أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد النور مزين - قصة قصيرة















المزيد.....

قصة قصيرة


عبد النور مزين

الحوار المتمدن-العدد: 1038 - 2004 / 12 / 5 - 08:40
المحور: الادب والفن
    


عندما تزهر شجرة اللوز1

لم تكن قد هيأت نفسها لهذا الفراق بعد . كل شيء تم على عجل كلدغة ثعبان .قبل ساعات فقط كانت تفكر بالسفر لتزوره . مرت سنة كاملة منذ أن لمست يداه وجهها آخر مرة . كانت تفكر من أين ستتدبر التذكرة الثانية لبنتها سارة . لقد كبرت الصغيرة وصار لزاما عليها أن تدفع ثمن التذكرة كاملا إن هي أرادت أن ترى أباها .كل شيء سيكون على أحسن ما يرام وستكون رحلة جميلة من تطوان إلى البيضاء .سافرت مرتين لكنها كانت وحيدة شاردة البال طول الطريق. أما هذه المرة ملن تترك سارة عند الجيران ، ستكون بجانبها وسوف تحكي لها كل شيء عن أبيها . لقد كبرت ودخلت المدرسة قبل عام وستفهم حتما . هكذا كانت تحدث نفسها قبل ساعات فقط حين تناهى إليها طرق خفيف على الباب .نظرت حياة إلى بنتها سارة النائمة ثم وضعت جانبا الطبق الذي كانت تغسله وجففت يديها وهي تتساءل من يكون الطارق في هذه الساعة المتأخرة من الليل . انتابها للحظة مزيج من الخوف والترقب المشوب بالحذر . عاد الطارق ينقر الباب من جديد، لكن هذه المرة كان الصوت واضحا . ثلاث نقرات واضحة المعالم ومتباعدة متبوعة بعد وهلة وجيزة بطرقتين فقط من نفس القوة ونفس الوتيرة .

خفق قلبها فرحا وتزاحمت في رأسها أخيلة شتى . أخيرا يأتي من يخبرها عن عزيز بعد هذه الغيبة الطويلة . ترى كيف أنت يا حبيبي . همت أن توقظ سارة من نومها لتقول لها أن أباها أرسل لها من يسأل عنها أو ربما يكون قد حضر بنفسه . من يدري ، ثم عدلت عن الفكرة . إن الإشارة واضحة تماما . اتجهت صوب الباب . أصغت قليلا ثم صاحت بصوت هادئ بعض الشيء :
ـ من ؟
ـ قريب ، سيدتي ..
وأعادت مباشرة في إلحاح :
ـ من ؟ من أنت وماذا تريد ؟
وأجاب الطارق دون لبس :
ـ اسمي لا يهم, أنا من قبل عزيز . عزيز زوجك .
لم تتردد لحظة واحدة . فتحت الباب آلية غير واعية تقريبا كما لو أن عزيز موجود خلف الباب مباشرة .كان القادم قد تراجع بعض خطوات إلى الوراء عندما وقفت حياة عند عتبة الباب نصف المشرع. اقترب من الباب مادا يده :
ـ سيدة حياة كيف الحال ؟
ـ أهلا سيدي .. تفضل .
رد في عجل وهي تحاول أن تفتح الباب كاملا .
ـ لا داعي سيدتي للدخول, فالوقت ضيق ويجب أن ...
قاطعته فجأة وقد علت وجهها مسحة قلق واستفسار :
ـ ماذا حدث ؟ هل عزيز ...
ـ لاشيء سيدتي , عزيز بخير , ثم مستدركا بعد صمت قصير . آسف عن هذا الوقت المتأخر. انه يثير شبهة وحرج . لكن بهذا نصحنا عزيز. انه سيرحل هذه الليلة عن طريق البحر . يريد أن يراكما قبل أن ...

سرت لفحة برد قارس في الجو . تلفعت حياة بشالها وهي تنظر الى السحب لثقيلة التي تزحف على وجه القمر. كان ليلا بلا نجوم .
ظل واقفا أمامها صامتا ، يداه في جيبي البنطلون وقدمه اليمنى تحاول أن تسحق قشة على الأرض ثم رفع نظره إليها فبدت شاحبة ترتع على وجهها ظلال المصباح المتحركة . فقال لها مشجعا ومستعجلا :
ـ هيا تشجعي .. لم يكن من الخروج بد . إن الغرفة التي أقام بها لم تعد بالمكان الآمن . ثم أضاف وهو يهم بالذهاب ك أيقظي سارة واستعدي سأرجع بعد لحظات . الى اللقاء .
ـ الى اللقاء.

وابتلعته العتمة .ألقت نظرة على شجيرة اللوز في الحوش الصغير ثم توارت خلف الباب وساد الظلام تماما في الخارج .
ليتها لم تحلم بتلك الرحلة الجميلة إلى البيضاء . قبل ساعات فقط كان كل شيء يبدو على أحسن ما يرام وبغتة جاء الزلزال . شرح كيانها بقسوة وعناد . عنيفا وجارحا كشظية . كان قد تناهى إليها عبر بعض المعارف أنه ربما سيغادر البيضاء إلى الخارج . يومها قالت لنفسها أن الحلم الذي انتظرته خمس سنوات كاملة قد بدأ يلوح في الأفق . أخيرا سيغادر تلك الغرفة الكريهة التي دخل إليها قبل خمس سنوات متواريا عن أعين المخبرين . لم يكفوا عن ملاحقة أثره كالكلاب ، فلم يكن له بد من أن يحشر نفسه في تلك الغرفة الصغيرة إن هو أراد أن يدفن رائحته . أما الآن فحتى تلك الغرفة الكريهة لم تعد بالمكان الآمن . إنها لازالت تذكرها جيدا رغم أنها لم تزرها إلا مرتين منذ أن اختفى هناك . ضيقة وصامتة إلى حد لا يطاق . صحيح أنه كان بعيدا عنها وعن ابنته ، كل هذا الوقت وصحيح أيضا أن افتقاده الطويل ولد لديها إحساسا بالحرمان موجعا وعميقا أبكاها غير ما مرة ، إلا أنها كانت تنظر إلى نفس السماء التي ينظر إليها عزيز وتتنفس نفس الهواء الذي يتنفسه . أما اليوم فقد حل الموعد دون سابق إنذار ، عاصفة شتوية هبت من خلال ليلة مقمرة .

كانت سارة ذات الثماني سنوات قد دخلت المدرسة قبل عام . عيناها قطعتان صغيرتان من عينيه. عسليتان مائلتان إلى السواد . كانت أمها كلما أطالت النظر إليهما تحس بغصة في الحلق وبدمع ساخن يترقرق بعد ذلك منذرا ببكاء هادئ وصامت ، فتضمها إلى صدرها في عناق حار ومؤلم وتغني لها لحنها الشجي :

عندما يزهر اللوز
يعود الربيع
غدا يزهر اللوز
ويعود كل حبيب

منذ أن دخلت المدرسة صارت سارة كثيرة السؤال عن أبيها :
ـ ماما ماما متى يعود بابا ؟
فتأخذها من يدها وتخرج إلى فناء الدار عند شجيرة اللوز الصغيرة ، فتقول لها وهي تقبلها :
ـ عندما تزهر شجرة اللوز يا حبيبتي .
ـ ومتى تزهر هذه الشجرة يا ماما ؟
عندما تكبر ويأتي فصل الربيع . يومها سيعود أبوك .
كانت توصيها دائما أن تسقيها كل صباح قبل الذهاب إلى المدرسة . ماذا عساها أن تقول لها الآن وهي تستعد لتوقظها ؟

تركت الأواني كما هي في المطبخ ، لبست جلبابا بسرعة ، أيقظت الصغيرة برفق وألبستها معطفا صوفيا وجوارب طويلة إلى الخصر وجلستا تنتظران عودة المبعوث .

كيفما كان حاله في الخارج فلن يكون أسوأ منه وهو في الغرفة الخلفية الضيقة والموحشة . على الأقل سيقدر على الخروج والجلوس في مقهى كما يفعل الرجال عادة . كذلك يستطيع أن يطل من النافذة إذا كانت له نافذة هناك ويستحم بنور الشمس متى طاب له ذلك .
هكذا كانت تفكر حين تناهى إليها الخبر أول مرة ، لكنها استبعدت أن يرحل بهذه السرعة ، فجأة ، كذبحة سكين .

ـ هل كبرت سارة ؟ كيف هي ؟ اشتقت أن أراها ..
هكذا سألها عزيز في لهفة خلال زيارتها الأولى له في الدار البيضاء . وردت :
ـ عيناها قدت من عينيك . جميلة كقبرة البراري . لا أدري ماذا كنت سأفعل من دونها .
ـ أحضريها مرة معك ، أريد أن أراها ..
وقالت وهي تمسد شعره الغزير بيدها اليمنى :
ـ لا تهتم ، سترجع إليها وتغرق في حبها كما غرقت أنا .

كان سيل الذكريات يزمجر في رأسها حين عاد الطارق يقرع الباب من جديد . نهضت حياة وفتحت الباب بعد أن أعاد القادم نفس الإشارة المعتادة .
ابتسم المبعوث عندما أطلت حياة وهو يقول :
ـ جاهزة ؟ هل نذهب ؟
ـ جاهزة ، سأوقظ سارة ونذهب على الفور .لقد نامت من جديد .
ـ أنتظركما ف السيارة ، أسرعا .

كان الليل دامسا وصامتا إلا من هدير محرك السيارة المنسابة التي تبعث بأضوائها القوية إلى الأمام . من كل الجهات كانت الظلمة تلف كل شيء ابتداء من زجاج النوافذ مرورا بالمنحدرات والجبال البعيدة ، حتى فوانيس المنازل الريفية المنتشرة على السفوح الجبلية وعلى جوانب الطرقات ذابت وتلاشت تحت أستار هذا الليل الصامت والموحش .

نامت سارة على المقاعد الخلفية للسيارة . كانت تبعث من حين لآخر أنينا ضعيفا ينفلت من أحلامها فتلتفت حياة إليها تهدهدها في حنان .
منذ غادرت السيارة ضواحي تطوان في تلك الساعة المتأخرة من الليل وحياة منزوية في المقعد الأمامي جنب السائق شاردة البال تنظر إلى صور حياتها المتفجرة أمام عينيها منذ أن عرفته أول مرة . كيف أحبته بذلك العنف وتلك القوة . عنيدا كان ولا يزال . لم تزده ليالي السجن الطويلة إلا إصرارا وعنادا . لم يندم أبدا يوم فصلوه من الجامعة وهو في السنة الرابعة . يومها عرف معنى إصراره وعناده .
وفي العام الموالي يوم التحق بعمله الجديد بالمعمل الصغير في تطوان، كان يقول بأنه وجد المكان المناسب له . طردوه وحياة حامل لم تكمل شهرها الخامس . منذ ذلك الحين وأنوف المخبرين تتعقب رائحته أينما حاول المكوث .
هكذا كانت تتراقص الصور أمام عينيها والسيارة تشق ظلام الليل بأضوائها القوية وهي تقترب من البلدة الصغيرة المطلة على البحر . لم تسمع حياة باسمها من قبل .
لمح السائق شرودها وتشنجها . لم تنطق ببنت شفة منذ ركبت السيارة على مشارف تطوان . فقال لها وهو يجتاز المنعرج :
ـ لم تقولي كلمة واحدة منذ غادرنا تطوان ..
ـ وماذا عساني أقول ؟
ـ لابد أن يرحل ، ليس هناك سبيل آخر . . ثم أضاف وهو ينظر نحوها ، هناك سيكون أحسن حالا من هنا .
ـ ربما ولكن ...

وصمتت من جديد . أشاحت بوجهها عنه وبكت في صمت دون أن يلحظ السائق ذلك . كانت تعرف كيف تبكي في صمت . يخرج الدمع حارا دون عناء ثم ينزل على الخد الى أسفل الأنف ثم ينحدر جانبا زاوية الشفتين مالحا ودافئا .

لم تره منذ سنة .سنة كاملة مرت منذ أن لمست يداه وجهها آخر مرة .قالوا لها أنه ترك لحيته تكبر . كانت تجده وسيما وهو حليق الذقن .
كان الساعة قد تجاوزت الرابعة بقليل عندما وقفت السيارة في مكان خال وصامت الا من هدير البحر وهو يضرب الصخر في صخب متقطع .
غاب السائق لحظة ثم عاد بصحبة عزيز وشخص ثالث لا تعرفه . لم تتبينهم بوضوح الا عندما صاروا على بعد أمتار قليلة .كان عزيز بلحية لم تطل كثيرا كما تصورته . صافح السائق ثم ابتسم قليلا وهو يعانقها بحرقة مغمغما :
ـ حياة ...
ـ عزيز ...
ارتعد جسمها كغصن في عاصفة. ابتعدا قليلا بعد أن قبل عزيز سارة من جديد وأودعها في يد السائق ثم تواريا خلف الصخر .

كانت السماء غائمة وثقيلة وريح غربية باردة تنذر بالعاصفة . بدأ البحر يظهر رويدا صاخبا كوحش كاسر . ومن التلة التي تشرف على الشط الصخري ، كان المركب يبدو في الأسفل كقطعة فلين يلاعبها الموج .

لم يعودا إلا بعدما ناداهما السائق غير ما مرة لأن المركب ينتظر في الأسفل وضياء الفجر بدأت تلوح في الأفق خيطا رفيعا يكاد لا يرى .
رفع عزيز سارة حتى صارت العيون في نفس المستوى ، لثم خديها مرتين ثم ضمها الى صدره وهو يقول لها :
ـ لا تكوني شقية وتذكري جيدا ، سأعود عندما تزهر شجرة اللوز في الحوش الصغير.
ودت حياة لو يقف الزمن لحظة لتطيل النظر إليه وهو يعانق قبرة البراري . هكذا كانت تحاول أن تخدع نفسها بهذا المبرر لأنها في الحقيقة كانت تخاف تلك اللحظة الرهيبة التي لم تتزود بالشجاعة الكافية . جاءت فجأة وخاطفة وجارحة كومضة حادة تخسف البصر للأبد . تلك اللحظة التي سيشيح بوجهه وهو يهم بالانصراف إلى المركب في الأسفل . إنها تعرفه جيدا ، سيقبلها ويضغطها إلى صدره قليلا ثم يشيح بوجهه دون أن ينظر إلى عينيها ثانية أو يقول شيئا ثم يرحل .
يرحل إلى أين ؟ إلى متى الرحيل ؟
هكذا كانت تنتظر وهي ترنو إليه تارة والى البحر الهادر كالوحش الكاسر في الأسفل تارة أخرى .


ـانتهىـ

عبد النور مزين



#عبد_النور_مزين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- الضحكة كلها على قناة واحدة.. استقبل الان قناة سبيس تون الجدي ...
- مازال هناك غد: الفيلم الذي قهر باربي في صالات إيطاليا
- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد النور مزين - قصة قصيرة