أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبد الرحمان النوضة - نقد الشعب















المزيد.....



نقد الشعب


عبد الرحمان النوضة
(Rahman Nouda)


الحوار المتمدن-العدد: 3906 - 2012 / 11 / 9 - 10:44
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


فهرس وثيقة نقد الشعب :
 TOC o "1-3" h z u
1) لماذا نقد الشعب ضروري ؟ ....................... PAGEREF _Toc340046913 h 2
2) بعض الأخطاء الشّائعة في الشعب....................... PAGEREF _Toc340046914 h 4
3) هل مناهج التفكير لدى مواطنينا سليمة ؟ .............. PAGEREF _Toc340046915 h 9
4) الحاجة إلى عَقْلَنَة المُجتمع  ....................... PAGEREF _Toc340046916 h 10
5) يُنتج ضعف التعليم شعبا جاهلا....................... PAGEREF _Toc340046917 h 13
6) الطبقة العاملة أيضا ....................... PAGEREF _Toc340046918 h 15
7) يُسبّب الجهل الضعف والتخلّف....................... PAGEREF _Toc340046919 h 15
8) يظهر أحيانا نقد المجتمع كأنه نقد للدين................ PAGEREF _Toc340046920 h 16
9) لا يعالج الرجوع إلى الماضي مشاكل الحاضر  ..... PAGEREF _Toc340046921 h 18
10) كم من مواطن يقوم بواجب النهي عن المنكر ؟ .... PAGEREF _Toc340046922 h 20
11) التّضامن يقوّي الشعوب، والفَرْدَانية تضعفها ....... PAGEREF _Toc340046923 h 20
12)  يحتاج المسلمون أكثر من غيرهم إلى النقد الذاتي . PAGEREF _Toc340046924 h 21
13) يسيء استغلال الدين في السياسة إلى الدّين، وإلى الشعب PAGEREF _Toc340046925 h 23
14) القانون الذي يطبّق بشكل انتقائي، ليس قانونا ...... PAGEREF _Toc340046926 h 24
15) الحلّ هو الفصل بين الدين والسّياسة ................. PAGEREF _Toc340046927 h 26
16) هل يبرّر تخلّف الشعب الاستبداد ؟ .................. PAGEREF _Toc340046928 h 28
17) يُفشل انتشار الأنانيّة أي إصلاح سياسي ............ PAGEREF _Toc340046929 h 28
18) أزمة المُجتمع عميقة، مُركّبة، ومُزمنة .............. PAGEREF _Toc340046930 h 29
19) لعقلية المواطن أهميّة حاسمة ........................  PAGEREF _Toc340046931 h 29
 
 
الوثيقة الحالية تتناول موضوع نقد الشعب. وقد فضّل الكاتب عرض نقد الشعب على شكل حوار أدبي، يدور بين مُواطنين صديقين. واسم المواطن الأول في الحوار هو "آدم"، واسم الثاني هو "إبراهيم". وهذه الأسماء هي اعتباطية، ولا ترمز إلى أي شيء محدد. يقوم المواطن "آدم" بدور الدفاع عن التقاليد، أو المعتقدات، أو الأوضاع القائمة. بينما يقوم المواطن الثاني "إبراهيم" بدور نقد هذه المُعتقدات، أو يُنَبّه إلى نقائصها. وهذا النقاش ليس بالضرورة حوارا واقعيا أو حقيقيا. والهدف من الحوار كأسلوب أدبي هو تَيْسِير عرض قضايا سياسية، أو تبسيط نقاش رؤى فلسفية، أو تَسْهِيل مُقارعة أفكار مُتناقضة، والبرهنة على المواقف الفكرية التي يعتبرها الكاتب أكثر مُرونة أو صوابًا. وهذا هو الحوار :
 
1)          لماذا نقد الشعب ضروري ؟
إبراهيم : بعض المُثقفين والسياسيين يقتصرون على نقد المسئولين، أو على نقد الحُكّام، أو نقد الطبقات السائدة، أو نقد الدولة، أو نقد النظام السياسي. ويتغاضون كُلّيا عن نقد الشعب. فهل نقد الحُكّام كاف ؟ أليس نقد الشعب ضروريا ومُكَمّلا للنقد الأول ؟
آدم : شعبنا شعب حكيم، وعظيم. وأنا لا أوافق على نقد الشعب.
إبراهيم : في غالب الأحيان، يفترض المناضلون أن أفراد الشعب هم كلّهم طيّبون، وتقدّميّون، ومناصرون للحق، وللعدل. ويعتقد المناضلون أن سلوك مجمل أفراد الشعب سليم، وعلى جميع المُستويات. لكن الواقع العنيد يُكذّب مثل هذه الظّنون. ألا يوجد من بين أفراد  الشعب من هم أميّون، أو جاهلون، أو مُحافظون، أو يمينيّون، أو رجعيّون ؟ ألا يوجد من بين أفراد الشعب من يتصرّفون بشكل مناقض للعقل، أو للأخلاق، أو للعدل ؟    
آدم : أنتَ تنتقد الدولة، وتنتقد النظام  السياسي، وتنتقد الأحزاب، والآن تريد نقد حتى الشعب ! ألا تُبالغ شيئا ما ؟ 
إبراهيم : الشعب الذي لا ينتقد كل ما في محيطه المجتمعي، هو شعب مُكَبّل بأغلال غير مرئية. وفي هذه الحالة، فإنه لن يستطيع الخروج من التخلّف. نحن في حاجة إلى نقد الدولة، وإلى نقد النظام السياسي، ونقد المجتمع، وحتى نقد أنفسنا. تبادل النقد بين المواطنين، هو من بين الوسائل التي تساعد مجتمعنا على الخروج من الانحطاط. وكل من يُفضّل المدح على النقد، فإنه يختار، من حيث لا يدري، البقاء في الرّداءة، ولا يستطيع الانتقال إلى جودة من مستوى أعلى.
آدم : كيف ؟ تريد نقد حتى الشعب ؟ أختلف معك. لماذا تريد نقد الشعب ؟ الشعب هو الكيان الذي يشملنا جميعا. الشعب مُقدّس. الشعب هو المظلوم، وليس الظّالم. الشعب هو الضحية، وليس الجاني. واجبنا هو أن نعتزّ بشعبنا، بدون قيد أو شرط. يجب أن نمدح الشعب، وأن نُمجّده، وأن نصفه بكل الأوصاف الحميدة.
إبراهيم : أنظر يا مُواطن ! صحيح أن الشعب يخضع لاستغلال الطبقات المُسْتَغِلّة. صحيح أن الشعب يُعاني من اضطهاد الطبقات السّائدة. وأن هذه الطبقات لا تُعتبر ضِمن صفوف الشعب. لكن نسبة كبيرة من المُفسدين، ومن ناهبي المال العام، وأنصار الاستبداد، والأعيان الانتهازيين، والمرتزقة العاملين في الأجهزة القمعية، والمسئولين في أجهزة الإعلام الرسمية، وكل أولاء الذين يُساهمون في تجهيل الشعب، أو تَبْلِيده، أو قهره، أو تحطيم معنوياته، أو يُشاركون في إخضاعه للفساد، وللاستبداد، كل هؤلاء، من أين يأتون ؟ إنهم ينبثقون بشكل مُتواصل من بين صفوف الشعب نفسه ! أفراد الشعب يَسْحَقون بعضهم بعضًا. المواطنون يفترسون بعضهم بعضا. يكفي أن يزور المُلاحظ مثلاً مراكز الشرطة، أو المَحاكم، وأن يطّلع على الخُصومات والنّزاعات الجارية، لكي يتأكّد من ذلك. الشعب يقبل بان يفترس بعضُه بعضًا، بدلا من يَتَجَرّأ على التفكير النقدي، وعلى النضال المُشترك، وعلى الثورة المُجتمعية السّلمية. الشعب الذي لا يقرأ لكي يرفع مستوى وعيه، أو الشعب الذي لا يَتَنَظّم (في أحزاب، أو نقابات، أو جمعيات، أو في حركات) لكي يشارك في النضال، يكون قد اختار بأن يحكمه أفراد رديئون، أو جماعات انتهازية، أو مُتخلّفة، أو مُسْتَلَبَة (aliénés).
آدم : أختلف معك. أنا أريد أن يقتصر النقد فقط على خُصوم الشعب.
إبراهيم : لا يا مُواطن ! ما دام المُثقفون والسياسيون يقتصرون على نقد الحُكّام والسائدين، دون نقد الشعب، فإنهم لن يستطيعوا مُعالجة المشاكل المُجتمعية. السكوت عن أخطاء أفراد الشعب، هو انحراف غير مقبول. وتجاهل نقائص الشعب، هو خطأ منهجي، يُغالط في نفس الوقت الفاعلين السياسيين، ويغالط أيضا أفراد الشعب أنفسهم. فلا يمكنك أن تُصلح سلوك المسئولين، أو الحُكّام، أو السائدين، إذا لم تعمل، في نفس الوقت، على إصلاح سلوك أفراد الشعب.
آدم : لا أتفق معك. كأنّك تُريد التّخفيف من مسئولية الحُكّام والسّائدين. كأنك تريد تقسيم المسئولية بين الحُكّام والشعب، بين الظّالم والمظلوم. بينما أفراد الشعب لا يتحمّلون أية مسئولية فيما آلت إليه أوضاع المُجتمع.  
إبراهيم : لا أدعوك إلى أن تكفّ عن نقد الحُكّام والسّائدين، أو إلى أن تقتصر على نقد الشعب. وإنما أدعوك إلى نقد كل المُخَالفات، وكل الانحرافات، حيثما وُجِدَت. سواء وُجِدت لدى الحُكّام، أم لدى أفراد الشعب. ألا تُوجد انحرافات أو أخطاء مُتواصلة في صفوف الشعب ؟ هل يحق أن نتجاهل، أو أن نسكت عن، ما يوجد داخل الشعب من تقاليد، أو مُعتقدات، أو أميّة، أو جهل، أو انتهازية، أو أنانية ؟ ألا تُلاحِظ أن بعض أفراد الشعب يميلون إلى تجاهل المشاكل المُجْتَمعية أو السياسية، ويميلون إلى مُحاولة حلّ مشاكلهم بشكل فردي، أو أناني، ولو عبر استعمال التّحايُل، أو الانتهازية، أو الرّشوة، أو الغشّ ؟
آدم : كلامك لا يقنعني. أنا أقدّس الشعب، ولا أقبل نقده. واجبنا هو تمجيد الشعب، وليس نقده.
إبراهيم : أعطيك بضعة  أمثلة من بين العشرات. مثال رقم 1 : إذا كان الجهل أو الأميّة منتشرين داخل الشعب، فإنك لن تستطيع خوض أيّ نقاش جِدّي مع أفراد الشعب، حول أيّ إصلاح سياسي، ولا حول أيّة قضية مُجتمعية ! ولن تستطيع أن تتفاهم مع أفراد  الشعب ! ولن تستطيع أن تَسْتَشِيرهم ! ولا أن تطلب منهم الفرز، بواسطة التّصويت، بين اختيارات مُتناقضة في مجالات الاقتصاد، أو السياسة، أو القانون، أو الثقافة، أو الدين، أو غيرها ! كما لا يمكنك أن تطلب منهم إنجاز مهام من مستوى رفيع ! وبالتّالي، يسقط المُجتمع في ورطة، ولا يمكنه أن يتقدّم. مثال رقم 2 : إذا كانت سُلوكِيات الأنانية، أو الفردانية، أو الانتهازية، أو الغِش، منتشرة، أو راسخة، أو مُزمنة، داخل الشعب، فإنك لن تستطيع أن تُنْجِح أي إصلاح مُجتمعي جِدّي في مجالات العدالة، أو الصّحة، أو التعليم، أو التّشغيل، أو التّدبير الجِهَوِي، أو المحلّي، أو التّعمير، أو البيئة، أو غيرها ! 
آدم : أختلف معك. أنا أرفض نقد الشعب. أنا أفضّل أن نبدأ بنقد المسئولين، والحكّام، والسائدين، وبعد ذلك نقوم بإصلاح الدولة، وبعد ذلك نقوم ببناء نظام سياسي ديمقراطي جديد، وبعد ذلك يمكن أن ننتقل إلى مرحلة نقد الشعب وإصلاحه.
إبراهيم : يظهر أنك لا تعرف القوانين العِلْمية التي تتحكّم في تطور المجتمع([1]). يجب أن تُدرك أنه يستحيل أن نَنجح في عملية إصلاح المجتمع إذا نحن قسّمنا هذه العملية إلى مراحل، أو تَعَاقُب، أو تَوَال، من النوع الذي ذكرته. بعبارة أخرى، لا يمكنك أن تُصْلح الحُكّام أو المسئولين إذا لم تصلح، في نفس الوقت، عموم الشعب. يجب أن تكون الإصلاحات مُتزامنة. لأن الانحرافات (السياسية، والاقتصادية، والأخلاقية، والفكرية)، الموجودة في الحُكّام، أو في المسئولين، ترتبط عُضويا بانحرافات (مُشابهة، أو مُتفاوتة، أو مُخالفة) موجودة في المُواطنين، وفي الشعب. وعلى عكس الكثير من الاعتقادات الشائعة، يستحيل تدبير المجتمع عبر الاقتصار على تطبيق القانون وحده. فإذا لم يكن مُجمل أفراد الشعب يتحلّون بحدّ أدنى من ثقافة المُواطنة، ومن الديمقراطية، والتضامن، والعدل، والأخلاق، والعقل، فإن أية مؤسّسة سياسية (سواءًا كانت هي الدولة، أم الأحزاب، أم غيرها) لن تستطيع في هذه الحالة تدبير المجتمع بشكل عقلاني، أو عادل.
آدم : أختلف معك. بلادنا مُتخلّفة فعلا. ونظامنا السياسي استبدادي. ومجتمعنا يُعاني من مشاكل سياسية واقتصادية وثقافية. و تأتي هذه المشاكل كلها من الحُكّام وحدهم، ومن الطّبقات السّائدة. أما جماهير الشعب، فهي مُجرّد ضحية. وبالتّالي، صراعنا هو صراع فقط ضد الطّبقات السّائدة، المُستبِدّة، والمُستغِلّة. وحلّ مشاكلنا يَكْمُن في القضاء على سيطرة تلك الطبقات السائدة.
إبراهيم : بِمَنْهجك هذا، فإنك لن تَستطيع مُعالجة أي مشكل من بين مشاكل المجتمع. فحتى إذا إفترضنا جدلاً أنك نجحتَ في الإطاحة بسلطة الحُكّام الفاسِدين الحاليّين، أو بسلطة الطبقات السائدة الحالية، وحتى إذا إفترضنا أنك عَوّضتهم بحُكّام آخرين (يُفترض فيهم أنهم تقدّميون، أو ديمقراطيون، أو اشتراكيون، أو مُتديّنون)، فإنك سوف تُفاجأ بعودة نفس المشاكل المُجتمعية القديمة (السياسية، والاقتصادية، والأخلاقية، والفكرية).
آدم : ولماذا ؟
إبراهيم : لأن هؤلاء المسئولين أو الحُكّام الجدد، يَنْبُعون باستمرار من الشعب، والشعب يَسْتَنْسِخ نفس النوع من الشخصيات، و يُعيد إنتاج نفس المشاكل والانحرافات (السياسية، والاقتصادية، والأخلاقية، والفكرية). بل إن خصوم الشعب، وأعدائه، يَنْبَثِقُون باستمرار من داخل الشعب نفسه. لهذا أقول : إذا أردتَ أن تغيّر أو أن تُصلح المُجتمع، فيجب عليك أن لاَ تقتصر فقط على إصلاح الطبقات العُليا، بل عليك أن تُصلح في نفس الوقت الطبقات السُّفْلى.
آدم : ولماذا ؟
إبراهيم : لأن المجتمع هو وحدة مُتناقضة، وكل مُكَوّناته مُترابطة عضويا فيما بينها. وكل جزء منه يَتَأثّر بالأجزاء الأخرى، وفي نفس الوقت، يُؤَثّر على مجمل الأجزاء الأخرى.
آدم : ألا تتناقض مع نفسك ؟ إذا كنتَ تنتقد الشعب، فكيف يُعقل أن تنتظر من الشعب أن يتضامن، أو أن يناضل، أو أن يثور، أو أن يُضحّي ؟ كيف يُعقل أن تنتقد الشعب، وأن تطلب منه في نفس الوقت أن يُشيّد مجتمعا جديدا ومُتقدّما ؟
إبراهيم : إذا اقًتَصَرْتَ على نقد الحُكّام، وامتنعتَ عن نقد الشعب، فإن الإصلاح السياسي، أو الثورة المُجتمعية، لن يحدثا ! الاكتفاء بنقد الدولة، أو بنقد الطبقة السّائدة، يفترض بأن بَقيّة أفراد الشعب هم كلّهم جَيّدون، ويلتزمون بالقانون، وبالمبادىء، وبالأخلاق. وهذا الافتراض غير قائم. بل يستحيل بناء نظام سياسي جديد، أو تشييد مُجتمع جديد، بمواطنين من النوع القديم، أو بأفكار وأخلاق وسُلُوكِيّات قديمة، أو مُتخلّفة، أو رديئة. يجب أن نعمل منذ الآن، وبدون أي تأخير، بهدف خلق مواطن المستقبل، مواطن من نوع جديد، يتميّز بأفكار، وأخلاق، وسُلوكيات مُتقدّمة.   
آدم : أنت تُزعجني وتُضايقني بهذه الأفكار الغريبة. لا أرى إلى أين تريد أن تسير.
إبراهيم : هذا مشكل حقيقي. يجب الانتباه إليه، يلزم الاهتمام به، يجب أن نُبلور حلولا ناجعة له. وإِلاّ، يُمْكن أن يحدث لك شيء مُشابه لما حدث خلال انهيار الاتحاد السوفيتي . يجب أن نفهم، وأن نستفيد من، تجربة الانهيار المُفاجئ للأنظمة الاشتراكية في الشرق، خلال قرابة سنة 1989. فقد شَيّدت من قبل أحزاب اشتراكية أو شيوعية، وبتضحيات كبيرة، أنظمة سياسية اشتراكية (في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية ، وفي البلدان التي تحالفت فيما بعد في حلف وَارْسُو ). لكنهم لم يعملوا بما فيه الكفاية على تغيير عقلية المواطن. وبعد بضعة عقود، ولَمّا تعمّقت الأزمة داخل هذه المجتمعات، انهارت هذه الأنظمة، ثمّ فضّلت غالبية المواطنين العودة إلى الرأسمالية المُتوحّشة. واتَّضَح بسرعة أن جماعات فاسدة، أو شبه مَافْيَوِيّة (mafiosi)، كانت تخترق هذه المجتمعات. ما معنى ذلك ؟ معناه ما يلي : حتّى إذا استعطتَ تحويل المجتمع إلى بِنْية اشتراكية، أو إلى جنّة ديمقراطية، فإن هذا النظام السياسي المتقدّم، لن يستطيع الاستمرار في الوجود، أو الازدهار، إذا أنت أهملتَ تغيير عقلية المواطن، بشكل مُتواز، أو مُتزامن. بعبارة أخرى، عندما نعمل على تغيير البِنْيَات التّحْتِيّة للمجتمع (مثل هيكل الدولة، أو الاقتصاد، إلى آخره)، يلزم أن نعمل في نفس الوقت، على تغيير بِنْيَاته الفوقية (من فكر، وذِهْنِيات، وأخلاق، وسُلوكيات، إلى آخره). وذلك في إطار الحريّة، وبواسطة الإقناع، وبالنموذج الحسن، وليس بالإكراه.
             
2)           بعض الأخطاء الشّائعة في الشعب
آدم : يمكن أن أقبل نقد الحُكّام أو المسئولين الكبار. لكن لا زال يَصعب عليّ أن أقبل نقد أفراد الشعب.
إبراهيم : أنظر جيّدًا. يتحمّل المُواطن العيش في إطار رداءة مُجتمعية شاملة. ويقبل استمرار مجتمعه في انحطاط عام. وبَدلاً من أن يتضامن مع باقي مواطنيه، أو أن ينخرط في نضالات جماهيرية مُشتركة، بهدف إصلاح مُجتمعه، يُفضّل المواطن عادَةً الاعتماد على أنانيته، ويَتّكِل على ذكائه الفردي. ويتوهّم المواطن أنه يستطيع أن يَنْجُو من مشاكل مُجتمعه. ويعتقد أنه بمقدوره أن يَحُلّ كلّ مشاكله الشّخصية، بالاعتماد فقط على شَطَارته، أو على حِيّله، أو على غِشّه. وخلال بداية حياته المهنية، أو خلال نصفها، تبدو للمواطن سُلوكيّات الأنانية، أو الغِشّ، أو الانتهازية، أنها سياسة ذكيّة جدّا. لكن في آخر حياته، يكتشف المواطن أنها سياسة قصيرة الرّؤية، بل بليدة. لأن سلوك الانتهازية، والغِشّ، يُضْعف الشّعبَ كلّه، ويُبْقي مجمل المجتمع في التخلّف، والانحطاط. وفي الحقيقة، وعلى خلاف ظنون شائعة، لا يمكن لأي فرد أو جماعة أن يغشّ المجتمع، وبشكل دائم. لأن كلّ من غَشّ المجتمع، ينتهي بالضرورة، آجلا أم عاجلا، إلى إحداث أضرار ملموسة بالمجتمع، وبنفسه كذلك. ولا أحد من أفراد الشعب يستطيع أن يَفْلِت من هذه الأضرار الحتمية، النّاتجة عن تخلّف المجتمع. وبالتالي، فإن السياسة الأكثر ذكاءًا، هي أن يتصرّف كل مواطن بعقلية تأخذ بعين الاعتبار البُعْد المُجتمعي في شموليّته، وأن يُراعِي في كل مبادراته ضرورة التضامن مع مجمل مواطنيه. لأن كل أفراد المجتمع لهم حتمًا مصير مُجتمعيّ مُشترك. ولا يمكن أن يتبلور هذا الوعي الجديد بالبُعد المُجتمعي بشكل تلقائي، أو فطري، لدى أفراد الشعب. بل يجب أن نُعلّمه للمواطنين.
آدم : تطلب من المواطن أن يُراعي في تصرّفاته مصالح المواطنين الآخرين. هذا جميل، لكنه صعب، وربّما مستحيل التحقيق. أنا أعتبر مواطنينا طيّبين ورائعين. إنهم يتدبّرون أمورهم بأقلّ جُهد مُمكن، وبأقل كُلفة جائزة. يعيشون حياتهم حسب المُسْتطاع. وكيف ما كان حَالهم، فإن مواطنينا يحمدون الله على حالهم. فلماذا تنتقد أنت المواطنين ؟ أوضح لي ما هو لومك ؟ ما هو عِتابك ؟
إبراهيم : أي مراقب موضوعي يمكنه أن يُلاحظ أن مُجتمعنا مُتخلّف بالمقارنة مع المُجتمعات الأكثر تقدما عبر العالم. أنظر مثلا إلى بلدان مثل الدانمرك، وسويسرا، والنّمسا، وإسلاندا، وفنلندا، والسّويد، وكندا، ونيو زيلندا، وهولندا، والنرويج، واستراليا، وألمانيا، واليابان، وما شابهها. أليس مواطنو هذه البلدان متقدّمين على مواطنينا، على مستويات التعليم، والإنتاجية، والتضامن، والثقافة، والأخلاق، والوعي المُجتمعي، والإحساس بالسعادة ؟ ألا يتمتّعون بصحّة أحسن منّا (خاصةً إذا اعتبرنا الصّحّة في أبعادها الجِسمية، والعَقلية، والنّفسية، والخُلقية، والاجتماعية) ؟ ومن يعترف بهذه الملاحظات، يلزمه أن يستنتج أن مواطنينا مُتخلّفون في غالبيّتهم، ولو أن هذا التّخلف يتفاوت في درجاته من مواطن إلى آخر. وتخلّف المُجتمع يعني تخلّف غالبية مُكوّناته المُجتمعية. كما أن تخلّف الدولة يرتبط عضويا بِتخلّف جماهير الشعب. وتخلّف الشعب يرتبط هو أيضا بتخلّف الدولة. ومن بين أخطاء مواطنينا أنهم يعتزّون كثيرا بأنفسهم. حُبّ الذّات عندنا كبير. وبقدر ما يعتزّ شخص ما بنفسه، بقدر ما يميل إلى تعظيم دوره، أو إلى المُبالغة في خِصاله، أو يميل إلى نُكْران أخطائه، أو يميل إلى تصغير حجم عيوبه، أو إلى تجاهل أغلاطه أو عِلَلِه.
آدم : إنتظر قليلا، لنترك العُموميّات، لنتكلّم في التّفاصيل. قُل لي بأكبر وضوح ممكن، ما هي هذه الأخطاء ؟
إبراهيم : أوووه ! طيّب ! عيوب شعبنا كثيرة، ونقائصه مُتطوّرة ! أبرزها : الجهل، والأنانيّة، والفردانيّة، والانتهازية، والنّفاق، والغِشّ، والتّحايل، والكسل، والاستهتار بالأخلاق، والاستخفاف بالقانون. هذه مظاهر شائعة نسبيا داخل شعبنا. ولو أن درجات هذه العُيوب تتفاوت من فرد إلى آخر، ومن فترة لأخرى، ومن ميدان إلى آخر، ومن منطقة لأخرى. أفراد شعبنا مُتفوّقون في مجال إنجاب الأطفال، لكنهم مُتخلّفون في ميادين تربيّتهم، وتكوينهم. لا يهتمّ مواطنونا إلا بمنفعتهم الشخصية الخاصّة والآنيّة. ولا يقبل مواطنونا أن ينشغلوا إلاّ بما يعود عليهم بمنفعة ملموسة، سريعة، ومُعتبرة. يهتمّون فقط بمصالحهم الخاصة. يبحثون باستمرار على جني المال، والأرباح، والمكاسب، والممتلكات المُتنوعة. يتسابقون ويتنافسون بهدف جمع أكبر كَمّية من المُمتلكات المادّية. ولا يقنعون منها. وحينما يعمل مواطنونا على تلبيّة حاجياتهم الشخصية، فإنهم يستعملون أية وسيلة فعّالة وسريعة، ولو كانت مُضِرّة بالمُواطنين الآخرين، أو مُناقضة للأخلاق، أو مُنافية للقانون، أو مُؤْذِيّة بالبيئة. أما قضايا الجماعة، أو مصالح الشعب المُشتركة، أو الدولة، أو الأمّة، فتلك الأشياء تبقى بالنسبة لهم مُجرد أمور مُبْهَمة، غامضة، ولا يؤمنون بها، بل يرفضون الاهتمام بها.
آدم : يا له من وصف كئيب ! إنك تصور الشعب بشكل قاتم !
إبراهيم : نعم يا مُواطن ! الشعب لا يقرأ ! وبشكل عام، الشعوب المُسلمة لا تقرأ ! في المغرب كلّه، تُعَدّ كلّ المكتبات العمومية الجدّية على رؤوس أصابع اليد الواحدة ! لو كان في بلادنا عدد المكتبات العُمومية يساوي عدد المساجد، أو عدد المقاهي، أو عدد الأسواق الكُبرى، أو حتى عدد الكباريهات أو المَلاهي، لمَا كُنّا نسبح في هذا التّخلّف الشّامل الحالي ! ولو كان مواطنونا يُخَصّصون في كل يوم وقتا للقراءة يكون مُسَاوِيّا للوقت الذي يُقضونه في مشاهدة التّلفزة، لكان المستوى الثقافي لشعبنا مشرّفا أكثر. كَمْ من مواطن يقرأ كُتبا جيّدة، مثلا في ميادين ألأدب، والتاريخ، والفلسفة، والعلوم، إلى آخره ؟ كأن المُسلمين يكرهون القراءة، ويَمْقُتُون حتى من يكتب، ويبغُضُون حتى من يقرأ، وينفرون مِمّن يُفكّر. كأن النظام الرأسمالي يعوق لجوء المواطنين إلى قراءة الكتب الجيّدة. يَنْفُر مواطنونا من الدّراسة، ومن التعليم، ومن القراءة، ومن العلوم. وهل يمكن لشعب لا يقرأ أن يتحرّر من الجهل ؟ ثم يبتكر مُواطنونا المُبرّرات الذّاتية لتمرير ما هو غير معقول.
آدم : أنا أظنّ أن شعبنا لا يختلف كثيرا عن بقية شعوب العالم.
إبراهيم : لا يَا مُواطن ! شعوب العالم ليست مُتساوية فيما بينها. بعضها مُتقدّم، وبعضها متخلّف. يجب أن ندرك أننا مُتخلّفون بالمقارنة مع كثير من الشعوب. حُكّامنا، وشعوبنا، وجماهيرنا، لا يهتمّون بالثقافة، ولا بالمعرفة، ولا بالعِلم، ولا بالعُلماء، ولا بالبحث العلمي. إنهم لا يُبالون بالفلسفة، ولا بالتكنولوجية. يهتمّون على الخُصوص بالمظاهر السطحية البرّاقة. رجال الأعمال عندنا، والمُستثمرون، وأصحاب الشركات، يحتقرون البحث العلمي، ويرفضونه. بِيئَتُنا المجتمعية ترفض العِلم. بل حتى عُلمائنا، وخبرائنا، ومُثقفينا، يضطرّون إلى الهجرة إلى بلدان أوروبّا وأمريكا. وأكثر من نصف شبابنا الذين يدرسون في الجامعات الأجنبية لا يعودون إلى وطنهم. وما هي نتيجة ذلك ؟ النتيجة هي أننا نُصدّر الشبان، والأدمغة، والنّابغين، والعلماء، ونستورد قرابة 80 في المائة من البضائع التي نحتاجها، وذلك في مجمل الميادين ! استقلالنا الاقتصادي، والتكنولوجي، والعلمي، والعسكري، غير موجود ! إننا نتيه في ضلال !
آدم : رُبّما، رُبّما، أنا لا أعرف. يمكن أن بعض المواطنين لا يعرفون ذلك.
إبراهيم : لا يا مواطن ! أغلبية مواطنينا يعرفون ذلك، أو يُحسّون به، لكننا تَعَوّدنا على الاستخفاف بواقعنا المُجتمعي، وألفنا مُغَالطَة بعضِنا لبعض. نَتبادل الخداع فيما بيننا، بل نُخادع حتى أنفسنا. يتحايل الحُكّام على المواطنين. ويُقلّد المواطنون الحُكّام. ويتحايل مُواطنونا على القانون، وعلى الدّين، وحتى على ضميرهم الشخصي. إلى درجة أننا أصبحنا كلّنا نسبح في بحر من المُغالطات المُتبادلة. أصبح شُغلنا الشّاغل هو جَني المال، وتجميع الامتيازات، واكْتِناز المُمتلكات، وتسلّق مناصب المسئوليّة. نُزيّن أنفسنا باللّباس الأنيق، وبالعطور الزاهية، وبالسّكن الباهر، وبالسّيارة الفاخرة، وبالهاتف المحمول البرّاق. نهتمّ على الخصوص بالأكل، وبالغناء، وبالرقص، وبكرة القدم. نريد تَمُلّك الأشياء، ولا نُبَالِي بالتّفكير في إمكانية تحسين جودة حياتنا المُجتمعية المُشتركة. إِلاَهُنَا الفعلي الذي نعبده صباحًا ومساءًا هو المال. وحتى عندما يدعو بعضُنا الله، فإنه لا يطلب منه سوى المزيد من المال. نريد أن نأخذ من الدولة كلّ شيء، وبالمجّان، ونَتَنَاسَى أن ما تمنحه لنا الدولة، يلزم أن تنزعه من مواطنين آخرين. حيث أن الدولة لا تُنتج شيئا من عدم. نُريد كل حقوقنا، كاملة، هُنَا، والآن، وبسرعة ! وفي نفس الوقت، نتجاهل حقوق الآخرين، أو لا نعترف بها ! نتجاهل واجباتنا، ونتجنّب بذل أي جهد كان. نريد أن نأخذ من مجتمعنا كل شيء، ونرفض أن نعطيه أي شيء !
آدم : رُبّما، قد يكون ذلك موجودا، لا أدري، رُبّما لأننا لا زلنا فقراء نسبيا.
إبراهيم : لا يا مُواطن ! فحتى حينما يكون حالنا ميسور، أو يكون مستوى عيشنا مقبول، فإننا نميل باستمرار إلى التّباكي على فقرنا، أو على ما ينقصنا من كماليّات. ونطالب بِزيّادات مُتواصلة في الأجور، ونطمح إلى غنى لا حدّ له. وهذه العيوب موجودة في كل شرائح المجتمع، في الحُكّام، وفي الوزراء، وفي البرلمانيين، وفي المسئولين الكبار، وفي الصغار، وفي السياسيين، وفي المناضلين، وفي التقنيين، وفي الفنّانين، بل في مُجمل أفراد الشعب ! كلّ حُكّامنا يعشقون مناصب المسئولية، ويُحبّون السّلطة، ويريدون تملّكها، واحتكارها، وبشكل دائم، وإلى الأبد ! الأنانية لدى أفراد شعبنا تصل أقصى مستوياتها في العالم ! لو كان هؤلاء الموطنين الأنانيين يقدرون، بعد موتهم، على حمل ممتلكاتهم معهم إلى الآخرة، لَمَا تركوا لنا سوى الصحراء الفارغة والقاحلة ! ننتقد بعض الحُكّام، ونتّهم بعض المسئولين، وندين انحرافاتهم، لكن أي مواطن جديد منّا يصل إلى أية مسئولية، يميل إلى إعادة إنتاج كل الانحرافات القديمة المنبوذة، من محسوبية، وزَبُونِيّة، ورشوة، وغشّ، وتحايل، واستغلال النفوذ، واغتناء غير مشروع، إلى آخره. وتتكرّر هذه الظواهر المُجتمعية، يوما بعد يوم، وعاما بعد عام، وجيلاً بعد جيل. فإلى أين نحن ذاهبون ؟
آدم : آيْ، هَايْ ! هذه انتقادات عديدة وجسيمة ! أنت تُدوّخني بمثل هذا السيل من النقد القاسي. دماغي يتهاوى في حالة من الحِيرة. لكن إِنْتَظِر لحظة، إنتظر، أنتَ تصف الانحرافات، ولا تُحلّل أسبابها. فما هي أسباب هذه الأخطاء ؟
إبراهيم : السبب الجوهري في انحرافاتنا المُجتمعية هو أن مواطنينا لا يعرفون جيّدا كيف يعالجون التناقض بين الفرد والمُجتمع. لأنهم يمارسون الأنانية. ولأنهم يميلون إلى تغليب المنطق الفردي على المنطق المُجتمعي([2]). مزاجهم ينحاز نحو الذّاتية، وحب النفس، والغُرور، والأنانية. ولأنهم يُفضّلون التّحايل على الاستقامة. ويميلون إلى تغليب مزاج الانتهازية على نزعة التّضامن. وفي تراثنا الثقافي، فإن مصطلح الشعب، أو مفهوم المُجتمع، أو مفهوم الدولة، كل هذه المفاهيم هي جديدة نسبيا في تقاليدنا. شعبنا عاش طويلا في إطار العقل العائلي، والعقل القَبلي. ثم تزايد عدد السّكان، وتضخّمت الهجرة من القرى إلى المُدن، وكَبُرت العقلية الأنانية، وانتشرت الفردانية، إلى إن قضت على النزعة القبلية. وأصبحنا مجرد شَتَات من الأفراد الأنانيين. لكن مفهوم المُواطنة لا زال جديدا، أو غريبا، بالنسبة لنا.  وَوَعْي مواطنينا بالبُعْد المُجتمعي يبقى ضعيفا، أو مُنعدما. يريد اليوم الجزء المُتقدّم من شعبنا أن يتطور كمجتمع حَدَاثي (من كلمة الحداثة)، وديمقراطي، في إطار دولة الحق والقانون، وحقوق الإنسان. لكننا لن نستطيع أبدا أن نبني مجتمعا مُتماسكا، ولا أن نُنمّي وطنا مُتقدّما، ما دامت نسبة كبيرة من مواطنينا غارقة في الأنانية، وفي الفردانية ! والسبيل الوحيد لكي نتحرّك كشعب، أو كمجتمع، يقتضي بالضرورة أن يُغلّب مُجمل مواطنينا في حياتهم اليومية منطق الجماعة على منطق الفرد، وأن يُفضّلوا نزعة التضامن على مزاج الانتهازية.   
آدم : أوف ! دوّختني بهذه الانتقادات ! وماذا تريدنا أن نفعل ؟ ما العمل ؟ هل تريد أن نغيّر البشر ؟ أنت تحلم ! تغيير طريقة تفكير البشر غير ممكنة في المرحلة التاريخية الحالية. وحتى إذا إفترضنا جدلاً أن جلّ مواطنين يعانون من عدة انحرافات مُجتمعية، فلا يمكن إصلاح الأجيال الحالية. هذه الأجيال الحالية عقيمة. يجب أن ننتظر الأجيال المُقبلة. إصلاح المواطنين سيأتي فيما بعد، وبشكل تلقائي. لن يحدث تغيير عقليّة البشر قبل تَعَاقُب عدّة أجيال مُتواليّة. أي بعد مرور عِدّة قرون.   
إبراهيم : لا يا مُواطن ! الاعتماد على العفوية مآله هو الفشل ! لا يمكن أن يحدث إصلاح عقل المواطنين بشكل تلقائي ! ولا يقبل تأجيله إلى آجال بعيدة. فمنذ سنوات، وعقود، ونحن نؤجّل الإصلاحات الضرورية. يجب أن نبدأ اليوم، وليس غدًا، في تغيير عقليات المُواطنين. وإلاّ، فإنك لن تستطيع تحقيق أي إصلاح سياسي، أو مُجتمعي. أنظر إلى حالنا اليوم، الدولة في أزمة، المؤسّسات في أزمة، الأحزاب في أزمة، الاقتصاد في أزمة، الثقافة في أزمة، المواطن في أزمة، العائلة في أزمة، التعليم في أزمة، المجتمع كله مُتأزّم ! فإذا لم نغيّر المنطق الذي يشتغل به المواطنون، فإننا لن نستطيع معالجة أي مشكل مُجتمعي، سواءا كان سياسيا، أم قانونيا، أم اقتصاديا، أم ثقافيا ! فلا الدولة، ولا الأحزاب السياسية، ولا الجمعيات، ولا غيرها من المؤسّسات، تستطيع وحدها أن تخلق أمة مُتماسكة، فعّالة، ومُتقدّمة، بواسطة تجميع مواطنين يتميّزون بغلبة الأنانية، أو الفردانية، أو الانتهازية ! ولا تنس أن سكان شمال إفريقيا (ليبيا، تونس، الجزائر،المغرب، وموريتانيا) يشكلون شعبا واحدا عبر التاريخ. ويجب إعادة توحيدهم، وتكاملهم، في إطار دولة، أو فدرالية، مُوحّدة، ولو أن الدّول المغاربية الحاليّة تفرض بالقوة الخضوع لاستمرار التقسيم الجغرافي الذي رسّخه الاستعمار.  
آدم : لا، لا، أنت تحلم ! تُريد تغيير ذِهْنِيّات البشر ؟ هذا مستحيل !
إبراهيم : لو لم يحدث تغيير عقليّة المواطن في بعض البلدان المُتقدّمة من العالم، مثل تلك البلدان التي ذكرتها لك سابقا، لكان من السّهل عليّ أن أشكّ في إمكانية تحقيق هذا التّغيير.
 
3)          هل مناهج التفكير لدى مواطنينا سليمة ؟
آدم : الثوريون السابقون دعوا إلى تغيير شكل الحُكم، أو تغيير هيكل الدولة، أو تغيير البنيات التَّحْتِيّة للمجتمع، أو تغيير علاقات الإنتاج، وأنت تدعونا الآن إلى تغيير عقل المواطن ؟ هذا غير ممكن ! هل يعقل أن تحاول تبديل طبيعة البشر ؟
إبراهيم : قُلْ لي يا مواطن ! هل تستطيع أن تنكر أن المواطنين يحملون عقليات مُختلفة ؟ ألا تُلاحظ داخل المجتمع وجود عدّة أنماط من العقليّات (أو الذهنيّات) ؟ ألا تُلاحظ أن عقلية كل مواطن هي نتاج مجتمعي، أو منتوج ثقافي، ناتج عن ظروف شخصية ومجتمعية مُحدّدة، وليس حصرا نِتَاجًا بَيُولوجيا، أو وِراثيا، أو فِطريا، أو غَريزيا ؟ ألا تعترف أن هذه العقليات تتفاوت في صوابها، أو في فعاليتها، أو في قيمتها المُجتمعية ؟ وإذا اعترفتَ بأن نوعا مُحدّدا من هذه العقليات هو أكثر إفادة للمجتمع بالمقارنة مع الأنواع الأخرى، فلماذا لا نُحاول تعميم النوع المُتقدّم من العقليات على أكثر ما يمكن من المواطنين ؟ خاصةً وأن العقلية الجيّدة تَنتج أساسا عن التّربية، وعن التكوين، والدراسة، والتجربة، والقدرة على الاستيعاب.
آدم : بعض مواطنينا سيقولون لك أن العقل هو هبة من الله، وأن الله هو الذي يعطي العقل الذي يريد، ولمن يريد، وكيف ما يريد. فلا يمكننا أن نغيّر أي شيء في عقل البشر.
إبراهيم : دع الله في وقار وإجلال، ولا تحشره في مشاكل البشر. الله بريء من كل افتراضات البشر. الله لا يتدخّل في شؤون المجتمع. وكلّما أراد البشر مُعالجة مشاكلهم، فلا بد لهم من الاعتماد على أنفسهم، وعلى جهدهم، وليس على قوى خارقة.
آدم : وماذا تقترح أنت ؟ قل لي، ماذا تريد ؟ هل تدعونا إلى إعادة التفكير في هذه المسائل المُبهمة، والغامضة، والمعقّدة، والمُحيّرة، مثل العقل، والفكر، والوعي، والمنهج، والذكاء، والنفس، والخُلُق ؟
إبراهيم : من المظاهر المُثيرة للدّهشة في المجتمع، أن كل المواطنين يعتقدون تلقائيا أنهم يعرفون جيّدا كيف يلزم أن يفكّروا. ويفترضون أن طريقتهم في التفكير سليمة، أو جيّدة. ويعتقد المواطنون أن كل الأفراد يستعملون نفس المنهج في التفكير. وأنهم كلّهم مُتساوون في القُدُرة على التفكير السّليم. وهذه الظنون هي غير صحيحة. فَعِندما يُراقب الملاحظ كيف يفكّر مختلف المواطنين، يكتشف أن أغلبية المواطنين لا يعرفون كيف يفكرون، ولا يُدركون ما هي الطريقة الصحيحة في التفكير. فهل يمكن لمواطن مُعيّن، أن يفكّر بمنهج سليم، إذا كان يجهل قواعد المنطق، ولا يعرف مكتسبات مختلف العلوم العصرية ؟ وهل يمكن لمواطن أن يفكّر بأسلوب موضوعي، إذا كان لا يعي بأن ذاتيّته تُسيطر على عقله ؟ أو إذا كان لا يعرف كيف ينقص من تأثير ذاتيّته ؟ وهل يمكن لِمُواطن مُحدّد أن يفكّر بطريقة سليمة أو جيّدة، إذا كان لا يجمع مُجمل المُعطيات الضرورية في كلّ تفكير مُحدّد، أو لا يُراكم المعلومات اللازمة فيه، ولا يُخضعها لفحص نقدي، لكي يتأكّد من صحّتها ؟ وهل يمكن لمواطن لا يعي مدى تأثّره العميق بمعتقدات مجتمعه القديمة أو المُريبة، أن يفكّر بمنهج عقلاني ؟ لا، مثل هذا المُواطن لا يقدر على القيام بتفكير سّليم. فتكون الخسائر الإجمالية النّاتجة عن ضعف منهجه في التفكير كبيرة وفادحة، سواءً على مستوى الشخص المعني، أم على مستوى المجتمع.
آدم : تدّعي أنت أن كثيرا من المواطنين لا يعرفون جيّدا كيف يفكّرون بشكل سليم، ألا تُبالغ شيئا ما ؟ ألا تحتقر الشعب ؟
إبراهيم : أُنْظُر يا مواطن ! حينما يولد المواطنون، فإنهم لا يُدركون بَعْدُ فنّ التفكير. فإذا لم يعلمهم المجتمع فنّ التفكير، فمن أين سيأتيهم هذا الفن ؟ فنّ التفكير هو نتاج مركّز لقرون من التجارب البشرية، والمجتمعية، الفردية والجماعية. ويُفترض في المدرسة العمومية أنها تعلّم التلاميذ والطلبة، ليس فقط القراءة، والكتابة، والحساب، بل يفترض فيها أيضا أنها تعلّمهم قواعد المنطق، والتفكير. فإذا لم يتعلم المواطن فن التفكير، فمن أين سيأتيه هذا الفن ؟ هل سينزل عليه تِلْقائيّا من السماء ؟ هذا مستحيل ! هل يمكن للمواطنين أن يتعلّموا فن التفكير بشكل عفوي، عبر تجارب عشوائية ؟ هذا غير ممكن ! قد يكون هذا ممكنا بالنسبة لأقلّية من المواطنين المَوْهُوبين. لكنه يبقى غير ممكن بالنسبة لأغلبية المواطنين.
آدم : تَدّعي أنت أن جزءا من مواطني الشعب لا يعرفون كيف يفكّرون ! ألاَ تُبالغ شيئا ما ؟
إبراهيم : أُنْظُر مثلا إلى بعض المظاهر العاديّة أو التّافهة في المجتمع، مثل حوادث السير (ويحتلّ فيها المغرب المرتبة الأولى عربيا، والثالية عالميا). إن جزءا هامّا منها ناتج عن كون بعض المواطنين لا يعرفون جيّدًا كيف يُدبّرون سِيّاقة السّيارة أو الشّاحنة عبر مختلف الطرقات. بعبارة أخرى، فإن طريقة تفكيرهم أثناء تدبير سِيّاقة السيارة تكون أقل من المستوى المطلوب. أنظر أيضا إلى مثال الإصابة ببعض الأمراض. إن عددا هامّا من الأمراض ناتج عن كون بعض المواطنين لا يعرفون جيّدًا كيف يفكّرون، ولا كيف يحتاطون، ولا كيف يُتقنون سلوكهم. حيث يرتكب المواطنون الكثير من الأخطاء أو الحماقات أثناء تصرّفهم. أُنْظُرْ أيضا إلى مثال أولائك المواطنين الذين يدخلون في بعض المشاريع التي تتجاوز قُدُرَاتِهم الماليّة، فَتَكْبُر فَجأة حاجِياتهم، ثمّ يَسقطون في وَرْطَة، فتدفعهم رغبتهم الجامحة في النّجاح في مشاريعهم إلى اللجوء إلى الكذب، أو إلى الغشّ، أو استغلال النفوذ، أو الرّشوة، أو السّرقة، أو غيرها من الجنايات أو الجرائم. فهل كل المواطنين بارعين في تدبير حياتهم الشخصية ؟ أليس بعض المواطنين رديئين في طريقة تفكيرهم، أو مُتهوّرين في سلوكهم ؟   
آدم : على أي حال، لا يمكن لنا أن نَنْكُر أن المواطنين يفكرون في كل يوم، وفي كل لحظة. ويتدبّرون أمورهم حسب المُستطاع.
إبراهيم : فعلا، رغم تلك الصعوبة في التفكير، تفرض ديناميكية الحياة على كلّ مواطن أن يُفكّر بطريقة مَا، ولو كانت ناقصة، أو خاطئة. وتفرض عليه، في كل لحظة، بأن يستنتج بسرعة خُلاصة مُعيّنة، وأن يُطبّقها. فإن نجح جزئيّا في تطبيقها، يستفيد من نتائجها، ثم يَمُرّ إلى شيء آخر. وإن فشل تَمامًا، يَلْجَأ إلى تجريب فكرة أخرى. وهكذا دواليك. دون أن يتوقّف المواطن العادي عند ضرورة فحص، أو مُحاولة ضبط، منهجه في التفكير. وغالبا ما تكون النتائج المُحصّلة نسبيّة، أو جزئية. فلا تكون هذه النتائج ناجحة مئة في المئة، ولا هي فاشلة مئة في المائة. فلا يَحِسّ المواطن بضرورة الوقوف عند فحص منهجه في التفكير. وإذا تجرّأتَ وقُلتَ لمواطن مُعيّن أنه لا يعرف كيف يفكّر بمنهج سليم، فإنه سوف ينزعج منك، وسيقلق، وسيقول لك بأنك تحتقره، أو أنك تتّهمه بالحُمق، أو بالبلادة. ويمكن أن يغضب هذا المواطن، وأن يقول لك بأنه يرفض أن توجّه له مثل هذا النقد.
آدم : ربّما أن السبب يأتي من كون أحداث الحياة لا تقوم بفرز واضح بين الأشخاص الذين يُتقنون منهج التفكير، والذين لا يُتقنونه.
إبراهيم : فعلا ! هذا صحيح. أُنْظُر مثلا إلى ما يجري في المدرسة. طِوَالَ حياته الدّراسية، يقوم التلميذ أو الطالب بتمارين، أو يجتاز امتحانات. ويلاحظ أحيانا أن النقطة التي حصل عليها هبطت إلى مستوى يَقِلّ عن المُعدّل المطلوب. وفي مثل هذه الحالات، يستنتج التلميذ أو الطالب أن المعارف التي جمعها كانت ناقصة، أو أن منهجه في التفكير (أثناء الامتحان) كان ناقصا، أو خاطئا، أو رديئا. ولا يمكنه أن يَنْكُر وجود هذا النقص، ولا يقدر على نفي هذا الضعف. خاصّة وأن أصدقائه يحصلون على نتائج أحسن منه. ثم يُحاول ذاك التلميذ أو الطالب استدراك هذا النقص خلال تَهْيِئَة الامتحانات المقبلة. أما في الحياة العادية للرّاشدين، فلا توجد على العموم امتحانات واضحة. أو لنقل على الأقل أن أحداث الحياة لا تظهر للمواطن كامتحانات، أو كمباريات. وبالتالي، فإن المواطن لا يستطيع أن يستنتج منها أن معارفه ناقصة، أو أن خللاً مَا يوجد في منهج تفكيره. فلا يحسّ بالحاجة إلى مراجعة منهجه في التفكير، ولا إلى فحصه، أو تقويمه. بل على عكس ذلك، يظن عفويّا كل مواطن أنه يفكر مثل كل المواطنين الآخرين. بل يعتقد أنه يفكر مثل المواطنين الأكثر ذكاءً، وعِلْمًا، وخِبْرةً، وثقافةً. وهذا غرور ذاتي وخاطىء.   
 
4)          الحاجة إلى عَقْلَنَة المُجتمع
آدم : رغم ذلك، أظن أنك تُبالغ شيئا مَا في نقد الشعب. بل هذه الانتقادات تبدُو كاحتقار للشعب، أو كإهانة له. وعندما تصف بِدقّة عيوب المواطنين، فإنك تُصوّرهم وكأنهم مُتخلّفين. وتُقلّل هكذا من قيمة الشعب. والمواطن الذي سوف يسمعك تنتقد الشعب، يمكن أن يُحِسّ بأنك تجرح عواطفه. وقد تجعله يُحسّ بالدّونية. فاحذر من غضب الشعب !
إبراهيم : معك الحق ! كلّ مُفكّر يكشف للناس عيوبهم، يمكن أن يجلب لنفسه عداوتهم. ومثال الفيلسوف سُقراط واضح في هذا المجال. فعندما تضايق الأغنياء، والأسياد، والأعيان، والحُكّام، من انتقادات سقراط، (في قرابة سنة 399 قبل ميلاد المسيح) إتّهموه بالخروج عن دين الدولة، وبالإلحاد، وبإفساد الشباب، فحكموا عليه بالإعدام.
آدم : فلماذا تزعج نفسك بنقد الشعب ؟ ألا تخشى أن يحدث لك ما حدث لسُقراط ؟ لاَ تَشْغَل نفسك بمشاكل المجتمع ! إِمْنَح نفسك شيئا من الرّاحة ! إفعل مثل باقي المواطنين. إهتم فقط بشؤونك الشخصية. لكي يتركوك هنيئا، إنشغل مثلا بالطّوَاف في الملاهي، أو بالخمر، أو بالجنس، أو بالغناء، أو بالرّقص، أو بكرة القدم ! وإذا أردتَ أن يُقدّروك، أَغْدِق عليهم بالمدح، ولو كان نِفاقًا !
إبراهيم : الذين حَكموا بالإعدام على فيلسوف يطرح أسئلة مُحرجة، أثبتوا أن نقد هذا الفيلسوف لهم كان صحيحا. فحينما أقدموا على إعدام الفيلسوف سُقراط، فَضَحُوا أنهم فعلا جُهلاء وأشرار. والغريب، هو أن إعدام الفيلسوف سُقراط يُذكرني دائما باغتيال المناضلين المهدي بن بركة، وعمر بنجلون.
آدم : هَا أنتَ ترى ! النقد يكون دائما جارحا، وخطيرا !
إبراهيم : أُنظر يا مُواطن ! يجب أن لا ننساق مع الانفعالات السّهلة. يجب أن نتمسّك بالحقيقة. وغالبا ما تكون الحقيقة مُستترة. النقد الجيّد يُحلّل الأفكار أو الأفعال، ولا يُصدر أحكام قِيمَة على الشخص المُنتقد. ولا يُشكّل النقد إهانة. وإذا لم ينفع النقد، فإنه لا يضرّ. الرغبة في الإفادة، وفي الإصلاح، هي التي تَحُثّ على النقد. النقد هو مُجرد تنبيه إلى ما هو خاطئ، أو ناقص، أو غير عقلاني، إِمّا في فكرنا، وإمّا في سلوكنا. ولا يُوجِب الاحترامُ بالضرورة التملّقَ. ولا يُبرّر التقديرُ الإكثارَ من المدح. وإذا أَسْهَبْتُ في تمجيد الشعب، أو تعظيمه، مع طمس أخطائه، أو نواقصه، فإن خطابي لن يُفِيد الشعب، بل سوف يُضَلّله. لأنه سوف يعطيه صورة خاطئة عن واقعه الفعلي. أما النقد الذي يُبرز أخطاء شخص مُحدّد، أو نواقص شعب مُعيّن، فإنه يُساعده على مُراجعة نفسه، ويَحُثّه على بدل مجهودات لتطوير أفكاره، أو لتقويم مُمارسته. فيصبح المُنْتَقَد أكثر سعادة. لأن النقد الجيّد يُساعده على إعلاء مستوى أدائه، أو فعاليّته، أو جودة مُنجزاته.
آدم : أخشى أنه، إذا أصبح جلّ المواطنين يتبادلون النقد، أن تَحُلّ أزمة جديدة بالمجتمع، حيث يمكن أن تتكاثر الخلافات، والنزاعات، والصّدامات، ويمكن أن تتعطّل آليات المُجتمع.
إبراهيم : كَلاّ ! لا تُبالغ ! لا يصح أن نخاف من تبادل النقد. أنظر مثلا إلى الفُنون الجميلة. ما هي الفنون التي تكون ذات فائدة كبيرة على الشعب ؟ إنها الفنون التي تنتقد الشعب بأسلوب فَنّي، مثل التمثيل في المسرح، والفُكاهة، والنّكت، والسّخرية، ورسوم الكاريكاتير، والأدب، والنقد الفلسفي، إلى آخره. والشعب لا يقبل فقط هذه الفنون النّاقِدة، بل يحبّها ويُقدّرها. وأعزّ تمثيلية، أو نكتة، لدى الجماهير، هي تلك التي تتهكّم على عُيُوبه. وعلى خلاف بعض الظنون، فإن السياسيين الذين يفعلون العكس، أي الذين يُسْهِبُون في مدح الشعب، أو في تعظيمه، بهدف الحصول على أصواته الانتخابية، فإنهم يَضُرّون بالشعب. لماذا ؟ لأن هؤلاء السياسيين يزعمون أن أسباب مُعاناة الشعب تكمن كلها في المُنافسين الذين يُنافسونهم، أي في بعض المسئولين المُحدّدين فقط، وهذا الادّعاء خاطئ، أو كاذب. لأنه يستحيل أن نُقَوّم الحُكّام، أو المسئولين الكبار، إذا لم نعمل في نفس الوقت على مُساعدة مُجمل أفراد الشعب على تصحيح مناهجهم وسلوكياتهم.
آدم : لكن المواطنين ليسوا مُغفّلين لكي يرتكبوا كل تلك الأخطاء، أو كلّ تلك النّواقص الكثيرة التي تنتقدها أنتَ !
إبراهيم : لم أقل لك أن كلّ من ارتكب خطأ هو مُغفّل. الخطأ، أو حتى الانحراف، هو شيء موضوعي في حياتنا. إنه ظاهرة مُجتمعية شائعة، طبيعية، ومُتجدّدة. نحن البشر، نُخطىء كلّنا من وقت لآخر. و تتفاوت أخطأنا في نوعيتها، وفي أهميتها. بل خلال بعض الفترات من حياتنا، لا نستطيع أن نتعلّم إلاّ من خلال الأخطاء التي نرتكبها. وأكبر العُيوب، ليس هو ارتكاب خطأ ما، وإنما هو عدم الإنصات لمن ينتقد ذلك الخطأ، وعدم القُدرة على الاستفادة من نقده. لهذا السبب، نحتاج كُلّنا، وباستمرار، إلى تبادل النقد فيما بيننا. لأن النقد هو وحده الذي يُساعدنا على مُراجعة أفكارنا، أو على فحص سلوكنا، لكي نُصحّح ما هو خاطىء فينا، أو لكي نُكمّل ما هو ناقص عندنا. والشعب الذي لا يُمارس النقد المُتبادل، فإن مجتمعه يسقط آجِلا أم عاجلا في الانحطاط. 
آدم : وهل الأخطاء شائعة في المُجتمع إلى هذا الحدّ الذي تُصوّره أنت ؟
إبراهيم :  نعم، يا مُواطن ! مع الأسف، العيوب مُنتشرة في مجتمعنا ! والانتقادات التي يصفها المواطنون حول بعضهم البعض، تُؤكّد صحّة هذه الانتقادات. يمكن لأي مراقب موضوعي يتجوّل عبر مجتمعنا أن يلاحظ الكثير من الأخطاء، أو النواقص، في أفكار المواطنين، وفي أفعالهم. بل يَحْمِل بعض المواطنين أفكارا تضرّ بمصالحهم الشخصية، أو يقومون بسُلوكيّات تتسبّب في شقائهم، وفي معاناة مجتمعهم. و يتصرف بعض المواطنين بشكل مُعاكس لما يمليه العقل السليم. فكم من مرّة نرى في المجتمع مسائل مقلوبة على رأسها !
آدم : هذا كلام عام. أريد كلامًا دقيقًا. أعطيني بضعة أمثلة واضحة !
إبراهيم : طيّب ! أعطيك بعض الأمثلة : 1) حينما تسمح السّلطات المحليّة للمستثمرين الصّغار بإقامة أنشطة تجارية أو اقتصادية، مُلوّثة أو مُزعجة، في الطبقة الأرضية، تحت طبقات سكنية، فإنها تُسيء إلى هؤلاء المستثمرين، وتُسيء على الخصوص للسّكان. لأن السّكان يتألّمُون ويعانون من الأضرار التي تحدثها لهم تلك الأنشطة الاقتصادية. 2) الدولة التي لا تُراقب المنتجات والخدمات، ولا تهتمّ بشكاوى المُستهلكين، تُشجّع على الفوضى، ثم تصبح هي نفسها ضحية لتلك الفوضى. 3) عندما يتكاثر الوسطاء فيما بين المُنتجين المُباشرين والمُستهلكين (مثلما يحدث في ميدان المنتجات الزراعية)، فإن المُتَضَرّرين الكبار هم من جهة أولى المُستهلكون، ومن جهة ثانية المنتجون المباشرون (أي الفلاحون). 4) المواطنون الذين يتخلّصون من نفاياتهم عبر رميها على بعد مسافة مُعيّنة من مَسْكنهم، يضرون بجيرانهم وبأنفسهم. 5) سّائقو السيارات الذين لا يحترمون قوانين السّير، يُعرّضون أنفسهم وغيرهم لخطر قاتل. 6) التلميذ الذي يغشّ في الامتحانات، يُغالط نفسه أكثر مِمّا يُغالط أساتذته. 7) البائع الذي يحتال في جودة بضائعه، يفقد بسرعة زبائنه، ويحطّم مستقبله المهني. 8) التّاجر الذي يُبالغ في هامش الربح الذي يجنيه، يحثّ زبائنه على الذهاب عند مُنافسيه. 9) الشاب الذي يهرب من المدرسة، ويرفض التكوين المهني، ويبالغ في اللّعب، ويفضّل تلبية حاجياته عبر السرقة، يُخرّب مستقبله. 10) الشاب الذي يتعاطى للتّدخين، ثم يألف الاستمتاع به، ثم يصبح مُدْمِنًا، يضرّ بمحيطه، ويُهيّئ شروط إصابته بالسّرطان، أو بأمراض قلبية، ويموت قبل الأوان. 11) المواطن الذي يتحايل على القانون، أو يتصرّف بأنانية، أو يمارس الغشّ، يحثّ بقية المجتمع على تقليده، فيتحول مجتمعه إلى غابة، أو إلى جحيم. 12) المسئول الذي يستغلّ نفوذه للإغتناء بطرق غير مشروعة، يدفع بلده نحو الانحراف، ثم الأزمة، ثم الثورة، بما فيها من خَراب. 13) الحُكّام الذين يُسخّرون الشعب لخدمة مصالحهم الخاصة، بدلا من تسخير طاقاتهم لخدمة الشعب، يحفرون قبورهم بأيديهم.
آدم : بَارَاكَا ! كِفَاية ! فهمتك ! تكفي هذه الأمثلة. الفكرة واضحة. وهي التاليّة : لا يمكن أن تضرّ بغيرك، دون أن تضرّ بنفسك !
إبراهيم : عظيم ! لقد فهمتني ! هذه فكرة أساسية ! إنها قانون من بين القوانين التي تتحكّم في تطور المجتمع. وهذا القانون هو التالي : لا يمكن لأي مُكوّن من بين مُكونات المُجتمع (سواءًا كان فردًا أم جماعة) أن يَضرّ بغيره، دون أن يَضرّ بنفسه ! نحن متفقون على هذه الخلاصة.
 
5)          يُنتج ضعف التعليم شعبا جاهلا
آدم : أرى أنك تُعطي أهمية بالغة لجهل الشعب، أو لتّخلّفه. لماذا تُركّز على الجهل إلى هذه الدّرجة ؟
إبراهيم : منذ قرابة العام 445 قبل ميلاد المسيح، كان الفيلسوف سُقراط يقول أن السبب الذي يجعل الإنسان يرتكب الخطيئة، هو افتقاره إلى المعرفة. وأن السبب الأول للشّر، هو الجهل([3]). ويمكن أن نضيف : أن أهمّ العوامل التي تضمن استمرارية الاستبداد السياسي، أو التي تقوم بإعادة إنتاج تّخلّف المُجتمع، هي الجهل. وحتى الأنانية، فإنها ترتبط في غالب الحالات بالجهل. ونلاحظ عبر التاريخ، أن الأساس الذي يسمح بتشييد نظام سياسي استبدادي هو بالضبط جهل الشعب. ومجمل الأنظمة السياسية المُستبدّة تُدرك أن أحسن وسيلة لدَوَام التّحكّم في الشعب، أو لاستمرار استغلاله، هي تَجهِيله. وحينما يكون الشعب جاهلا، تَسْهُل مُغالطته، ويسهل التّلاعب بِمُكوّناته. كما يسهل تجنيد جماعات، أو جيوش، من بين صفوف الشعب، لقمع البقية منه، سوءًا كانت ثورية، أم مُعارضة، أم مُنْتقدة. أما الشعب الذي يكون مُتعلّما، أو مُتنوّرا، أو مُثقّفا، فإنه يصبح قادرا على إدراك مصالحه، و مُؤهّلا للدفاع عن حقوقه. والشعب الذي يكون مُطّلعا على مُجمل معارف وعلوم عصره، يصبح مُحَصّنا ضد أكاذيب الحُكّام، وضد مُناوراتهم. بل يستطيع هذا الشعب المُثقّف أن يناضل، وأن يفرض إقامة الديمقراطية على أي حُكّام يحكُمونه.
آدم : لكن جهل الشعب ليس ظاهرة أزلية ! بل كل شعب جاهل يتطوّر حتمًا فيما بعد إلى شعب مُثقّف أو عالم !
إبراهيم : ولكن يا مُواطن، التّطور من الجهل إلى العِلم، لا يحدث بشكل عفوي، أو تلقائي، أو عشوائي ! بل يتطلب منهجا دقيقا، ومجهودا مُتواصلا. قُلْ لِي : ما هي مصادر المعرفة ؟ هل الشعب يُدرك مصادر المعرفة ؟ هل يحرص على دراستها ؟ كيف يمكن لشعب لا يقرأ، ولا يكتب، كيف يمكن له أن يُراكم المعارف، أو أن يُطوّرها، أو أن ينقلها إلى الأجيال القادمة ؟ أنظر ! الشعوب المُتقدّمة تحرص على تجميع المعرفة، وشعبنا المُتخلّف لا يهتم سوى بتجميع المال ! وفي النهاية، لا يحصل شعبنا لا على المال، ولا على المعرفة، بل يحصد التّخلف !
آدم : تصف النظام السياسي بالمغرب بأنه مُستبد. لكن هذا النظام هو الذي نظّم التّعليم العُمومي، وعمّمه، وطوّره. والتعليم هو أساس الثقافة. وبالتّالي، لا يُقبل ربط الاستبداد بالجهل.
إبراهيم : نعم، على مستوى مظهر الأشياء، يظهر كأنّ نظام الملك الحسن الثاني الاستبدادي هو الذي نظّم التّعليم العمومي، وعمّمه، وطوّره. لكن في الواقع، حدث تطوير التعليم بالمغرب رغم أنف الملك الحسن الثاني. وحينما نُعمّق تحليل الأشياء، نكتشف أن الملك الحسن الثاني حوّل التعليم العمومي إلى آلة ضخمة للدّعاية، وللتّأثير على عقول أجيال مُتواليّة من الأطفال والشّبان. وظلّ الهمّ الوحيد لدى الملك الحسن الثاني هو استغلال كل إمكانيّات الدولة، بما فيها التعليم والراديو والتلفزة والدين، لضمان دوام نظام مَلَكِيّة استبدادية. وأعطى الحسن الثاني لمادة التربية الإسلامية حيزا ضخما في التّعليم. وتُوحِي هذه التربية الإسلامية للتلاميذ بأن المَلَكِية الاستبدادية هي من وَصَايا الإسلام. و يُحوّل هذا التكوينُ الديني المواطنَ إلى آلة مُبرمجة لرفض كل ما هو مخالف للمَلَكِية الاستبدادية، أو للدّين، ولو كان معقولا، أو عِلميّا. وليس غريبا أن يظلّ التعليم في المغرب في حالة فشل، أو إفلاس. بينما ينصّ الإعلان العالمي لحقوق الانسان لسنة 1948 على ما يلي : « لكل شخص الحق في التعليم. [...] يجب أن يستهدف التعليم التنمية الكاملة لشخصية الإنسان، وتعزيز احترام حقوق الإنسان، والحريات الأساسية. [...]» (فصل 26). بمعنى أنه لا يحق للدّولة، أو للنّظام السياسي، أن يُحوّل التعليم العمومي إلى آلة ضخمة للدّعاية السياسية، أو الدينيّة. أي أنه يلزم أن يكون التعليم العمومي مُحايدًا، وغير منحاز، لأية قوّة سياسية، ولا لأية مدرسة دينيّة. واستغلال سذاجة التلاميذ، لِوَشْمهم، على مدى الحياة، بإيديولوجية سياسية, أو دينيّة، يُعتبر جريمة في حق الإنسانية.
آدم : وهل تغيّرت هذه السياسة بالمغرب عبر مرور السّنين ؟
إبراهيم : لا ! لا زالت هذه السياسة مُستمرة إلى اليوم ! حيث لا زال التعليم العمومي بالمغرب يُنتج أجيالا من الشباب تَتّسم غالبيتهم (وليس كلّهم) بالجهل, والخُضوع، والخُنوع، والطّاعة، والتّبعية، والاستلاب بالدين، وتقديس المَلِك، أو تقديس المَلَكِية الاستبدادية. حيث تحوّل جهاز التعليم إلى نقيضه. وبدلاً من أن يُلقّن التعليم العمومي بالمغرب المعرفة، والعلوم، والإبداع، والفلسفة، والفكر النقدي، والتضامن المُجتمعي، فإنه يُلقن على الخُصوص الحِفظ، والسّرد، والإنشاد، والتقليد، والتّكرار، والخضوع، والغُرور، والأنانية، والفردانية، والانتهازية، والغشّ، والنّفاق، إلى آخره. ونجد ظاهرة مماثلة في مُجمل الأنظمة السياسية الاستبدادية. فيصبح هكذا جزء هام من الشعب يُدافع على دوام الاستبداد، والاستغلال، والجهل، ولو أن ذلك الاستبداد يُناقض مصالحه الأساسية.
آدم : ورغم ذلك، فإن تعميم التعليم، ونشر المعرفة، هو بالتّأكيد من مصلحة الطبقات السّائدة.
إبراهيم : نعم ولا ! نعم، لأن تعميم تعليم جيّد يهيّئ للطبقات السّائدة الكوادِر، والأطُر، والتقنيين، والمأجورين، الذين تحتاجهم هذه الطبقات السائدة في مؤسّساتها، وفي شركاتها، وفي مزارعها. ولا، لأن نشر المعرفة والثقافة يُساهم في إنضاج شروط الثورة المجتمعية ضدّ الاستبداد. الشيء الذي يُخيف الطبقات السّائدة.
آدم : ورغم ذلك، فإن المستوى الثقافي أو السياسي متقدّم عندنا في المغرب.
إبراهيم : لا يا مُواطن ! هذا مجرد افتراض ذاتي، ولا توجد مُعطيات تُثْبِت كلامك. لنتساءل : لماذا لم تحدث في المغرب ثورة مُماثلة للثورات الديمقراطية التي حدثت في تونس، ومصر، واليمن، وليبيا، وسوريا، خلال سنتي 2011، و 2012، رغم أن النظام السياسي القائم في المغرب يُشبه نظام زين العابدين في تونس، أو نظام حسني مُبارك في مصر ؟ الجواب هو : لأن أفراد الشعب بالمغرب لم ينضجوا بَعْدُ بما فيه الكفاية على مستويات المعرفة، أو الوعي السياسي، أو الإدراك المُجتمعي. وقد أثبتت بالملموس هذه الثورات أن مستوى النضج السياسي لدى شعوب تونس، ومصر، واليمن، وسوريا، (مع استثناء في حالة ليبيا)، كان نسبيّا أكثر تقدّما من مستوى النضج السياسي لدى الشعب المغربي (أو لدى شعوب السعودية، والأمارات، إلى آخره). خاصة وأن النُّظُم السياسية كانت مُتشابهة في كل من مصر، وتونس، والمغرب.      
 
6)          الطبقة العاملة أيضا
آدم : ألا تتناقض مع نفسك ؟ في كلام آخر، تُناصر الاشتراكية، وتُمجّد الطبقة العاملة، طبقة الكادحين، وتدّعي أنها هي الطبقة الثّورية، والطّليعية، وتُلصق بها كل الخِصال الحميدة، وفي نفس الوقت تنتقد الشعب. وماركسيون آخرون يدّعون أن الطبقة العاملة هي التي سوف تُحرّر المجتمع برمّته. بينما الطبقة العاملة هي جزء من الشعب. وصِفات أفراد الشعب، توجد أيضا في أفراد الطبقة العاملة. وإذا كان الشعب مُتخلّفا، فطبقته العاملة هي أيضا مُتخلّفة.
إبراهيم : الخطأ الذي وصفتَه هو خطأ موجود لدى بعض الماركسيين العَامّيين. أما أنا، فأعتبر أن الطبقة العاملة مثلها مثل الشعب، أي أنها وحدة مُتناقضة. ليست الطبقة العاملة مُنسجمة. وليس العمّال كلّهم مبدئيين، أو ديموقراطيين، أو ثوريين، أو اشتراكيين. فيهم التقدّميون والمُحافظون، فيهم المُتضامنون والانتهازيون، فيهم المُكافحون والغشّاشون، فيهم الثابتون في قناعتهم وكذلك المُتذَبْذِبُون، إلى آخره. كل طبقة لها وضع خاص. وخصوصية الطبقة العاملة لا يحوّلها إلى طبقة مِثاليّة. والطبقة العاملة ليست جامدة أو ثابتة، بل تتطور باستمرار، وذلك في ارتباط بتطور المجتمع. ووعيها السياسي، أو الطبقي، يمكن أن يتقدّم، أو أن يتأخّر. وكل عضو فيها يتطوّر هو أيضا عبر الزمان. ويمكن قول أشياء مُماثلة عن الفلاحين، أو عن البرجوازية الصغيرة، أو عن البرجوازية الوطنية، أو عن فئات المثقفين، إلى آخره.
 
7)          يُسبّب الجهل الضعف والتخلّف
آدم : قد يكون معك الحق. لكن لديّ هموم أخرى كثيرة. الأمم الإسلامية هي ضحية للدول الغربية المسيحية. إنهم يكرهوننا. ألا يشنّون حربا صليبية ضدنا ؟ ألا يخوضون حرب حضارات ضِدّنا ؟
إبراهيم : ليس الإسلام هو السبب في تعرّض الشعوب الإسلامية لهجمات من الغرب. الحقيقة هي أن البلدان الإسلامية تحتوي على بعض الثروات ذات الأهمية الإستراتيجية (مثل النفط، والغاز، وغيرهما). وبعض حكّام البلدان الإسلامية يطلبون من الدول الإمبريالية أن تساعدهم على ضمان استمرارهم في السلطة. ومقابل ذلك، يمنحون لتلك الدول إمتيازات اقتصادية هائلة. فيقبل هؤلاء الحُكّام عقد مُعاهدات اقتصادية سرّية، أو غير مشروعة، أو مُجحفة في حقّ تلك الشعوب المسلمة. ومن فترة لأخرى، تشنّ الدول الغربية هجمات اقتصادية، أو جيو- استراتيجية، على البلدان المسلمة، ليس لأن هذه الشعوب مسلمة، ولكن لأنها تحتوي على ثروات، ولأنها ضعيفة عسكريا، أو متخلّفة سياسيا، أو اقتصاديا، أو عِلميا. هذه هي الحقيقة. فهل ينفي أحد أن بعض البلدان العربية تخضع لهيمنة الدّول الإمبريالية، وتعيش وكأنها محميّات، وتخدم مصالح المراكز الإمبريالية أكثر مِمّا تخدم مصالح شعوبها ؟ فهل يُعقل أن ننساق إلى كره البلدان الغربية، ورفض الاستفادة من حضارتها، أو تجاهل ثقافتها ؟ على عكس ذلك، يجب علينا أن نتعلّم منها، وأن نستفيد من كل ما هو مُتفوّق، أو إيجابي، أو معقول لديها. بينما القيام بعكس ذلك، سيكون إصرارا على الاستمرار في التّخلف، وفي الانحطاط.
 
8)          يظهر أحيانا نقد المجتمع كأنه نقد للدين
آدم : لاحظتُ أنك تميل إلى نقد كل شيء. هل نقد الشعب يتطلّب نقد كل شيء في المجتمع، بما فيه حتى نقد الدين ؟
إبراهيم : أنا لا أنتقد الدين. لكن مع الأسف، يظهر أحيانا نقد الشعب، أو نقد المجتمع، كأنه نقد للدين. أعطيك مثالا مُعبّرا. عندما يقرأ المُسلمون الكتب الأدبية الأوروبية التي تنتقد اليهودية، أو المسيحية، أو الكنيسة، أو المسيح، أو الدّين، فإن هؤلاء المُسلمين يعتبرون تلك الكتب مُفيدة جدا، من الناحية الفكرية، أو الفلسفية. لكن عندما يقرأون مقالا أوروبيا ينتقد الإسلام، فإنهم يصيحون بانفعال شديد : «هذا اعتداء سافر على مقدساتنا» ! وحينما يسمعون أن رسّامًا في إحدى البلدان الغربية نشر رسما ساخرا (كاريكاتيرا) يسخر فيه من المُسلمين، تخرج جماعات من المتظاهرين، وخصوصا من التيارات السّلفية أو المُتطرّفة، وتحرق العلم الأمريكي، وتعبّر عن كُرْهِها للغرب. كأن مُجرد رأي شخصي ناقد يمكن أن يقضي على دين بأكمله خلال غمزة عين ! وهذا انفعال مُبالغ فيه. لنتساءل : ألاَ يتبادل المُسلمون هم أيضا النّكت السّاخرة فيما بينهم عن اليهود، وعن المسيحيين، وعن دينهم، وعن غيرهم ؟ ألا يفضح مثل هذا التّصرف ازدواجية في المعايير ؟ ألا يُخفي مثل هذا الإنفعال خوفا كبيرا من حرية التّعبير، أو من حرية النقد ؟ ألا يُعبّر عن تَصَلّب في التّفكير ؟ ألا تفرض الحِكمة علينا أن نتحلّى بمُرونة أكبر في تفكيرنا، وأن نتحمّل بروح رياضية كاريكاتير أو سُخرية غيرنا ؟
آدم : لكن قل لي بصراحة، هل المشكل في الدين، أم في الشعب ؟
إبراهيم : كل ملاحظ نزيه لا يستطيع أن يَنْكُر أن كيفية تعامل شعبنا مع الدّين تشوبها بعض الأخطاء أو المُبالغات. المشكل الأهمّ ليس في الدين، وإنما في المُتدينين. الدين هو جزء من كلّ. وحسب الظروف التاريخية، يمكن أن تلعب الإيديولوجية الدّينية، دورا تقدّميا، أو مُحافظا، أو رجعيّا. والبشر هم الذين يستغلّون الدين في صراعاتهم السياسية. بينما الدين هو بريء منهم جميعا. ومصلحة البشر تكمن في أن يتّفقوا على تشييد الجنّة البشريّة، اليوم، وهُنا، وفوق الأرض. ولا تكمن مصلحة البشر في الصّراع حول الإيمان بوجود جنّة في السماء، بعد يوم القيّامة. وقراءة التاريخ تُبيّن أنه لا يوجد ولو شعب واحد عبر العالم أصبح حَدَاثِيا (من كلمة الحَدَاثة)، أو مُتقدّما، أو ديموقراطيا، دون أن يمرّ عبر مرحلة نقد الكنيسة، أو نقد الفقهاء، أو نقد إيديولوجية الدّين. وكل شعب لا يُبيح نقد الإيديولوجية الدّينية، لن يستطيع أبدًا وُلوج التقدّم أو الازدهار. المهمّ، ليس هو الجدل حول الدّين، أو نقده، وإنما المُهمّ هو تغيير واقع المُجتمع، لأنه هو الوحيد الذي يمكن أن يعود على الشعب بالفوائد الملموسة. والتاريخ يشهد على أن نقد تدخّل فقهاء الدّين في السياسة، كان دائما في مصلحة الشعوب. يجب أن نتساءل : لماذا لا يقدر بعض المُسلمين على تحمّل نقد الإيديولوجية الدينية ؟ يجب أن نتذكّر أنه حينما تحدث تغييرات تاريخية في بنية مجتمع مُحدّد، تُصاحبها، في غالب الحالات، تغييرات في أفكار وفي تصوّرات أفراد هذا المُجتمع، بما فيها تصوّراتهم الدّينية. وهذا ما يُحتمل أن يحدث خلال السنوات، أو العقود، المُقبلة في بلدان العالم العربي، أو الإسلامي.
آدم : بعبارة أخرى، نقد الإيديولوجية الدّينية هو ضرورة تاريخية ؟
إبراهيم : مرحلة نقد إيديولوجية الدين تُشبه الانتقال من سنّ المُراهقة إلى سن الرشد. وبشكل عام، النقد (في أي ميدان كان) هو الانتقال من القديم إلى الجديد، أو من حياة سطحية إلى حياة منطقية أكثر، أو من الظنون إلى العقل، أو من جَوْدة إلى أُخرى أحسن منها. ويستحيل أن تُوجد الديمقراطية في مجتمع محدّد، إذا لم يكن هذا المجتمع يسمح بنقد كل شيء، بما فيه نقد النظام السياسي القائم، ونقد الديمقراطية، ونقد إيديولوجية الدين، ونقد المُتديّنين، ونقد الزعماء، ونقد الحُكّام، ونقد اليَقِينِيّات، ونقد المُقدّسات، إلى آخره. النقد هو شكل من بين أشكال حرية التفكير، وحرية التعبير. والنقد الذي يُقبَل في ميدان مُحدّد، ويُمنع في ميادين أخرى، يصبح نقدا أعْرجا، مُعَوّقا، وغير قادر على التقدّم. وإلغاء النقد، هو إلغاء للنقاش، بل هو قتل للعقل. وبعد قتل العقل، ماذا يبقى ؟ لا يبقى سوى الجهل، والتّخلّف، والانحطاط ! وهذا هو ما يحدث في المجتمعات الإسلامية منذ انهيار مَمَالك الأندلس، أي منذ قتل الفلسفة (الذي حدث ما بين القرن الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين). فعندما أقدم بعض المسلمين على إحراق كتب الفلسفة (مثل كتب ابن رشد)، فإنهم اختاروا نبذ العقل، وفَضّلوا الانسياق في الإيديولوجية الدينية، وفي التّسلية، وفي النّوم، وفي الانغماس في الملذات، فدخلوا في طور طويل من الانحطاط.
آدم : لكن، من تُفضّل ؟ هل تفضّل مسئولا سياسيا مُتديّنا، أم مسئولا سياسيأ غير مُتديّن ؟
إبراهيم : أن يكون مسئول سياسي يُصلّي، ويُصوم، ويحجّ، أم لا، هذا لا يهمّ بتاتًا ! هذه شؤون شخصيّة، ولا تهم سوى الشخص المعني. ولا تُثْبِتُ أي شيء في ميدان السياسة. وقد سبق أن بيّنت أن مُبرّر الأخلاق، ليس هو الدّين، وإنما هو مستلزمات الحياة المُجتمعيّة المُشتركة([4]). ما هو مطلوب من كلّ مسئول سياسي هو أن يتفوّق بكفاءاته، وبِخِبراته، وبنزاهته، وباجتهاده، وبمبادراته البنّاءة، وبإنجازاته. بل يحتاط المُواطنون عادةً من بعض الأشخاص الذين يضغطون عمدًا بجباههم على الأرض، أثناء الصلاة، لكي يظهر طابع داكن اللون على جباههم، وَلِكي يُوحُوا هكذا للناس بأنهم مُتديّنين، أو وَرِعِين، أو أصحاب تَقْوَى. بينما يكون وضعهم في معظم الحالات هو غير ذلك.  
آدم : وهل تشكّ في التزام المُواطنين بخصال الدّين ؟
إبراهيم : من زاوية رؤية مُجتمعية، المُسلمون بشر، مثلهم مثل اليهود، والمسيحيين، والبوذيين، والشّنًتُوِيِّين (shintoïste)، والسّيخ (sikh)، إلى آخره. أفراد أي شعب يدّعون أنهم يعتنقون دينا مُعيّنا، ويزعمون أنهم يُطبّقون مُجمل تَوْصِيّاته النّبيلة. لكن عندما تنظر إلى تزاحمهم على المحاكم، أو حينما تَفْحَص خصوماتهم، أو نزاعاتهم، وهي كثيرة جدّا، تَكتشف أنهم لا يحترمون دائما مباديء أو أخلاق ذلك الدّين. بل يحاولون تحقيق مصالحهم الخاصّة، وَلَوْ عبر استعمال الحِيَل، أو الانتهازية، أو الكذب، أو الغِشّ، أو النّفاق، أو أحيانا حتّى الظّلم، أو المُخالفات، أو الجريمة. وكأن دينهم الأقوى، هو الأنانية، أو الانتهازية، أو جمع المال. مزاعم الناس شيء، وممارساتهم شيء مُخالف.
آدم : وهذا النقد يَنْطَبق عليك أنت أيضا ؟
إبراهيم : بالتّأكيد ! القواعد التي تنطبق على الشعوب، تنطبق أيضا على مجمل أفراد الشعب، وتنطبق أيضا عليّ، وعليك، وعلى الآخرين.      
آدم : لكن التّحَوُّلات الثقافية التنويرية، التي تنادي أنتَ بها، سيكون إنجازها صعبا جدّا !
إبراهيم : لم يكن النقد شائعا في تقاليد شعبنا. ويصعب فعلاً على كل فرد أو جماعة من شعبنا أن يتحمّل النقد. لأن النقد يُناقض إعتزاز الشخص بنفسه. النقد يَفْحَص إدِّعاءاته، أو يُخالف ظنونه، أو يُحطّم غروره، أو يفضح أنانيّته، أو يُعَرّي تَخلّفه. والدولة هي كذلك لا تتحمّل النقد. نفس الشيء ينطبق على الأفراد، والشخصيات، والمسئولين، والجماعات، والإدارات، والمؤسّسات، والأحزاب، إلى آخره. كل مُكَوّنات المجتمع تُفضّل أن نمدحها، أو أن نقول لها أنها رائعة. لكن هذا المدح هو نفاق. لأن واقعنا المُجتمعي مُزري. مجتمعنا هو في حالة تخلّف وانحطاط. ورغم أننا نعمل على إصلاح مجتمعنا، فإن أخطاء، أو نواقص جديدة، تبرز باستمرار داخل الشعب. وأُكرّر، وألحُّ على أنها تتوالد باستمرار ! ولا سبيل لنا للوعي بنواقصنا إلا النقد الرّزين، والمُعَمّق، والدّقيق، والشّامل، والمُتبادل، والمُتواصل.
آدم : لكن يمكن أن يكون النقد ذو عواقب خطيرة. حيث يُفجّر في غالب الأحيان نِزاعات، ويُحدث ضَغائن، أو يخلق عَداوات، بين النّاقد والمُنتقَد.
إبراهيم : إذا مارس النّاقد نقده بأسلوب هجومي، أو عُدواني، بهدف إهانة الشخص المُنتقَد، أو تحطيمه، أو هزمه، فإن ذلك النقد سوف يكون فاشلا، أو مرفوضا، أو عَقِيمًا. ولكي يتحمّل الشخص المُنتقَد النقد المُوجّه إليه، يجب أن يحرص النّاقد، من خلال أسلوبه في النقد، على تِبيان أنه يحترم ذاك الشخص المُنتقَد، وأن كلّ ما يريده منه هو أن يحسّن أساليب أدائه. في هذه الحالة، يصبح أكثر سُهولة على المُنتقَد أن يتقبّل النقد المُوجّه إليه، وأن يستفيد منه.
 
9)          لا يعالج الرجوع إلى الماضي مشاكل الحاضر
آدم : يمكن أن يقول لك بعض المُواطنين أننا شعب مُسلم، له أخلاق، وقِيَم، وحضارة. ويمكن أن نعالج كل مشاكلنا المُجتمعية. يكفي أن يَعِيَ أفراد الشعب أننا «خير أُمّة أخرجت للناس». يكفي أن نرجع إلى إسلام السّلف لكي يتحوّل مجتمعنا إلى جنّة.
إبراهيم : يجب أن لا ننساق مع بعض الأحلام التي يمكن أن تظهر جميلة أو مُغرية. ولا يمكن أن يتحقّق التّحرّر أو التقدم عبر الرجوع لماض مِثَالي، نُزيّنه ونُنَمّقه في خيالنا. هل نحن فعلاً خير أمة أُخْرِجت للنّاس ؟ أُنظُرْ حولك ! هل مجتمعنا ينعم فعلا بحضارة مُتقدّمة ؟ أليست السّمة الغالبة في مجتمعنا هي الجهل والتخلّف ؟ ألسنا من بين الشعوب الأكثر تخلّفا عبر العالم ؟ اليهود أيضا يدّعون أنهم هم الشعب الذي اختاره الله . لكن الجرائم التي يرتكبها بعض اليهود الصهاينة في فلسطين، وباسم الدين، يندى لها الجبين. وكل ديانات العالم تدّعي أنها هي أحسن دين، أو أنها الدّين الوحيد المشروع. ويقول البعض لنا : الشعب مسلم ، أو دين الدولة هو الإسلام . لكن تَدَيّن نسبة كبيرة من الشعب، مثله مثل الالتزام المزعوم للدولة بالإسلام. فبعض المظاهر في هذا الميدان تبقى خَدّاعة. أما الواقع الخفي، فهو أن غالبية الشعب تُدين بمذهب الفردانية، أو الأنانية، وتعبد المال، وتركع للأعيان الأغنياء أو الأقوياء، وتنحصر اهتمامات غالبية الشعب في البحث عن المنافع الشخصية الآنيّة، وتمارس الانتهازية.
آدم : إِنْتَظِر ! هذه اتهامات خطيرة ! ما هي حُجَجك ؟ أعطيني أمثلة واضحة على تخلّف الشعب !
إبراهيم : من بين مبادىء الإسلام، الحديث القائل : «من رأى منكم منكرا، فليُغَيّره، بيده، فإن لم يستطع، فَبِلسانه، فإن لم يستطع، فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان». وهذا المبدأ الجميل، لا يوجد في الإسلام وحده. بل نجده بعبارات أخرى، لدى كافّة الشعوب، ولدى كافّة الدّيانات، والثقافات، والفلسفات. فهل حَقّا مجمل الشعب يُطبّق هذا المبدأ الأساسي في الإسلام ؟ الجواب هو طبعا لا. والمسئولون في الدولة لا يطبّقونه هم كذلك. الحُكّام، وكذلك أفراد الشعب، يشهدون المُنكر من مختلف الأنواع والمستويات، يَرَوْن المنكر يُرْتَكَب يوميا، في محيطهم الاجتماعي، فلا يقاومونه، ولا يُنَدّدون به، وإنما يتكيّفون معه، بل يُقَلّدونه، ويُعِيدون إنتاجه، وأحيانا يُبرّرونه، أو يُهَادِنُونه، أو يُدَعّمُونه، أو يُناصِرونه. وذلك لعدّة أسباب، مُركّبة، أو مُعقّدة. المواطنون يرون المَظالم، والمُخالفات، والجنايات، والجرائم، لكنهم لا يجرؤون على التنديد بها، لا بأيديهم، ولا بلسانهم، ولا بقلبهم. وحينما يُقدم مثلا مُفكّر، أو صحافي، أو مناضل سياسي، أو فنّان، على فضح منكر هام، فإنه يتعرّض للقمع، أو للقهر، والشعب لا يتضامن مع ضحايا قمع حرّية التعبير، أو مع ضحايا حرّية التظاهر. (وفي المُعتقلين السياسيين، القابعين حاليا في سجون بلادنا، دليل قاطع على ذلك). والمُواطنون يتحمّلون المظالم التي يرتكبها الفاعلون الأقوياء، بينما يهاجمون من هو ضعيف، بلا شفقة ولا رحمة. يريدون تطبيق القوانين حينما تخدم هذه القوانين مصالحهم الخاصّة، ويتحايلون على هذه القوانين حينما تضرّ بمصالحهم الخاصة.
آدم : لكن النّهي عن المُنكر مطروح في مجال الدين فقط، وليس في ميادين المُجتمع الأخرى !
إبراهيم : لا يا مُواطن ! المنكر هو منكر، وذلك بغضّ النظر عن نوعية المجال الذي يحدث فيه ! المنكر هو كل ما يخالف العقل، أو العدل، أو الحق، أو الأخلاق، أو العِلم، أو يضرّ بالحقوق المشروعة للغير. وكما يُقال، النّهي عن المُنكر، هو من الإيمان (مثل الإيمان بالأخلاق، أو الإيمان بالعدل)، والإيمان يزيد أو ينقص. وبالتالي، فإن انعدام النّهي عن المُنكر يفضح ضعف الإيمان، أو يكشف زَيْفه. والمواطنون الذين لا ينهون عن المنكر، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يقولون. يرون المُنكر يُرتكب يوميا، في جميع الأماكن من البلاد، وفي جميع الميادين، سواء في ميدان السياسة، أم في الاقتصاد، أم في المُعاملات، أم في الأخلاق، أم في التّصرّفات اليومية، إلى آخره. كم من مواطن يُصلّي، ويصوم، ويعطي الصّدقة، وفي نفس الوقت، يُمارس يوميا التّحَايل، أو الغِشّ، أو الخِداع، أو النفاق، أو المُنْكَر، أو الظلم، أو المُخالفات، أو الجرائم ؟ ثم يوزّع صدقات، أو يسافر إلى الحجّ، لكي يطلب من الله أن يَمْحُو له مُجمل سَيّئاته. ويعتقد أن الإله سوف يدخل معه في منطق أعطيني نعطيك . صدقات، أو الحج، مقابل محو لائحة من السيّئات. وبعد ذلك، يُعيد ذلك الشخص، ومن جديد، نفس السّلوكيات المنبوذة.
 
10)    كم من مواطن يقوم بواجب النهي عن المنكر ؟
آدم : لكن أحيانا، يتّخذ فعل النّهي عن المُنكر شكل موقف سياسي، مُعارض، أو ثوري. وهذا ما لا يقدر بعض المواطنين على تحمّل تبعاته. لأن القمع يمكن أن يكون شديدا.
إبراهيم : هذا صحيح ! مثلا، عندما يدعو مناضلو حركة 20 فبراير بالمغرب المواطنين إلى المشاركة في مسيرات احتجاجيّة للتنديد بالفساد، أي بالمُنكر، وعندما لا يشارك في هذه المسيرات الاحتجاجية إلا قلّة قليلة من بين المواطنين، فالسّر الذي قد يُفسّر ضعف تلك المشاركة، ليس هو نُكران هؤلاء المواطنين لوجود المنكر في المجتمع، أو في الدولة، وإنما يمكن أن يكون السبب هو أن هؤلاء المواطنين يجهلون وجود ذلك المنكر، أو أنهم يخافون جدّا من قمع الدولة، أو أن ثقافتهم المبنية على أساس الأنانية، أو الغش، تجعلهم يفضّلون التركيز على مصالحهم الخاصة، ورفض الانخراط في كل ما هو عمل جماعي، أو تضامني، أو نضالي.
آدم : في بعض الأحيان، أنت تُعَمّم انتقاداتك على كل المواطنين. وهذا غير صحيح. هل المواطنون كلّهم مُتخلّفون أو غشّاشون ؟
إبراهيم : أبدًا ! حينما أصف خَطئا، أو نقصا، موجودا داخل مجتمعنا، أقصد بأن ذلك الخطأ، أو النقص، موجود لدى نسبة مِئوية لا يُستهان بها من بين المواطنين. وإذا كانت نسبة من السكان (تتراوح مثلا بين 10 و 60 بالمائة) تقوم بتصرفات خاطئة، أو شاذّة، فهذا يكفي لكي نتكلّم عن تلك الانحرافات كظاهرة مُجتمعية. ولو أنها لا تنطبق على كل أفراد الشعب. وحينما نتكلّم مثلا عن التّخلف، أو الغِشّ، فمعناه أن التّخلف، أو الغِش، موجود كظاهرة داخل المجتمع، ولا يعني هذا الكلام أن كل المواطنين متخلّفين، أو غشّاشين. 
 
11)    التّضامن يقوّي الشعوب، والفَرْدَانية تضعفها
آدم : نعم، فهمتك، لكن المواطنين لا يرتكبون فقط المُنكر. بل يقومون أيضا بأفعال حسنة، إيجابية، بَنّاءة، أو جيّدة !
إبراهيم : هذا أكيد ! لكن، لنتساءل، كم هي نسبة الأفعال السّيِّئة (الموجودة في مُجتمعنا) بالمقارنة مع الأفعال الحسنة ؟ كم هي قيمة المُخالفات أو الجرائم المُرتكبة، بالمقارنة مع قيمة المنجزات السَّلِيمة أو البنّاءة ؟ وعلى مستوى الإنتاج الدّاخلي الخام (P.I.B)، بكم يمكن تقدير الضّياع أو الخسارة الناتجة عن أخطاء ونواقص أفراد الشعب وجماعاته ؟ وهل يقوم مجمل المواطنين فعلا بكل واجباتهم ؟ ألا ينشغل كل فرد، وكل جماعة، وكل مؤسسة، على الخصوص بصيانة سلامتهم الشخصية، وبالدفاع عن مصالحهم الخاصة ؟ لماذا لا يقبلون التضامن مع جحافل المواطنين الذين يتعرّضون إلى الظّلم، أو إلى التّهميش، أو إلى السّحْق، أو إلى النّبْذ، أو إلى الإهانة ؟ أليس شعار غالبية أفراد الشعب هو أَرَاسِي، أَرَاسِي ؟ كأنهم يقولون : مصالحي الخاصة أولا، ومن بعد، يمكن أن تسقط السماء على الأرض، أو أن يهلك المجتمع كلّه ! أليس هذا هو الدّين الفعلي الذي يُدين به الشعب والدّولة ؟ وهل دوافع هذه الانحرافات تكمن في الدّولة، أم في الدّين، أم في الشعب، أم فيهم جميعا ؟
 
12)    يحتاج المسلمون أكثر من غيرهم إلى النقد الذاتي
آدم : لا أتفق معك. أعتقد أن الشعب المُسلم، هو خير أمة أُخْرِجت للناس. الشعب المُسلم، هو الشعب الفاضل بامتياز. فهل لديك مشكل مع الدّين ؟
إبراهيم : أبدا ! ليس لديّ أي مشكل مع أي دين ! لكن ألاحظ، مع الأسف، أن الشعوب المُسلمة هي من بين الشعوب الأكثر تخلّفا عبر العالم. ولو لم نكن نستفيد من مَا أنتجته المُجتمعات الغربية من علوم، ومعارف، وتكنولوجيّات، ومنتوجات صناعيّة، لَمَا كان مستوى حياتنا على ما هو عليه اليوم. أنظر حولك يا مواطن ! معظم المنتوجات نستوردها من أوروبّا وأمريكا، (أو من الصين، أو اليابان، أو كوريا). مثل الفولاذ، والأسمنت، والزجاج، والأثواب، والأدوية، والطّب، والسيارات، والطائرات، والكهرباء، والخشب، والهواتف، والتلفزات، والحواسب، والآلات، إلى آخره. ما هو شائع وسط الشعوب العربية أو الإسلامية هو الأنانية، والفردانية، والانتهازية، والجهل، والغش، والنفاق، والخوف، والتخلّف، والنّفور من بذل الجُهد، وتفضيل الاستمتاع بالملذّات، والاستلاب (aliénation)، والانحطاط. وما دُمْنا لا نعترف بأخطائنا، وبنقائصنا، فإننا لن نتقدّم أبدا. ومن يرفض نقد نقائص الشعب، يُساهم (من حيث لا يدري) في إدامة تخلّفه.
آدم : أحسّ كأنك تتضايق من الدين ؟
إبراهيم : لا، أبدا ! ما يُسائلني أحيانا هو أن بعض المواطنين يريدون فرض تطبيق الشريعة الإسلامية بشكل حرفي، ومُطلق، ومُتشدّد، أو مُتطرّف. ولو أَدّى ذلك إلى إلغاء الديموقراطية، أو إلى خرق حقوق الإنسان (كما هي مُتعارف عليها عالميا)، أو إلى اضطهاد جزء من الشعب. كأن هؤلاء المواطنين يحملون إيمانا أعمى. وأنا أعرف أن هؤلاء المواطنين، لو وُلِدُوا في عائلة يهودية، وليس مُسلمة، فإنهم سوف يدافعون عن تعاليم اليهودية. ولو وُلِدُوا في بلد مسيحي، فإنهم سوف يدافعون عن التّقاليد المسيحية، وليس عن الشريعة الإسلامية. ولو وُلِدُوا في منطقة هندوسية، فإنهم سوف يُدافعون عن تعاليم الهندوسية. إلى آخره. معناه : أن التّشبّث ب الشّريعة الإسلامية ليس فيه لا منطق، ولا عقل، ولا إيمان، ولا علم، وإنما فيه آليّة ميكانيكية مُجتمعية. أفراد الشعب ينشأون ويكبرون عفويا، في إطار مجتمع مُتديّن، فيصبح تلقائيا ذلك الدّين هو إيديولوجيتهم الوحيدة. وإذا كانوا لا يتبنون إيديولوجية أخرى، فذلك قد يرجع فقط لكونهم لا يعرفونها. بعض المواطنين يدافعون بشكل مُتشدّد عن إيديولوجية مُحدّدة، فقط لأنهم كَبِرُوا في إطارها. وبعض المواطنين يرفضون، أو يشتُمون، أو يُعادون، ثقافات عالميّة أخرى، فقط لأنهم يجهلونها. أين هو المنطق إذن ؟ أين هي الفلسفة ؟ نحن في حاجة إلى المعرفة، وإلى العقل، وإلى المُرونة. ما هو أكثر خطورة على المجتمع، ليس هو قِلّة الإيمان، أو قِلّة العبادة، أو الكُفْر، وإنما هو الجهل.
آدم : ولكن، أليست الشريعة الإسلامية من الإسلام ؟
إبراهيم : لا، السّؤال الجوهري هو التالي : هل نوافق على حق المواطن في حرّية العقيدة، وعلى حقّه في حرّية العبادة، وعلى حقّه في حرّية عدم العِبادة، أم أننا نريد فرض إيمان مُحدّد، وعبادة مُعيّنة، بواسطة الإكراه، أو بالقهر، على كل المواطنين ؟ فإذا كنتَ ديمقراطيا حقيقيا، يجب عليك أن تمارس العبادة التي تريد، أو الشريعة الإسلامية التي تحب، وأن تترك غيرك من المواطنين يمارسون العبادة، أو عدم العبادة، التي يريدون. وميزة حقوق الإنسان، هي أنها حقوق عالمية، كونيّة، تنطبق على كلّ إنسان، وغير قابلة للتصرف، بصرف النظر عن القانون الوضعي، أو عن العوامل المحلية الأخرى، مثل الجنسية، أو العرق، أو الدين. 
آدم : لكن الأحزاب الإسلامية تقول أنها تلتزم بالديمقراطية، وتوافق على الالتزام بحقوق الإنسان الكونيّة، وتقبل التوقيع على الاتفاقيات الدّوليّة المُرتبطة بها !
إبراهيم : لا يا مُواطن ! هذه الادّعاءات خاطئة، أو خدّاعة ! لأنه حينما تقول الأحزاب الإسلامية : «نتّفق على الديمقراطية، وعلى حقوق الإنسان، بشرط أن لا تتعارض مع الشّريعة الإسلامية»، فمعنى هذا الكلام، هو أن هذه الأحزاب الإسلامية ، لا تُوافق في الواقع سوى على الشريعة الإسلامية وحدها ! والدّليل على ذلك، هو أنها ترفض كلّ ما يختلف عنها !
آدم : وما عيب الشريعة الإسلامية ؟ ألا تدخل ضمن تقاليدنا ؟
إبراهيم : الانتماء للتّقاليد، أو للتّراث، لا يشكل حُجّة، ولا مُبرّرًا. فمثلا السّحر، أو الشعوذة، أو التّوسّل إلى أضرحة الأولياء الصاحين، هم أيضا عناصر عريقة في تقاليدنا، وفي تراثنا، ورغم ذلك، لا يُشكّل انتمائهم إلى تراثنا مُبرّرا للإستمرار في استعمالهم. بل يُوجِب العقل الابتعاد عنهم. أمّا الشريعة الإسلامية ، فترجع إلى قرابة القرن السابع الميلادي. فلا يمكن لفكر، أو لثقافة، كانت سائدة في القرن السابع الميلادي، في شبه جزيرة العرب، أن تستجيب لمجمل حاجِيّات ثقافة حقوقية عالمية تعود إلى القرن العشرين الميلادي. ومسألة هذا التّفاوت في الزمان، لا تَخُصّ الإسلام وحده، بل تخصّ كل الدّيانات، مثل اليهودية، والمسيحية، والهندوسية، والبرُوتِسْتانْتِيّة، إلى آخره. حيث يمكن أن تجد في كل دين بعض المواقف التي أصبحت اليوم مُتجاوزة، مثلا في القضايا التالية : 1) الرّؤية الدُّونِيّة للمَرْأَة بدلا من مُساواتها مع الرجل. 2) تزويج الفتيات القاصرات. 3) تعليم البنات. 4) تعدّد الزوجات. 5) الاختلال في الحقوق والواجبات عند الطّلاق. 6) عقوبة الإعدام. 7) اللّجوء الاضطراري إلى الإجهاض. 8) مسألة أطفال الشوارع، والأطفال المُتخلّى عنهم. 9) حِجاب المرأة. 10) اختلاط الجنسين في المدارس، والجامعات، والإدارات، والمعامل. 11) طريقة مُعاقبة السارق عبر قطع يده. 12) الموقف من البنك الذي يوزع قروضا مقابل فوائد. 13) حيّاد دور العبادة تُجَاه السياسة. 14) مسألة الاختيار بين إمّا الدولة الدينية ، وإمّا الدولة المدنية (وهي التي تفصل بين الدّين والدولة). 15) الفصل بين الدين والسياسة، أم استغلال الواحد من هما في الآخر. إلى آخره. وقد سبق لمختلف القوى السياسية بالمغرب أن إنتهت، بعد تحكيم الملك محمد السادس، إلى القبول بِقانون المدوّنة الجديدة للأسرة، رغم أنها تختلف عن الشريعة الإسلامية في بضع نقطها. أي أن الأحزاب الإسلامية كانت ترفض مدوّنة الأسرة ، فلمّا صادق عليها الملك، غيّروا موقفهم منها. وقد وُجد في كل دين، كنائس، أو مدارس، أو رُهبان، أو فقهاء، يهادنون الحُكّام الطّغاة، أو يحثّون الجماهير المقهورة على تَحمّل مصيرها البائس، وعلى الخضوع لمُضطهِديها. وبعض الرّهبان، أو الفقهاء، يدّعون أن الخضوع للمُستبِد أمر إلاهيّ. وفي الواقع، فإن التراث، والتقاليد، والقيم، تتغيّر كلّها، وبالضرورة، عبر الزمان، وعبر التاريخ. فلا يُقبل من أي أحد أن يفرض على المُجتمع أن يقف عند تقاليد زمان مُحدّد (مثل نموذج القرن السابع الميلادي في شبه جزيرة العرب)، وأن يُطبّقها حرفيّا، وأن يبقى مُستقرّا فيها، وأن لا يُدخِل أبدًا على تلك التّقاليد، أيّ تغيير، أو تطوير، أو تحسين. 
آدم : ألا يُعبّر مثل هذا النقد عن موقف خاص من الإسلام ؟
إبراهيم : أبدًا ! تتعلّق المسألة بظاهرة الدّين في المُجتمع، بغض النظر عن نوعيّة ذلك الدّين. ظاهرة الصّراعات التي تعيشها اليوم شعوب بلدان العالم الإسلامي مع فقهاء الدّين، ومع التّيارات السّلفية، أو الأصولية، أو المُتشدّدة، سبق أن عاشت شعوب بلدان أوروبّا مثلها، وبِعِدّة قرون قبلنا. وعانت شعوب بلدان أوروبّا كثيرًا من المِحَن، ناتجة عن تحالف الكنيسة مع السلطة السياسية (المَلَكية الإستبدادية). واليوم، نرى في بعض البلدان العربية ملامح تحالف مُشابه بين بعض التيارات الدينية والسلطة الاستبدادية. وكان أحسن حلّ ثوري توصّلت إليه شعوب بلدان أوروبّا وأمريكا، هو فصل الكنيسة (أو الدّين) عن الدّولة، وفصل الدّين عن السّياسة.
 
13)    يسيء استغلال الدين في السياسة
إلى الدّين، وإلى الشعب
آدم : لكن، توجد أحزاب إسلامية تعتقد أنه بإمكانها أن تعالج كل مشاكل المجتمع، وذلك عبر الرجوع إلى إسلام السّلف، وعبر التطبيق الشمولي للشريعة الإسلامية. فاترك هذه الأحزاب الإسلامية تُحَاول منهجها الإسلامي. 
إبراهيم : كل حزب ديني ، أو حزب إسلامي ، إنما يستغلّ الدين في السياسة، وذلك بهدف خِدمة أغراض خاصّة.
آدم : كيف ذلك ؟ ما هي حُججك ؟
إبراهيم : أكتفي بإعطائك مثالا واحدا عن استغلال الدين في السياسة. حزب العدالة والتنمية (إسلامي) بالمغرب، ركّز في برنامجه الانتخابي الدّعائي، في سنة 2011، على مُحاربة الفساد. ووَعَدَ الناخبين بأنه إذا صعد إلى الحكومة، فإنه سوف يحارب الفساد بدون هوادة. والمقصود بالفساد هم الفاسِدون، والمُفسدُون، ونَاهِبُو المال العام، والمُسْتَفِيدون من اقتصاد الريع، والذين يستغِلّون مسئولياتهم (في أجهزة الدولة) لكي يغتنُوا بشكل مُناف للقانون. ومن شابههم هم كثيرون. ولمّا وصل حزب العدالة والتنمية إلى الحكومة، إصطدم بِقُوّة الفاسدين، وأصبح يُهادن المُفْسِدِين الكبار. (ومثل هذه المُهادنة وقعت كذلك، بعد الثورة، في تونس، ومصر). ولمّا سأل صحافي رئيس الحكومة المغربي السيد عبد الإله بنكيران : «لماذَا لا تُحاربون الفاسدين المُتورطين في العديد من قضايا الفساد  التي فضحتها الصحافة»، أجاب رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران : «عفا الله عمّا سلف» ! فُلِنُحَلّل هذه الجُملة. ما هو الفعل في الجملة ؟ الفعل هو عَفا، يَعْفُو، عَفْوًا. والعفو يعني إلغاء التّهمة، أو إلغاء المُتَابعة القضائية، أو إلغاء العقوبة التي نطق بها القضاء. وبماذا يتعلّق هذا العفو ؟ يتعلّق بالعفو عن الفاسدين والمُفسدين الكبار. ومن هو الفاعل في هذه الجُملة ؟ الفاعل هو « اللهُ »، حيث تقول الجملة «عفا اللهُ». لكن، هل فعلا الله هو الذي عفا عن الفاسدين والمفسدين ؟ طبعا لا، هذه مُغالطة كُبْرى. الله بريء من هذا العفو. الله لم يُقرر أبدا ذلك العفو المزعوم.
آدم : ولماذا ؟
إبراهيم : لأن الذي طَبَّق أو مَارَس هذا العفو، في الواقع، هو الحكومة، وليس الله. حيث أن الله لا يتدخّل في شؤون المجتمع. كان ينبغي على رئيس الحكومة أن يَقُول : «أنا رئيس الحُكُومة قرّرتُ العفوَ عن الفاسِدين» ! لكن رئيس الحكومة بنكيران أراد أن يُغالط الشعب، حيث فَضّل أن يُبرّر هذا العفو عبر ربطه بالتقاليد الحميدة للدّين. وفضّل أن يَخْتَبِيء وراء الله، فَنَسَب قرار العفو إلى الله. بينما الله بريء منه. وهكذا أساء هذا الزعيم الإسلامي إلى الله، وإلى نفسه، وإلى الشعب.
آدم : ولماذا لا يحق لحكومة عبد الإله بنكيران أن تُمارس العفو عن الفاسدين والمُفسدين ؟ أليس من حَقّها أن تُمارس السُّلطة بالطريقة التي تراها مُلائمة ؟
إبراهيم : لا يا مُواطن ! لا يحق لأية حكومة أن تعفو عن الفاسدين والمُفسدين ! لأن القانون يُوجب مُتابعة كل المُجرمين، وسارقي المال العام، ومحاكمة المُفسدين، ومعاقبتهم، طبقا للقانون. ولأن الدستور هو نفسه يُوجب الربط بين المسؤولية والمحاسبة. وإلاّ، فإن هذا العفو، الذي هو غير قانوني، يتحوّل إلى إِلْغَاء للدستور، وإلى إلْغَاء للقانون بِرُمّته، ويُصْبح نَفْيًا للعدالة الاجتماعية.
آدم : رُبّما اكتشف رئيس الحكومة أن المُفسِدين يحظون بدعم قوي من طرف جهات عليا في السلطة، أو أنهم أقوى من الحكومة. فأراد تلافي، أو تأجيل محاربة الفاسدين إلى فترة أخرى، أو إلى حين أن تصبح الحكومة قويّة.
إبراهيم : لا يا مواطن ! الشعب يريد الوضوح. حيث يُفترض في كل حكومة تحترم نفسها أنها تتوفّر على الوسائل الكافية لمكافحة الفساد. فإذا كانت حكومة المغرب لا تتوفر على هذه الوسائل الضرورية، أو إذا كانت تُحِسّ بأنها عاجزة على مُتابعة الفاسدين، فإن وجودها يصبح عقيمًا. ويصبح من واجبها، إمّا أن تستقيل، وإمّا أن تدعو الشعب إلى خوض ثورة سلميّة بهدف إسقاط هيمنة الفساد.
 
14)    القانون الذي يطبّق بشكل انتقائي، ليس قانونا
آدم : رُبّما أنك لم تفهم مُبادرة رئيس الحُكومة عبد الإله بنكيران. رُبّما أراد أن يكون رحِيما. ربّما أراد أن ننسى الماضي، وأن ننطلق من نقطة جديدة.
إبراهيم : لا يا مواطن ! منذ عهد الملك الحسن الثاني ونحن نسمع، من فترة لأخرى، جُملة «عفا الله عمّا سلف» ! فخلال كم من قرن من الزمن سنستمر في مواجهة الفاسدين الكبار بمقولة «عفا الله عمّا سلف» ؟ زيادة على ذلك، العفو، أو الرحمة، التي تكون مقبولة تجاه الأغنياء، والأقوياء، والمُناصِرين، وتكون مرفوضة تجاه الضُّعفاء، والمُستغَلّين، والأبرياء، والمُعارضين السياسيين، تتحوّل هذه الرّحمة إلى إنحياز سافر، أو قد تصبح شراكة في الجريمة المعنيّة. كيف يُعْقَل أن تعفو الحكومة عن المُفسِدين الكبار، وفي نفس الوقت، أن تقمع الحكومة بعنف (غير قانوني) العاطلين عن العمل، والمُضربين، والمُعارضين السّياسيين، والمُتظاهرين المُناصرين لِ حركة 20 فبراير ، وأن تَأمُر قِوَى القمع بِضربهم بالهراوات حتّى تتكسّر عظامهم. بل تَعْتقِل المُتظاهرين أو المُحتجّين بالعشرات، وتُلفق التُّهَم المُزوّرة ضدّهم، وتحكم عليهم بسنوات من السجن، وفي إطار محاكمات لا تتوفر فيها شروط العدالة (كما هي مُتعارف عليها دوليا). هل هذا معقول ؟
آدم : لكن من الطبيعي أن تقوم قوى الأمن بواجباتها.
إبراهيم : لا يا مواطن ! توجد في بلادنا أنواع كثيرة من الأجهزة القمعية (البوليس، والمخابرات، والفرق الخاصة، والدرك، والقوات المساعدة، وقوات التدخّل السريع، إلى آخره). إنها جيوش ضخمة، ومُجهزة، وكلفتها غالية جدّا. ويحرص الحكّام في بلادنا على استعمال هذه الأجهزة القمعية فقط في مجال قمع المُظاهرات، والإحتجاجات، وقمع الثوريين، والمعارضين السياسيين، والمناضلين النقابيين، والمفكّرين الناقدين. أمّا المجرمون الكبار، والفاسدون، الذين ينهبون المال العام، ويستغلون مسئولياتهم في مختلف أجهزة الدولة للإغتناء بشكل غير مشروع، فإنهم لا يُسائلون، ولا يُتابعون، ولا يُحاسبون، ويفلتون دائما وأبدا من العقاب.  
آدم : يمكن أن يكون رئيس الحكومة قد إرتكب خطأ، لكن نيّته تبقى صادقة.
إبراهيم : لو كانت نية رئيس الحكومة صادقة، لأقدم، وبِصَرامة، على مُحاكمة الشخصيات المُتورطة في مجمل الفضائح التي أبرزها المجلس الأعلى للحسابات (وهو مُؤسّسة حكومية)، أو تلك التي فضحتها الصحافة. حيث أقدم مثلا وزير المالية الأسبق على منح تعويض (prime) شهري مالي هائل لخازن المملكة، يبلغ قرابة مائة ألف درهم، بينما منح بالمقابل، وفي نفس اليوم، خازن المملكة تعويضا شهريا ماليا مُماثلا لوزير المالية الأسبق، وذلك في إطار صفقة «أعطيني، أعطيك» ! وهذا التعويض هو طبعا إضافة قارّة في الأجرة الشهرية، ويُضَاف لتعويضات أخرى كثيرة ! وبدلا من أن تُقَدّم الحكومة المُتورّطين في هذه الفضيحة إلى المحاكمة، بحثت الحكومة عن الموظّف الذي كشف هذه الفضيحة، وقدمته للمحاكمة، بتهمة إفشاء السّر المهني ، بهدف معاقبته. أي أن الحكومة تفعل عكس ما ينبغي فعله ! فهل أجور أو مداخيل الوزراء هي فعلا أسرار مهنية ؟ هل هي أسرار للدّولة ؟ ألا تتناقض تُهمة إفشاء السّر المهني مع حق الشعب في الوصول إلى المعلومة ؟ فهل «عَفت» الحكومة عن كلّ أولئك المُتّهمين ؟ ألا تتنافى تُهمة إفشاء السّر المهني مع الحماية التي يلزم أن يُوفّرها القانون للشّهود وللمُبلّغين عن الرشوة ؟ أين هي إذن ربط المسئولية بالمحاسبة المنصوص عليها في الدستور ؟ أين هو إذن الحزب الإسلامي ؟ أين هو الإسلام السياسي ؟ ألا يتحوّل الإسلام السياسي إلى مجرّد مُغالطة، أو خِداع، أو انتهازية في السياسة ؟ أين هي مُحاربة الفاسدين ؟ أين هو النهي عن المُنكر ؟ أين هي المباديء أو الأخلاق ؟ أين هي النّزاهة ؟ أليس هذا مجرد استغلال للدين في السياسة بهدف مُغلطة الشعب ؟
آدم : إذا أخطأ حزب إسلامي في المغرب، فهذا لا يعني أن جميع الأحزاب الإسلامية سوف تُخطيء.
إبراهيم : أنظر يا مواطن حولك ! تُبيّن التجربة الحديثة في كل من تونس ومصر : 1) أن الأحزاب الإسلامية التي صعدت إلى الحُكم في أعقاب الثورة، في سنة 2012، لم تكن هي التي تحمّلت العبء الأكبر خلال خوض هاتين الثورتين. 2) وبمجرد وصول هذه الأحزاب الإسلامية إلى السلطة، سارعت إلى تحريف هذه الثورة عن مسارها الديمقراطي، وأخذت تُسيطر على مناصب المسئوليات (في الوزارات، والشرطة، والجيش، والشركات العمومية، إلى آخره) بهدف تَقْعِيد هيمنتها على الدولة. في تونس، وفي مصر، الشعب خاض ثورة لأنه يريد الديمقراطية والتنمية. ولمّا فازت الأحزاب الإسلامية في الانتخابات، وصعدت إلى الحكومة، قالت للشعب : «ما تحتاجه أيها الشعب، ليس هو الديمقراطية، وإنما هو الرجوع إلى الشريعة الإسلامية» !
آدم : موضوعنا هو نقد الشعب. و العفو الذي انتقدتَه لدى رئيس الحكومة المغربية عبد الإله بنكيران، موجود في هذا الزعيم الإسلامي ، وليس في الشعب.
إبراهيم : لا يا مُواطن ! هذا الخطأ موجود فيهما معًا، أي في الأحزاب الإسلامية ، وفي الشعب. لأن الشعب الذي تنطلي عليه حيلة استغلال الدين في السياسة، يتحمّل هو أيضا جزءا من المسئولية.
آدم : لِيَكُن ذلك إذا أردتَ، ولكن، عندما تنتقد حزبا إسلاميا مثل حزب العدالة التنمية ، وتسكُت في نفس الوقت عن خصومه السياسيين، أو اللّيبراليين، مثل حزب الأصالة والمعاصرة ، فإنك تظهر كأنك تُفضّل، أو تُعْلي، شأن هذا الحزب الأخير.
إبراهيم : ذاك موجود في ظاهر الأمور. لكن نِيّتي مُخالفة لذلك. فرغم أن بعض مسئولي حزب الأصالة والمُعاصرة يدّعون أحيانا أن حزبهم عِلماني، أو لِيبرالي، أو حَدَاثِي، فإن هذا الحزب يُمارس هو أيضا استغلال الدين في السياسة، لأنه يُدافع عن بعض الأطروحات المُشابهة. حيث يوافق على أن شرعيّة النظام الملكي الحالي بالمغرب موجودة في الإسلام، وأن دين الدولة هو الإسلام، وأن الملك هو أمير المؤمنين، وأن إمارة المؤمنين يبرّرها الإسلام، وأن الملك أو المَلكية مقدّسين، إلى آخره. أليس هذا أيضا استغلالا للدّين في السياسة ؟  وينتقد حزب الأصالة والمعاصرة استغلال حزب العدالة والتنميّة للدّين في السياسة. لكنه لا ينتقد استغلال المَلَكِية هي أيضا للدّين في السياسة. زيادة على ذلك، حزب الأصالة والمعاصرة هو حزب مُحافظ. ولا يتوفّر لا على برنامج سياسي إصلاحي، ولا على برنامج ثوري، ولا على تصور مجتمعي بديل. ويدّعي أن النظام السياسي القائم يعمل بشكل جيّد، وأن ما يجب فعله هو فقط تحسين تدبير الحكومة أو الدولة. وغايته الوحيدة هي منافسة الأحزاب التي لا تُرضي السّلطة (أي القصر الملكي)، بهدف منعها من احتلال أغلبية كراسي البرلمان. وصديق الملك (ومستشاره الحالي فؤاد علي الهمة) هو الذي أسّس هذا الحزب في سنة 2008. وقد استقطب بسرعة فائقة أعدادًا كبيرة من الأعضاء، خاصة من بين البرلمانيين، والأعيان الأقوياء، ورجال الأعمال، والوُصوليّين. وكان العامل الحاسم في هذا الاستقطاب الكاسح، هو قرب مؤسّس الحزب من الملك. لأن الانتهازيين يصطفّون دائما، وبدون شروط، إلى جانب الطَّرَف الأقوى. بينما يُفترض في الملك أن يكون غير منحاز لأي فريق سياسي، بما فيه حزب الأصالة والمعاصرة .
 
15)    الحلّ هو الفصل بين الدين والسّياسة
آدم : يمكن أن يكون معك الحق. قد يكون هذا نوعا من استغلال الدين في السياسة. لكن في غالبية الحالات، يصعب على الشعب إدراك حيلة «استغلال الدين في السياسة» ؟
إبراهيم : طبعا، يصعُب أحيانا على عامّة المواطنين أن يفهموا حيلة «استغلال الدين في السياسة». هذه الحيلة هي التالية : كل فاعل سياسي يريد تغليب مصالحه الخاصة، يدّعي أنه «مُتديّن»، أو أنه «إسلامي». ثم يقدّم موقفه الشخصي (الذي يخدم مصالحه الخاصة) على شكل حديث منسوب إلى الرسول، أو على شكل كلام أو آية منسوبة إلى الله، أو على شكل تَأْوِيل مُعيّن للشريعة الإسلامية. وبالتالي، فإنه يقدم موقفه الشخصي الخاص على أنه أَمْرٌ من النّبي، أو أَمْرٌ من الله. فَيُلْغِي هكذا بشكل مُطلق حق المواطنين الآخرين في نِقاش، أو في مُخالفة، رأيه الشخصي. فإذا عارضتَ رأيه، فإنّه يتّهمك بأنك تُعارض الله. حيث يفرض موقفه، أو مصلحته الخاصة، على شكل أَمْرٍ من الله. هذا هو السّر في حيلة «استغلال الدين في السياسة». ويُؤدّي إلى فرض «إرهاب فكري»، باسم الدّفاع عن الدّين. والدين هو بريء من كل هذه المزاعم.
آدم : أنت تُدافع إذن عن اللاّئكِيّة ، وعن العِلمانية. وهما من تراث الغرب، وليسا من تراث الشعوب المسلمة.
إبراهيم : أنا لا أعرف ما هي اللاّئكِيّة ، ولا ما هي العلمانية. ولا أدافع عنهما. ولا أريد نشر أية إيديولوجية جديدة. مرجعيتي الفكرية الوحيدة هي الواقع، والعقل، والعِلم. فأكتفي بالدفاع عن فصل الدّين عن الدولة، وعن فصل الدّين عن السياسة. لأنه لا يمكن التوفيق بين الدّين والعقل. ولأن هذا الفصل يشكّل شرطا من بين شروط قيام الديمقراطية وحقوق الإنسان. وبدون فصل الدّين عن الدولة، وبدون فصل الدّين عن السياسة، يستحيل تحقيق الديمقراطية ! أما محاولات المزج بين الدين والدولة، فقد جُرّبت مرارًا وتكرارًا، في عدة بلدان، وفي مختلف القارّات، وعبر التاريخ، وكانت هذه المحاولات تؤدّي دائما، وفي النهاية، إلى الاستبداد، والتخلّف، والانحطاط. بينما تجارب الفصل بين الدين والدولة كانت تساعد على تنمية المجتمع وتقدّمه.
آدم : لكن، قُل لي، كيف يمكن للمجتمع أن يمنع استغلال الدين في مجال السياسة ؟
إبراهيم : الحلّ معروف. وقد طبقته المجتمعات المُتقدّمة أو الديمقراطية (في أوروبا الغربية وأمريكا)، وذلك منذ قرون. وهذا الحلّ هو فصل الدين عن الدولة، وفصل الدين عن السياسة. وبدون فصل الدين عن الدولة، وعن السياسة، يستحيل تحقيق الديمقراطية. بل إذا لم نفصل بين الدين والسياسة، فَسَيَسْتَحِيل علينا تحقيق حتى العدالة الاجتماعية.
آدم : رُبّما ! لكن كيف يمكن عمليا أن نفصل بين الدين والسياسة ؟
إبراهيم : أهم السّبُل لفصل الدين عن السياسة، يمرّ عبر رفض أية حُجّة دينية، أو أي مرجع ديني، في مجالات السياسة، والاقتصاد، والقانون، والفكر، والثقافة. في كل المُجتمعات المُتقدمة (مثلا في أوروبا وأمريكا)، لا يُسمح لأفراد الكنيسة، أو الكهنة، أو القساوسة، أو الرّهبان، أن يتدخّلوا باسم الدين في السياسة، أو في الاقتصاد، أو في القانون. نحن نحترم الدّين، ونحترم كل المُتديّنين، ونحترم غير المُتديّنين. لكن يجب أن يقتصر الدين على المجال الديني وحده. قضايا الإيمان، والعبادة، والدّين، تبقى حكرا على الدين وحده. بينما قضايا الاقتصاد، والسياسة، والقانون، والعلوم، والحقوق، والفكر، وغيرها من قضايا المُجتمع، يجب أن تبقى حكرا على العقل، وعلى المنطق، وعلى اجتهاد البشر، وعلى الإرادة التي يُعبّر عنها الشعب بطريقة حُرّة، وشفّافة، ونزيهة. فلا يُقبل أي تدخّل لفقهاء الدّين فيما هو قانوني، أو مدني، أو حقوقي، أو عِلمي، أو ثقافي، أو اقتصادي. والحُجج الوحيدة المقبولة في مجالات السياسة، أو الاقتصاد، أو القانون، أو الفكر، أو الثقافة، هي الحجج العِلمية، أو العقلية، أو المنطقية، أو النابعة من إرادة شعب حُرّ.           
 
16)    هل يبرّر تخلّف الشعب الاستبداد ؟
آدم : عندما أَتِيهُ أحيانا في تفكيري، أصل إلى تبرير أشياء غير محمودة. ألا تعتقد مثلا أن شيئا من الاستبداد ضروري ؟ فإذا كان جزء هام من الشعب جاهلا, أو فوضويا، وإذا كان تدبير مواطنين عَنِيدِين يتطلب استعمال الجزر والقمع، ألا يشكّل هذا المُعطى مُبرّرا معقولا لكي تستعمل الدولة أساليب استبدادية، أو دكتاتورية، ولو مرحليّا ؟  
إبراهيم : لا يُعقل أن نبرّر نظاما سياسيا استبداديا، بحجّة أن الشعب لم ينضج بَعْدُ بما فيه الكفاية. الشعب يحتاج إلى الديمقراطية، ويستحقّها. ولا يمكن للشعب أن يتعلّم الديمقراطية، إلاّ عبر الشروع فورا في مُمارستها. ولو عبر ارتكاب بعض الأخطاء أثناء ممارستها الأولية. وإذا كان جزء من الشعب يعتبر الاستبداد ضروريا لتدبير شؤون المُجتمع، فالسبب في ذلك قد يرجع إلى كون هذا الجزء من الشعب يميل إلى حُبّ الأبوية، والسُّلطة, والتُّحَكّم. ويظنّ أن الحل الوحيد لمجابهة الخارجين عن القانون، هو قمعهم وسحقهم. لكن كل قمع لا يخضع للقانون، يصبح استبدادا. وكل قمع لا يحترم حقوق الإنسان، يتحوّل إلى طُغيان. وفي الواقع، بقدر ما تكون سُلَطات الدولة واسعة أو مُطلقة، بقدر ما تكون حقوق المواطنين محدودة أو ناقصة. فإذا كانت هيبة الدولة مبنية فقط على خوف المواطن من بطش الدولة وقمعها، فهذا قد يعني أن شرعية هذه الدولة تقوم فقط على أساس إرهاب الدولة . فتصبح جميع أشكال الإفراط في استغلال النفوذ، وفي التعسّف، والاستحواذ، والإحتكار، والطُّغيان، والاستبداد، ممكنة. فيتضرّر مجمل المواطنين من هذا التّسلّط، ولا يستطيعون الدّفاع عن حقوقهم المشروعة. وقد لا يستطيع الشعب الخروج من التّخلف. والحلّ البديل المأمول هو أن يوجد توازن بين سلطات الدولة وحقوق المواطنين. والمواطن الذي يكون تكوينه جيّدا، يتقبّل بسهولة احترام المجتمع والدولة. أما المواطن الذي لا تَرْدَعه سوى القوة، فإنه يميل إلى ارتكاب جميع المُخالفات حينما تغيب عن نظره تلك القوة الرّادعة. فيتحوّل المجتمع، عاجلا أم آجلا، إلى جَحيم. 
 
17)    يُفشل انتشار الأنانيّة أي إصلاح سياسي
آدم : يظهر أحيانًا، من خلال كلامك، كأنك تَدّعي أننا لا نستطيع إنجاز الإصلاحات السياسية التي نطمح إليها. لماذا ؟
إبراهيم : أُنْظر يا مُواطن إلى المجتمع ! لقد انتشرت الأنانية والانتهازية لدى أفراد شعبنا إلى حدّ أن مجتمعنا أصبح في حالة مُفرطة من التّأزّم، والانحلال، والتّخلّف، والانحطاط. مُجتمعنا مريض من قِمّته إلى قاعدته. النتيجة التي وصلها مجتمعنا اليوم، هي أن أيّ فاعل سياسي كان، سواءً كان هو رئيس الدولة، أم الحكومة، أم الأحزاب السياسية، أم غيرها، لا يستطيع أن يُنجح أي إصلاح مُجتمعي، سواءً كان سياسيا، أم اقتصاديا، أم إداريّا، أم قانونيا، أم غير ذلك. أصبحَ اليومَ مآل كلّ محاولة لإصلاح البلاد هو الفشل. سواءً كان منبع هذه المُحاولة هو القصر الملكي، أم الحكومة، أم اليمين، أم المُعارضة، أم اليسار. لماذا ؟ لأن عقلية المُواطنين أصبحت فاسدة ! فإذا لم نعمل على تحرير عَقليّة المُواطنين من الأنانية، ومن الانتهازية، فإن شعبنا لن يستطيع أبدًا إصلاح نفسه. ولا يمكن أن يكون المُجتمع سليما إلاّ إذا كان مُجمل أفراده يلتزمون بحدّ أدنى من التّضامن. وبدون حَدّ أدنى من العدالة المُجتمعية, والمُساواة، والتّضامن، والعَقْلَنَة (rationalisation)، يتحوّل البشر إلى شِبْه حيوانات. وفي مثل هذه الحالة، لا ينفع معهم لا الوعظ، ولا الإرشاد، ولا الدّين، ولا القانون، ولا القمع. والمُجتمع الذي تكون غالبية أفراده تتصرّف بعقليّة أنانيّة، أو انتهازية، فإنه يتأزّم بسرعة، ويتحوّل إلى جحيم لا يُطاق، بالنّسبة لمُجمل أفراده. فتغدو كلّ مُكوّنات المُجتمع (من مؤسّسات، وإدارات، وشركات، وعائلات، وأفراد، إلى آخره) مأزومة، أو مشلولة، أو في طريقها إلى الشّلل. فحتى إذا كُنْتَ أنت هو رئيس الدولة، أو رئيس الحكومة، أو مدير مؤسّسة، أو زعيم أقوى حزب في البلاد، ماذا يمكنك أن تنجز في حالة إذا كان مُجمل المواطنين مَهْوُوسين بالأنانية، وبالانتهازية، وبالفَرْدَانية، ويريدون الحصول على أكبر دَخْل، وعلى أسرع ترقيّة مهنية، وينفرون من بذل أي مجهود، ولا يُثَقّفُون أنفسهم بأنفسهم، ويستَغِلّون أية مناسبة مُواتِيّة للتّحَايل على القانون، أو لِمُمَارسة الغشّ، أو للاغتناء بطرق غير مشروعة ؟ في مثل هذه الحالة، لن تستطيع إنجاز أيّ شيء ذي أهميّة. لن تستطيع تحقيق أي إصلاح، لا في السياسة، ولا في الاقتصاد، ولا في التعليم، ولا في الصّحة، ولا في السّكن، ولا في العدالة، ولا في أي ميدان مُجتمعي. فإذا كنتَ مسئولا نزيها، أو مناضلا مُثابرا، فيجب عليك أن تُحلّل المُجتمع بشكل مُعمّق، وأن تكون لديك الشجاعة لكي تظلّ منطقيا مع عقلك، في تحليلاتك، وفي استنتاجاتك، وفي قراراتك، وفي تطبيقاتك. وبدون التزامك بالمنطق العِلْمي، أي بالعَقْل وحده، فإنك سوف تَتِيه، أو تنحرف، بسهولة كبيرة، ولن تستطيع تحقيق أي تقدّم. فمتى سيعقد مواطنونا العزم على مُحاولة التّحكّم في نزواتهم، وعلى القيام بواجباتهم، وعلى الاضطلاع ببذل كل الجهود التي يلزمهم بذلها ؟
آدم : هل كلامك يعني أنك تريد تعويض التحاليل السياسية الكلاسيكية، التي تُفسّر مثلا التّخلّف بِغياب، أو بضعف، البِنْيَات التَّحْتِيّة، وبالتّبعية للإمبريالية، وباحتداد الاستغلال الطبقي، وباقتصاد الريع، وبنهب الممتلكات العامّة، إلى آخره، هل تريد تعويض تلك التحاليل بتحليل آخر، يركّز على عوامل أخرى، مثل الأنانية، والانتهازية ؟
إبراهيم : لاَ، ثمّ لا ! أنا لا أريد تعويض تلك التحاليل الكلاسيكية التي ذكرتَها. وإنما أضيف إليها عوامل جديدة، ظلّت في السابق مجهولة، أو مُهملة، أو غير مفهومة، أو غير مُعترف بها، أو منسيّة. وقصدي، هو أنّه لا يكفيك أن تُعمّم التعليم، أو أن تُحسّنه، أو أن تَضُخّ استثمارات ضخمة، أو متزايدة، في البِنْيَات التّحْتِية، أو أن تُحَرّر الاقتصاد من التبعية للإمبريالية، أو أن تُعزّز ترشيد أو تَأطِير الدولة للإقتصاد الوطني، أو أن تُعوّض أكثر ما يمكن من الاستيراد بصناعات وطنية محليّة، وما شابه ذلك. بل يلزمنا أن نعمل أيضا، وفي نفس الوقت، على تطوير، وتقويم، وتَثْوِير، عقلية المواطنين. 
 
18)    أزمة المُجتمع عميقة، مُركّبة، ومُزمنة
آدم : لكن، لماذا يا أخي تميل إلى نقد كلّ شيء ؟ الأوضاع في المغرب ليست سيّئة إلى الحدّ الذي تُصوّره. بل إنها عاديّة، أو جيّدة نسبيّا. بل تتحسّن باستمرار. وعدد الأغنياء يكبر باستمرار. والطبقات المتوسّطة تتوسّع. و تتحسّن مداخلها. وفي كل المدن الصغيرة والكبيرة، تُشيّد العِمارات، والفِيلاّت، والقُصور، بلا توقف. وأصحاب الملايين يتكاثرون في كل عام. وكل مُلاحظ يمكنه أن يرى أن عدد السيارات الخلاّبة، مثل رباعيّة الدفع، ومن النّماذج الغاليّة الثمن، تتكاثر باستمرار. وغالبية المواطنين يتسابقون نحو متاجر التّرف، رغم ارتفاع الأثمان فيها. ويشترون أغلى الهواتف المحمولة. وظاهرة السّمنة، أو الوزن الزائد، تنتشر بين المواطنين. ورغم كثرة المقاهي والملاهي، فإنها تظل مملوءة. والأموال التي يُودِعها المواطنون لدى الأبناك تتضخّم بشكل كبير، لم نشهد مثله في الماضي. وضعيّة المغرب إذن جيّدة. فما السبب في تشاؤمك ؟
إبراهيم : يلزم أن نجيب بوضوح على السّؤال التالي : هل نترك مجتمعنا (الذي يتكوّن حاليا من قرابة 33 مليون نسمة) يتطور بشكل تلقائي، أو عفوي، أم أنه يجب أن نُخضع تطور المجتمع للعقل، وللمنطق، وللعدل، وللعلوم، وللتخطيط ؟ أنظر يا مواطن ! تقدّم المُجتمع الذي لا يقترن بتوسيع حريّات المواطن، ليس تقدّما حقيقيا. فمن الخاطئ حصر مفهوم التنميّة البشرية في التنمية الاقتصادية، أو في الأرقام الاقتصادية الشمولية على صعيد وطني، والتي تتجاهل الفوارق بين المواطنين. وكيف يعقل أن ندّعي أن بلدنا يتقدّم، بينما الفجوة التي تفصلنا عن البلدان الأكثر تقدّما في العالم تتّسع عامًا بعد عام، في ميادين المعرفة، والعلوم، والتكنولوجية، والبيئة، والطاقة، والأسلحة، والثقافة، إلى آخره ؟ لماذا لا نأخذ بعين الاعتبار مدى إحساس المواطنين بالسّعادة، أو بالشّقاء ؟ وقد جاء في المادة الأولى من إعلان الحق في التنمية الذي وضعته الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 4 ديسمبر 1986 : «الحق في التنمية، هو حق غير قابل للتصرف، وبموجبه يحق لكل إنسان، وكذلك لكل شعب، أن يشارك، وأن يساهم، في تحقيق التنمية الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية، والتي يمكن فيها لجميع حقوق الإنسان، ولجميع الحريات الأساسية، أن تتحقّق كاملة، وأن يتَمَتُّع بهذه التنميّة». وهذا لا يتوفّر في مجتمعنا. وشعبنا لا يهتم بما فيه الكفاية بهذه القضايا.
آدم : لكنك لا تستطيع أن تنكر أن ثروة البلاد تتزايد في كلّ سنة. وأن معدل دخل المواطنين يتحسّن من عام لآخر.
إبراهيم : في المغرب، توزيع الثروات مُختلّ جدّا، حيث أن أقلّية تملك كل شيء، والباقية من السكان لا تملك شيئا. ومثل هذا الوضع لا يمكن أن يدوم طويلا. وتحتكر، أو تقتسم، بضعة عائلات، مختلف قطاعات اقتصاد البلاد. ولا تترك إلاّ الفُتَات إلى المقاولات الأخرى، المتوسطة والصغيرة. وتُكوّن العائلات الميسورة أبنائها في جامعات الدول المتقدّمة، وأبناء باقي عائلات الشعب يتعثّرون في إطار تعليم عمومي، محلّي، مُختلّ، أو مُفلس. وتَعْتَقل الدولة المجرمين الصغار أو الفقراء, و تُعذب المناضلين المُعارضين،  وتُحاكمهم بقسوة. بينما المجرمون الكبار، المُتخصّصون في الفساد الاقتصادي الرّاقي، يفلتون دائما من القضاء، ومن العقاب. ويغتنون بشكل سريع، وغير قانوني. لأن علاقات معقّدة تربط هؤلاء المجرمين في ميادين الاقتصاد بالمسئولين الكبار في البلاد. ويُهَرّب كبار ناهبي المال العام، الذين يفلتون من القضاء، يُهَرّبون ما نهبوه إلى خارج البلاد، خوفا من أن يُحاكموا بردّه إلى الدولة. ويشترون في الخارج الشّقق والفيلات الأنيقة. ورئيس الدولة يجمع بين السلطة السياسية والثروة الاقتصادية. وأصبح يتحكّم في قطاعات هامّة من اقتصاد البلاد. ويُهرّب في المُعدّل مجمل كبار الأغنياء قرابة الثلث من رَسَامِيلِهم إلى الخارج، ويفضّلون استثمارها في بلدان أوروبية أو أمريكية، بدلا من استثمارها في بلدهم المغرب. لماذا ؟ لأن تراكم المشاكل في المغرب يجعلهم لا يثقون في مستقبل هذا البلد. و تُصَدّر الشركات الأجنبية، العاملة داخل المغرب، أرباحها، بدلا من أن تستثمرها داخل المغرب. و يفضّل المواطنون المغاربة شراء السّلع المستوردة من الخارج، لأنهم يعتبرون السّلع المصنوعة محلّيا ذات جودة رديئة. و تعاني اليد العاملة المحليّة من ضعف تكوينها. و لا تزال قدرة الصناعات القليلة الموجودة في المغرب غير قادرة على مُنافسة مثيلاتها الأجنبية. و تبقى قيمتها المُضافة هي أيضا ضعيفة. وقانون الشغل لا يُطبّق. و لا يلتزم قرابة 30 إلى 50 في المائة من الفاعلين الاقتصاديين لا بالقوانين، ولا بالضرائب. والدولة تعجز تماما، ومنذ زمان، على مواجهة هذه المشاكل.
آدم : هذا عرض قاتم ! يخيفني وصفك لمظاهر الأزمة !
إبراهيم : زيادة على ذلك، تمنح الدولة إنجاز المشاريع الكبرى إلى شركات أجنبية، بدل منحها لشركات وطنية، فتذهب هكذا فرص خلق الشغل من داخل المغرب إلى خارجه. ويظلّ ما بين الثلث والنصف من السّكان الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15 و30 سنة، يظلّون في حالة بطالة مُقَنّعة. ولا يحصلون من الدولة على أي تكوين مهني، أو تعويض، أو إعانة. وتعجز الدولة، ومنذ سنوات متواصلة، على تخفيض نسبة البطالة بشكل جَلِيّ. و في كل عام، يُهاجر بشكل دائم إلى أوروبّا أو أمريكا، عشرات أو مئات الآلاف من الشبان، ومن الأدمغة المُكوّنة. ويستمر هذا النزيف الخطير منذ عدّة عقود. و يغرق الاقتصاد المغربي أكثر فأكثر في الأزمة. وتكبر ديونه الخارجية. ويتفاقم عجز الميزانية العمومية. ويستمرّ الميزان التجاري في حالة عجز. و لا تكفي التنميّة الاقتصادية المُحَصّلة لتخفيف البطالة. ولا زال اقتصاد البلاد يعتمد على تساقط المطر. و لا زال تدبير الدولة للموارد المتوفّرة دون المُستوى المطلوب. و لا يمكن مُراقبة أو مُحاسبة السّلطة السياسية التي تُدبّر اقتصاد البلاد. وتتضخّم باستمرار أجهزة الدولة القمعية. وغالبية موظفي الدّولة لا تنتج شيئا ذي أهمية، ورغم ذلك يستغلّ الموظفون الكبار والمتوسطون نفوذهم لانتزاع أجور، وتعويضات، وعلاوات، مُتواليّة، وغير عادلة. وتتزايد بشكل مُخيف، وسنة بعد أخرى، كتلة أجور مجموع المأجورين العاملين في مختلف أجهزة الدولة، إلى درجة أنها تُقَلّص كثيرا قدرات الدولة على القيام باستثمارات عمومية. و تستمرّ، منذ سنوات، مُجمل الخدمات العُمومية التي تُشرف عليها الدولة (مثل الصحة، والتعليم، والقضاء، ومعالجة النفايات، ونقل الرّكاب، وأنظمة التقاعد، وما شابهها من الخدمات العامة)، تستمرّ في حالة مُزريّة، أو في تخلّف، أو في إخفاق، أو في إفلاس. و لا تتقدّم التنمية البشرية، رغم ما يُرصد لها من أموال. و تتعرّض باستمرار حقوق الإنسان، والحريات العامّة (مثل حريات التعبير، والصحافة، والتظاهر، ...) للمضايقات، أو للمنع. ويدرك أفراد الأجهزة القمعية أن رؤسائهم يستعملونهم لاضطهاد مناضلي الشعب، مُقابل أجرة شهرية. ورغم ذلك، يستمرون في مُمارسة قمع شرس. وأفراد الشعب يعرفون هذه الأمور، ويتحمّلون جزءا من هذه المسؤوليات.
آدم : كفاية من فضلك ! كفاية من استعراض هذه المظاهر المُحزنة ! فهمتك ! فهمتُ تشخيصك للأزمة. لكن قل لي، هل من أمل ؟
إبراهيم : قبل الكلام عن الأمل، أودّ التنبيه إلى قاعدة من بين القواعد التي تتحكّم في تطور كل مجتمع([5]). وهي التالية : لا يمكن لأي فاعل كان أن يتحايل على المُجتمع ! وكلّ فاعل يدّعي بأنه يُعالج مشاكل المجتمع، بينما هو في الواقع يعجز على ذلك، ينتهي بالضرورة، وفي آخر المطاف، إلى الإنفضاح، ثم الإفلاس، ثم الزوال. وإذا كانت الدولة، أو المواطنون، لا يعملون بهدف معالجة مشكل مُحدّد في المجتمع، فإن هذا المشكل لا يزول من تلقاء نفسه. بل يظل يتفاقم، وينتهي إلى تَأْزِيم المجتمع بأكمله. وكلّ مجتمع لا يُعالج مشاكله، بشكل جدّي وعميق، يَؤُول بالضّرورة مُستقبله إلى الفوضى، أو إلى الإفلاس، أو الإنحطاط ! وكلّ مُجتمع يستهلك أكثر مِمّا يُنتج، يتطور بالضرورة نحو فقدان سيّادته، أو استقلاله، أو يسقط في الفوضى، ثم الإفلاس، ثم الخراب ! هذه هي كلّها قوانين تتحكّم في تطور المُجتمع. هذه هي حتميّة علميّة ! ويستحيل الإفلات منها. والمشكل المُحيّر هو : لماذا يصبر الشعب طويلاً على مُعاناته ؟ لماذا لا يناضل لتحسين أوضاعه ؟
آدم : أتذكّر أن «الهيئة العليا للتخطيط» (وهي مؤسسة حكومية) نشرت (في 1 أكتوبر 2012) نتائج بحث قامت به، يقول أن 7 من كل 10 مغاربة «يعتبرون أنفسهم غير سُعداء». وأن 2 من كلّ 3 مغاربة نشطين «غير راضين عن دخلهم». وإذا كانت مثل هذه المشاكل الخطيرة قائمة، ومزمنة في البلاد، منذ عقود مُتواليّة، فلماذا لا يتحرك الشعب للدّفاع عن مصالحه ؟ هل تنقصه معرفة الأشياء ؟ هل يفتقر إلى الوعي السياسي ؟ هل وعيه السياسي لم ينضج بعد بما فيه الكفاية ؟ هل ينقصه التنظيم النضالي ؟ هل يخاف من القمع الشديد ؟ هل التاريخ القمعي للدولة أثّر في عقل المواطن إلى درجة ترسيخ الرّعب في ذهنه ؟ هل إِنْمَحَت تقاليد مُقاومة الظّلم من تُراث الشعب ؟ لماذا لا تتحرّك الأحزاب، والنقابات، والجمعيات التقدّمية ؟ لماذا لا تقوم مؤسّسات الدولة (مثل الحكومة، أو البرلمان، أو غيرهما) بواجباتها ؟ هل هذه الهياكل أصبحت مجرد دُمَى فارغة من الدّاخل ؟ لماذا يتفوّق مواطنونا في طرح أو معالجة مشاكلهم الشخصية الخاصة، ويعجزون في نفس الوقت على فهم مشاكلهم المُجتمعية المُشتركة ؟ ألا يُوجد مواطنون من بين الشعب قادرون على التفكير في الشعب ككل، وعلى النضال من أجل تحقيق طموحاته المُشتركة ؟ ألم تبلغ بَعْدُ مُعاناة الشعب الحدّ الأقصى الذي يجعل الشعب ينفجر ؟ لماذا تنخدع بسهولة غالبية الشعب بالمناورات السياسية التي يُدبّرها النظام السياسي القائم ؟ هل يتحكّم النظام السياسي في عقول المواطنين إلى هذه الدرجة ؟ هل حدث خلل ما في عقل الشعب ؟ هذا مُحَيّر !
إبراهيم : فعلاً، هذا هو المُشكل المُحَيّر ! وحتى السياسيين المُحترفين لا يستطيعون الإجابة على هذه الأسئلة بشكل مُقنع ومُكتمل. ومن الأكيد أن كثيرا من العوامل، مثل تلك التي تساءلتَ أنت حولها سابقا، تُساهم في تدمير قُدرات الشعب على التفكير النقدي، وعلى مقاومة المُنكر، ومحاربة الظّلم. وهذه حُجّة إضافيّة على أن المشكل لا يوجد فقط في الحُكّام، بل يوجد أيضا في الشعب ! فمظاهر التّخلّف، والفساد، والاستبداد، لا توجد فقط في المناصب العُليا من الدولة، بل توجد أيضا في العائلة، وفي المدرسة، وفي الإدارة، وفي المعمل، وفي الضّيْعَة، وفي الشارع، وفي الثقافة، وفي عقول المواطنين ! فنقد الشعب ضروري. ويستحيل مُعالجة مشاكل المُجتمع عبر تغيير النظام السياسي فقط، بل يلزم أيضا تغيير فكر، وأخلاق، وسلوك المواطن. وحتى بعض المناضلين الصادقين، المرتبطين بأحزاب، أو نقابات، أو جمعيات تقدّميّة، تراهم أحيانا لا يُناضلون من أجل خدمة الشعب، أو من أجل تغيير المُجتمع، بل يناضلون من أجل تحقيق ذاتهم، أو من أجل تحقيق طموحاتهم الذاتية. معنى ذلك أنه يجب أيضا تغيير عقليّات وعادات أعضاء الأحزاب، والنقابات، والجمعيات، وغيرها من مؤسسات المُجتمع. وقد ظلّت مثل هذه الأوضاع المُجتمعية موجودة، وسائدة، في الكثير من بلدان العالم العربي، إلى درجة أن البعض بدأ يشُكّ في أن التاريخ قد توقّف نهائيا في هذه البلدان.
آدم : هذا هو ما حصل فعلا. أصبحنا، بين سنوات 1990 و2010، نميل إلى الاعتقاد بأن الثورات المطالبة بالديمقراطية التي حدثت في بلدان أوروبا (خلال القرنين 18 و19 الميلاديين) لن تحدث أبدا مثيلات لها داخل بلدان العالم العربي. وأصبحنا نظنّ أن قدرنا هو الاستمرار طويلاً في الاستبداد السياسي، وفي التّخلّف المُجتمعي.
إبراهيم : فعلا ! خلال زمن طويل، يشتاق المناضلون للثورة، لكن الثورة تظهر كأنها مستحيلة. بينما في الواقع، تستمر عوامل وعناصر الثورة تعمل بشكل مُسْتتِر، وفي الخفاء، في أعماق المُجتمع، إلى أن تنضج شروطها المُجتمعية. وفجأة في سنة 2011، حدثت الثورة في تونس، ثم في مصر، ثم في اليمن. و في سنة 2012، إشتعلت الثورة في ليبيا، ثم في سوريا. ولا زالت الأحداث تتلاحق في هذه البلدان. فانتعشت آمالنا من جديد. وأصبح كل شعب في منطقة العالم العربي يحلم بوصول دوره في إنجاز ثورته الوطنية الديمقراطية.
 
19)    لعقلية المواطن أهميّة حاسمة
آدم : ولماذا تُعطي دائما، في كلامك، أهمّية كبيرة للعقل، أو للذهنية التي يعمل بها المواطنون ؟
إبراهيم : على مُستوى الدولة مثلاً، يَتّضح جَلِيّا أن العقليّة التي يشتغل بها مجموع الموظفين، لها نتائج شُموليّة، مُجتمعية، وحاسمة. حيث يمكن أن تُحَوّل هذه العقلية المُجتمع إلى جنّة، أو إلى جحيم. فإذا كان مثلاً كلّ مسئول، في أية إدارة من بين إدارات الدولة، وكلّ مُوظّف من بين مُوظّفي الدولة، يعمل على الخصوص بهدف خدمة مصالحه الخاصّة (=الأنانية)، فإن الدولة تتحوّل إلى نقيضها. فبدلا من أن تكون الدولة في خِدمة الشعب، يُصبح الشعب في خدمة الدولة. أي أن الدولة تُسَخّر الشعبَ لخدمتها. مثلا عبر جمع الضرائب، أو تراكم الغرامات، أو عبر جمع الرشاوى، أو استغلال النفوذ، أو الاستمتاع بالريع الاقتصادي، بهدف الاغتناء غير المشروع، وممارسة القمع، وفرض الخضوع، إلى آخره. فإذا لم يكن الشعب يستفيد حقّا من الخدمات العمومية للدولة، يصبح الشعب في جحيم.
آدم : هذا على مستوى الدولة. وماذا يحدث على مُستوى الشعب ؟
إبراهيم : تحدث نفس الظاهرة السّابقة على مستوى الشعب. فإذا كان كل مواطن مهوُوسا فقط بمصالحه الأنانية أو الانتهازية، فإنه يصبح عاجزا على إدراك ترابط مصالحه الفردية بمصالح مجموع المواطنين الآخرين. فتراه يميل إلى تغليب خدمة مصالحه الفردية، وَلَوْ على حساب مصالح باقي المواطنين، أو وَلَوْ عبر الإضرار بالمجتمع. فيتحوّل هكذا المواطنون إلى شبه حيوانات مفترسة. ويتحوّل المجتمع إلى جحيم. ويصبح مجمل المواطنين يُحِسّون بالظّلم، أو بالتّهميش، أو بالدّونية. ويُعانون هموما غامضة. ويعيشون مشاكل مُعقّدة، أو مُركّبة. فينتشر في المُجتمع الغمّ، والكُرْب، والمُعاناة، والقلق، والتّوَتّر، والعُدوانية، والتّخريب، والجريمة، والمِحَن، والحزن، والانحرافات، والأمراض النفسية، إلى آخره. وفي هذه الحالة، لا يقدر المواطنون على فهم مصادر هذا الغَمّ، ولا على إدراك كيفية تأثيره. ويعجز المواطنون على إيجاد حلول مُرضية لهذه المشاكل. وذلك بالضبط لأن هذه المشاكل لها بُعْد مُجتمعي. ولأن مُعالجة هذه المشاكل تستوجب من مجمل المواطنين أن يتحرّروا من العقلية الأنانية، وأن يرتقوا إلى مستوى التّضامن المُجتمعي. وإذا ما نضج وعي المواطنين إلى المستوى اللازم من التّضامن المُجتمعي، تصبح في هذه الحالة كلّ طموحات الشعب ممكنة التحقيق. حيث أن تشييد مجتمع سعيد يتطلب مواطنين مُتضامنين. أمّا إذا كانت غالبية المواطنين تتميّز بالأنانية، فإن تشييد مجتمع سعيد يبقى مستحيلا. 
آدم : هذا كلام جميل ! بل يمكن أن يتفق عليه كثيرون من المواطنين. لكن، ما العمل لتغيير هذا الواقع المُجتمعي ؟ كيف نُعالج هذه المشاكل المُجتمعية المُزمنة ؟ كيف نتحوّل، نحن أيضا، من شعب مقهور ومُتخلّف، إلى شعب حُرّ، وديمقراطي، ومتقدّم ؟
إبراهيم : لا يتوفّر السياسيون اليَمِينِيّون، ولا المُحافظون، على جواب مُقنع على هذه الأسئلة، لأنهم يعتبرون أوضاع المُجتمع جيّدة، أو مقبولة. ولا يقترحون سوى القبول بالاستبداد السياسي، والخضوع الأعمى لآليات السّوق الرأسمالي. أما الثوريون، فجوابهم جاهز. وهو : الانضمام إلى صفوف الثوار، بهدف تَهْيِئة وإنجاز ثورة مُجتمعية، سلميّة، ومُتواصلة. وإن كان الثوريون يحتاجون، هم أنفسهم، إلى تَثْوِير أفكارهم، وأساليبهم، وسلوكيّاتهم ! ومُختلف مهام، أو عمليات، تثقيف الشعب، وتنويره، وتنظيمه، وخوضه لنضالات جماهيرية مُشتركة ومُتصاعدة، يلزم أن تكون كلّها مُتزامنة، ومتداخلة، ومُتواصلة. وسواءً كان الشعب مُؤهّلا لذلك أم لا، فلا أحد غير الشعب يستطيع أن يحقّق لنا المُجتمع الذي نطمح إليه !  
آدم : يوحي كلامك أحيانا بأن الثورة آتيّة بدون أدنى شكّ.
إبراهيم : أجهل حاليا متى ستحدثُ الثورة بالمغرب، وكيف سيكون شكلها، وكم ستدوم، وكيف ستُحْسم. لا أدري هل ستحدث بعد شهور، أم بعد بضعة سنوات. لكن معرفتي العلمية للمجتمع تجعلني مُتأّكدًا من أنها آتية لا ريب فيها. وأكبر الاحتمال هو أنها ستختلف في أساليبها وأشكالها عن الثورات التي حدثت في تونس، ومصر، واليمن، وليبيا، وسوريا. فحينما تنضج موضوعيا الرغبة في الثورة لدى طبقة المستغلّين، ولدى طبقة الذين لا يَستغِلّون ولا يُستغَلّون، ولدى طبقة المُستغِلّين الصّغار، فإن مَدّ الثورة قد ينفجر من خلال أحداث عادية أو مألوفة، وينتشر ويتقوى حتى يصبح أقوى من زلزال، وأعظم من اتْسُونَامِي، وآنئذ، لا أحد في الدنيا يستطيع إيقافها أو إلغائها.   
عبد الرحمان النوضة
(وحُرّر في 29 أكتوبر 2012).
 
 
 
 


[1]  أنظر كتاب : Le Sociétal, de A. Nouda . ويمكن تنزيله من الموقع http://LivresChauds.Wordpress.Com .
[2]  Voir les livres : ‘Le Politique’, et ‘L’Ethique politique’, de A. Nouda, à télécharger à partir du site : ‘http://LivresChauds.Wordpress.Com’.
[3]  كتاب حكمة الغرب (الجزء الأول) ، برتراند رسل، الطبعة الثانية، منشورات عالم المعرفة، يونيو 2009، الرقم 364، ص 96.
[4]  أُنظر كتاب L’Éthique politique ، على الموقع http://LivresChauds.Wordpress.Com .
[5]  حول القواعد التي تتحكّم في تطور المجتمع، أنظر كتاب Le Sociétal ، في الموقع http://LivresChauds.Wordpress.Com .



#عبد_الرحمان_النوضة (هاشتاغ)       Rahman_Nouda#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كيف حال احزاب اليسار بالمغرب ؟
- ضِدّ الزّعَامية
- كيف نُدبّر الاختلاف والتكامل فيما بين مناضلي القوى السياسية ...
- الثورات العربية : نقد -حركة 20 فبراير- بالمغرب
- لماذا لا تقدر بَعْدُ حركة 20 فبراير بالمغرب على إسقاط الاستب ...
- علاقة الدين بالدولة وبالسياسة


المزيد.....




- سقط سرواله فجأة.. عمدة مدينة كولومبية يتعرض لموقف محرج أثناء ...
- -الركوب على النيازك-.. فرضية لطريقة تنقّل الكائنات الفضائية ...
- انتقادات واسعة لرئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بسبب تصريح ...
- عقوبات أمريكية جديدة على إيران ضد منفذي هجمات سيبرانية
- اتحاد الجزائر يطالب الـ-كاف- باعتباره فائزا أمام نهضة بركان ...
- الاتحاد الأوروبي يوافق على إنشاء قوة رد سريع مشتركة
- موقع عبري: إسرائيل لم تحقق الأهداف الأساسية بعد 200 يوم من ا ...
- رئيسي يهدد إسرائيل بأن لن يبقى منها شيء إذا ارتكبت خطأ آخر ض ...
- بريطانيا.. الاستماع لدعوى مؤسستين حقوقيتين بوقف تزويد إسرائي ...
- البنتاغون: الحزمة الجديدة من المساعدات لأوكرانيا ستغطي احتيا ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبد الرحمان النوضة - نقد الشعب