أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - حمزة رستناوي - التيار الفلسفي في وحدة الوجود















المزيد.....



التيار الفلسفي في وحدة الوجود


حمزة رستناوي

الحوار المتمدن-العدد: 1137 - 2005 / 3 / 14 - 10:27
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


التيار الفلسفي في وحدة الوجود
"قراءة في إشكالية وحدة الوجود في الفكر العربي الاسلامي"
د. حمزة رستناوي

ما هي الأسباب التي دفعت الراشد إلى دراسة " وحدة الوجود " في التراث العربي الإسلامي ؟!
يجيبنا الراشد " لقد شكلت وحدة الوجود تياراً واضحاً في تاريخ الفكر العربي الإسلامي عبر كل المراحل و الأحقاب , و لكنها حينما غدت بمثابة محور واحد لقطاع كبير أوغل فيها إيغالاً مفرطاً , عدّت واحدة من أهم عوامل انهيار الحضارة العربية و سقوطها "
فمهمة الحضارة " تتمحور على نقطتين جوهريتين قوامهما : تفسير العالم أولاً , و اكتشافه و تغيره في منحى التطور الصاعد ثانياً , و لقد اقتصر التيار الأحادي – أي و حدة الوجود – على النقطة الأولى وحدها , أعني تفسير العالم و تأويله فقط , و انطلاقاً من إيغال التيار الأحادي في تفسير الوجود و تأويله إلى حد الإفراط فقد شكل عامل كبح لمسيرة الحضارة "
فدراسة الراشد لإشكالية وحدة الوجود هي دراسة لجزئية ساهمت في الانهيار و السقوط الكلي للحضارة العربة .

و الكتاب الذي بين أيدينا " إشكالية وحدة الوجود في الفكر العربي الإسلامي " يهتم باستعراض تيار وحدة الوجود في الخط الفلسفي و الفكري المحض .
و سيخصص الراشد ثلاث كتب تالية لدراسة تيار وحدة الوجود في التصوف الإسلامي هي على التوالي " نظرية الحب و الاتحاد في التصوف الإسلامي – وحدة الوجود من الغزالي إلى ابن عربي ، و أخيراً مسارات وحدة الوجود ؛ الذي يرصد تطور هذه النظرية من القرن الثامن الهجري و حتى العصر الحديث " .
إن وحدة الحقيقة الوجودية تعني أن الجزء لا يمثل الكل , و بعبارة أدق أن الجزء يرمز إلى الكل و لا يمثله , باعتبار الأجزاء تحقق وجودها عبر تجليات المطلق و صدوراتة و فيوضاته و تعيناته , إذن فالجوهر الإلهي الأول المطلق يبقى واحداً في ذاته , و هذا يعني تعالي الذات على الأسماء و الصفات حسب التصوف ، أو تعالي الذات الإلهية على فيوضاتها حسب الفلسفة . فالخط العام – فلسفياً و صوفياً – في مراحله الأولى فهم وحدة الوجود على أساس سريان الحقيقة الإلهية في الإنسان و الكائنات . فالعدد واحد يبدع الكثرة من جراء سريانه في الكثرة من غير أن يتكاثر ، أو يتبعض في ذاته ، فالعدد واحد يرمز إلى الله , و العلاقة بين الخالق و المخلوقات كالعلاقة بين الواحد و الأعداد المنبثقة عنه , و الذات الإلهية مستقلة استقلالاً مطلقاً كاستقلال الواحد عن الأعداد اللاحقة .....كما يقرر ابن السيد البطليموسي و غيره .
و هكذا انطلقت النظرية الواحدية ، و أقامت بنيانها على أساس الموازنة بين الكون الأكبر , و الكون الأصغر على لغة ابن عربي , و هذا الفهم يعود إلى جذور تاريخية بعيدة المدى نجد ملامحها في الأساطير العربية القديمة في سوريا و مصر و ما بين النهرين .
فالفكر الأحادي في التراث العربي الإسلامي يبقى تياراً واحداً , و إن اتخذ صيغاً و مناحي متعددة . و لأن التيار الفلسفي كان أكثر نقاءً و وضوحاً , و كان بإمكان التيار الواحدي من خلاله أن يؤدي دوره الحضاري ، لو انطلق من النتائج التي توصل إليها ابن رشد فيما بعد .
في حين نجد التيار الصوفي لم يستطع تحقيق التصور الممكن في قامته النهائية ، للمساهمة في بناء الإنسان و الحضارة , و إنما سار في الطريق المظلم حتى غدت النظرية لدى ابن عربي أحياناً و لدى معظم تلاميذه . ضرباً من الوثنية و الغموض و الإبهام و اللامعقول ، فماتت إرادة الوجود

-1-
موتاً نهائياً على يد المتصوفة اللاحقين و بذلك مات الإنسان العربي .
إن نظرية وحدة الوجود ليست وليدة الفكر العربي الإسلامي بمقدار ما هي إسهام إنساني مشترك قام كل من اسبيتوزا في الغرب و ابن عربي في الشرق الإسلامي بصياغة مجملة له .
فالعلاقة بين الله و العالم في الذهنية الهندية ليست علاقة خلق و إبداع من عدم , و إنما هي علاقة فيض و صدور و تجلٍ " إنّي أنا هذا الخلق نفسه لأني أخرجه من نفسي ، من هنا نشأ الخلق "
و فكرة الله لم تتبلور بعد و عملية الخلق تأخذ منحى عاماً اعتباراً من حكماء أسفار البوبانشاد و انتهاءً بطاغور ، و حتى غاندي القائل أن الله كامنً في الصخرة " كل صخرة على الإطلاق " فالفكر الهندوسي يراوح بين إسقاط الألوهية على العالم حيناً، و بين تعالي الأولوهية على العالم حيناً آخر .
أما في الصين فإن انسجام العقل الصيني بالروح العلمية و تركيزه على التفاعل مع الحياة المعاشة تفاعلاً واقعياً . أدى بالضرورة إلى افتقار الأفكار و العقائد الصينية إلى ما وراء الطبيعة ، و لعل كتاب " التغيرات " الذي جمعه " ون انج " في سجنه يعد إحدى الوثائق الفلسفية القليلة التي عنيت بما وراء الطبيعة في الصين ، حيث تقوم البنية الجوهرية لكتاب التغيرات على أن الظواهر الكونية هي ثمانية فقط ، يمثل كل منها متوالية ثلاثية الخطوط , بحيث ترمز المتوالية إلى كونية ايجابية بظاهرة أخرى سلبية ، و أطلق كتاب التغيرات على الظاهرة السلبية أسم " الين " أي القمري بينما أطلق على الظاهرة الإيجابية " اليانج " أي الشمس ،
و ننتقل الآن إلى وحدة الوجود عند الإغريق . فالأورفية مثلاً كانت تعتقد بوحدة الوجود . فزيوس الإله الواحد . إله في كل شيء و هو في كل مكان , و لذا آمنت الأورفية بأن الهدف الجوهري للإنسان يتمركز على محور الحقيقة الروحية ، و لا يستهدف التلاشي البسيط في قمة اللانهاية الإلهية . و هنا لابد أن نعرج قليلاً على أفلاطون قبل التحول إلى نقطة أخرى . فأفلاطون مثلاً يعرّف " الكينونة بالقوة , أي الكينونة تفترض القوة , و تكون خاضعة لها بالضرورة "... إنها فاعل العقل و مفعوله , و لذا كان طبيعياً أن يكون نصيب فكرة العدم , الرفض المطلق , و هذا ما نتحسبه من محاورة " مشكلة الخطأ و مسألة اللاوجود " , ففي الحوار الدائر بين تيئيتس و الغريب , نجد هذا الغريب يطرح مقولات غاية في الخطورة " إن كل من يحاول التعبير عن الوجود ، لا يتكلم البته " . و هل يمكن أن يضاف موجود ما من الموجودات إلى غير الموجود
و لعل هذا الطرح رافق الفكر الغربي على طول امتداده .... و سنرى – عبر تجوالنا – هذه الملامح و الخطوط العامة لوحدة الوجود في الفكر الغربي ، أسواء في إغريق الأمس البعيد أم في الغرب القريب . فالله عند أرسطو هو المحرك الذي لا يتحرك ، أي الذي حرك العالم ثم تركه و شأنه . و ما كان هذا سوى بداية الطريق حيث أن فكرة إقصاء وجود الله حققت نمواً كبيراً مع التغيرات الاقتصادية ونمو البرجوازية في أوربا في العصر الحديث . و بداية عصر التنوير الذي أقام صرحه على العقلانية المحضة ، حيث ولدت نظرية الدين الطبيعي مقرة بوجود الله مع رفضها للوحي الإلهي . فالله لم يعد واجب الوجود كما كان الأمر في العصر الوسيط و ما قبله ، بل غدا مجرد فرضية احتمالية تقتضيها الحياة ، و بنية التركيب العقلي و النفسي للإنسان ، لذا قال فولتر " إذا كان الله غير موجود فلابد من اختراعه " و تابعه على ذلك فيودور دستويفسكي و غيره كثيرون ......., إلا أن معظم رواد عصر التنوير لم يجدوا ضرورة لمثل هذه الفرضية فقالوا بأزليّة العالم..... و هذا يعني دمج الله بالعالم ضرورة ً.
و لنقف في ختام هذه الجولة عنه باروخ اسبينوزا " رائد وحدة الوجود في الفكر الغربي " حيث ينطلق اسبينوزا من ثلاث اصطلاحات محورية هي :
جوهر : و يعني به الحقيقة الأساسية الثابتة , و بناء قوانين العالم .
صفه : وهي أحد مظاهر الجوهر أو الحقيقة غير المتناهية كالاتساع و الفكر .
عرض : و هو شيء معين أو شكل حادث .

-2-
و اسبينوزا يعني بالجوهر بالنظام الأبدي أو سنة الله . فهو إذ يقسّم العالم إلى جوهر أي إله ، و عرض أية مادة ، و حادث هو العالم المادي المحسوس , بيد أن الجوهر أي الله هو حقيقة تتسامى على المادة .
إذاً ليس العالم هو الله , و لا الله هو العالم , و إنما بعبارة أكثر دقة , إن العالم كامن في الله , فالله هو كل شيء , فاسبينوزا يرفض إذن أي تشخص للإله . و يجيب رجلاً أعترض على تصوره اللاشخصي و الغامض لله قائلاً : عندما تقول إنني أنكر بأن يكون لله بصر و سمع و إرادة و ما إلى ذلك فإنك لا تعرف أي نوع من الله إلهي , و أظن أنك تعتقد بأن الإله أعظم كمالاً من الله الذي يتصف بالصفات السابقة ، و هذا لا يدعو إلى إثارة الدهشة في نفسي ، لأنني أعتقد أن المثلث لو أستطاع أن يتكلم لقال بنفسه على أن الله مثلي في أضلاعه , و لقالت الدائرة إن طبيعة الله دائرية في سموها ، و هكذا يخلع كل شيء صفاته الخاصة على الله " .
فيستحيل و جود شيء أو تصوره بدون الله , فمن المؤكد أن كل موجودات الطبيعة تحتوي على فكرة الله , و تعبر عنها حسب درجتها في الماهية و الكمال . و مع اسبينوزا هذا ينتهي كل صراع بين الدين و الفلسفة . ذلكم هو إله اسبينوزا , إنه كل الوجود .... يؤطره ....و يحتويه , و بشكل يستحيل أن يوجد شيء خارج نطاقه ، فهو إله متسامي لا شخصاني
و للوقوف عند نظرية وحدة الوجود خارج إطار الفكر العربي الإسلامي يبقى أمامنا محطتين هما الرواقية و الأفلاطونية الحديثة ,
فالكون بالنسبة للرواقية قديم أزلي بيد أن نظامه حادث , و هو كون واحد , و يقول الرواقيون بوجود مبدأين للكون ، أولهما مبدأ فاعل ، و الآخر منفعل , و ما المادة إلا هذا المبدأ المنفعل باعتبارها جوهراً خالياً من كل الصفات , أما المبدأ الفاعل أي الإلهي فهو ذلك العقل الكائن في المادة ذاتها و الذي يمنح الأشياء و الكائنات صورها .
أما الأفلاطونية الحديثة فقد صيغت بشكل نهائي على يد أفلوطين ، و أستاذه نومينوس ابن مدينة أفاميا و تلميذه فورفيزيوس الذي جمع رسائله الأربع و الخمسين و نشرها باسم " التاسوعات ".
تبدأ ميتافيزياء أفلوطين بثالوث مقدس : الواحد , فالعقل , فالنفس , و هذا الثالوث ليس متساوياً , بل يتسامى الأول على الثاني ، و الثاني على الثالث بالتدريج ، فالواحد ... أي الله يتصف بالجود و الكمال , و لابد أن يفيض عنه كائن أدنى منه وفقاً للقانون العام الذي ينص أن كل كائن يصل حد الكمال لا بد له أن يلد كائاً آخر . مشابهاً له , و لكنه أدنى منه كمالاً , و لذا يصدر عن الله أول ما يصدر العقل الكلي أو الروح المطلقة ، ثم إن العقل يفيض بدوره فتولد النفس الكلية التي تنتشر محققة كافة الأشكال الكامنة في العقل الكلي , ثم تفيض النفس الكلية بدورها بالنفوس الجزئية ، و هكذا يعني أن كل الأشياء صادرة عن الموجود الأول .... الله , فهي إذن مترابطة و متطابقة ترابطاً و تطابقاً كاملاً , لذا , كان هذا العالم هو حيز العوالم الممكنة ، و أنه خير في كلّيته , و ما الشر إلا ضرب من العدم .
أما بالنسبة لديانات الشرق القديمة فنحن حيال وحدة وجود حيوية ذات طابع أسطوري . فالساميون عامة كانوا يدينون بعبادة الطبيعة التي اتخذت لديهم رمزاً للألوهية . و دائماً ما تتمظهر هذة الديانات في عبادة قوتي التوليد و النمو المنبثقة بالضرورة عن طبيعة المجتمع الزراعي
فأيل " أي الله " يمثل في التصور الفينيقي الكنعاني الأسطوري جماع الآلهة المتعددة . أي جميع ظواهر الكون ، و إذا ما وضعنا تصور الأسماء الحسنى في هذا السياق ، فإنه يتضح لنا أن هذه الأخيرة هي الجمع من الواحد . فالعلاقة بين الوحدة و الكثرة هي علاقة جدلية من طراز أسطوري عميق الدلالة ، ولنقف عند هذا النص من الملحمة البابلية " أنيوما إيليش " التي تتحدث عن بداية الكون و الإله مردوخ .
" ثم جلسو ليعلنوا أسماءه
و كلهم يتذكر أسماءه في المكان المقدس

-3-
تعالوا نعلن للملأ أسماءه الخمسين "

فالخمسين تنطوي على الواحد و تشير إليه , كما ينطوي الواحد على الخمسين و تشير إليها .
أما في وادي النيل فلا يكاد المصري القديم يفرق بين الآلهة و الأشياء و البشر إلا في حدود الشكل , حتى أنه ليعد الناس و الآلهة و العناصر الكونية شيئاً واحداً من حيث الجوهر . أي أنهم لم يكونوا ليؤمنوا بإله واحد متعالٍ على العالم ، و إنما كانوا يؤمنون بوحدة وجود , وحدة الكون , وحدة الله و العالم و الإنسان . لأنهم اعتقدوا بأن كل الكائنات من نجوم و أقمار و أنهار و آلهة و بشر ، ذات جوهر واحد كقوس قزح تطغى فيه الألوان على غيرها وفقاً لتغير الظروف " فملك مصر هو نفسه أحد الآلهة و ممثل البلاد بين الآلهة ، و هو فضلاً عن ذلك الوسيط الرسمي الوحيد بين الشعب و الآلهة , والكاهن المعترف به الأوحد للآلهة كلها ..... و أنى للملك أن يكون إله إذا لم يكن الإله الملك حالّـاً فيه , فيصبح الاثنان واحداً " و هذا ضرب من الحلول كما قد يخيل لفريق من الناس , ولكن الحلول نفسه مرفوض في الذهنيه الأسطورية المصرية .
لقد قمت حتى الآن بعرض مختصر لنظرية وحدة الوجود في المرحلة ما قبل الإسلامية .
على الامتداد العالمي ، و عنوان كتابنا هو " إشكالية وحدة الوجود في الفكر العربي الإسلامي " و هناك عنوان فرعي " الله و الإنسان والعالم في الحضارات الإنسانية دراسة تحليلية و رؤيويه " و كل ما سبق يدخل في إطار العنوان الفرعي و الآن لنصل إلى لب الإشكالية .
هناك حدث جديد هو القرآن باعتباره نصاً تأسيسياً ، و نصوص ثانوية متمثلة بالحديث و الفقه و علم الكلام و التصوف....... إلخ
و بالتالي كان الشاغل الأكبر عند رواد وحدة الوجود المسلمون هو رغبتهم في الحفاظ على توازن مع الوسط الديني المهيمن آنذاك . فقد قام الفلاسفة المسلمين – مثلهم مثل المتصوفة - بتأويل الآيات القرآنية حول خلق العالم بروح نظرية الفيض ، حيث تصدر الأشياء في العالم من الله ، و يعد أبو نصر محمد الفاربي " ت... 329 هـ " أول من أدخل نظرية الصدور في الفلسفة العربية الإسلامية ، ثم تناولها عنه عدد كبير من الفلاسفة في مقدمتهم أبو علي ابن سينا .
فالتفلسف وفق الفارابي هو الطريق الوحيد للعروج نحو الله . و هو العلم الوحيد القادر على وضع صورة شاملة للوجود الإنساني ، هذه النزعة المنطقية لدى الفارابي ساهمت في تبنيه فكرتي الممكن الوجود ، و الواجب الوجود ، بدلاً من فكرتي الحادث و القديم ، حيث كان الوسط الذي يعيش فيه يقول بنظرية الخلق من عدم ، و ذلك هو الفهم النصّي " السنّي " لنظرية الخلق في القرآن الكريم , و من أجل هذا كان هم الفارابي و غيره من فلاسفة الإسلام محاولة التوفيق بين الإله كما جاءت به الفلسفة ، و بين الإله كما جاء به القرآن . و إن لم يوفق في محاولته .
لتتساءل الآن ما الذي أضافه الفارابي إلى نظرية الفيض و الصدور على الأفلاطونية الحديثة ؟!
1 – عملية الصدور ليست إرادية بل هي تلقائية " فكرة مشتركة "
2 – إقامة بناء تراتبي في الصدور ، فالمراتب الثلاث الأولى " السبب الأول – الأسباب الثواني – العقل الفعال " ليست في جسوم ، و الأصناف الثلاث الأخيرة " النفس – الصورة – المادة " كائنة في أجسام ، و الأجسام لديه ستة أجناس أيضاً ، و هي السماء و الإنسان و الحيوان و النبات و المعادن و العناصر الأربعة ، و من هذه الأجسام يتألف الكون الكبير ، و لا يخفى أن النظام الفارابي وفق هذه الصورة هو نظام لا يمسّ الهيكل الفقري لنظرية الفيض الأفلاطونيه ، بل هو نظام معدّل على مستوى الفروع و التسميات فقط .
3 – تمسك الفارابي بالأرقام ، ففي كتابه " مبادئ الموجودات أو السياسات المدنية " يضع ستة أصناف ؟! ..... بينما الرقم أربعة رائده في " رسالة في إثبات المفارقة " ، و سنجد الرقم عشرة يسيطر على كتاب " أراء أهل المدينة الفاضلة ، و المدينة الجاهلية ، و المدينة الفاسقة ، و المدينة المبدلة ، و المدينة الضالة " و الجواب لدى الفارابي نفسه " كما يقول الراشد ........؟ "
4 – الموجودات الفائضة رغم كثرتها تشكل كلاً واحداً مع الموجود الأول العادل " فكرة
-4-
مشتركة ".
يطرح طيب تيزيني نظرية الفيض الفارابيه ، و يقول أنه بموقفه هذا حقق تجاوزاً لأسطو و أفلوطين معاً لأنه " لم يتبين فكرة الفيض الأفلاطونية بشكل غير تقدي ، بل إنه فعل العكس من ذلك ، فقد اكتسب على يده تطوراً ملحوظاً " ذلك " أن الفارابي قد أكسب فكرة الفيض من خلال ماديته الاجتماعية مضموناً جديداً : وحدة وجود ماديه . و هذا يشكل قدسية بارزة في فهم تراث الفارابي الفلسفي "
إن الأدلة التي بين يدينا على وحدة وجود مادية ضئيلة ، فالفارابي يلح دائماً على خسة المادة ، فالأصناف العليا في نظريته الفيضيه ليست أجسام . و هناك إعلاء للعقل و الروح ، و أشاطر الراشد في قوله أن وحدة الوجود الفارابية ليست مادية في النهاية .
يبقى أن نقول أن الفارابي هو أول من قال بوحدة الوجود في الفكر العربي الإسلامي ضمن نظرية متكاملة ، على خلاف الكندي الذي قدم إرهاصات مبدئية لنظرية الفيض ، إذ قال بتأثير الفلك الأعلى في الفلك الأدنى ، رغم أنه لم يقل بالصدور و اعتمد الخلق من عدم ، فالكندي يعتبر الجسد هو السجن الحقيقي للنفس الإنسانية ، و أنها إذا ما تحررت منه تغدو قريبة الشبه بالله ، و ذلك في رسالته" القول في النفس " ، و بذلك يشاطر أبو يعقوب الكندي التيار الصوفي لوحدة الوجود في الفكر العربي الإسلامي .
إن الفارابي حسب حسين مروه " وضع نظرية الفيض الأفلاطونية في سياق التطور التاريخي للفلسفة العربية – من حيث هي علم و إيديولوجيا " و قاده تعريف الفارابي للفلسفة بأنها العلم بالموجودات بما هي موجودة , إلى القول بوحدة الحقيقة الفلسفية ، فالفارابي انطلق من وحدة العقل و وحدة الفلسفة معاً .
و ننتقل الآن إلى أبي علي الحسين بن سينا المتوفي 1037 هـ حيث يؤكد في نظريته على عدم صدور المادة من الله مباشره , لأن صدورها عن الله يعني اختلاف الجهات في ذاته العلية , و هو يرى أن مهمة النفس العروج باستمرار إلى ذلك المكان الرفيع ، و هذا لا يتحقق إلا للعارفين
هبطت إليك من المكان الأرفع ورقاء ذات تعزز و تمنع

و العارفون يمتازون على من عداهم بأن أرواحهم انطلقت من القيود, و هذا سر ينبغي آلا يذاع للعامة , و الفيلسوف إنما يفضي به إلى خاصة مريديه ، كما يقرر في " مقامات العارفين " .
إن ابن سينا يرفض مقولة الاتحاد بالله رفضاً مطلقاَ , غير أنه يجعل من الحب و المعرفة وسيلة
وحيدة للوصول إلى الله , و يعدّه الخلاص الوحيد للنفس , " فابن سينا خلط بين الوحدة الوجودية و الوحدة العددية , و لعل هذا الخلط أن يكون هو القلب الذي لا مفر منه ، و الذي يجعله التفكير الفلسفي يحدث لحقيقة التجربة الصوفية بمعارضتها " على حد قول هنري كوربان .
يطرح ابن سينا مقولة " العقل القدسي " أو الإشراق , و هو العقل الذي يتمتع به الفلاسفة و العارفون , و هؤلاء يتلقون المعارف عن العقل الفعال مباشرةً , دون ما حاجة إلى وسيط ، أي عن فلك الأقمار , أو العقل العاشر حسب نظرية صدور الموجودات و الفيض ، فنظرية العقل القدسي ، أو الحدس قد غدت منطلقاً للفلسفة الإشراقية في ما بعد على يد السهروردي , و مهما يكن من أمر فإن نظرةً فاحصةً على نظرية الخلق الإلهي عن ابن سينا و ترتيب الموجودات لديه و بخاصةً رسائله في التصوف , تجعلنا نقرر بأنه كان يقول بضرب من الوحدة المطلقة , فهو يميز في كتابه " النجاة " بين ثلاثة أنواع من الموجودات :
1- الممكن بذاته : و يشمل على جميع الأشياء التي في طبعها أن توجد أو لا توجد .
2- الممكن بذاته الواجب بغيره : و يشمل كل ما تراه من أشياء و حركات .
3- الواجب بذاته : و هو الله
فالخلق من عدم غير وارد في التصور السينوي لمفهوم الخلق كسلفه الفارابي , و هذا يقودنا إلى

-5-
نظرية الفيض أو الصدور التي انطلق منها ابن سينا , و التي دفعته إلى إسقاط العقلانية و الحس و
التخيل على الأجرام السماوية كما فعل من قبله مفكرو ما بين النهرين و بخاصة خريجو مدرسة حرّان , و هكذا فإن فكر ابن سينا ساهم إلى حد ما في تكوين التصوف الإسلامي بما احتوى من تأثيرات غنوصية .
و ننتقل الآن إلى الضفة المغاربية للفلسفة العربية الإسلامية . حيث يقف محمد الراشد عند خمس محطات هي " ابن مسرة – ابن السيد البطليموسي – ابن باجة – ابن الطفيل – ابن رشد "
فابن مسرة و ابن السيد البطليموسي لا يخرجان عن الخطوط العريضة التي رسمها الفارابي و ابن سينا من فبل , إلا أن ابن السيد البطليموسي ينطلق في البرهنة على نظريته في الصدور من براهين رياضية محضه على خلاف ابن سينا " فإذا كان الرقم اثنين منبثقاً عن الواحد , فهو صدور عنه , أو تجل له إن صح التعبير , و لكن تبقى ذات الواحد متفردة تفرداً أبدياً عن ذوات الأعداد اللاحقة لها و الصادرة عنها , و الأمر نفسه بالنسبة للذات الإلهية و الكائنات الصادرة عنها , مع الفرق الكبير و للانهائي بين الله و العدد "
أما ابن باجة فإنه يرى أن المعرفة لا تتم بطريق ذوقي على نسق الخط الصوفي , و إنما تتم عن طريق التأمل الفلسفي , و يضع ابن باجة كتابه " تدبير المتوحد " على نسق مدينة الفارابي الفاضلة , و لكنه في الجوهر أبعد ما يكون عن الفارابي و مدينته , فهو يعالج فيه إشكالية الإنسان الفاضل في مجتمع غير فاضل , و يحدد الطريق التي توصل الإنسان إلى مرتبة الألوهية , و إن تطلع ابن باجة إلى الوصول نحو المرتبة الإلهية كان بمثابة البذرة الأولى لتحقيق نظرية الإنسان الكامل على نسق الأنبياء النيتشويون كما أطلق عليهم في الغرب .
أما ابن الطفيل فيركز على اتفاق العقل و الوحي , فحي بن يقظان ذلك الرجل المعزول في جزيرته استطاع بالاعتماد على عقله الطبيعي الكشف عما توصل إليه أبسال عن طريق نزوعه الصوفي المبني على الشريعة و الوحي , فتمكن بكفاحه المستمر من الوصول إلى الحقيقة عبر إشراقات العقل الفعال , و أهمية ابن طفيل تكمن في تجاوزه لفكرة الواسطة حينما عدّ العقل التأملي هو المنطلق لتحقيق الفرد لشرطه الإنساني ، من خلال الوصول إلى الله عبر منطق عقلي محض , و هذا هو الجديد الذي قدمه ابن طفيل في قصته " حي بن يقظان " فالقرابة واضحة بين قصة حي عند ابن سينا , و نظيرتها عند ابن طفيل , و قد المح ابن طفيل نفسه إلى ذلك غير أن حياً عند ابن طفيل أقرب إلى الإنسان الطبيعي منه عند ابن سينا , فصورة حي عند ابن سينا تمثل العقل الفعال , أما قصة ابن الطفيل فتشبه أن تكون تمثيلاً للعقل الإنساني الطبيعي الذي يسري عليه نور العالم العلوي , و هو يماثل نفس النبي محمد عليه السلام إذا عرف حق المعرفة ...." " فابن الطفيل توصل من خلال آرائه حول العالم الإلهي الواحد إلى إزالة الهوه بين الإنسان و الإله , فالإله في الإنسان ، و الإنسان في الإله , و كلاهما تجسيد للعالم الإلهي الواحد " .
و أما خامسهم ابن رشد فهو رائد القائلين بوحدة الوجود العقلية , و هذا ما يحدث لأول مرة في تاريخ الفكر العربي الإسلامي , فالاتصال عند ابن رشد لا يتم بالنسك كما يقول ابن طفيل و ابن باجة و غيرهما ، و إنما يكون الاتصال بالإدراك العقلي المحض أي بالمنطق وحده , و هنا تلوح لنا طبيعة العلاقة بين الله و الإنسان و العالم ........ إنها علاقة جدلية قوامها كون الله بمثابة تيار روحي يسري في أجزاء العالم كله , أي أن الله هو القانون الضابط للعالم , لا من خارجه , بل من خلاله باعتبار الإرادة أو العقل الإلهي يسري في الوجود كله . و هذا نفس واضح في وحدة الوجود يرفض الاتصال بالعقل الفعال عن طريق الحدس الصوفي كما عند ابن سينا .
و نصل في الفصل السادس من الكتاب إلى وحدة الوجود في الفكر العربي الإسلامي الحديث , و يفرد الراشد لكل من محمد إقبال و أحمد حيدر و تيسير شيخ الأرض موقفاً .
فمحمد اقبال " يريد إقامة صرح فلسفي إسلامي من خلال المعطى القرآني من جهة , وعلى ضوء المعطى العلمي من جهة أخرى , و من هذا المنطق عمد إلى بناء الفكر الفلسفي في الإسلام بناءً

-6-
جديداً " حسب المقتطف الذي أورده الراشد من مقدمة الدكتور عادل العوا لكتاب اقبال " تجديد
الفكر الديني في الإسلام ". اقبال شاعر عظيم يمتلك رؤيا على نسق المتصوفة الذين عرفناهم . و لكنه على صعيد الفكر أتسائل ماذا أضاف إلى الصياغة الأخيرة التي وصلت إليها نظرية وحدة الوجود عند ابن عربي أو ابن رشد أو سبينوزا ؟ !
أما الشيخ أحمد حيدر فيعيدنا إلى نغمة العقل الفعّال لدى الفارابي ، و الحكمة المشرقية لدى ابن سينا , ولكن مع ملاحظة ما حدث في العالم من تطورات في العلوم الإنسانية و الفلسفية و الاجتماعية فنحن الآن مطالبون بطروحات مختلفة و متجاوزة على أقل تقدير , نحن الآن ننتمي إلى فضاء حداثوي – أو هكذا نأمل – و ليس إلى فضاء قروسطي , و الشيخ في نتاجه يقدم تفسيراً باطنيّاً صوفيّاً لنصوص قرآنية عديدة و أحاديث نبوية استهلكت شرحاً و تفسيراً و تعليقاً من قبل مثل : " فأينما تولوا فثم وجه الله " " اللهم لا مفر منك إلا إليك " . " كان كنزاً مخفيّاً فأحبّ أن يُعرف فخلق الخلق " .....
و يقول الراشد " يلوح لي أن المرحوم أحمد حيدر استطاع أن يصل إلى نظرية في وحدة الوجود من خلال صياغة شملت النظريات السابقة كلها , محققاً ضرباً من التزاوج بين نظرية الفيض و الصدور و نظرية الأنوار و التجلي الإلهي , و معتمداً بالوقت نفسه على معطيات العلم الحديث , و هنا تبرز عظمته كمفكر عربي إسلامي من الدرجة الأولى في العصر الحديث "
يعمد الراشد هنا و في أماكن أخرى في كتابه إلى استخدام لغة إنشائية خطابية تبجيلية لا تنتمي لحقول البحث العلمي و الفلسفي , حيث أننا بصدد " دراسة تحليلية رؤيوية " ؟ !
فما علاقة العلم الحديث بنور الأنوار و العقل الفعّال و الفيض الإلهي و التسبيح الفطري للمخلوقات و الحقيقة المحمدية , أرجو من الراشد أن يكون صارماً في استخدام مصطلحاته و تبنّيه لغة رصينة تفرضها ضرورة البحث .
من مقدمة كتاب أحمد حيدر " ما بعد القمر " يقتطف الراشد ما يلي " العلم عبادة و خير ما يعبد عابد , أو يعرفه عالم أن يهتدي المرء إلى أن لله سراً في مكنونه , و بهذا السر يعرف الحقائق الوجودية في نفسه و ما حوله " و يعلق الراشد على هذا بأن الشيخ احمد حيدر يمخر عباب وحدة الوجود في مسار علمي ؟!
أما تيسير شيخ الأرض فيبدو واثقاً تماماً و متفائلاً عتيداً في قدراته الذهنية و العقلية , فكتابه "دراسات فلسفية ..... محاولة ثورة في الفلسفة " هو ثورة حقيقية ، أو بمعنى أدق الوصول إلى أول ثورة حقيقية في تاريخ الفلسفة ، كما يورد في مقدمة الكتاب ، فالفلسفة من سقراط الذي أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض و حتى هيدجر حديثاً .... ليست إلا ثورات زائفة , و هو ينطلق في ذلك من الوجدان , باعتبار أن الوجدان قلب الوجود , أي وجود الذات في قلب المطلق حسب تعبيره الحرفي ....... , إننا مع تيسير شيخ الأرض خارج الإطار الفلسفي بمعناه الخاص , و حبذا لو صّنفه الراشد ضمن التيار الصوفي في وحدة الوجود , و التيار القائل بالوحدة المطلقة بالخاصة كابن سبعين , و العفيف التلمساني , فتيسير شيخ الأرض لا يقدم رؤيا فلسفية أو فعل معرفي يرقى إلى الثورة الفلسفية أو محاولة ثورة بأي شكل من الأشكال , بل يتحفنا بمصطلحات عجائبية كالأجدوانية و الأجدوان و هما مشتقتان من الوجدان . ؟!
يعرض الراشد لمحاولتين معاصرتين
الأولى لـ عبد الجبار الوائلي و تقوم على وحدة الوجود العقلية , حيث ينطلق فيها الوائلي من عقلنة المادة , فالخلية الحية تملك قسطاً من العقل ما دامت تملك الحياة , و لكنها تملك عقلاً بدائياً خالياً من العواطف و الغرائز , و تملك الإرادة و الإدراك و التذّكر و الاختيار , و أبسط جزء من المادة و هو الذرة يملك عقلاً يتناسب مع بساطتها , و كذلك الأبسط من الذرة كالفوتون , و هذا يعني أن كل العالم ما هو إلا عقول أولية تملك إمكانية التفاعل المستمر , فالكائن الحي يتكون من " عقول خالصة و ليس من روح و مادة كما يتوهم الواهمون " و هذا يعني أن هناك و حدة متكاملة في

-7-
الوجود كله , إنها وحدة الوجود العقلية , و إن العقل العام , أي عقل الله , هو مجموعة العقول
المنبثقة في ذرات العالم كله , فكل ما في الوجود ما هو إلا ركام العقول المتفاوتة في الدرجات و التي تؤلف العقل العام , و هذا الأخير لا يأخذ شيئاًً من خارجه باعتباره هو الطبيعة ذاتها و يتابع الوائلي " بينما الوحدة التي قال بها اسبينوزا و استاذه برونو و ابن عربي وحدة مغلوطة لأنهم يقولون بوحدة الطبيعة و العقول المنبثقة فيها من دون أن يوحدوهما في عقل عام مسيطر على أجزائه " و هذا يعني أن الوجود كله بالنسبة للوائلي مجرد فكرة " الله فكرة الأفكار الكبرى , فالعقل العام هو الله , و العقول البسيطة هي أفكار في الحق العام . تمده بأفكارها العقلية , و أنها لا تأخذ شيئاً من العقل العام , كما أنها غير قادرة على الذوبان فيه , بكلام آخر إن العقل العام هو الذرات الإلهية المطلقة المنزهة عن تجلياتها و صفاتها على لغة الفكر الصوفي , أي العقل العام هو الذرات المتعالية عن صدوراتها و فيوضاتها على لغة الفكر الفلسفي " , و يتساءل الوائلي عن صفات العقل العام , و عن بداية تطور العقول الجزئية , و عن نهاية المطاف لهذا التطور ليجيب بالنفي , نفي إمكانية معرفة ذلك لعدم إحاطة العقل الجزئي – الإنساني بمضامين العقل العام ، فالله عند الوائلي هو العالم .
يعقّب الراشد بعد عرضه نظرية الوائلي في وحدة الوجود العقلية
أولاً: الوائلي يخطو على طريق الفيلسوف الألماني لايبنتر الذي أسقط العقل على كل المونادات التي يتألف منها العالم , و بذلك عدّ العالم هو الله . و هكذا سقط الوائلي في المطب نفسه الذي سقط فيه الفكر الغربي حينما ألّه الكون .
ثانياً: إن نظرية الوائلي مصداق لقوله تعالى " إن من شيء إلا يسبح بحمده " و لكن القرآن حينما جعل كل شيء يمارس التسبيح جعل الذات الإلهية متعالية على العالم تعالياً مطلقاً .
و هنا أورد عدداً من التساؤلات حول مقولات الوائلي و محمد الراشد :
1 – إن محاولة عقلنة الخلية مقبولة إلى حد ما , أما عقلنة الذرة و أجزائها فتلك رؤية متطرفة تحتاج إلى برهان لإثباتها , و نحن غير قادرين على تأكيدها من باب أن دراستنا بحد ذاتها لم تصل إلى نتائج حاسمة على الصعيد العلمي .
2 – إن تحويل الوجود كله إلى مجرد فكرة هو نظرية مثالية تسقط البعد المادي من العالم بعد فلترته عقلياً عبر صيغ اختزالية .
3 – إذا كان العقل العام بالنسبة للوائلي يمدّ العقول البسيطة بأفكارها العقلية و لا أخذ منها شيئاً , كما أنها غير قادرة على الذوبان فيه ، فالعلاقة حسب الوائلي هي علاقة جامدة أحادية الاتجاه لا ترتقي إلى جدلية العلاقة بين الإلهي و الأرضي ، أو الله و الإنسان كما في السياق المغزلي .
4 – لا يصرح الوائلي بالمنابع التي صاغ منها فرضيته و خاصة المنابع الغربية ؟! .
5 – إن نظرية الوائلي لا تستمد مشروعيتها و براهينها من الآيات القرآنية ، بل يجب أن تستمد مشروعيتها من طروحاتها الخاصة و المنطقية .
و إن محاولة ربط النظريات ، بالنص القرآني هي محاولة خطيرة تسخر النص لتبرير النظرية فالنص له كيان مستقل ، و أركز هنا على الفصل بين النص الديني و العلمي والفلسفي ، فالقرآن كتاب هداية و أخلاق و ليس كتاب علمي .
و المحاولة الثانية التي يوردها الراشد هي وحدة الوجود الحيوية : مثلما يقدهما الدكتور رائق النقري في كتابه " الإيديولوجية الحيوية " .
يحدد النقري مفهومه عن الله بقوة و وضوح ، دونما تطرق إلى مقدمات و شروحات , و دونما اللجوء إلى براهين و أدلة ، فالله موجود كمسلّمة ، و أما كيف نفهمه فهو حسب النقري الكل الحيوي باعتباره القوة الخلاقة و الدفق المستمر في الكائنات كلها
و الله ليس جوهراً أصلاً بل هو قابلية التحول الدائم للأشياء , فإذا كانت الكتلة تتحول إلى طاقة , و الطاقة تتحول إلى كتلة كما تفيدنا الفيزياء الحديثة , فلماذا لا نتجاوز فكرة الجوهر أصلاً ؟!

-8-
و لكن كيف نحقق ضرباً من الانسجام بين مفهوم الله باعتباره اصطلاحاً تندرج تحت لوائه الكائنات كافة , و بين مفهوم الله باعتباره مجرد اسم يملك فعالية الخلق السارية في الكائنات ؟
فالله بالنسبة للكون كالروح للبدن ، و إن كان النقري يعد الروح و الجسد واحدً , متجاوزاً الانفصال بين الروح و المادة , فإمكانية تبرير مفهومه عن الله - الذي يبدو مشبعاً بالتناقض - ممكنة على ضوء المنطلقات الفلسفية و العلمية و المنطقية التي ينطلق منها .
إن فكرة الله – حسب النقري – مرّت بأدوار عدة حسب حركة القانون الحيوي للمجتمع .
فكانت الخطوة الأولى هي معرفة الله من خلال فكرة الخوف من الموت ، و الحلال و الحرام .
و تابع مفهوم الله نموه حتى وصل إلى الإله المجرد الذي ليس له شبيه و لا شكل و لا وزن و لا صفة كما تقول الحيوية . الأمر الذي جعل للزمان تأثيراً مباشراً على مفهوم الإله ، و من خلال هذا الطرح نستطيع و ضع إطار للتزاوج بين مفهوم الله لدى المتصوفة كعبد الكريم الجيلي في دراسته للإنسان الكامل ، و لدى ابن عربي في فصوص الحكم إبان تحليله للحديث القدسي " كنت كنزاً مخفياً ...." و بشكل نجد أن الدكتور رائق النقري يبني جسراً بين الله و الإنسان ، كما بنى جسراً بين الله و العالم ، فالإله لدى الحيوية لا يتدخل في شؤون العالم , و لا يحرك العالم , لأنه هو و العالم حركة ، و هذا يدفعنا إلى التساؤل عن دوره في تجربة الحق و الخلق , و كأني بالنقري يريد أن يقرر كما قرره جان بول سارتر من قبل , بأن الله موجود , و لكن المشكلة ليست مشكلة وجوده أو عدم وجوده , لأنه في الحالتين لا شيء يتغير , و إنما المشكلة هي هذا الإنسان الذي يجد ذاته , و أن لاشيء يحرره من ذاته حتى في حالة إيجاده برهاناً على وجود الله على لغة سارتر , أو كما تقول الحيوية , فالمعضلة في هذا الإنسان الذي يكتشف تفرده , أو بمعنى أدق يكتشف احتواءه على الخلق .
لقد حصر سارتر المشكلة في الإنسان الذي يكتشف ذاته ....... حريته .... تطلعه إلى المطلق إذن " إن الإنسان يجعل نفسه إنساناً ليكون الله " و بالنهاية نصل مع النقري إلى نتيجة قوامها أن تجربة الحق و الخلق هي تجربة إلهيه بقدر ما هي تجربة إنسانية و كونية .... إنها تجربة الحياة ذاتها ....
إرادة الحياة .
إن طروحات النقري تجسيد للحس الفلسفي الخلاّق عبر الحيوية بكل أبعادها و مناحيها , و هو يتقاطع مع الفكر الغربي في قوله بتأليه الكون ، و يتقاطع كذلك مع بعض المتصوفة المسلمين القائلين بالوحدة المطلقة , أمثال ابن سبعين و العفيف التلمساني ...... .
و ينهي الراشد كتابه " إشكاليه وحدة الوجود في الفكر العربي الإسلامي " بالفصل السابع الذي يخصصه لبحث " وحدة الوجود في الفكر العلمي الحديث " حيث يقول " يكاد علماء القرن العشرين يتفقون على عدم تأليه العلم , تلك الأسطورة التي راجت في القرنين الثامن و التاسع عشر , و لا سيما بعد ظهور ميكانيك الكم و علائق الارتياب , و بالتالي ولادة النزوع الاحتمي "
فالعلم له قوانينه الخاصة القائمة على التجربة و الاستقراء و الاستنتاج , فهو يتعامل مع الواقع و الأشياء باعتبارها موضوعاً للمعرفة , و لا يتعامل مع أحلام الإنسان , فالخيال يسبق النظريات العلمية , و يمهد لوضعها , و ليس الخيال الذي يتلو صوغ النظريات العلمية علماً , فالعلم يقول لنا رأيه في واقعة مادية أو ذهنية , ولكنه يقف عند هذا الحد فقط ، يقول لنا أن الكون يتألف من ذرات و كهارب و يقف عند هذا , و لكنه لا يقول لنا أن الذرات عقول ، أو أن هناك روحاً تسري في الذرات و الفضاء الكوني ، ولا يقول لنا أن الله نور الأنوار مثلاً ، وهذا ما يغيب عند طرح الراشد للعلاقة بين وحدة الوجود و الفكر العلمي الحديث ، باختصار هذا لا ينفي اعتماد العالم كبداية و هذا منطق سليم ، ولكن نختلف مع الراشد بتبعات هذا الاعتماد
العقل الديني عموماً و الراشد في مثالنا هذا يطرح رؤية توفيقية غير " مؤصلة " . عند طرح قضية العلم و الدين ، و العلاقة بين الاكتشافات العلمية و النص القرآني ، و سأورد هذا المقطع من كتاب

-9-
للراشد " فالكون كله عبارة عن ذرات متناهية الصغر و كل ذرة مؤلفة من كهارب سالبة و موجبة – و الكهارب تتحول إلى طاقة , و الطاقة تتحول إلى كهارب ... و الكهارب نور ، إذاً فالكون كله نور...... و الله نور الأنوار على لغة السهروردي , و نور الأنوار هنا هو الذات الإلهية , و بما أن الطاقة مصونة و محدودة في الكون , إذا هناك استحالة الخلق من عدم " ص 278
يمكن تصنيف مقولات النص السابق للراشد ضمن حقلين دلاليين

حقل علمي حقل فلسفي صوفي شخصاني
الكون كله عبارة عن ذات
كل ذرة مؤلفة من كهارب سالبة و موجبة
الكهارب تتحول إلى طاقة
الطاقة مصونة في الكون
الكهارب نور الكون كله نور
الله نور الأنوار
نور الأنوار هو الذات الإلهية
استحالة الخلق من عدم



في نص الراشد تتداخل مقولات الحقلين العلمي و الصوفي ، بحيث تنتج نظاماً للكلام يتيح لنا الوصول إلى النتيجة المتمثلة في نظرية الإشراق النوراني للسهروردي .
و عند الدخول في التفاصيل أكثر ، فأن تقول الكون كله نور غير أن تقول الكون كله طاقة . فالفرق يتم تمريره عبر حيلة لغوية يمكن كشفها بإعادة الاعتبار الوجودي للظلام .
فالقول أنّ " الكون كله نور " يكشف لنا عن الغائب الحاضر في هذه العبارة و هو الظلام ، و هنا نتساءل و نقول " الكون سريان النور في الظلام " ثم نتساءل أكثر و نقول " أو سريان الظلام في النور " إننا أمام ثنائية " الفاعل – مفعول به " الذات – الكينونة " و المسألة هي في كيفية النظر إلى العلاقة بين طرفي الثنائية ؟.
الراشد في كتابه " إشكالية وحدة الوجود في الفكر العربي الإسلامي " يصاغ الحلقة الأولى ضمن سلسلة ما يسميه بـ " موسوعة وحدة الوجود في التصوف الإسلامي " و هو جهد رائد و سبّاق ينطوي على بحث مضني وتنقيب تراثي كبير، وقد قدّمه الراشد عبر لغة و أسلوب ممتع قابل للتداول بين القراء غير المختصين .
فالراشد باحث بامتياز . و لكن إلى أي مدى يقترب من صفة المفكر الباحث ، أي من يضع نتاج الآخر في مقدمات تولد رؤية ابتكارية ؟!
إن حوالي ثلاثة أخماس الكتاب " ص1 ص147 , ص261 ص279 " تحدثنا عن وحدة الوجود في حضارات الشرق الأقصى و الفكر الغربي ، و الفكر العربي القديم و الفكر العلمي الحديث مع مدخل عام في مقدمة الكتاب .
و إن لهذا التوزع الكمي دلالته , فمعظم صفحات الكتاب تناقش موضوع خارج إطار العنوان الأساسي للكتاب " إشكالية وحدة الوجود في الفكر العربي الإسلامي " و هذا يعكس الدور الهام الذي قامت به هذه الحضارات خارج الدائرة العربية الإسلامية في صوغ النظرية العربية الإسلامية لوحدة الوجود إن جاز التعبير , فنحن أمام نظرية أو نظريات متعددة في وحدة الوجود , وحدة وجودية ، وحدة مادية ، وحدة عقلية ، وحدة حيوية , وحدة روحية ....... فكلها نظريات عابرة للحدود بين اللغات و الأعراف و الأديان .
إن نظرية وحدة الوجود هي نظرية إنسانية بامتياز , كان للحضارات العربية قبل الإسلام و الحضارة العربية الإسلامية دورها الهام في صياغتها ، إلا أنني آخذ على الراشد إصراره على " عربنة " هذه النظرية ، و قد أكون مخطئاً ، و لكن أود مناقشة بعض أفكار الراشد المبثوثة في كتابه للتدليل على ذلك . فالراشد يجزم بأن الفلسفة الرواقية و الأفلاطونية الحديثة هما فلسفتان سوريتان

-10-
بامتياز ؟1
صحيح أن أحد مؤسسي الرواقية الثلاث هو زيتون السوري ،و صحيح أن الأفلاطونبة الحديثة جهد مشترك لمدرسة الإسكندرية ساهم فيه نوميبنيوس و بوزفيزوس السوريان . و لكن هذا لا يعفينا من النظر إلى النصف الآخر من الكأس ، ألا و هو الفكر الإغريقي و إسهاماته الجادة ، فالرواقية و الأفلاطونية الحديثة نتاج فكر خصب ينتمي إلى الشرق و الغرب معاً ،
إنه وليد الحضارة الهلنسينة .
و النقطة الثانية التي أطرحها هي حول دور التأثيرات العربية الإسلامية في تطور فكر النهضة الغربي عبر عملية الترجمة لكتاب ابن سينا و الغزالي و الفارابي و ابن رشد عن طريق يوحنا الأسباني و جوند يسالفي....... و غيرهم إلا أن ذلك يفيد معنى التكامل البشري لإنتاج ثقافة مشتركة ذات خصوصيات معينة , فالرّد على مقولة المركزية الأوربية لا يتم عبر مركزية عربية , و إنما عبر طرح إنساني عبر عرقي ، عبر ديني ، تفاعلي . موضوعي ،فالحقيقة هي الحقيقة لا تحتمل أي قيمة مضافة إليها .
ــــــــــــــــــــ

الكتاب: إشكالية وحدة الوجود في الفكر العربي الإسلامي
المؤلف: محمد الراشد، عدد الصفحات 281
الناشر: دار الأوائل- دمشق الطبعة الثانية 2002



#حمزة_رستناوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المعري وبيداغوجيا المريدين الفاشلين
- حقوق الانسان بين الفاعل والمفعول به
- الفكر الاصولي واستحالة التأصيل
- الجامعات السورية ..منارات تجهيل
- رأس مالي... ورأس فقهي
- الشاعر السوري عباس حيروقة : يسقط في مدار نهد
- نانسي عجرم ..... والفقه الافتراضي
- العرب وشيطان اللغة الابتر


المزيد.....




- -ورّط- نبيه بري.. نعيم قاسم يثير صدمة وتعليقات بما قاله بخطا ...
- مصريون وسوريون ضمنهم.. الكويت تضبط مجموعة كاشفة ما فعلته بتز ...
- رومانيا: مدينة ياش تستقبل الآلاف من المصلين للمشاركة في الاح ...
- نفوق أربعة فيلة.. وتضرر مئات الحيوانات بسبب فيضان يضرب تايلا ...
- تطمينات بلا ضمانات لسلامة مطار بيروت، كيف يعمل الطيران المدن ...
- عام على هجوم 7 أكتوبر.. علاقات أوروبا وإسرائيل في اختبار صعب ...
- ثلثا -علامات الحياة- على الكوكب تنذر بكارثة مناخية
- أثر -حنبعل- الدامي في صراع إسرائيل مع حماس!!
- هل يعرف بوتين ظاهرة Quadrobers؟.. الكرملين يجيب
- الدفاع الروسية: تدمير 47 مسيرة أوكرانية فوق 5 مناطق روسية وب ...


المزيد.....

- فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا ... / زهير الخويلدي
- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - حمزة رستناوي - التيار الفلسفي في وحدة الوجود