أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد النور مزين - ليالي القامرة الهادئة















المزيد.....



ليالي القامرة الهادئة


عبد النور مزين

الحوار المتمدن-العدد: 1125 - 2005 / 3 / 2 - 10:50
المحور: الادب والفن
    


خلت القهوة تماما من الزبائن . لم يبق إلا هو, ينظر إلى المطر الغزير الذي يغسل إسفلت الطريق بعنف .هبت ريح باردة . هزت باش(1) القهوة الجانبي مهددة بانتزاعه . أحكم تزرير معطفه لاتقاء لسعات البرد المفاجأة وهو يضم ًالصاكً بين قدميه . اقترب منه النادل وقال له بعد أن سحب الكأس الفارغ ومسح الطاولة :
ـ اذهب إلى الداخل . الليلة باردة .
شكره بابتسامة امتنان ومشى وراءه يجر صاكه . لفه دفء القهوة في حنان . اتجه نحو طاولة في الركن وجلس جنب زجاج النافذة مباشرة . كانت قلادات المصابيح المختلفة الألوان ما زالت مضاءة بعد احتفالات عيد الاستقلال . أضواء متلألئة تنعكس على الطريق المبلل .
انزوى في ركن وغاب في تأملاته الطويلة . لن تأتي إذن . لا جدوى من الانتظار .وعاد النادل من جديد يحمل كأس شايه . جلس جنبه . عب نفسا عميقا من سجارته ورشف من الكأس ثم بادره :
ـ ألم تتدبر أمرك بعد ؟
ـ ليس بعد .
ـ وماذا فعلت طوال اليوم .
ـ لا شيء يذكر.
دس يده في جيب معطفه وأخرج قطعة نحاسية مستديرة مدها إلى النادل . قلبها النادل في يده وهو يتفحصها في إمعان وسأله :
ـ ما هذا ؟
ـ شارة أبي .
ـ أيشتغل أبوك حارسا ؟
ـ لا.. كان يشتغل في سوق الجملة قبل موته .
انقبض وجه النادل وهو يغمغم :
ـ لا حول ولا قوة إلا بالله ، منذ متى ؟
ـ قبل شهر ..
لم يجد النادل شيئا يقوله . وساد صمت .
كانت القهوة تقع قبالة المحطة الطرقية بالقامرة مباشرة . كانت الطريق مقفرة إلا من سيارة البوليس التي تمر في بطء من حين لآخر تحت السيول . لم تدخل إلى المحطة أية حافلة منذ أن جلس هناك . لن تأتي إذن . لا داعي للانتظار .هكذا فكر .لقد مرت خمسة أيام منذ أن رآها ذلك الصباح لآخر مرة . قالت له أنها ستفكر وترد عليه . قالت أنها ستأتي إلى القهوة . لم يكن له عنوان آخر يعطيه لها . هي أيضا تشتغل هناك . لكن لحسابها الخاص . لا تحتاج إلى شارة أو مقاطعة . قالت له ذلك الصباح أنه أفضل لها أن تشتغل لحسابها الخاص .
ـ اشرب ، الشاي سيبرد . قال النادل .
ـ شكرا .
ـ ماذا ستفعل غدا ؟
ـ قالوا لي أنه لا بد من الذهاب إلى المقاطعة .
ـ ولماذا المقاطعة ؟
ـ لأحل محل أبي . الشارة لا تكفي وحدها .
دخل زبون وجلس في الركن المقابل . انتقل النادل إلى طاولته وصافحه . اعتاد أن يراه في نفس المكان منذ أن حل بالرباط قبل أسبوعين . كان النادل قد أخبره من قبل أنه يأتي للمداومة . كل المقاهي هكذا . قال له . مداومة المخبرين ضرورية حتى وان كانت القهوة خالية من الزبائن .
قاربت الساعة الثانية صباحا وبدأ النوم يراود عينيه وهو ينظر إلى المخبر تارة والى الأنوار المختلفة في الخارج تارة أخرى . ذات ليلة سيطلب منه بطاقة الهوية . اقشعر بدنه لهذه الخاطرة . انه لا يحمل معه إلا شارة أبيه . حتى نسخة عقد الازدياد التي كان يحملها معه قد أصبحت دون قيمة تذكر بعد أن تبللت وانمحى مدادها .
مر أسبوعان على قدومه .وتبدو الرباط إلى حد الآن كأنها تلفظه في تقزز كحصاة تئز بين أضراسها .فكر عدة مرات أن يعود إلى قريته . الرباط لا تقبل الجسم الغريب على ما يبدو . أما هي فلن تأتي إذن . لا داعي للانتظار . لم يلحظ اهتمامها به إلا بعد أسبوع على قدومه .أما هي فمن الأكيد أنها لاحقت وجوده منذ الصباح الأول . جاء مبكرا ذلك الصباح , مبكرا جدا . حام حول السوق كالمستطلع .تردد كثيرا قبل أن يقرر الدخول . عبر البوابة الكبيرة . راعه ذلك الكم الهائل من الصناديق . وملأت انفه رائحة البيصارة والحريرة . يستطيع أن يميز بين الرائحتين . لم يتناول طعاما منذ يومين .
رطوبة الصباح تلف السوق وترشه بشبه رذاذ أقرب إلى الضباب تضفي على المكان بصناديقه وكائناته البشرية انتعاشا صباحيا لا تنقصه إلا كسرة خبز وزلافة بيصارة سخونة . تقدم بضع خطوات إلى الداخل . لا أحد يشعر به .من أين سيبدأ . شاحنات تفرغ وأخرى تغادر . صناديق الخضر والفواكه الطرية على الأرض مقسمة إلى مجامع مختلفة العلو . الحمالون يذهبون ويجيئون حاملين الصناديق أو فارغين .يتجنبون الاصطدام ببعضهم البعض رغم أن رؤوسهم دائما منحنية تنظر إلى الأرض . يعملون مثل النمل تماما .ضربت يد صاكه المعلق على كتفه . استدار فزعا فبادره رجل كهل :
ـ ماذا تريد ؟
تفحصه في ريبة وهو يبتعد قليلا وأجاب :
ـ أريد أن أحمل .
ـ ومن أنت ؟
ـ ولد الهاشمي ..
ـ الهاشمي من ..؟
ـ الجبلي .. كان حمالا هنا .
وسأله الكهل بعد برهة تفكير :
ـ وأين هو ، لم يظهر منذ مدة ؟
اغرورقت عينا ولد الهاشمي ونظر إلى الأرض وهو يرد :
ـ مات منذ شهر تقريبا .
حوقل الكهل وربت على كتفه . جره إلى كرسي حول مائدة خشبية صغيرة بجوار الحائط . جلس وطلب بيصارتين بالزيت البلدي وسودانيتين وسأله في شبه يقين :
ـ لم تفطر بعد ؟
أجاب وهو يخرج من جيبه شارة أبيه ويمدها له :
ـ ليس بعد .
ـ شارة أبيك ؟
ـ نعم .
قلبها الكهل في يده مرات عديدة . ثم أعادها إليه . وجعل يفكر . الدنيا غدارة . لا أمان لها . كان الهاشمي هنا مغروسا غرسا . عنيدا وصلبا . يحمل ثلاثة صناديق من البطاطا دفعة واحدة دون أن يعوج ظهره . الآن هو في الدار الباقية وغيابه لا يكاد يلحظه أحد . عبر مع العابرين .
حملق ولد الهاشمي فيها وهي تضع زلافة من البيصرة أمامه وأخرى أمام الكهل . ثم انصرفت . كانت ممتلئة الصدر والأرداف . حدجته بنظرة المستطلعة المتفحصة ، فخفض بصره إلى الأسفل . كان انتفاخ الجزء العلوي لنهديها باديا وهي تضع زلافته أمامه . أتبعها الكهل بصوت عال :
ـ الخبز زايد .. آ هنية .
كانت البصارة لذيذة بعد جوع طال اكثر من اللازم . والسودانية الحمراء تزيد من شهية الأكل . وبين لقمتين قال الكهل :
ـ هذا الأسبوع أنا ضامنك حتى تذهب إلى المقاطعة وتستبدل شارة أبيك بشارة باسمك .
ـ سأفعل . الله يرحم واليك .
شربا كوبين من الماء من ً خابية ً كبيرة مجاورة ونهضا . وأخبره الكهل أن بإمكانه البدء في العمل . أمره أن يذهب إلى رجل طويل يقف بجوار شاحنة حمراء دخلت إلى السوق لتوها ويخبره أنه مرسل من طرف أمين الحمالة ويتوكل على الله .

×××× ×××× ××××
ازداد المطر غزارة . دخل القهوة ماسحوا أحذية مبللون . يحشرون أنوفهم في خرق بالية مقززة . نهرهم النادل في غضب فخرجوا ووقفوا مصطفين جنب الحائط تحت سقيفة .
وقف طاكسي صغير قبالة القهوة . ترجلت امرأة ودلفت إلى القهوة . ودون عناء عثرت عليه في ركنه . انشرحت أسارير وجهه . هم بالوقوف وهي تقبل نحوه . صافحها ودعاها للجلوس فبادرته :
ـ انهض وأخذ صاكك ، الطاكسي ينتظر .
نقد النادل وشكره . ودعه النادل بغمزة عين وتلويح يد . ركبت هنية في الكرسي الخلفي وتبعها ولد الهاشمي . أغلق الباب وهو يمسك بصاكه تحت ابطه .

فكرت إذن . وإلا لماذا هكذا بالطاكسي . فكرت وقررت وجاءت للتنفيذ . تأتي بعد منتصف الليل . تأخذه من القامرة في هذه الليلة المطيرة . قالت أنها ستفكر في الأمر . خمسة أيام مرت منذ أن رآها آخر مـرة . كانت قد قالت له ذلك الصباح :
ـ الأحسن أن لا تعود إلى هنا قبل أن تستبدل الشارة . وأنا سأقابلك في الخارج .
ـ وكيف ستعرفين مكاني ؟
وأجابته بشكل تلقائي:
ـ آتي عندك للدار .
ـ لا دار لي الآن .
ـ وأين تقيم ؟
ـ لا أقيم .. أبيت في مقهى قرب المحطة .
سكتت ونظرت إليه كأنما تريد أن تقول شيئا ثم عدلت . ثم بعد صمت أضافت :
ـ أراك إذن في القهوة .
دخلت وعادت تحمل كأسا من الشاي الأخضر وزلافة بيصارة مع الزيت . وضعت الصينية علىً طيفورً صغير أمامه وجلست قبالته وهي تقول :
ـ افطر لتسمعني جيدا .
لم يكن لديها زبائن بعد ن، هذا الصباح . حتى السوق لم يكن يعرف ذلك الزحام المعهود . الشاحنات قليلة . والحمالون أيضا . يوم الجمعة هكذا عادة .
قالت له أنها تعمل لحسابها الخاص . منذ أن فتح هذا السوق وهي تعمل بهذه القهوة الصغيرة . في الأول كانت تساعد زوجها في الطهي وخدمة الزبائن . مات زوجها منذ مدة . طعنه شمكار في الجوطية . لن تنسى تلك الليلة أبدا . دخلت ابنته وهي تبكي وحول عينيها رضوض زرقاء . البلوزة المدرسية ممزقة من جهة الصدر والكتف الأيسر . نظر إليها في انزعاج وصاح :
ـ ما بك ؟ ماذا حصل ؟
ـ .........
ـ قولي ما بك ؟.. ماذا حصل ؟؟
ـ الروبيو اعترض طريقي وأراد ...
قاطعها مزمجرا:
ـ ابن الزانية ..‍‍‍‍
لم يزد كلمة واحدة . دخل مسرعا إلى محل النوم . دس يده في كرتون تحت الفراش ز استل سيفا صغيرا ملفوفا في خرقة بالية وهرع إلى الخارج وهنية تولول وتلطم خديها وصدرها :
ـ آ ربي .. آ ربي حد البأس..
كان الروبيو في القهوة المطلة على جوطية العكاري يتوسط مجموعة من الفتية . بعضهم يحشرون أنوفهم في خرق بالية يشمونها أو يشهقون هواء الميكات المنفوخة . انقض زوج هنية وشده من شـعره وجعل يجره ليخرجه من القهوة إلى الطريق المحاذي . تحلق المارة ورواد القهوة حول المشهد . السيف الصغير مجرد من الخرقة البالية يلمع في يده وهو يرعد :
ـ ابن القحبة .. تتجرأ على ابنتي .. سأشرب من دمك .
وعندما وصلت هنية إلى القهوة كان كل شيء قد انتهى . لم ير أحد كيف استل الروبيو سكينا من تحت بنطلونه الوسخ وبلمح البصر غرسه في اسفل بكن زوج هنية . لم يصرخ . سقط السيف الصغير من يـده . وحاول بكلتي يديه أن يوقف الدم الحار الذي يخرج من بطنه ويرش الطوار القريب .
الآن وقد مات وتركها ، لم تعد تستطيع أن تذكره دون أن يتراءى منظر الدم على الطوار وكيف سال حتى وصل إلى البالوعة المجاورة للقهوة وهو ممزوج بالأوساخ وبقايا القش .

قبل أن يصل إلى سينما الباهية انعطف الطاكسي يمينا وسار بمحاذاة دوار القرعة باتجاه العكاري . غزارة المطر لا تزال على حالها . زخات متتالية تنقر زجاج النافذة . أحس ولد الهاشمي بحرارة جسم هنية تتسرب إلى كتفه وفخذه الملتصقين بها .هواجس جنسية تعبر خياله . لم تكن هنية بدينة جدا . لكنها مكتنزة . لم تتجاوز الأربعين عاما . أما هو فبالرغم من بعض التجاعيد حول العينين التي حفرها الزلط والهم فان سنه يبدو دون الثلاثين بكثير . نظر باتجاهها فالتقت عينيهما . وقبل أن يرد طرفه بادرته :
ـ ما هذا .. لقد هزلت . ألا تأكل ؟
زفر وهو ينظر إلى خارج الزجاج و رد :
ـ الهم والزلط لفا حبلهما حول عنقي .
ـ أعوذ بالله . ما هذا الكلام ..؟
وربتت على كتفه ثم مدت يدها خلف رقبته كم تريد أن تلفها حوله . ازداد تيار الحـرارة منها إليـه تدفقـا .وبدا كمن يستسلم لخدر لذيذ .
مر أسبوعان وهو في الرباط . القرية التي خرج منها في صباح باكر تبدو بعيدة إلى حد لا يصدق . أمه التي ودعته فجرا بعين باكية كانت تظن أنه من السهل الحلول في مكان أبيه .آثرت أن تبقى وحيدة مع أخويه الصغيرين . انه ابنها البكر . وسيحل محل أبيه في كل شيء .هي تستطيع أن ترعى المعزتين وجدييهما وتضم ابنيها الصغيرين داخل منزلهم الطيني الواطئ . حتى خوف ليالي الشتاء الطويل ستتغلب عليه . يحل الظلام باكرا خلال الشتاء . يعرفها . بعد موت أبيه ورحيله إلى الرباط ، سينام الأخوين معها في نفس الغرفة المتربة ليتغلبوا على خوف الوحدة الموحش .أما الماعز والجرو فسيقتسمون الدهليز المجاور .
المطر هو المطر . في الرباط أو في قريته . لكن يفتقد خبز الشعير الطري . تخبزه أمه باكرا جدا عند الفجر . وعندما يستيقظ تكون قدرة الحليب الصغيرة قد فاضت . وتنتظرهم حتى ينهضوا كي يفطروا جميعا بخبز الشعير المنقوع في الحليب المملح .
الحليب المملح لذيذ . لا يزال طعمه في فمه . لثمت جبينه ذلك الصباح . قبل يدها من الجهتين . دعت له أن يلقي الله في طريقه أولاد الحلال . فكت ثوب رأسها وفسخت طرفه الملفوف وأعطته كل ما كل ما وفرت من نقود وهي تدعو له .
ـ لا يا أمي . اتركيهم معك ستحتاجينهم .
ـ نحن هنا في البلد .. أنت هناك في بلد الغربة .
تذكر كل شيء . انه غريب في الرباط . نفذت نقوده في البانسيونات الرخيصة وفيما بعد مقاهي القامرة الذين لا يغلقون . القهوة في مقاهي القامرة رديئة جدا . إنها فقط للعابرين الذين يتجرعونها رغما عنهم . ينتظرون الحافلات قرب المحطة . أما الطلبة الذين يسهرون الليالي أيام الامتحانات فكؤوس القهوة هي لكراء الكراسي لأجل السهر .
لم يعد يطلب القهوة . يشرب الشاي أو بعض المرات المشروبات مع ساندويش السفيانا1 . كان يقتصد . يأكل مرة في اليوم أو اليومين . ورغم ذلك نفذت النقود . قالت أنها سترد عليه بعد أن تفكر في الأمر . كانت تجلس على كرسي كبير قريب من قدرة البيصارة تقسم النعناع إلى رزم صغيرة جاهزة للاستعمال . بخار يخرج من بزبوز غلاي فوق الجمر . كان يطرد النحل الذي يحوم حول كأس الشاي قبل أن يحتسيه في تلذذ .سألته دون أن تنظر اليه .
ـ أتريد أن تستقر هنا في الرباط ؟
وغمغم وهو ينظر إلى البعيد :الأول هو ضمان كسرة الخبز . لم أكن أعرف أن المدينة صعبة إلى هذا الحد .
ـ هل تعني أننا لم نعمل الواجب معك ؟
ـ لا.. لا . لم أقصد هذا. كل يوم أذهب إلى المقاطعة دون فائدة .
ـ ولماذا لا تصرف النظر عن المقاطعة ؟ فاجأه السؤال . لم يفهم ماذا تقصد . لقد قدم إلى الرباط ليحل محل أبيه . لقد عمل هكذا منذ مدة طويلة ، حتى أنه لا يعرف لأبيه عملا آخر غير هذا . و ها هي الآن تطلب منه أن يصرف النظر عن ذلك . فسألها وهو ينهض ليلقي بثمالة الكأس في القمامة ويغسل الكأس :
ـ وماذا أفعل ؟
ـ تعمل معي .
ـ هل تمزحين معي آ هنية ؟
ـ أنا جادة. لا أمزح . ثم لقد أعجبتني لأنك طيب وابن بلد .
ـ كل هذا ؟
ـ نعم .
نظر إليها ليستطلع مدى جدية ما تقول .كان جلبابها مفتوحا جهة النهدين . يظهر تحته قميص نيلون شبه شفاف . تبدو مغرية
رغم كبر سنها . اللعنة على هذه الهواجس . هل أمن كسرة الخبز حتى يفكر في ما سواها . وأمه وأخواه في البلدة في البلدة البعيدة كيف حالهم. وفكر ماذا عساه أن يفعل لديها .انه لا يعرف الطهي . باستثناء قلي البيض أو تحضير الشاي لا يكاد يعرف شيئا آخر . فكيف له أ يشتغل في مطعم حتى وان كان في سوق الجملة بحي المحيط .
لم يغادر السوق ذلك اليوم إلا بعد ما فات الظهر .تكلما كثيرا على غير العادة . سألته عن أشياء كثيرة . مرة بجدية بادية ومرة بدلال وغنج . لا يعرف كثيرا كيف يتصرف مع غنجها . هل يندفع إلى بحرها لهادر الذي يناديه . الموج عال . والشط صخري ومسنن .هو زورق دون شراع . يهفو إلى مرفأ . ليالي القامرة الهادئة والمطيرة هدته. متعب يحن إلى سقيفة بيته البعيد .وخبز أمه المنقوع في الحليب المملح ، وثغاء معزتهم تلاعب جديها في المرج الأخضر .
ـ هل تريد أن تكتري غرفة وتأتي بزوجتك إلى هنا ؟
هكذا سألته في شبه براءة .
ـ أنا لست متزوجا. وحتى ان كنت ، زوجتي يجب أن تبقى مع أمي في القرية . وتابعت مازح بعد أن نقدها زبون ثمن الغذاء:
ـ حتى أنت أيها الجبلي تريد أن تكون مثلهم , تريد أن تكون حرا . لا تابع ولا متبوع .
ضحكا معا ونظرا إلى بعضهما البعض .فكر أن يغادر السوق ويعود إلى القامرة . اعتاد الآن أن يذهب راجلا . ربما لن يعود إلى المقاطعة . أو حتى إذا رجع سوف تكون المرة الأخيرة .
ـ ما رأيك فيما قلت لك ؟
ـ في ماذا ؟
الشغل معي . مع أختك هنية .
ـ لا أدري . هل أصلح لشيء في مطعمك ظ
ـ لا تهتم لذلك .
ـ وأين سأقيم .. ؟
ـ سأفكر وأرد عليك .
قالت له ثم أردفت .
ـ يجب أن اسرع . جميلة ستخرج من المدرسة . الشمكارة كثر . علي أن أصحبها إلى الخيمة .
خمسة أيام مرت وهو ينتظر كل ليلة في تلك القهوة . ولم يظهر لها أثر .لم يرد أن يعود إلى السوق . قالت أنها ستفكر وتأتي اليه . أمعاؤه تكاد تهترئء من الجوع والأكل الرديء . مطاعم العكاري ودوار الكرة تكاد تبدو أليفة بذبابها وأزبالها . لكنه ان يذهب إلى محلها من جديد قبل أن تأتي هي اليه وتسأل عنه .كيفما كان الحال فما زال عنده بعض من كرامة .

اليوم وقد أتت ، لم تترك له أية فرصة . تركت الطاكسي ينتظر أمام باب القهوة ودخلت تنتزعه مثل قفة . لا يدري أين يذهب . ترك الطاكسي اتجاه المحيط , وقصد جوطية العكاري .كانت الطريق شبه فارغة في تلك الساعة المتأخرة من الليل . السيارات قليلة جدا . لا أحد يمر . المطر خفت حدته بعض الشيء .ساروا بمحاذاة صف طويل من البراريك . لم يكن وقع المطر يسمع على قصديرها . ربما لا يمكن أن يسمع من داخل الطاكسي .
ـ هنا .. هنا آ خاي ..
قالت هنية للسائق . توقف الطاكسي . نزل ولد الهاشمي ماسكا صاكه . تبعته هنية بعد أن نقدت السائق أجرته وشكرته .
سارا في درب ضيق من البراريك . تمشي صامتة وهو ورائها . المطر لم يتوقف . وقعه على القصدير يحدث صوتا رتيبا وأليفا لديه . تماما كما في ليالي القرية البعيدة .من بعيد يأتيه صوت الموج . البحر ليس بعيدا من هنا . توقفت عند باب في منعطف . أخذت تبحث عن المفتاح وهي تقول :
ـ هذه هي خيمتنا . لا بد أنها نامت . لقد تأخرنا .
تذكر بعد برهة من تقصد . بنتها جميلة . لم يرد . كان المحل يبدو كنصف بيت ونصف براكة . بناية من الآجور الأحمر يكمله شبه حائط من القصدير مغروس في الأرض . أدارت المفتاح ودفعت الباب . فتح في حشرجة . أفسحت له وقالت :
ـ سم وادخل .
ـ بسم الله ...
دخل ودخلت عقبه . وأغلقت الباب في حشرجة .

لم ينم تلك الليلة .ظل يتقلب تحت البطانية حتى صاح المؤذن لصلاة الفجر .كان يظن انه سينام كخشبة بمجرد أن يضع جسده في الوضع الأفقي . لا يهم هل الفراش جيد أم لا .المهم أن الوضع ليس كوضعه وهو نائم على كرسي في قهاوي القامرة. ينام جالسا وفي أحسن الأحوال ممددا على كارتون وصاكه تحت رأسه .
نامت هنية مع بنتها في غرفة واحدة . وتركت له الغرفة الصغيرة قرب المطبخ . رتبت كل شيء . سرير من الخشب فوقه فراش من الإسفنج مغلف بثوب أسود . الوسادة لينة ليست مثل صاكه . أرضية الغرفة مفروشة بحصيرة من البلاستيك المزركش . قبل أن تطفئ النور تماما دخلت الغرفة تطمئن عليه . بدت في قميص نومها اللين أكثر أنوثة من ذي قبل . النور ينفذ من ثوبها . أسفل الفخذين نصف سافر . دنت منه وقالت :
ـ هل تريد شيئا آخر ؟
ـ لا .. بارك الله فيك .
وهمت بالانصراف وهي تهمس له :
ـ تصبح على خير .
ـ تصبح على خير .
بقي هكذا . لم يعرف النوم طريقا إلى جفنيه . بات يقلب ويعيد كل ما حدث له في هذه المدينة إلى أن وصل إلى هذه البراكة في هذه الحومة القصديرية . وجعل يفكر . ماذا يستطيع أن يفعل غير ذلك . الرباط تلفظه كجرو مجروب . وهذا الصدر الناهد يتلقفه كروض عطر فواح .
كان الصباح قد بدا واضحا تماما عندما سمع نقرا خفيفا على الباب ثم دخلت هنية . نهض وجلس على حافة السرير وبادرها :
ـ صباح الخير , خارجة ؟
ـ سأذهب إلى السوق , ابق نائما , لن أتأخر كثيرا .
ثم أردف وهو يهم بالوقوف :
ـ لا , يجب أن أذهب آ هنية .
ـ عندما أعود نتكلم . جميلة ستعد الفطور والماء الساخن قبل أن تخرج .
لم تترك له فرصة . خرجت وردت الباب ورائها . تهالك من جديد فوق الفراش ونام . نام نوما عميقا ذلك الصباح . فات الضحى بكثير . اقترب الظهر .لم يفطن إلى أي شيء .حرمان أيام التسكع في طرقات الرباط وعذابات ليالي القامرة تتركز في نوم صباح واحد . نوم أقرب إلى الممات . جميلة خرجت . لم ير وجهها بعد . لا يستطيع تخيل وجهها . هنية لم تتكلم عنها كثيرا . نهض وأجال ببصره في الغرفة . بدت مغايرة لما كانت عليه بالليل . الجدران القصديرية واضحة بالرغم من طلائها الداكن . والحصيرة فرشت فوق أرضية إسمنتية بدأت تتهتك .
خرج إلى وسط الدار ألقى نظرة سريعة مستطلعة . باب صغير في الركن وفوطة داكنة معلقة في مسمار . المرحاض . جنب باب مقابل ’ مائدة صغيرة فوقها صينية مغطاة بثوب رهيف أبيض منقط . سقف وسط الدار قصديري . قطعة واحدة من البلاستيك المقوى ينفذ الضوء من خلالها . اليوم ليس يوما ممطرا .
دخل المرحاض وتغوط .اغتسل وبلل شعره . مرر أصابعه من خلال شعره وهو ينظر إلى مرآة مشروخة معلقة على باب المرحاض . مراحيض القامرة أحسن من هذا . الماء في الصنابير . هنا الماء يملأ من برميل وسط الدار . جلس إلى المائدة الصغيرة . الفطور بالشاي وزيتون منقوع في زيت بلدي وخبز جيد معجون في الخيمة على ما يبدو . لا يريد أن يسخن الشاي . يشربه باردا .كم مرة شربه باردا في القرية . الشاي طعمه لذيذ أيضا وهو بارد .
وفكر , ماذا يفعل في هذه البراكة وحده . كيف وصل به الحال إلى هنا . غريب في بيت امرأة وبنتها . وماذا عساه يعمل معها . في البيت رائحة قوية يكاد يعرفها . وفي الركن المقابل جفنة خضراء فيها لفافات متوسطة الحجم . الرائحة تأتي من هناك . تشبه رائحة الكيف . لم يكن قد أكمل فطوره تماما عندما فتحت هنية الباب . دخلت وتبعتها فتاة . حيته هنية بغمزة عينها اليسرى ثم قالت :
ـ هل ارتحت بعض الشيء ؟
ثم وهي تشير إلى الفتاة :
هذه بنتي جميلة , فركوستي .
توردا خدا الفتاة وهي تتقدم نحوه لتصافحه . نهض قليلا ومد يده وهو يقول :
ـ يبارك الله , الله يصلح .
أزالت الجلابة في وسط الدار . سحبت الجلابة التنورة معها حتى بان نصف الفخذين . مكتنزين وملساء تين . ندهت بنتها فأطلت برأسها من الغرفة التي نامتا فيها . كانت قد تخلصت من معطفها . طلبت منها أن تعلق الجلابة داخل الغرفة . خطت خطوات باتجاه أمها . نظر ولد الهاشمي إليها ورائحة عطر أنثوي تدوخ أنفه . نهداها كرمانتين متوسطتين . نافران تحت قميص من الجينز . أكيد أنها لم تتجاوز العشرين عاما . تبدو امرأة ناضجة . الحوض منشرح والعجيزة نسوية متبخترة . سرقت نظرة نحوه ثم مشت نحو الغرفة وهي تبتسم قليلا . إنها جميلة . أجمل من أمها . لا بد أن أباها كان وسيما . أخرجت هنية نصف دجاجة من ميكة سوداء . جرت طنجرة وبأت تهيئ الغذاء . مر وقت طويل لم يذق طعم اللحم أو الدجاج . تقشير البصل أدمع عينيه . صوت البصل يتقلى مع الدجاج ينبعث من الطنجرة مصحوبا برائحة شهية غطت على رائحة الكيف . مسحت هنية عينيها بظهر يدها اليمنى . شهقت بقوة ثم قالت له :
ـ ألا تريد أن تتأهل ؟
باغته سؤالها . ورغم ذلك أجابها في يقين :
ـ من يكره أن يكمل نصف دينه ؟
ـ ومن يمنعك ؟
ـ آ هنية أتراني مؤهلا لذلك ؟ أمي مرمية في القرية وأنا مرمي هنا في الرباط . الله يرحمك يا أبي .
سكتت لوهلة كأنما رقت لحاله . اقتربت منه . أمسكت وجهه بين نهديها ونظرت عميقا في عينيه كمن تكمل شحنهما .حزن غائر يسكنهما . ضمت رأسه إلى صدرها واحتضنته . نهداها لا زالا واقفين بحلمتين كبيرتين . يخفق قلبها في صدرها كعصفور يختلج في كف تزم عليه . تسارعت وتيرة تنفسها وضمته بقوة أكثر ثم ما لبثت أن احتضنت جسمه كاملا . مر وقت طويل منذ أن احتضن أنثى آخر مرة . عضت أذنه برفق ثم همست فيها :
ـ أتتزوجني ؟
استرخت عضلاته بعد توتر وألقى بثقله كله على صدرها وهمهم :
ـ ماذا تقولين آ هنية ؟
وهمست ثانية :
ـ ما سمعته ..
وغمغم ثانية :
ـ أ معقول هذا ..؟
ـ ولماذا لا .. ألسنا قد المقام ؟
ـ حاشى لله , لم أقصد هذا . لكن هكذا فجأة ؟
تركته فجأة وأسرعت إلى الطنجرة . كادت تحترق . صبت كوبا من الماء فتصاعد بخار كثيف وصوت كإطفاء جمر .

الرباط تبدو متقلبة المزاج . كل مرة تظهر له وجها مغايرا . حل بها ليعوض أباه في سوق الجملة , وها هي اليوم تضع بين يديه عروسا . تعرض نفسها عليه للزواج . تحنو عليه وهو الجائع المتسكع .تعرض عليه العمل معها . اتها تعمل لحسابها الخاص . والزواج , تكاد الحياة تبتسم له . تريه وجها آخر غير الذي ظل دائما يطل عليه . صدرها غض وطري , ناعم ولين يناديه نحو المجهول . انها اكبر منه , لكنها مغرية . ماذا ستقول أمه . سرقته الرباط منه . سوف تندم ولا شك على اليوم الذي تركته يغادر في ذلك الصباح الباكر .
لم تخرج جميلة من غرفتها . كأنهما متفاهمتان . تريد أن تترك أمها على راحتها مع ضيفها . تبدو خجولة بعض الشيء . أبوها الذي مات منذ سبع سنوات و لا بد أنه ترك فيها جرحا غائرا . لم تتزوج أمها . لكنها عرفت رجالا كثر . تعرف جميلة أمها جيدا. حاربت كثيرا كي تستمر هي في المدرسة. طرق خفيف على الباب . فتحت هنية وتهامست مع رجل على الباب . لا يظهر إلا نصفه الأيسر . تركت الباب نصف مفتوح . حشت كيسا من البلاستيك بثلاث لفافات ومدته إليه . دسن نقودا نهدها الأيسر وهي تغلق الباب .
تابع ولد الهاشمي المشهد غير مصدق . إنها لفافات الكيف . الرائحة التي تملأ البراكة تأتى من تلك الجفنة المملوءة باللفافات .

××× ××× ×××

جوطية العكاري دوار كبير من البراريك . قصديرية ونصف قصديرية . النصف الآخر إما من القش أو الكارتون أو الآجور الرمادي .الدروب ضيقة وتعج ببائعي الخضر والفواكه والتوابل . الذباب يغزو كل شيء . وسط الدروب يجري الواد الحار. سائل أسود ونتن . الأطفال ينافسون الذباب في العدد . المساء بدأ يلف المدينة بردائه الرمادي الغامق . أفواه الدروب بدأت تكتظ بالمتسكعين والعاطلين والشمكارة وماسحي الأحذية . يؤوبون إلى أوكارهم بعد غزواتهم النهارية في المدينة . خرجت هنية وتبعها ولد الهاشمي . سارا في الدرب الضيق باتجاه الشارع الكبير . على فوهة الدرب أمطروا بتعاليق متعددة :
ـ بصحتها ..إإ
ـ شكل جديد في الدرب .. إإ
ـ عرفت كيف تنقي ..إإ
ألقت نظرة حادة باتجاه الشبان وهي مقطبة . تفلت بصوت مسموع على الأرض . أخذت يد ولد الهاشمي في يدها وصارت لصقه وهي تغمغم :
ـ أولاد الزنا ..
وقفا في محطة الأوتوبيس . الرقم 5 يأتي من باب الحد ويذهب حتى حي المسيرة وحي الفتح . المساء وقت الازدحام . فظلا السير على الأقدام . البويتات ليست بالبعيدة . لم يأخذا أية لفافة معهما هذه المرة .انها خرجة للتدريب ومعرفة الأماكن والزبناء . كان يمشي بجانبها صامتا . تشد على يده وأحيانا تلهو بأنامله . اليوم لم تمطر . السماء . الجو بارد بعض الشيء . السير على الأقدام يزود الجسد بدفء داخلي . هي تسير لصقه . تدغدغه بأناملها . مرات عديدة لمس جانب نهدها ذراعه . شحنات كهربية لذيذة تسري في جسده . وبادرته وهما يجتازان اعدادية الجولان :
ـ أراك صامتا , ماذا بك ؟
ـ لا شيء .
ـ وهذا الغم على وجهك ؟
ـ لا شيء , أفكر في أمي وأخوي .
ـ إن شاء الله بخير .
ـ شكرا ..
ـ كل شيء سيتغير ..
ـ .................
ـ بدأـ أوق إليك . أريدك أن تصير رجلي .
ـ................
اقتربت منه أكثر , وألقت برأسها على كتفه وقالت :
ـ أنت لا تريدني ...
ـ لا ليس كذلك , لكن ..
لم يكمل . أحس أنه اليوم أمام قرار كبير . لم يكن قد فكر فيه من قبل . إذا وضع رجله الأولى فستجر الرجل الثانية , ولا يمكن العودة . رحلة واحدة بدون رجوع . البحر قريب منهما. الموج يسمع بوضوح . البحر في الشتاء يكون وحشي الطباع . يبتلع كل من يركبه . ولسانه الطويل المزبد يلعق الحافة باحثا عن لقمة لجوفه اللانهائي .
لم ينم بعد الغذاء . دخل إلى الغرفة التي قضى فيها وتمدد على المضجع . يداه تحت رأسه وعيناه تنظران إلى السقف . الحيرة تأكل عقله . أطلت هنية برأسها وقالت له :
ـ سأخرج مع جميلة إلى المدرسة . لن أتأخر .
ـ لا تتأخري ..
كانت قد تراجعت إلى وسط الدار عندما سمعته يقول لا تتأخري , فعادت وأطلت من جديد وهي تقول في غنج :
ـ لن أتأخر , وسنرى ماذا ستفعل .
سمع صوت الباب وهو يغلق .ماذا عساه أن يفعل . خوف بدأ يتسرب إليه . لا يعرف كيف يتصرف مع الإناث . لم يسبق له أن ضاجع واحدة منهن . باستثناء أمه لم تكن له قط علاقات خاصة مع أي أنثى بشرية . منذ أن تعدى مرحلة الطفولة ونبتت له لحية وشارب بدأ يتجنب الحديث مع الإناث إلا عند الضرورة القصوى . وحتى عند الضرورة فالحديث عادة يكون مختصرا وعابرا . كان يعوض كل ذلك بالأحلام . بدأ يحلم كثيرا وكل مرة ينتهي حلمه ببلل بين فخذيه . في بادئ الأمر كان يظن أنه يبول وهو نائم . لكن فيما بعد بدأ يقارن بين بول النهار وهو بول عادي لا لذة فيه . كما يبول الجدي . لكن هذا الذي يحصل في الليل يكون لذيذا ويترك أثرا في النفس .
من غير أمه لم تكن في البيت أنثى إلا المعزتين . لكن عندما اشترى أبوه حمارة تغير كل شيء . كان قد تجاوز العشرين عاما . أزمات الحنين إلى الإناث بدأت تجتاحه وتعصره بعنف . لم يجد أمامه إلا لأنثى الجديدة , التي حلت بمنزلهم .
كانت الليلة مقمرة . البدر مكتملا يسدل على الليل رداءا فضيا رطبا وشفافا . خاف خوفا شديدا أن يضبطه أحد . لكن إعصار الرغبة شديد لا يقاوم . ففعلها لأول مرة . وغادر البيدر الصغير خلف الدار حيث مربض الحمارة . عاد ونام . المرة الأولى هي الأصعب . بعدها تبدأ العادة . إنها أنثاه الوحيدة والأخيرة . الآن وهنية تطلب منه أن ينتظرها ليس أمامه إلا مواجهة الأمر الواقع . كان دائما يطرد فكرة الزواج من رأسه , ويؤجلها في تفكيره إلى أبعد مدى ممكن . لكنه كان يعلم أنها مهما بعدت فقد تأتي يوما .أما هنا في الرباط فقد بدأت تفرض نفسها عليه فرضا .
عادت بسرعة . قبل العصر سمع المفتاح يدور في الباب القصديري . ثم دخلت وأتت اليه حيث هو . كان ما يزال كما تركته على المضجع .تخلصت من جلبابها ورمته على الحصيرة .جلست على حافة السرير . شبكت يدها مع يده ثم جرته إلى نهدها . تسارعت وتيرة تنفسها ثم استلقت فوقه .
نامت معه الأصيل كله . كانت أول أنثى بشرية ينام معها . بالرغم من الفرق الكبير بين الاثنتين فان صورة حمارتهم في بيدرهم الصغير تحت ضوء القمر كانت تقفز أمام عينيه وهو يحاول طردها بعنف مشوب بغضب . اغتسلت بغلاي ماء ساخن في المرحاض . مررت أحمر شفاه غامق حول فمها وجلست تعد البغرير (1 ) .
غادرا الشارع الرئيسي ودلفا إلى شارع فرعي يفضي إلى البويتات . الحي مترب وبه كلاب ضالة كثيرة . رائحة النتانة تأتي من جهة المارشي . تجاوزا حمام الوردة ز كان الظلام قد بدأ يطغى على المساء . الأضواء في البويتات خافتة جدا مثل حانة مليئة بالدخان . قالت له أنه يجب أن يتعامل مع الزبائن بالمعقول . المعقول يديم المعروف . حسنا فعلنا إذ جئنا راجلين . قالت له . لا يتذكر المرء أي شيء إذا استعمل الطاكسي أو الأوتوبيس . هنا في البويتات يوجد السي امبارك . دخلا إلى زقاق ضيق مغلق في آخره .نقرت الباب مرتين فانفتح ودخلا . صافحت الرجل , فسلم عليها ثم ضرب مؤخرتها ضربة خفيفة وهو يضحك . نقل نظراته بينها وبين ولد الهاشمي متسائلا فقدمته اليه :
ـ ولد الهاشمي زوجي .
احمر وجه ولد الهاشمي وأحس بسخونة تغزو جسده .
ـ أهلا بك .. تشرفنا ..
ثم التفت إلى هنية يعاتبها :
ـ بدون أن تخبرني ؟ ومنذ متى ؟
وردت وهي تداعب ولد الهاشمي وتطوق عنقه بيدها :
ـ منذ اليوم .ز أترى , أنت الأول من يعلم .
وضحكا معا . رجاهما أن يشربا الشاي معه ’ لكنها اعتذرت وخرجا عائدين .

طريق العودة كان مختلفا . حاما حول القامرة . فزارا الحاجة شامة قبالة حي الشباب ثم دوار الرجاء في الله عند البهجة الكسيح .تقدم هنية ولد الهاشمي إلى كل زبائنها . انه زوجها وسيكلف بالمهام التي كانت تقوم بها في السابق . يصافحهم . يتفحص وجوههم . عاديون كما نرى غيرهم في قهاوي القامرة أو مارشي دوار القرعة . لكن نظراتهم إليه تبدو نافذة ومتوجسة . كأنهم يتشممون رائحة ما , تحدد أي نوع هو . لم يعلق ولد الهاشمي على الدور الجديد الذي تقدمه هنية به . زوجي . كلمة جديدة لا يعرف معناها جيدا .لكنها تترك في نفسه إحساسا أليفا . مرة يروق له في خياله أن يجد نفسه مربوطا برباط ما إلى أنثى . يسير حيث تسير ويؤوب حيث تؤوب . وصلا حتى أطراف العكاري من جهة حي المحيط .وقفا أمام سينما الحمراء . فيلم هندي وفيلم كراطي . لم يدخل إلى السينما من قبل . سمع عنها فقط . لا يستطيع أن يتصور ما سمع . صور نساء جميلات على الأفيش (1) . وعدته أن يدخلا إلى السينما في النهار . السينما في الليل خطرة .
ـ هذا هو مجالك .
هكذا قالت له وهما يعودان إلى الجوطية .
ـ هل ستتذكرهم كلهم ؟
ـ نعم .
باستثناء البويتات , كل الأحياء الأخرى يعرفها . تسكع فيها كثيرا . وأكل في مطاعمها القذرة . قالت له أنه سيفرق اللفافات عليهم ويستخلص ثمنها فور تسليمها . التسليف في هذه الحرفة خطر , لا ينفع . هز رأسه يوافقها وهما يدخلان دربهم المفضي إلى البراكة .

××× ××× ×××

لم تقم هنية أي حفل . دعت السي امبارك والبهجة الكسيح وكتبت على ولد الهاشمي وهما شاهدان . تهجى العدل اسم ولد الهاشمي الجبلي على ورقة الميلاد بصعوبة وهو يدونها في سجله . قرأت الفاتحة ودعوا لهما بالصلاح والفلاح . نقدتهم هنية أجرتهم وغادروا البراكة دون عشاء .
نشطت جميلة تلك الليلة في نقل أغراضها من حجرة أمها إلى الحجرة التي نام فيها ولد الهاشمي . اعتنت بمضجع أمها وأصلحت من حاله . أشعلت شمعة وجعلتها في قعر قارورة ماء معدني مشطورة من النصف . وضعتها على طاولة صغيرة بجوار السرير . احتضنت جميلة أمها وهي تقول لها :
ـ مبروك أمي
ـ مبروك حبيبتي .
ثم صافحت جميلة زوج أمها وقالت له :
ـ مبروك عمي .. مبروك .
بعد العشاء ذهبوا للنوم مباشرة .

انتهى أسبوعه الأول من العمل . لم يكن عملا مرهقا . في الصباح الباكر يذهب إلى سوق الجملة مع هنية . يهتم بشؤون القهوة , كخدمة الزبائن وفي بعض الأوقات التبضع أو رش الماء وتوضيب أرضية القهوة وتنظيم الكراسي والموائد . قال له أمين الحمالة في السوق ذات صباح وهو يرشف كأسا من الشاي الأخضر :
ـ والله يا ولدي , الخدمة مع هنية أحسن لك من شغل الحمالين .
لم تقل هنية لأحد من غير زبائنها من مقسطي الكيف أنها تزوجت ولد الهاشمي . حتى أمين الحمالين لم تقل له . لم يقم ولد الهاشمي الا بجولتين لتوزيع اللفافات . الأولى قصد بها البويتات . كان خائفا تلك العشية .لأول مرة يحمل معه الكيف ويطوف به في المدينة . رائحة الكيف قوية وقد تفضحه ان ركب الحافلة .فضل المشي . كيس البلاستيك الأسود يحتوي على ثلاث لفافات . بالرغم من أن نهاية الأصيل وبداية المساء تكون وقت ازدحام بالمارة , كان يخيل اليه أن كل المارة يرقبونه . لا يريد أن يسرع الخطو . سيثير الانتباه لا محالة . بدا الطريق من جوطية العكاري إلى البويتات طويلا جدا وهو يحمل اللفافات .مرت سيارة الشرطة . ربما نفس السيارة التي كانت تطوف شارع القامرة وهو في ركن القهوة تلك الليلة المطيرة . ارتعد . نظر باتجاه الجدار بجانبه . تجاوزته وهي تسير ببطء .تابعها وهي تبتعد . لم يتنفس الصعداء إلا عندما سلم الأمانة إلى السي امبارك ودس ثمنها في جيبه .كان إحساسه مزيج من الفرح والحزن . يترك في النفس شيئا لا بعد له . لم يقبض في حياته مقدارا من المال مثل اليوم .حتى عندما أعطته أمه ذلك الصباح الباكر كلما استطاعت أن توفره ملفوفا في طرف ثوبها , لم يكن الا مقدارا بسيطا إذا ما قورن بهذه الرزمة من الأوراق النقدية . لم يرد أن يعدها . لكنها تبدو غليظة ومن نوع الأوراق الشهباء والخضراء . عاد مسرعا خفيف الخطو . وعند إعدادية الجولان التقى بهنية تنتظر جميلة .هرعت نحوه وأمسكت يداها بيديه . كان نداء الرغبة ينط من عينيها ورعشة شفتيها . اقتربت منه . تيار من دفئها يتسرب البه. قالت وهي تنظر إلى عينيه :
ـ كل شيء بخير .. ؟
ـ كل شيء بخير .
دس يده في جيبه وأخرج رزمة النقود . مدها اليها . احتضنت يده بكلتي يديها وضمتها إلى بطنها وهي تقول له :
ـ أرجع النقود إلى جيبك . حلال عليك .
ـ ماذا تقولين ..؟
ـ حلال عليك . حلاوة بداية العمل .
ود في داخله أن يرتمي عليها ويقبلها وهي مقلوبة تحدق في السماء .فعلتها قبله ز مالت نحوه وقبلت شفتيه . همس وهو يبعدها :
ـ مجنونة .. الناس ينظرون .
كانت الظلمة قد بدأت تزحف . المساء يأتي سريعا والظلمة تغشي كل شيء باكرا في عشيات الشتاء .
أقبلت جميلة نحوهما وعادوا راجلين . الجولات الأخرى كانت أقل توترا . الحاجة شامة استقبلته باسمة . رجته أن يبقى معها قليلا حتى شرب القهوة , لكنه رفض بأدب . أما البهجة الكسيح فنظر اليه بنظرات ارتياب .
سرت في البراريك المجاورة همهمات . نظرات الجارات والجيران أضحت أكثر اقتحاما وتبرما. لكن الجارات تبدين م لا تضمرن . هنية تعرفهن . كلهن عاهرات وحتى هن متزوجات . أما الرجال فهم أولاد عاهرات . كانوا يتناوبون على بابها , لا من أجل الكيف فقط . بعد مقتل زوجها, الكل تظاهر بمواساتها . لم تكد تمضي الأربعين حتى بدءوا يراودونها . تعرفهم كلهم أولاد الزنا . أقسمت أن لا يركبها احدهم .
على مدخل الدرب جوقة الشمكارة والحشاشين تزداد عدوانية ز والنظرات صارت أكثر إنذارا . حتى عندما يتحاشى نظراتهم بخفض رأسه والنظر أمامه أو إلى الأرض حتى يتجاوز مدخل الدرب , تتبعهم كلماتهم الساقطة والمستصغرة .
جولة اليوم إلى القامرة قرر أن يقوم بها على غير العادة ليلا . لم يكن وقت العشاء قد أزف بعد . لكن آذان المغرب كان قد نودي به منذ أكثر من ساعة . قطرات قليلة من المطر تلقي بها ريح شتوية باردة .تذكر الشتاء في قريته البعيدة . عندما يأتي الشتاء , يمكث المطر في البلدة ثلاثة أشهر بلياليها ز حتى الدجاج الكلاب يبدون واجمون . تشبع الأرض من شرب الماء . فتتقياه عيونا وينابيع . أما الآن وهنا في الرباط فالمطر يأتي في نرفزة . أيام مطيرة وعاصفة وأخرى باردة فقط بغيوم وقطرات مطر متقطعة .
الليلة تنذر بمطر غزير . الناس يتعجلون إلى براريكهم ودورهم . يمر بالأماكن المزدحمة بعض الشيء . كيس البلاستيك الأسود المليء باللفافات في يده الأيمن والمطرية السوداء في اليسرى . يسرع الخطى بعض الشيء حتى يصل قبل أن تتكثف دوريات الشرطة . دوار القرعة يبدو من على الهضبة المطلة عليه كسقيفة واحدة لبراكة عملاقة . الأضواء فيه شبه منعدمة . تبدو في البعيد أضواء شارع الكفاح والمحطة الطرقية بالقامرة . هرول في المنحدر نحو الطريق ليعبره .وفجأة ظهرت أمامه . توقفت . فكر أن الأفضل أن يحافظ على هدوءه ويعبر الشارع بشكل عادي . كان الطريق خاليا من أية سيارة . وسط الطريق سمع صوتا حادا يقول :
ـ قف مكانك .
ترك كيس البلاستيك يقع من يده . بال تماما في سرواله . تقدم الشرطي منه وبادره :
ـ ماذا عندك في الميكة ؟
ـ ...............
نظر إليه مسمرا وسط الطريق .
ـ ألا تسمع .. ماذا في الميكة ؟
ـ ............
تقدم الشرطي منه . شده من قفاه وقاده إلى السيارة وهو يحمل الميكة في يده :
ـ اطلع ..
صعد ولد الهاشمي إلى السيارة وهو يرتعد . كان هناك ثلاثة أشخاص بملابس مقززة . تفحصهم بنظراته وهو يبحث عن مكان يجلس فيه .يبدو أنه يعرف أحدهم . أين رآه . فكر , وتذكره . انه الشمكار الذي يكون واقفا مدخل الدرب . انه هو , انه هو .

ـ تمــت ـ
عبد النور مزين
طنجة 2003



#عبد_النور_مزين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القناص واليمامة عند النبع
- نرجس فجرا
- مائة أورو ورسالة حب
- أكمة الورد
- قصة قصيرة


المزيد.....




- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد النور مزين - ليالي القامرة الهادئة