أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين علوان علي - مسرحية فان كوخ - الطريق إلى الشمس















المزيد.....


مسرحية فان كوخ - الطريق إلى الشمس


حسين علوان علي
(Hussain Alwan)


الحوار المتمدن-العدد: 3967 - 2013 / 1 / 9 - 10:03
المحور: الادب والفن
    


فان كوخ - الطريق إلى الشمس
(مأساة مسرحيّة)
تأليف حسين علوان علي
بغداد/ 1985- عمان/1995


الشخصــيات :
- الفنان: الرسام الهولندي فنسنت فان كوخ.
- أصوات: أصوات جمع من الأطفال.
- مارغوت: امرأة أحبّها الرسام.
[ مكان ما بين غرفة معيشة ومرسم، الرسام يضع لفافة على أذنه]
الفنان: رسائل رسائل؟!، أي نفع من كل تلك الرسائل؟!، ألف رسالة أرسلتها إليك حتى الساعة يا (ثيو)، يا أخي الصغير، حروفها

تطايرت طوال الطريق من هنا، من (آرل) حتى متجرك البهيج في (مونمارتر) بـ (باريس)، ألف رسالة ممهورة بأحرف أسمي (فنسنت فان كوخ)، ذلك التوقيع في أذيالها يبدو مثل زورق ملقى على شاطئ مهجور، أحرف تناثرت على سبعمائة لوحة عندك، هي الأخرى مهرت بالزورق المهجور … لكن أكوام اللون تلك كانت بلا جدوى، وكذا أكوام الرسائل، يا لهذا الهدر يا أخي البعيد!!، ليتك تستطيع القفز إليّ، لترى فوضى عذابي، لتلمّها، الحق بي الساعة، أحسّ بأنها الهاوية…، النار تكوي رأسي يا ثيو البعيد، وفي صدري يخفق هادرا قلبي المرتعد..، لكنّ عليّ أن أصمد، فلعلّ (مارغوت) تجيء، ينبغي لها أن تجيء، ولو لمرة أخيرة.
[إلى تفاصيـل المكــــان]
هل هذه هي الحصيلة؟! و هذه الصومعة، هل هي النهاية، كأن سنيّ السبع والثلاثين التأمت هنا، التأمت مع قصور الأوهام وخرائب القلب لتطالعني مرعوبة، حائرة من فوضاها، ومن أنها ما تزال مركونة في انتظار آن تجد معنى؟!
[إلى حــذاء فـوق كرسـي]
علّني أجدك ساخطا يا حذائي، يا قطعة الجلد البائسة، يا سندي، كأنك تقول الآن أنتعلني، ودعنا نمشي دون أن نعد الخطى، يا لخيبتك إذ أصبحت من نصيب ء الذي لا يكل من المشي، لقد جُبنا القفار، ألفنا الدروب، التراب والأعشاب والحصى، ألفت مني خطوي الراسخ الثقيل،الى أين أوصلنا الخطو ذاك؟! لو انتعلتك الآن لعرفت بأن وقع الخطى أضحى مختلفا، أنت في النهاية أرحم من أولئك الذين ساموني العذاب، أنت جدير بمتحف، لكنّ الخطى نفذت، وقاربت المنتهى.
[متـــألما]
يا لهذه الأصوات التي تطرق رأسي
[أصوات أطفال لاهية]
أصوات: أقطع لنا أذنك؟
اقطع لنا الثانية
فلتقطع الثانية
الفنان : أولئك الأطفال مرّة أخرى
أصوات: فلتقطع الثانية
فلتقطع الثانية
الفنان : (مذعورًا بين الزوايا)
أتراني أمتلك أسماعي، أم أنني فقدتها؟!
صوت : رسام مجنون يقطع الآذان
الفنان : هل تسمع الأصوات يا (ثيو)؟!
أصوات: نرميك بالحجر، أو تقطع الثانية
الفنان: ابتعدوا عني، اتركوني
[عالــــيا]
أغثـني يا (ثــــيو)
[تتلاشى الأصوات]
أدركني الساعة، ليتني ارسم لك أجنحة من ريح تحملك إليّ …. إنني أدرك نفسي، أحس بها، وأعرف بأنني بتّ أفقدها، أفقد نفسي يا (ثيو)، أفقدها.
[معـــــذبا]
ليته لن يخالجك أبدا، هذا الإحساس المميت، أن تعي بأنك تحيا الكثير مما منحت بلا جدوى، هذا الإحساس القاصم، حين تغدو الهنيهة أغلى ثمنا من العالم كله، ذلك البارق القاتم يا أخي الحبيب، يا نبعاً من اللون، يا من بقي يعضدني حين هجرني الجميع، تعال إليّ، وهدهدني، لقد قطعوا أذني بيدي.
[ذاهـــلا]
لست أدري كيف استطعت أن افعل ذلك؟‍‍ مساء الأمس تركت مارغوت تغني في الحانة، عدت إلى المنزل والأسى يملأ قلبي، نظرت في المرآة، رأيت فنسنت
فيها ينزل على أذنه با لموسى، لست أنا من فعلها‍‍‍‍‍‍!! بل هو فنسنت الذي في المرآة، أجل، القلوب الأسيانة لا تدعونا لآن نقطع الآذان، أوشكت أن أكتب لك ولم يطاوعني القلم!! كنت ارسم طوال الليل، وانزف، أدري بأنك ستلومني كثيرا، كأنني لا أفلح إ لا في أن أزيدك عذابا، أخذت أذني، ومضيت عائداً إلى الحانة، كانت (آرل) المدينة تغني عذاب ليلها، وأضواء الحانة تتلألأ من بعيد، فتغني لـ (آرل)،… مضيت والدمع يقف عند مآقيّ، ولفحة الموسى تلتهب في أذني، وكلما اقتربت من الحانة، كان صوت (مارغوت) يتناءى جذلاً لأسماعي، ويغني للنجوم، كانت وحدها على دكة الصالة، تغني، تتمايل طربا والزبائن يستمعون إليها خامدي القلوب، تتمايل مثل زهرة صفراء تميل إلى الشمس، أعطيتها الأذن، وعدت أدراجي إلى المنزل أتعقب خط الدماء … صدقني يا (ثيو) أنني أردت الكتابة لك عن ذلك، ولكنني ما استطعت، اية جدوى بعد ذلك من الرسائل، ينبغي أن ارسم لوحة أحكي بها القصة، لكن لا، لا مزيد من اللوحات، هذه الأصابع لم تعد تميز بين الموسى والفرشاة، كأن الفرش صارت أمواس تمزق اللوحات، وكأن الأمواس أمست فرشاً ترسم آذانا مقطوعة، لا، لا مزيد بعد الآن من اللوحات.
[ثـائــرا]
أنها تملأ متجرك منذ سبع سنوات دون أن يقدم أحدّ على شراء واحدة ولو بالمصادفة، أو انسياقا إلى نزوة عابرة، ولكنك توافقني يا أخي الحبيب لم أرسم كل تلك اللوحات من أجل أن تباع حسب، أنا احلم بأنك قد تنجح في بيع واحدة على الأقل، من بين سبعمائة تطفح باللون، فلعلني أعوضك عما أنفقته علي، من حقي أن أتطلع إلى الفوز برضاك، أنت أخي وراعيّ، تلميذي ومعلمي.
[رقـــيقا]
أنت تفعل ما تفعل عن طيب خاطر، ما شكوت يوما أو تذمرت، بل وقفت جنبي على الرغم من كلّ شيء، أنت خلاصة الجمال في منطق الأخوة، إنما يشقّ عليّ أن أراك تتعذب من أجلي، هكذا أجدني بلا جرآة لأكتب لك عمّا فعلت، بينما امتلكت كل الجرأة لأن أمرر الموسى على قطعة من جسدي، من أجل امرأة هي قطعة نابضة من قلبي، بل أجدني الآن بالغ الجرأة لأن أفعل الأقسى… هذه الآثام قطار يسحب بعضه.
[يائــــــسا]
لم أعد أقوى على مواصلة حياة كالتي مضت، طرقت كل الأبواب، جربت أن أحيا الحياة التي ينشدون، البيت، العائلة، العمل، لكنّ الأبواب ظلت على حالها موصدة ، لعلّ السر يكمن في وقع الطرق على الأبواب، لكنني ما نجحت أبدا في أن أصيخ السمع إلى صدى الطرقات، ولست أعرف حتى الساعة سراً لفتح
الأبواب غير تحطيمها، لم أعد أحفل بكل ذلك، لم أعد أحفل بالحياة، ولست أرغب الساعة إلا بإطلالة من مارغوت، إطلالة أخيرة حسب ، إطلالة الحب والعتاب، إطلالة الدم، والرضاب.
أصوات [أصوات الأطفال ثانية]
ارم لنا أذنك
ارم لنا الثانية
الفنان : كفاكم، ابتعدوا عنّي.
أصوات: نرميك بالحجر
أو تقطع أذنك.
الفنان: [متــوسلا]
لم يعد هناك من مزيد … دعوني للخلوة الأخيرة
[تتلاشى الأصــوات]
دعـوني، فإن هذا هو المفترق
[معـذّبا، لاهـــثا]
سبع سنوات مرّت، منذ أن عرفت دربي الطويل إلى الفرشاة، سبعٌ مرت منذ أن أدركت معنى الفن الجديد، هكذا بدا الرسم لي حياة يمكنني أن أتتنفس من أجلها حسب بعد أن وجدتني مركبا يغرق في بحر الحياة بلا رحمة!! كنت ألاقي الصدّ أينما وليت وجهي، الأهل أضعتهم أضاعوني، لم يبق لي منهم غيرك، أولئك الأهل الأحبة، الصداقة أمست حلما، الإيثار، العطاء، السخاء، معاني الصداقة تلك أمست سرابا، فما وجدت غيرك صديقا يا (ثيو)، صدقني بأنني واثق أنّ العالم يحفل بالأصدقاء، لكنهم ما صادفوني، وحين وجدت فنسنت في المرآة يزيل عن رأسه أذنه، رأيت كل الأكفّ التي ما صافحته يوما، تزيلها معه، أجل، بدا الرسم حبل نجاة، بارق ضوء لمن أوشك الظلام أن يلفه، تلقفت حبل النجاة، نهضت، فأخذت أرسم كل ما يقع تحت ناظري، ارسم العمال في المناجم، الفلاحين في الحقول، الحقول المنبسطة نحت الشمس، ارسم وحدة الأشجار، المراكب الغافية، ارسم العاصفة في عمقها، أجدني أصارعها في العراء، هي تزمجر، وأنا أعصف بالألوان على القماش، مضيت ارسم الجسور فوق الأنهار، ارسم ولا أتوقف، ذلك كان ربيع الرسم وتلك كانت أعياده، ارسم الحزن، القسوة، الغواني، غرفتي، حذائي، المنزل، الشاعر، المقهى، الانطلاق البهي، حتى الموت رسمته، هل تذكر ذلك الحصّاد الذي رسمته وهو يطيح بمنجله حزم السنابل؟‍! كنتُ مندهشا لعزمه وصلابته، ولاستسلام الحقل الوديع، ذلك الحصّاد هو الموت، وحبات القمح هي نحن، إنه يمضي تحت الشمس في القطاف أكان النهار مسالما أم لا، هكذا توصلت لأن ارسم الموت، خلت أني امتلكت الحل بعد أن اعترتني مجاهل تهت فيها، وقلت بأن الفن هو الحل، الأفق الحرّ الشاسع، المبادرة الشجاعة، الفن هو المعنى، وكان عليّ أن أجازف بحياتي من أجله، وأي خيار كان ذلك يا (ثيو)!! ها هنا ينبغي أن تخلع معطف نفسك، وتبقى عاريا تحت أسواط لاهبة، تلهث فوق جلدك، ها هنا ينبغي أن تعرف بأنك قد تكون الخاسر الأوحد، وكلما هبت عليّ رياح اليأس، كانت ابتسامتك الأليفة تذللها، إيمانك بالفن يذللها، فتملأ متجرك بلوحاتي على الرغم من أنك تقاسي المرّ لعدم تمكنك من بيع لوحات (مونيه) و (ديكا) و (بيسارو) التي تعرضها عندك، أولئك الفنانون العظام، رفاق الفن الجديد.
[شـديــد اليـأس]
لا فائدة يا ثيو، آية سخرية هي أنني ارسم لوحات لا تثير انتباه أحد؟! قد أكون رسام غد بعيد، لكن ذلك لا يعنيني البتّة، ما الفائدة في أنّ نظار الغد سيقفون مبهوتين أمام لوحاتي، وفوق جثتي؟! يا له من عزاء أخرق لفنان، هكذا ترى يا (ثيو) الصديق بأنني انتهيت وحيدا، ولا تدعني أسرّ إليك بحديث هذا القلب، ها هنا أجد الكلمات تلدغ لساني، حين التقيت (مارغوت) وهي تغني، أحسستني واقفا أمام زهرة من أزهار الشمس، (مارغوت) قدري، وأقدارنا هي ما تنبضه القلوب … ليتها تسمعني الآن …
صوت مارغوت: فنسنت
الفنان : من؟!
مارغوت: فنسنت
الفنان : [فـرحا، خائــفاً]
هوذا صوتها، مارغوت!!
[تدخل مارغوت، جميلة، مرعوبة، حزينة، تضع على كتفها شالا]
مارغوت: أجل، مارغوت
الفنان : جئتِ أخيراً.
مارغوت: أعلم بأنك كنت تنتظر
الفنان : أفلحتِ في أن تقرري المجيء
مارغوت: جئتك وحيدة، دون أذنك التي… أهديت، ولقد كانت تنزف أمامي طوال المساء.
الفنان : مساءً وحيداً استغرق سنيّ حياتي كلها.
مارغوت: كان على تلك الأعوام أن تعلمك النسيان
الفنان :الدماء لم تجف بعد
مارغوت: الدماء لن تجف أبداً
[تـتـفـقـــد المــكان]
كنت في حال يرثى لها، ولكن هأنذا معك، يدفعني إليك قدرٌ لا يرحم، ها نحن معاً، وجها لوجه، أشك بأن امرأة غيري تقرر لقياك بعدما فعلت، لكنّ (مارغوت) الآن في صومعتك، بين لوحاتك وألوانك….
[تتأمل اللوحات، وبمزيج من المرارة والآسف]
ما زلت ترسم؟!
الفنان: هي جولة … أخيرة
مارغوت: [تشـــيـر إلى لـــوحة]
ما هذا؟!
الفنان: حذائي
مارغوت: لكم هو بائس، كان عليك أن ترسم حذائي، إلا تراه جميلاً؟!
الفنان : أراه متكلفا
مارغوت: الحق معك، إنه يؤلم قدمي، يا لأولئك الصنّاع، يريدون للنساء قامة أطول.
الفنان: ليت لهنّ صنّاعا للقلوب.
مارغوت: كيف تراهما معا، لو وضعتهما جنبا إلى جنب؟!
الفنان : البؤس والجمال في لوحة واحدة.
مارغوت: هل تستطيع رسمهما معاً
الفنان : كلا، لا يمكن أن يلتقيا
مارغوت: ولِمَ؟!
الفنان: اسألي أذني التي أعطيتك، اسأليها، فهي تسمع.
مارغوت: لم تعد تسمع قطعة اللحم تلك
الفنان : هل تراني أتطلع لرؤياك حقاً؟!
مارغوت: لا خيار لك
الفنان : كأنني أهرب منكِ… إليك؟!
مارغوت:[حازمة] جئتك مختارة، وعليك أن تستمع إليّ.
الفنان : استمعت إليك طويلا، تغنين فيّ ألحان
مارغوت: ذاك محض مكان يا فنسنت
الفنان : كأنّ القلوب حانات عند الغواني!
مارغوت: الشفاه وحدها لا تغني، بل لصقها القلوب
[شامــــتا]
الفنان: لا قلب لك
مارغوت: لي قلب استطيع الغناء بمعزل عنه، ولك أن تسمع منه أغنية أخيرة.
الفنان: جئتِ تنكئين الجراح
مارغوت: كلا، لا مزيد من الجراح يا فنسنت، قد كان ما كان، عليك أن تنسى.
الفنان: لست أفلح في أن أنسى.
مارغوت: ينبغي ذلك.
الفنان : [بلا أمل] الخطو قارب المنتهى، وآن لي أن أغادر.
مارغوت: أنت لن تغادر، لا اليوم ولا غداً، أنت لن تغادر أبداً .
الفنان : يكفيك مني ما رأيت، ويكفيني منك ما لقيت.
مارغوت: تلك أقدارنا، وحسبنا أنها هكذا مضت… إن علينا أن نحيا.
الفنان: بآذان مقطوعة، بلا آذان.
مارغوت: بل بأغان ما دمنا نملك إلى ذلك سبيلاً، نغني دون أن نقطع الأجساد أوصالاً
[وقد أمسكت بزمام المبادرة]
كنت تجيء إلى الحانة كل يوم، وألوانك تصحبك، تنزوي إلى طاولة وتمضي في التطلع إلي ، ألفت منك ذلك، ألفت عيونك التي بدت بأنها تعرف أنّ للموسى حداً يلمع، كأنها كانت تجتاحني، تجردني مما أملك … وتعانقني، وحالما أبدأ الغناء، تغدو تلك العيون آذاناً، فأحسّها بمآقيها تستمع، كان يكفيني أن الأمر ما تجاوز ذلك الحدْ.
غير أني ما كنت أعرف بأن تلك العيون الرقيقة تعرف أيضا أن للموسى حداً يقطع! إنما أنا امرأة يمكن أن تودي بها قطرة دم ما أتعسك يا فنسنت ماذا فعلت بنفسك؟! وماذا فعلت بي؟!
الفنان : ليتني أستطيع أن أندم
مارغوت: لسنا نملك حق أن نؤذي النفس التي أعطينا، وما لأذى نلحقه بأنفسنا إلاّ أن يطال الآخرين.
[عـن قــناعة تامـة]
أردت أن تحطمني معك.
الفنان : إن كان التحطيم هو ما بادرناه، فإن لنا أن نحطم بعضنا، مثل مركبين يتصارعان وحيدين في بحار هائجة، يحطمان الصواري، يمزقان الأشرعة حتى تلفهما المياه، ويغوران في الأعماق.
مارغوت: إن لم يكن التحطيم، فما هو الذي بادرناه؟!
الفنان : ها أنت تسألين، ها هي الأذن الجريحة جعلتك تبادرين الأسئلة، بينما كان وجهك إبدا بارداً كالجليد، وقلبك جامدا كالصخر.
مارغوت: [مصرّة]
فما الذي بادرناه يا فنسنت
الفنان: [معـــذّبا]
الهوى يا مارغوت، بادرنا الهوى إياه وبادرنا، أوَ تعرفين ما الهوى؟! تلك الرياح التي تعصف بالقلوب، بلا أية وجهة، بلا بوصلة،ودون رجاء في الوصول يابسة.
مارغوت: [ساخــــرة]
اعرفه وهم الهوى ذاك
الفنان : لو كنت تدرين ما الهوى، ولو كانت رياحه قد استباحت روحك، لما وصلتك الأذن مدّماة ، لكنت امتلكت الأسماع كلها، لكنه الهوى، أغنية تغنيها في الحانة كل يوم دون أن تعرفي لها وقعاً.
مارغوت: أنا امرأة عابرة مجهولة، أنا معبر، لا مستقر
الفنان : وتظنين بأن لك قلبا
مارغوت: لي قلب أيها الواهم الضائع، من تكون حتى تنصب نفسك قاضيا للقلوب، أنت رسام مثل أولئك الذين يطرقون باب الحانة كل يوم، يأتون ويمضون وألوانهم تتبعهم، وكذا آذانهم، لم يتركها أحدهم تنزف هناك بين الكراسي، لي قلب أيها الجاهل، ولكنني لم امتلكه يوما، أنا أغني لكل القلوب ولا امتلك … جربت أن تهوى من يغني الهوى، ولقد كان وهما هواك ذاك، كان وهماً هواك.
الفنان: كان وهما هواي؟! يا لقسوة المغنين إذ يغنون الهوى ولا يدركون.
مارغوت: أن يقسو المغنون أجدى للهوى من أن يقسو المحبون.
الفنان: جئت تزيديني عذاباً.
مارغوت: جئت لكي امسح دماك
الفنان: كذب كل ذلك، عودي إلى الحانة يا مارغوت
مارغوت: [معاتبة] فنسنت
الفنان: إلى الحانة يا مارغوت، والى مزيد من الفخاخ
مارغوت : لن ألام لو كنت كذلك، ناصبة للفخاخ في غابة الرجال، أن أجعلهم يسقطون تباعا، مكللّين بالهزائم، معفرين بغرورهم، أنانيتهم، جموح نزواتهم، أولئك الذين يضنون النساء لقماً سائغة، فأذيقهم مرارة شهدي، سأكون عادلة معهم تماما.
الفنان : كذب، كذب
مارغوت: من يزيد الآخر عذابا، جئتك لنداوي الجراح، لا لكي تبضعها المباضع.


الفنان: لن تجد المباضع فيّ بعد كل ذلك عصبا لتحز الجراح، سبقتها الدنيا إلى ذلك، ومساء الأمس جعلت الموسى يهبني آخر الجراح، ترى، أي شيء كان ذلك الذي جثم في أعماقك؟ شفقة أم كراهية؟.
[لا جواب، ثم بقوة]
الشفقة أم الكراهية؟!
مارغوت: بل الخوف يا فنسنت، كنت أخافك، أخاف من هواك المزعوم، من اندفاعك، من شغفك الصاخب، أجل هو الخوف ذلك الذي كان يجثم في أعماقي.
الفنان : بل الكراهية
مارغوت: [عالــــيا]
هراء
الفنان: الكراهية
مارغوت: هراء هراء ،ألست ترى إلى أي مدى أوصنا حبك؟! بأي وحل بدأنا نتمرغ وبأية السن؟! ماذا كنت تظنني أيها الهائم التائه؟! لبوه مفترسة ترسل إليها قطعة لحم من جسدك!!
الفنان: [معـــــذبا]
مارغوت!!
مارغوت: هل ستتخلى عن جسدك،وترسله إلي نتفه إثر نتفه
الفنان : مارغوت
مارغوت: ما زال حبك هناك ،حيثما أودعتني، ما زال ينزف عند الطاولة.
الفنان : [متوســـلاً]
لقد أحببتك يا مارغوت
مارغوت: [بقسوة يدفعها إليها الخوف]
ما أنا ملزمة بذلك، وليس عليّ أن أحيا الرعب من أجل الحب، لو كان ذاك حبا وكان الحب يعني الدماء فإني…. أكرهك، بكلّ جوارحي أكرهك، بكل جوانحي المرعوبة أكرهك، أكره عينيك اللتين تبعثان فيّ الرعدة … لوحاتك وألوانك، رسومك التي لا تعني أي شيء.
الفنان : [صامــداً]
أحببتك حبّا يعصى على الوصف
مارغوت: [تتـــخاذل]
أكرهك
الفنان : أردت من حبك أن ينقذني
مارغوت: أكرهك
الفنان : على الرغم من علمي بأنه قاتلي
مارغوت: لو كان هذا حباً، ولو كان الحب يعني الدماء فإني أكرهك
الفنان : إنّ علي أن أمنح الدماء لو تطلبّت، ما دمت قد أحببت
مارغوت: [صاخبة، مستسلمة]
هل يكفيك أن أقول أحبك؟ خذها: احبك.... إذ أكرهك؟! هل يكفيك ذلك؟ ألست ترى بأنني أتمرغ في حبك بلا جدوى؟… أحببتك ولم اكن مرغمة، أحببتك باختياري، ودون رحمة لنفسي، خلت أني لن أعرف الحب أبدا، ما دامت الحانات قد تلقفتني، فذبحت قلبي عند أعتابها، خنقت قلبي من أجل أن أحيا، ها أنا قد اعترفت لك، رغم أني بذلك ألمس نهايتي، ولكن أيّ معنى سيكون لهذا الاعتراف بعدما فعلت، لقد أدميت نفسك يا فنسنت، وأدميت حبي، ولك ان تعرف بأنني أحببتك دون أي أمل، لا لنداء فتوتي، ولا لغناء قلبي، لا لماض أمقته، ولا لغد أجهله، وجدتني أحبك دون أن أدري، مثل حبّ أزهار الشمس للشمس.
[تعـــانــقه]
أوَ هل يكفيك اعترافي، لترضى أن نفترق؟!
الفنان: العمر البائس ما علمني الفراق، ولكني الساعة أتذوق علقمه.
مارغوت: لقد امتلكت الشجاعة لأن أغني لك الأغنية الأخيرة، وأضنني أجد الشجاعة الآن لكي أغادر.
[تـقـبــله]
عدني بأنك لن تؤدي نفسك ثانية
الفنان : بل سأنقذها
مارغوت: وداعا يا فنسنت
[تخرج بصمت وألم وقد تركت وشاحها]
الفنان : [مذهـــولاً]
يا له من شاطئ مقفر، لمراكب القبل!!
[ينتبه إلى الوشاح الذي تركته]
لقد نسيتِ الوشاح، ينبغي للمهزوم أن يجر خلفه شيئاً … سلاحه، وشاحه، أو قلبه.
[يخــرج مســدساً]
هذا المسدس فرشاة، نستطيع به أن نضع آخر ضربة لون على لوحة حياة…
[نحــو اللوحــات]
لك كلّ هذه اللوحات يا ثيو، وتملاّ بها جيداً، ستلقى عند كلّ زاوية فيها ألواناً قاست الحياة، لن تستطيع أن تعرف مبلغ حزني لفراقها، لقد خلقتها، وهبتها وجودها، وهي الآن لا تستطيع أن تهبني شيئا.
لقد أخفقت، لكن طلقة من هذا المسدس لن تخفق، سوف تدوّي هنا للحظة، دون أن يسمعها أحد، لكنها ستبقى تدوي طويلا في الأرجاء، لكم تخيلتها وهي تخترق، وتباعد بين ما كان ملتّما، تبعدني عنك يا ثيو، عن قلبي المخذول أبداً، عن مارغوت، إن كان عليّ أن أفارق الأحبة، فإن أولئك سأفقدهم يوما ما، سواء شئت أم أبيت، لكنّ الوان الشمس تلك التي رسمتها بخلاياي، أبدا لن أفقدها، مهما كان منطق الإطلاق، إن عليها أن تحكي هذه الحكاية الباعثة على الأسى، ليس ذنبي أنّ الحياة تمتلك كلّ هذا المجهول الباعث على اللوعة، هذا الجمال العصي على الإدراك،العصيّ على الاحتمال!!
[يضـع المسـدس عـلى رأسـه]
وداع لك يا ثيو، ووداعٌ أودعه عندك لمن يعزّ عليه اللقاء … أجل، أستطيع أن افعلها الآن، فيستبيح صدغي دفق اللّهب، قد يلبس الترّوي لبسا الخوف، فيغدو جبناً، أو يرتدي لباس الشجاعة، ليكون طيشاً،… وقد تتعرى العجالة من كل الأثواب…، إذن، تحت لواء أي كلمة ستدوي هذه الإطلاقة؟!
إليّ يا دفق الحياة الراعش، أغثني يا لون الحياة، وهبني الشجاعة كي أرسمك الآن.
[يطـلـق النار]
(النهـــاية)



#حسين_علوان_علي (هاشتاغ)       Hussain_Alwan#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السومري الدائن في زاهي الكتابة.
- حين تقع في غرام مدينة


المزيد.....




- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين علوان علي - مسرحية فان كوخ - الطريق إلى الشمس