ففي الأول يتوالد المرض وفـي الـثاني تـينع الجريمة و تفرخ (2). لقد مثل " بيساتر" رمز خيبات و فظائع المجتمع، فـهو يدعو إلـى الرعب و الاحـتقار، لـقـد كـان يقض مضجع المخيلة. إن مــثـل هـذه المـؤسسات تندرج بالـضبط ضمن الهيـكـلية المستحدثة فـي نهـاية القـرن الثامن عشر و ضمن سلسلة الإجراءات الـتي اخترعتها الدولة البرجوازية، من أجل حاجاتها الخاصة ذلك أنّه لأول مرة في تاريخ " المسـتشفى العام" يتم فـي مصـحات "بيساتر" تعيـين شـخـص عـلـى درايـة بالأمـراض الـذهـنـية، فحـضور "بينال" وحـده يؤكد " أن وجود المجانين في "بيساتر" قد أصبح مشكلا طبيًا"(3).
لـقـد أغلقت الدائرة، و بات من المهم الجزم بأن الإنسان الطبي Homo medicus لم يحضر داخل الحجز بما هـو حـكم يفـصل عالـم الجريمة عـن عالم الجنون، و يميز بين عالـم الـشـر و عـالـم الـمـرض، بـل حضر حـارسًا يـردع خـطرًا كامـنًا يتنفس بين جـدران الحـجز و يحـمي الآخـرين مـنه. فــقـد تحـولت الأشـكال الخـاصـة باللاعـقل، تلـك الـتي حـلت داخـل
جغرافيا الـداء، مـحـل الجـذام – الـذي كان قـد أقصي خارج المجتمع- إلـى جـذام مرئي. كـل ذلـك يـسـتـلـزم تأكـيـد أن تـلـك السـبـيـل لـم تصـبح مـمكـنة إلاّ عـنـدما ظـهـرت سـنة 1785 تعليمات توضح النهج الذي يجـب انتـهاجـه مـن أجـل التحكم في المجانين و السيطرة عليهم، و بدأ مـوقع المجنون غير دقيق بـل غامضًا بين حجز آخذ في الانهيار و أشكال من المساعدة تبحث عن صياغة جديدة لها.
و ما يـنبغـي أن نـترّصـده فـي حـواف هـذه التـعلـيـمات " أنّـه لا تـحـول فـي طـريـقـة التـعـامـل مـع الجنون، بـل هي مـحاولـة للبحث عـن توازن بين الإقصاء الخالص و النـهائـي للمجـانين و بين العلاج الذي يتلقونه – هذا إذا ما اعتبروا مرضى-.
هاهـنا تكاد تنـفضح لعـين الباصر لـعـبة الاستـبعاد الـتـي مازالت مسـتمـرة، مـن فـرط انـكشـافها، " فحـبس الـمجانـين هـو فـي المـقام الأول حـماية للـمجـتمـع مـن الأخـطـار الـتـي يمـثلـونها"(4) وبالتـالـي تـتـبلور الـمراقـبة الأخـلاقية للـمحـتجـزين و يكون الـنفـع الاقتصادي للآخـرين، فالـمعـالجة فـترتها و جـيزة، إذا ما إتـضح أن الـمرض قابل للشفاء وبعدها يستعيد الحجز الدور المناط بعهدته و يمارس وظيفته المتمثلة في الإقصاء.
و إن كل ذلك لمما يوضح" الشكل الذي يوّد أن يكون عليه المارستان و الأسلوب الذي مـن خلاله يقيم كل وعي برجـوازي روابط بين العـمـل و الربح و الفـضيلـة"(5) لنقر إذن بأن " تعليمات 1785"، دورها إنّما يتمـثل في اسـترجاع و استعادة و تثبيت العـادات الإستشفائية للحجز، ضـمـن شكـل مؤسـساتي. بيد أن ماهـو طريف أن العلاجات، تعطى فـي ذلـك المكان المخـصص فـي الأصل للإقصاء، فالوظيفتان الطبية و الإقصائية تتحاذيان بل تتقاطعان.
فـإذا أمـعـنا الـنظر فـي "المارستان" الـذي حققه "بـينال" فـي "بيـساتر" و خاصة في سالبيتريير تبين أنّه "ميكروكوزم قـانوني"، ذلـك أن الـقاضـي و الـجـلاد حـاضران بـصورة خـيالية كـثيفة فـي الـمناخ الـعام للحـجز وفـي ذهن المستلب،وهو يـعلم أن "الـمارستان" إنّـما هـو سقـف حريـته، فحكمه نهائي،فقد أضفيت عليه الشرعية، وبالتالي قطع مـع أشكال الحجز القديم الـذي لـم يـكن لِيُعـنى بالأشكال الـقانونـية، وتلك عـدالته. أمّـا عـدالة " مارستان" بيـنال فإنّـها اخـترعـت طـرقـها الـخاصة فـي الـقمع بل الحقـيقة أنّـها لـم تكـن شيئًا آخر غير الطرق العلاجية التي ابتدعـها القـرن الثامن عشر في ممارسة العقاب.فحدث تقاطع غريب بل مُريب بين ما هو طبي وما هو قـانوني، لقد كان الهاجس و الرهان تحويل الطب إلى عدالة و العلاج إلى قمع. و تبعا لذلك يصبح كل شيء معدًا لكي يكتشـف المجـنون، ذاته من جديد و ما ينبغي أن يدرك أنّه "مراقب و محاكم و مدان" فما يربط بين الخطأ و العقاب، يلزم أن يصبح شيئًا عاديًا على اعتبار أنّه ذنب يقره الجميع.
و يتوضح في هذا المـسـتوى أن " مارستان" العـصر الوضعـي" الـذي كـان "بيـنال" وراء تأسيسه، لا يمكن أن يكون فضاءً حرًا و موقعًا نزيهًا تتم فيه فعاليات التطبيب بـأمـانـة، مراقبة و تشخيصًا و معالجة، إنّما هو إطار قانـونـي يجـسد الاتهام و الحكم و الإدانة. " و لا يـمكن التـحرر مـنه إلاّ مـن خلال صب هـذه المـحاكمة فـي العمق السيكولوجي أي من خلال التوبة"(6).
و لأنّه رهين عالم أخلاقي، فسيعاقب الجنون داخل المارستان حـتى و إن تمـت تبرئته خارجه، فما يشكل شفاء المجنون عـند " بينال" هو استقراره ضمـن نـوع اجتماعي معـترف به و مقبـول أخلاقيًا، ذلك أن مدينة الإنسان العاقل لا تقبله إلاّ بهذا الشرط. يحاول"بينال" أن يستدل على العقل من خلال أنواع اجتـماعية راسخة، و أبـدية، و ذلـك بـعـد أن لـم يعد يعامل الجنون على اعتبار أنّه كائن غريب و حيوان، كل ذلك يبـين أن المـصلحـين الصاحـبـين فـي انكـلـترا: Quakers(7) و الـمـوحـدين بـاسم صــموئــيل "تــوك" ، والأطــباء الـعـقلانـيـين الفـرنسيـين بقيادة"بـينال" يلـتـقيان في التأكيد على أهمية التدخل الـطبي. " فالطب (...)أصبح في القرن التـاسع عـشر الـهيئة العـليا فـي المجـتمـع، إلـيـها يـرجع أمر الـفصل بـين الأسوياء و غـيرهـم، و أمر تعـيين مـن هـو أحـمق و مـن هـو ليـس كذلك، و تسـمـية الحمـق و تحديده كموضوع"(8)
إلاّ أن ما ينبغي إجلاءه هو أن " إنسان الطب" لا يستمد سلطته في المارستان باعتباره رجـل معـرفـة بـل باعـتـباره حـكيـمًا "(...) لا يـتـم تـدخـل الطبـيـب باسم علم أو سلطة طبية يـملكها شخـصيًا و تـكـون مبررة بمجموعة معارف موضوعية، و لا يتـمتع الطبيب بسلطة في المارستان بصفته رجل معرفة بل لكونه حكيمًا (...) و ضمانة قانونية و أخلاقية"(9).
إنّه فـي هـذا السياق شرع "توك"و"بينال" في ارتسام مهمة المارستان والتي تقوم على جعل كل مريض قابل بمسؤولية مرضه، وبالتـالـي فـإن تـوك " خـلـق مارستـانًـا حـيـث حـل القلـق المـغـلـق للمسؤولية، محل الرعب الحر للجنون، فالخوف لا يسود داخل السجـون بـل يسـود الآن فـي مـكنـون الوعي، فأشكال الرعب الأبـدية التـي كان المسـتلب ضحية لـها نقلها توك إلى قلب الجنون نفسه" (10).
و بما أنّـه تـم استبعاد " الأدوات" و حـضر الخـطاب، ذلك أن الخـوف هـنا يتوجه إلـى المجـنـون مـباشـرة، فإنـّه مـن الضروري تمجيد مـوقـع المـسؤولية البسيطة. إلاّ أن كل تـجـل للـجـنـون سـيكـون مرتبطًا بالعقاب، فالذنب الغـامـض الـذي كـان يربـط فيما قـبل بين الخـطأ و الـلاعـقـل، بـدل موقـعه، فالـمجنون لـم يعـد متهمًا بأنّه مجنون، لا لشيء إلاّ لأنّه ينتمي إلى دائرة الإنسانية، و بالـتالي فـهو يتـمتع فـي الأصـل بعقل، إنّـه بعـبارة أخـرى المذنب البريء: بريء لأنّه ليس ماهو عليه و مذنب لكونه شيء غير ذاته.
و تـبعًا لذلـك عـلى الـمجـنون باعتباره مجـنونًا، وداخـل هـذا المرض الذي ليس متهمًا به، أن يـشعـر بالمسـؤولية، و أن يحـذر مـن كـل ما من شأنه أن يربك السير العادي للأخلاق و المجتمع. و بالـمحصلة فـهو وحـده المـسؤول عن العـقاب الذي قد يلحقه.هـاهـنا يتوضح أن المارستان لا يعاقـب، و لكنّه ينظم العقاب، فـمن خـلال إقراره بذنبه يكون المجنون موضوعًا للعقاب،معروضًا على نفسه وعلى الآخر.
إنّ الـبلوغ بالـمجـنون إلـى لـحظة الاعـتراف رهـان أساس، ذلـك أنّـه يـشكـل منعـطفًا و منـعـرجًا يغـادر فـيه المـجـنون خـانة الذنب و اللاوعي ليستعيد مـوقعه فـي فـضاء الوعـي و المـسؤولية: فـضاء العـقـل و الحرية: أي دور إذن يمكن أن يكـون للمسـتشفى فـي حـركـة العـودة إلـى السـلوكات السـوية؟ إنّ التصدّي لمثل هذا السؤال يقتضي حسًا مرهـفًا يميز بيـن الآليات التي يتبانها، و الوظيفة التي ينهض بها، و الغاية القصوى التي يطمح إلى إحداثها مع ضرورة الوعي بالتداخل و التشابك المـاكـر الـذي يحـدث بين هذه المستويات. فـي الـبدء لابد مـن الإقـرار بأنّ الـوظـيفة الـتي تـسـند إلـى الـمسـتشفـى هـي عـين الـوظـيفـة الـتي تـسند إلى المـستـشفيات عــمـومًا فـي القـرن الـثامـن عـشر، إذ يـناط بـه الـكـشف عــن حـقيقة الـمرض الـعقـلي، ونـزع كل ما يمكن أن يقنّعها في وسط المريض ليضفي عليها أشكالا شاذة و يحافظ علـيها و يبعـثها من جديد، لكن المستشفى وهو يتصدّى لهذه الوظيفة،إنّما يمثل أكثر من مكان للكشف، إنّه مكـان مواجـهة بـين إرادتيـن: إرادة مضطـربة، و هوى منحرف يمثلها الجنون، و إرادة مستقيمة و هوى راشد يمثلها الطبيب.
و عن هذه المواجهة المحتومة و هذا الصدام الأكـيد، تنشأ نتيـجـتان، أولاهــما، تجـلّي الإرادة المريضة بكـل وضوح مـن خلال المـقـاومـة للإرادة السـويّة، فتلك الإرادة المـريضة التي ظلت لا تفصح عن ذاتها و ظل من المتعذر إدراكها، تغادر تحصّنها و هي تبـدي تألّمـها فـي مواجـهة إرادة الطبيب،أمّا النـتيجة الـثانية وهـي متعلّقة شرطيًا بالنتيجة الأولى، وإذا دار الصراع و تمت المواجهة كـما يـنبـغي فتتمثل فـي انـتصار الإرادة السـوية بخـضوع الإرادة المريضة و تفكـكها و اختفائها.

إنّ ما يحدث إذن سـيرورة صـراع و معارضة و سيطرة، تقوم على استخدام طـريقة مشـوشـة تكسر التشنج بالتشنج، طـريقة تـعمد إلـى قهر سلوك بعض المرضى بكامله، تـهـزم إدعـاءاتهم، تـتقصّد اسـتثارة المـرضـى الآخـرين، تتوق باستمرار إلى الترويض. و مع هـذا الوضع الجديد، سيتلاشى المعنى العميق للحجز،عندما كان المجنون هو "الآخر"، مـعروضًا عـلى أنـظار الآخـر، تلك الـنظرة التي لـم تكن تـصل إليه في ذاته، لم تكن تلامس إلاّ مـظهره الـبادي للعيان، المـتوحش. و بالـتالـي يـصبح الآن الحـديث عـن المـرض العـقـلـي بالـدلالات المتعارف عليها حديثًا ممكنًا.
و إنّ ذلـك هـو ما مـكـن بينال مـن سلـطة أخـلاقية لا حـدود لـها، تتسلـل ضـمن آليات الـمارسـتان لتـسـتقيم جزءًا مـن عـمـل أخـلاقـي ضـخـم، وحـده يـنـجز شــفاء الأحـمـق – أي الغـريب الـذي لا تـدرك غـرابـته- إلاّ أنّـه كـان عـلى بينال أيضًا أن يعمل – و تلك مسؤوليته السـياسية- عـلـى فـك الارتـباط بـين الجـنون و ادعاء الجنون، و كان عليه أن يقوم بـفصل لا تـظهر من خلاله سوى وحـدة صارمة وحـدة تضم الجنون و حقيقته الموضوعية.
مـن أجـل ذلـك فـإنه قـد بـدا لـنا أن تـفترض أنّه وقع الاختيار على" بينال"- ذلك الذي كانت سـمعـته كـبيرة- ليـفـضح الجـنون،و لـيتخذ الإجـراء الـطبي الـمناسب،ويحرر الضحايا و يدين المشبوهين. فالحياة في المارستان كما حددّها "بينال" و"توك" مكنت من ظهور بنية، تـتجسد فـيها رمـزيًا البـنيات الـكبيرة المكثفة للمجتمع البرجوازي و قيمه: العلاقة بين العائـلة والأبناء،الجـريمة والعـقاب،الـنـظام الاجـتماعـي و الأخـلاقي. من الطـبيعي و الحال هذه، أن تكـون الشـخصية الطـبية، مـن أحـد أهـم الـموضـوعات الـتي سيـستثمرها فوكو مبرزًا للعيان الأساس الـذي يلعـبه الأطـباء المـمارسـون و أساليب مـعـرفة الكـائن البشري فـي تطوير بُنى الحجز و الهـيـمنة التـي تنشئـها حـداثتنا. فـبـواسطة هـذه "الشخـصية الطبية" يستحيل الجنون استلابًا، و يصبح المرض العقلي عندئذ مرضًا ممكنًا(11).
غير أن الذي يرقى إليه الشك: هـو كـيـف أنه لا يـوجـد فـي القـرن التـاسـع عـشر فـي الأسـلـوب الطبي ما يتيح للأطباء المـمارسيـن أن يفـسـروا نجـاحـاتهـم." إذا أردنـا أن نحـلـل الـبنـيات العــميـقـة للمـوضوعية، داخـل المـمارسة الطبعـقلية فـي القـرن التـاسع عـشر،(...) يجب بالضبط تبين أن هـذه الموضوعية، مـنذ البدء تصنيـف سحري الطابع(...) فـما نسـميـه المـمارسـة الطبـعقلية هـي تكتيك أخلاقي معاصر لنهاية القـرن الثامن عشر، و حـوفـظ عـليه فـي طـقـوس المارستانية، و المـحـجوب بأوهام الوضعية"(12).
و إنّـه فـي هــذا الـمـسـتـوى فــقـط يأتـي فـوكو إلـى مـساءلـة دلالـة، أن لا يـستـطيع الـوضعيون تحـلـيل نجاح عمـلياتـهم. "فـبقـدر مـا كانت الـوضعـية تفرض نفسها على الطب و الـطب العـقلـي خـاصة كـانت هـذه الممارسة تـزداد غموضًا و تزداد سلـطة الطب العـقلـي إعــجازا"(13).ذلـك أن" بـيـنال" و"تـوك" وضحا أن فـعـل الطــبيـب يـستـند إلـى وعـي عـال و أخلاق لا تشوبها شائبة و تجـربة طـويلة في المارستان .
إنّه فـي هـذا السـياق الدقـيـق، إنّما أتـى فـوكو إلـى القـول أن "فرويد" كـشف عن خدع كـل البنيات المـارسـتانية، و مـن ثـمة يلـزم إعادة الـنظر فـي قـيمة الدلالات التـي تنسب إلـى عـمل توك و بينال من إدعاء بتحرير المجانـين و القـضاء عـلـى الإكـراهات و إقـامـة وسـط إنساني،" و كـثـيرًا مـا ردد البعـض بـأن "بـينال" و الأطباء اللاحـقين له حـرروا المجـنون، و الحـق أنّهـم اسـتلبـوه"(14) فـالأمر هنا لا يتـعلـق سـوى بتـبريرات، فـإذا كـان الـحـارس أداة مـراقـبة فـي دور الحـجـز فـي القرن السابـع عشر فـإن الطبيب هـو المراقب الحديث ذلـك أن " خـرافـات(بـيـنال- تـوك) تـنـقـل قـيـمًا أسـطـوريـة سـيـنـقـلـها الـطـب الـعـقـلـي باعـتـبارهـا بـديهيات طبيعية" (15) كـل شيء مـنـظم فـي "دار الشـفاء" لكـي يتحـول الجـنون إلـى طـفولـة و المسـتلبين إلـى قاصرين و مـن حـالة القـصور تلـك يسـتمـد الـحـراس السيادة و مـن حـالـة الاستلاب تلك يستمد الطبيب مشروعيته و العلاج نجاعته.
إن مراد "فرويد" - كان- تـخـليـص الـمريـض مـن الـوجود المارستاني الـذي وضعه داخـلـه "المحـرران"، إلاّ أن" التـحـلـيل الـنـفسـي" ظـل قاصـرًا أمام الـعـقـل و ظـلت رمـوز و عـلامـات الجـنون ملـغـزة. ذلـك أنّـه محـجـوب بـوهم آخـر هو وهـم العلـمـوية إلـى حـدّ أن ذهـب فـوكـو إلـى التأكـيد عـلـى أنّ قـدرة المـحـلـل الـنفسي على فهم المرض العقلي لمريضه محدودة. "فالتحـليل الـنفسي" يـستـطيع أن يـفـك عــقـدة بعـض أشـكـال الجـنـون، لـكـنه يظـل غـريبًا عـن " عـمل الجنون الأعـظم"(16) و السـبـب فـي ذلـك غـياب لـغـة خاصة بالجــنون، فالجنون فـي ذاتـه هـو شيء أخرس- " إنّهم مجانين"- و مـن ثمة تصبح غنائية اللاعقل أمرًا مستحيلاً.
إلاّ أن مـا أحـال عليه " قريـب رامو" إنّما كان ظهورًا للجنون فـي ميدان اللغة جـديد، لـغة سـمح لـها بالـتحـدث ضمن كـلام عـبثـي. و ذلـك هـو أساس الغـيـرية الـذي يـخرج عـن طـرائـق العـقـل و العـلـم المعهود، و يـبدو أنّـه الـقاع العـميـق لإمـكانهما. و يـلـمح فوكو إلى "لمـعان" "أولـئك الـذيـن ضـلوا السـبيل": "هـولدرلين" و" ارتو" و "نـرفال" الـذيـن نجــوا بطريقـة ما من " هـذا السجن المعنوي الهائل".لـقد شعر فوكو إزاء الجنون"بشعور مـزدوج، فهـو يشـعر في نـفس الـوقـت بانجـذاب غـامض و بوضوح كبير، ويتجه تعاطفه التلقائى نحو احـتجـاج الـكتاب و الفـنانـين و الـشـعـراء، ضـدّ عـالـم يـريـد تـدجــين الجـنـون: إنّ الإنـسان المعاصر بجعله من الجنون مرضًُا ذهنيًا قد كفّ عن تحقيق التواصل معه"(17)
و لـكـن هـل بلغـنا بهـكذا فـحـص – الـسـؤال الـهاجـس- الـذي يؤرق فـوكـو: إذا كانت هـذه الغيرية- و قد كدنا أن نغفل عنها- بـداية معارضة جذرية للحداثة؟













المراجع:

(1) م. فوكو، تاريخ الجنون، الترجمة العربية، ص 374
(2) Mirabeau, Souvenirs d’un voyageur anglais, p 6
( أورده فوكو، ص 374)
(3) م. فوكو، تاريخ الجنون، الترجمة العربية، ص 477
(4) م. فوكو، تاريخ الجنون، الترجمة العربية ، ص 443
(5) المصدر نفسه ، ص 441
(6) م. فوكو، تاريخ الجنون، الترجمة العربية ، ص 508
(7) الكواكريون: عضو في" الجمعية الدينية للأصدقاء" و هي جمعية دينية نشأت في انجلترا القرن السابع عشر، تحت تأثير جورج فوكس و تتميز بنزعتها السلمية و حبها للإنسان و تمجيده.
(8) م.فوكو، حفريات المعرفة، ترجمة سالم يفوت، المركز الثقافي العربي،بيروت، ط2 ، 1987
(9) م. فوكو، تاريخ الجنون، الترجمة العربية، ص509
(10) المصدر نفسه، ص491
(11) M. Foucault, Histoire de la folie, p 523
(12) م. فوكو، تاريخ الجنون، الترجمة العربية، ص513
(13) المصدر نفسه، ص512
(14) م. فوكو، نظام الخطاب، ترجمة محمد سبيلا، ص88
( = جان لاكروا، دلالة الجنون في فكر فوكو)
(15) م. فوكو، تاريخ الجنون، الترجمة العربية ، ص488
(16) المصدر نفسه ، ص514
(17) م. فوكو، نظام الخطاب، ترجمة سبيلا، (= جان لاكروا: دلالة الجنون)، (= مرجع سبق ذكره)، ص88.



#عمر_بن_بو_جليدة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تدجين الجنون : بين رعب الوعي البرجوازي و لمعان أولائك الذين ...


المزيد.....




- رمى المقص من يده وركض خارجًا.. حلاق ينقذ طفلة صغيرة من الدهس ...
- مسيّرة للأمن الإيراني تقتل إرهابيين في ضواحي زاهدان
- الجيش الأمريكي يبدأ بناء رصيف بحري قبالة غزة لتوفير المساعدا ...
- إصابة شائعة.. كل ما تحتاج معرفته عن تمزق الرباط الصليبي
- إنفوغراف.. خارطة الجامعات الأميركية المناصرة لفلسطين
- مصر.. ساويرس يرد على مهاجمة سعد الدين الشاذلي وخلافه مع السا ...
- تصريحات لواء بالجيش المصري تثير اهتمام الإسرائيليين
- سيدني.. اتهامات للشرطة بازدواجية المعايير في تعاملها مع حادث ...
- ليبيا وإثيوبيا تبحثان استئناف تعاونهما بعد انقطاع استمر 20 ع ...
- بحضور كيم جونغ أون.. احتفالات بيوم الجيش في كوريا الشمالية ع ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عمر بن بو جليدة - تدجين الجنون : بين رعب الوعي البرجوازي و لمعان أولائك الذين ضلّوا السبيل