أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حسن عجمي - السوبر مستقبلية : فلسفة المعنى بين الواقعية و اللاواقعية















المزيد.....


السوبر مستقبلية : فلسفة المعنى بين الواقعية و اللاواقعية


حسن عجمي

الحوار المتمدن-العدد: 3816 - 2012 / 8 / 11 - 17:14
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


نشهد في هذا المقال تنافس النظريات المختلفة حول تحليل المعنى و تحديده. بينما المذاهب التقليدية في المعنى تسجن المعاني في الحاضر و الماضي , تحرر السوبر مستقبلية المعنى من قيود الحاضر و الماضي لأنها تؤكد على أن المعاني قرارات اجتماعية في المستقبل. هكذا تنتصر السوبر مستقبلية على المذاهب و النظريات الأخرى لكونها تحررنا من جراء تحرير معاني اللغة.

المعنى بين الماضي و المستقبل

لا بد أن نميّز بين المستقبلية و السوبر مستقبلية. بينما المستقبلية تدرس المستقبل على ضوء الحاضر و الماضي , تقلب السوبر مستقبلية تلك المعادلة فتدرس الحاضر و الماضي على ضوء المستقبل. تحاول المستقبلية أن تتنبأ بما سيحدث في المستقبل على أساس ما يحدث في الحاضر و ما حدث في الماضي. لكن السوبر مستقبلية تهدف إلى فهم الظواهر و الحقائق الموجودة في الحاضر و الماضي من خلال المستقبل. هكذا الاختلاف بين المستقبلية و السوبر مستقبلية اختلاف جوهري. بالنسبة إلى السوبر مستقبلية , التاريخ يبدأ من المستقبل. لذا تحلل السوبر مستقبلية الحقائق و الظواهر المختلفة من خلال المستقبل , و بذلك تغدو الظواهر و الحقائق محدَّدة و متشكِّلة في المستقبل فقط . فمثلاً , تعتبر السوبر مستقبلية أن المعنى قرار اجتماعي في المستقبل. هنا حللت السوبر مستقبلية المعنى من خلال المستقبل فقدّمت تحليلاً سوبر مستقبلياً لمفهوم المعنى. الآن ، بما أن المعنى قرار اجتماعي في المستقبل , إذن المعنى يتحدّد و يتشكّل في المستقبل فقط . من هنا , تقول السوبر مستقبلية إن التاريخ يبدأ من المستقبل. فبما أن المعنى يتكوّن في المستقبل , و بما أن التاريخ مجموعة معان ٍ , إذن التاريخ يولد من المستقبل.

نظرية السوبر مستقبلية في تحليل المعنى تملك فضائل معرفية عديدة و مختلفة ما يجعلها نظرية مقبولة و صادقة إلى حد كبير. من تلك الفضائل : أولاً , بما أن المعنى قرار اجتماعي في المستقبل , و بما أن المستقبل لم يتحقق كلياً في الحاضر و الماضي , إذن لا بد من البحث الدائم عن المعاني و تحديدها و بذلك تضمن السوبر مستقبلية استمرارية البحث المعرفي و العلمي بدلاً من أن توقفه. و هذه فضيلة كبرى للمذهب السوبر مستقبلي. ثانياً , بما أن المعنى قرار اجتماعي في المستقبل , وبما أن القرار الاجتماعي من صنع المجتمع و أفراده, إذن المعاني مشتركة بين أفراد المجتمع ما يضمن التفاهم والتواصل بينهم من خلال اللغة. هكذا تنجح السوبر مستقبلية في التعبير عن إمكانية التواصل عبر اللغة , و بذلك تكتسب نظرية السوبر مستقبلية فضيلة معرفية قصوى. ثالثاً , بما أن المعنى قرار اجتماعي في المستقبل , وبما أن العلماء يشكّلون جماعة اجتماعية لها قراراتها , إذن العديد من المعاني هي قرارات علمية يتخذها العلماء. لكن العلم يعبّر عن عالمنا الواقعي. من هنا , تصبح العديد من المعاني معبِّرة عن عالمنا الواقعي ما يضمن إمكانية المعرفة. هكذا تنجح السوبر مستقبلية في التعبير عن إمكانية الحصول على المعرفة , وبذلك تكتسب فضيلة أخرى. رابعاً , بما أن المعنى قرار اجتماعي في المستقبل , و المجتمع الذي يتخذ القرارات الاجتماعية يتكوّن من أفراد , إذن المعنى هو جزئياً قرار فردي أيضاً , و لذا الفرد يملك قدرة خاصة على إدراك ما يقصد من معان ٍ . هكذا تتمكن السوبر مستقبلية من التعبير عن حقيقة أن الفرد لديه قدرة خاصة على معرفة ما يقصد من معان ٍ , و هذه فضيلة إضافية لنظرية السوبر مستقبلية. خامساً, بما أن المعنى قرار اجتماعي في المستقبل , و بما أنه من الممكن أن نتخذ قرارات اجتماعية جديدة , إذن من الممكن صناعة معان ٍ جديدة ما يحررنا من المعاني والمعارف التقليدية. هكذا تدفعنا نظرية السوبر مستقبلية في المعنى إلى خلق معان ٍ جديدة على ضوء قراراتنا ما يضمن تحررنا من المعاني و المعارف التقليدية التي تشكّلت في الماضي. تؤكد السوبر مستقبلية على أن المعاني قرارات اجتماعية في المستقبل. من هنا , المعاني محدَّدة بشكل نهائي فقط في المستقبل , و بذلك المعاني غير محدَّدة بشكل كامل في الحاضر و الماضي. على هذا الأساس , تطالبنا المعاني بتحديدها و بذلك تغدو المعاني معتمدة في تشكلها علينا نحن بالذات ما يضمن تحررنا من معاني الماضي.

بالإضافة إلى ذلك , إذا غيّرنا استعمال مفهوم معين وبدّلنا سياقه سوف يتغير معنى المفهوم. كما أنه إذا بدّلنا قيم الصدق لعبارة ما سوف يتغير معنى تلك العبارة. فمثلاً ، إذا كانت عبارة " الثلج أبيض " صادقة إذا وفقط إذا الثلج أخضر ، حينها عبارة " الثلج أبيض " تعني الثلج أخضر و لا تعني الثلج أبيض. هكذا مع تغير قيم الصدق يتغير المعنى. لكن كل هذا لا يشير إلى أن المُحدِّد الأساسي للمعنى هو الاستعمال والسياق أو قيم الصدق. بل هذا يدل على أن القرار هو المحدِّد الأساسي للمعنى . فقبل أن نغيّر استعمال المفهوم وسياقه ، وقبل أن نبدّل قيم الصدق ، لا بد أن نتخذ قراراً بذلك. هكذا يصبح القرار هو المُحدِّد الأساسي للمعنى . على هذا الأساس , نستنتج أن المعنى هو قرار اجتماعي. و من الضروري أن نضيف مفهوم المستقبل إلى تحليلنا للمعنى فيمسي المعنى قراراً اجتماعياً في المستقبل لأن بذلك نضمن استمرارية البحث عن المعاني كما نضمن التحرر من معاني الماضي. أما إذا كانت المعاني محدَّدة من قبل الواقع , و بما أن الواقع نتيجة آليات موجودة في الماضي , إذن تصبح المعاني سجينة الماضي. أما إذا كانت المعاني محدَّدة من قبل استعمالنا للغة , و بما أن استعمالنا للغة حدث في الماضي و يحدث في الحاضر , حينئذٍ تصبح المعاني سجينة الماضي و الحاضر. لكن السوبر مستقبلية تحررنا من معاني الحاضر و الماضي معاً لأنها تعتبر أن المعاني محدَّدة في المستقبل على ضوء قراراتنا الاجتماعية.

جدل المعنى و الواقع

تنقسم فلسفة المعنى إلى اتجاهين أساسيين هما الاتجاه الواقعي و الاتجاه اللاواقعي (ليس بالمعنى السلبي) ، و تتنوّع المذاهب ضمن كل اتجاه منهما. فبينما يحلّل الاتجاه الواقعي المعنى من خلال العالم الواقعي خارج الإنسان ، يحلّل الاتجاه اللاواقعي المعنى من خلال ما يملك الإنسان من قدرات. من مذاهب النموذج الواقعي مذهب الفيلسوف دونالد ديفدسون الذي يعرّف المعنى من خلال قيم الصدق. يقول ديفدسون : إذا حدّدنا قيم الصدق لعبارة ما فنحن بذلك نحدّد معنى تلك العبارة. وقيم الصدق لعبارة ما هي الظروف التي إذا تحققت تكون العبارة إما صادقة وإما كاذبة. مثل على قيم الصدق هو التالي : جملة "الثلج أبيض" هي جملة صادقة فقط في حال أن الثلج أبيض , و جملة "الثلج أبيض" كاذبة فقط في حال الثلج ليس أبيض. قيم الصدق هذه تحدِّد معنى عبارة "الثلج أبيض". فعبارة "الثلج أبيض" تعني الثلج أبيض لأن عبارة "الثلج أبيض" صادقة فقط في حال أن الثلج أبيض و إلا فهي كاذبة. هكذا يتحدّد معنى العبارة من خلال متى تصدق و متى تكذب. وبذلك يتم تحليل المعنى من خلال ما هو صادق وما هو كاذب في عالمنا الواقعي؛ فأية عبارة لديها معنى فقط إذا كانت صادقة أو كاذبة و لذا يرتبط المعنى بما يوجد في الواقع. على هذا الأساس , من خلال تحديد الظروف الواقعية التي تجعل عبارة ما صادقة أو كاذبة يتم تحديد معنى العبارة. هكذا العالم الواقعي يحدِّد المعنى (Donald Davidson: Inquiries into Truth & Interpretation . 1984. Clarendon. Oxford Press). مذهب آخر من مذاهب النموذج الواقعي في المعنى يقدّمه الفيلسوف جيري فودر الذي يحلّل معاني المفاهيم من خلال العلاقات السببية. يعتبر فودر أن المذهب الصادق هو المذهب السببي في المعنى. بالنسبة إلى نموذجه المُبسَّط ، مفهوم "القطة" يعني القطة لأن القطة سببت مفهوم "القطة" (Editor: Martinich: The Philosophy of Language. 1990. Oxford University Press ). للاتجاه الواقعي في المعنى فضيلة أساسية ألا و هي التالية : بما أن الواقع يحدِّد معاني الكلمات و العبارات , و بما أن الواقع مشترك بين الناس جميعاً , إذن من الطبيعي أن تكون المعاني مشتركة بين الناس ما يضمن إمكانية و نجاح التواصل و التفاهم بين الناس كافة. من هنا , يتمكن الاتجاه الواقعي من التعبير عن إمكانية و نجاح التواصل اللغوي بين البشر.

من جهة أخرى , تواجه الواقعية في المعنى مشاكل عدة مدمرة لها منها : أولاً , ثمة عبارات مختلفة لها معان ٍ لكنها لا تملك قيم صدق. و بذلك من الخطأ تحليل المعنى من خلال قيم الصدق كما فعل ديفدسون. فلو أن المعنى مُحدَّد من قبل قيم الصدق لكانت تلك العبارات بلا معان ٍ لكونها خالية من قيم صدق. لكن الحقيقة هي أن لتلك العبارات معان ٍ , وبذلك من الخطأ تعريف المعنى من خلال قيم الصدق. فمثلاً , الأسئلة لها معان ٍ لكنها لا تملك قيم صدق. فسؤالنا " كيف حالك ؟" لديه معنى لكنه خال ٍ من قيم صدق ؛ فلا يُقال عن السؤال إنه صادق أو كاذب. كما أن الجُمل اللغوية التي تعبّر عن الأمر تملك معان ٍ من دون أن تملك قيم صدق. فمثلاً , الأمر " إدرس درسك" له معنى لكنه يفتقر إلى قيم صدق بما أنه لا يُقال عن جملة " إدرس درسك" إنها صادقة أو كاذبة. هكذا من الخطأ تحليل المعنى من خلال قيم الصدق أي من خلال ما يصدق أو يكذب في الواقع. من المنطلق نفسه , كلمات الترحيب ككلمة "مرحباً" لها معنى طبعاً لكنها بلا قيم صدق فلا نقول إن كلمة " مرحباً" صادقة أو كاذبة أي مطابقة للواقع أو لا. على أساس هذه الاعتبارات تتهافت نظرية ديفدسون في المعنى ما يرينا فشل هذا الاتجاه الواقعي في تحليل المعنى. ثانياً , المشكلة الأساسية التي تواجه النظرية السببية في المعنى هي التالية : ثمة أشياء مجردة كالأعداد ولكونها مجردة لا ترتبط سببياً بنا أو بأي شيء آخر ، وبذلك يستحيل أن تسبّب مفاهيمها ما يتضمن أن مفاهيمها خالية من معنى بالنسبة إلى النظرية السببية، و هذا نقيض الواقع. من هنا, تفشل النظرية السببية في المعنى في التعبير عن حقيقة أن المفاهيم المجردة تملك معان ٍ. فمثلاً, العدد خمسة مجرد كالأعداد كافة ، وبذلك لا قدرة سببية له. لكن بالنسبة إلى النظرية السببية في المعنى ، مفهوم "خمسة" يعني خمسة فقط في حال خمسة تسبّب مفهوم "خمسة". لكن خمسة لا قدرة سببية لها كونها مجردة , و بذلك يغدو مفهوم " خمسة" بلا معنى من منظور النظرية السببية في المعنى. هكذا تفشل النظرية السببية في التعبير عن أن مفهوم "خمسة" يملك معنى ( Akeel Bilgrami : Belief and Meaning. 1995.Wiley_Blackwell ). من هنا , يتهافت الاتجاه الواقعي في المعنى ؛ فالمعاني غير محدَّدة من قبل العالم الواقعي خارج الإنسان.

جدل المعنى و الاستعمال اللغوي

هل هذا يعني أن الاتجاه اللاواقعي في المعنى هو الأفضل؟ لمعرفة الإجابة على هذا السؤال لا بد من تقديم بعض الشرح التفصيلي لمضمون الاتجاه اللاواقعي. بالنسبة إلى اللاواقعية antirealism , المعنى مُحلَّل من خلال قدرات الإنسان كقدرة الإنسان على استعمال اللغة. ترأس الفيلسوف فتجنشتين هذا الاتجاه حين طرح نظرية أن المعنى هو الاستعمال. و تطورت نظريته لتصبح نموذجاً في تعريف المعنى ؛ فعلى ضوء نظريته بنى العديد من الفلاسفة مذاهب متنوعة في تحليل المعنى منها مذهب الفيلسوفة ميليكن. بالنسبة إلى ميليكن , مبادئ اللغة شبيهة بالوظائف التي تؤدي إلى بقاء الأجناس البيولوجية حية, أي أن مبادئ اللغة مبادئ بيولوجية. من هذه المبادئ مبدأ قول الحقيقة في خطابنا فقول الحقيقة يساعدنا في تجنب الضرر و الاستفادة من المفيد ما يضمن بقاءنا أحياء. هكذا مبادىء اللغة بيولوجية لكونها تمتلك وظائف الكائن البيولوجي الكامنة في تحقيق استمرارية الحياة. على هذا الأساس تقول ميليكن إن بعض الأنواع اللغوية في التعبير تستمر في التداول لأن إنتاجها ونتائجها تفيد كُلاً من المتكلم والمتلقي. هذا شبيه بما يحدث للكائن البيولوجي الذي يكتسب الصفات التي تبقيه حياً. وكما أن البشر يكررون التصرفات الناجحة في تحقيق أهدافهم، يتم تكرار أشكال لغوية معينة لأنها مفيدة في الوصول الى نجاحاتنا كبشر. و هذه الأنواع اللغوية ( كعبارات الشرط مثلاً) تشكّل الأعراف اللغوية. فالأعراف اللغوية تنشأ وتنتشر لأنها تقدّم حلولاً لمشاكل المتخاطبين. من هنا، نستمر في إنتاج بعض الأشكال اللغوية لأنها تؤدي بالمتلقي إلى أن يستجيب باستجابات مفيدة في تحقيق أهداف المتكلم. لكن لا بد للأعراف اللغوية أن تخدم مصالح المتكلمين والمتلقين معاً لكي تستمر وتبقى. تضيف ميليكن بأن الوظيفة الأساسية للغة هي جعل الأعراف اللغوية ممكنة، ووظائف الأعراف اللغوية هي وظائف تواصلية. على هذا الأساس تستنتج أن الوظيفة الأساسية للغة تكمن في تحقيق التخاطب والتواصل بين المتكلم والمتلقي. بالنسبة إلى ميليكن، مبادئ اللغة تكمن في الاستعمال اللغوي القادر على الاستمرار. والمبادئ اللغوية وسائل على أساسها تنبثق التصرفات اللغوية، فالمبادئ طُرُق للقيام بتصرفات معينة. من خلال هذا النموذج الفكري تعتبر ميليكن أن المعنى هو الاستعمال، فالذي يحدّد معاني الألفاظ والعبارات هو استعمالها بطرق معينة. تؤكد على هذا الاتجاه حين تقول إن المعنى وظيفة. فمعنى اللفظ هو ما يقوم به هذا اللفظ. و وظيفة العبارة ذات المعنى تكمن في أنها متى تلفظ أو تكتب تؤدي بالمتكلمين إلى استعمال تلك العبارة من جديد كما تؤدي بالمتلقين إلى أن يكرروا الاستجابات ذاتها (Ruth Millikan: Language: A Biological Model. 2005. Clarendon Press. Oxford).

بالإضافة إلى ذلك , يقدّم الفيلسوف مايكل دوميت مذهباً خاصاً في التعبير عن أن المعنى هو الاستعمال. يقول دوميت إن ظروف النطق تحدّد المعاني , أي أن الظروف التي تسمح أو تبرر لنا النطق بهذه العبارة أو تلك هي التي تحدِّد معنى العبارة. هذا لأننا نتعلم معنى هذه العبارة أو تلك من خلال معرفة الظروف التي تسمح أو تبرر لنا النطق بها. من هنا , بفضل معرفة ظروف النطق المرتبطة بهذه العبارة أو تلك نعرف معنى العبارة ؛ فالمعاني محدَّدة من قبل ما يسمح أو يبرر النطق بها أي من قبل ما يبرر استعمالها. هكذا نظرية دوميت في المعنى تعبير آخر عن أن المعنى هو الاستعمال ( Michael Dummett : Truth and other enigmas. 1978. Harvard University Press .( من منطلق هذا النموذج الفكري أيضاً يبني الفيلسوف روبرت براندم نظريته في المعنى. يقول براندم إن معنى أية عبارة يتحدّد من خلال الدور الاستنتاجي الخاص بتلك العبارة , أي أن ما يؤدي إلى استنتاج العبارة و ما من الممكن أن نستنتج من العبارة يحددان معنى العبارة. فالدور الذي تتخذه العبارة في عمليات الاستنتاج الفكري هو المحدّد الأساس لمعنى العبارة. فمثلاً , ما تلزمنا العبارة أن نستنتج منها و ما يحق لنا أن نستنتج من العبارة يساهمان في تشكيل معنى العبارة ؛ فالمعاني ليست سوى الأدوار الاستنتاجية التي تتخذها العبارات. هذا لأننا نصبح مستخدمين جيدين لهذه العبارات أو تلك فقط حين نعلم ما يمكن الاستنتاج بحق من تلك العبارات ؛ فإن كنا لا نعلم ما يجب الاستنتاج من هذه العبارة أو تلك حينها لا يوجد دليل على أننا فهمنا معنى العبارة (Robert Brandom : Making it Explicit. 1998. Harvard University Press ). بما أن المعنى كامن في الاستنتاج كما يقول براندم , و بما أن الاستنتاج كيفية من كيفيات استعمال العبارات بحيث نستعمل هذه العبارة أو تلك لنستنتج كذا أو كذا , إذن المعنى في النهاية هو الاستعمال بالنسبة إلى براندم. الآن , يملك الاتجاه اللاواقعي في المعنى فضيلة أساسية ألا و هي التالية: بما أن المعنى محلَّل من خلال قدرات الإنسان الداخلية كقدرته على استعمال اللغة , وبما أن الإنسان لديه قدرة خاصة على إدراك قدراته كونها له , إذن يملك الفرد قدرة خاصة على إدراك ما يقصد من معان ٍ. هكذا ينجح الاتجاه اللاواقعي في التعبير عن قدرة الفرد الخاصة و المميزة في إدراك معاني كلماته و عباراته.

لكن الاتجاه اللاواقعي في المعنى يعاني من مشاكل قاتلة له. من تلك المشاكل : أولاً، عبارة 1+1=3 هي عبارة رياضية ذات معنى رغم أنها عبارة كاذبة. وهي ذات معنى لأننا نفهمها بمجرد أن نفكر فيها. لكن لا استعمال لها بسبب أن كل عاقل يدرك أنها كاذبة بالضرورة. هكذا نجد أن عبارة 1+1=3 لا استعمال لها لكنها ذات معنى، وبذلك من الخطأ تحليل المعنى على أنه الاستعمال كما يفعل الاتجاه اللاواقعي. فلو أن المعنى هو الاستعمال، وبما أن لتلك العبارة الرياضية معنى، إذن لا بد حينها من وجود استعمال لها. لكن لا استعمال لها. وبذلك من الخطأ تحليل المعنى على أنه الاستعمال . ثانياً ، توجد نظريتان أساسيتان في العلم هما النظرية النسبية لأينشتاين ونظرية ميكانيكا الكم، وهما في اختلاف وتعارض وصراع. فبالنسبة إلى نظرية النسبية ، الكون حتمي. لكن بالنسبة إلى نظرية ميكانيكا الكم ، الكون غير حتمي. على هذا الأساس يعتبر العديد من العلماء أن النظرية الصادقة في تفسير الكون لم تكتشف بعد. النظرية الصادقة موجودة فقوانينها تحكم الكون رغم أننا لا نعرفها بعد ، و من المفترض أنها ستوحّد بين نظرية النسبية ونظرية ميكانيكا الكم ( Michio Kaku : .(Parallel Worlds. 2005. Doubleday الآن، رغم أن النظرية الصادقة موجودة بسبب أن قوانينها تحكم الكون ، لا يوجد استعمال لها من قبلنا لأننا لا نعرفها بعد. و هذه النظرية لديها معنى لأنها نظرية علمية. هكذا نجد أن لتلك النظرية معنى من دون وجود استعمال لها . وبذلك من الخطأ تحليل المعنى على أنه الاستعمال. فلو أن المعنى هو الاستعمال، ولكون تلك النظرية العلمية لا استعمال لها، لكانت تلك النظرية العلمية لا معنى لها, لكن هذه النتيجة كاذبة. من هنا , من الخطأ تعريف المعنى على أنه الاستعمال. بكلام ٍ آخر , ثمة عبارات لا استعمال لها و رغم ذلك لها معان ٍ. فمثلاً , لم نكتشف بعد كل العبارات الصادقة. و لكون تلك العبارات صادقة إذن لها معان ٍ. و بسبب أننا لم نكتشفها بعد إذن لا استعمال لها بعد. هكذا ثمة عبارات لا استعمال لها لكنها تملك معان ٍ ما يشير إلى فشل تحليل المعنى من خلال قدرات الإنسان كقدرته على استعمال اللغة. مثل ذلك أنه قبل نشوء نظرية ميكانيكا الكم لم نعلم بعبارتها القائلة بأنه من غير المحدَّد ما إذا كان الجسيم جسيماً أم موجة , ولذا لم تكن البشرية تستخدم تلك العبارة رغم أنها عبارة ذات معنى لكونها عبارة علمية. من هنا , توجد دوماً عبارات لها معان ٍ من دون استعمالات لها ما يؤكد على أن المعنى ليس هو الاستعمال اللغوي.

كل هذا يرينا أن كلاً من الاتجاه الواقعي و الاتجاه اللاواقعي يفشل في تحليل المعنى ما يشير إلى أفضلية الموقف السوبر مستقبلي و تحليله للمعاني. فمثلاً , تنجح السوبر مستقبلية في التعبير عن أن الأسئلة و الأوامر وكلمات الترحيب لها معان ٍ رغم فقدانها لقيم الصدق. بالنسبة إلى السوبر مستقبلية , الأسئلة و الأوامر و كلمات الترحيب تملك معان ٍ لأن ثمة قرارات اجتماعية تملي علينا متى نستخدم هذه الأسئلة أو الأوامر أو كلمات الترحيب أو تلك و كيف نستجيب لها باللغة أو بالتصرف. فبما أن المعنى قرار اجتماعي , و بما أن الأسئلة و الأوامر و كلمات الترحيب محكومة من قبل قرارات اجتماعية , إذن الأسئلة و الأوامر و كلمات الترحيب لها معان ٍ من منظور السوبر مستقبلية. كما تتمكن السوبر مستقبلية من التعبير عن أن العبارات التي لم نكتشفها بعد تملك معان ٍ رغم عدم استعمالنا لها. بالنسبة إلى السوبر مستقبلية , المعاني قرارات اجتماعية في المستقبل و بذلك المعاني تتشكّل و تتحدد في المستقبل. من هنا , العبارات التي لم نكتشفها بعد لها معان ٍ لأنها محدَّدة في المستقبل على ضوء تطور العلوم و المعارف. و بينما الاتجاه الواقعي يسجن المعنى في الواقع لأنه يحلِّل المعنى من خلال الواقع , السوبر مستقبلية تحررنا من سجون الواقع لأنها تجعل المعنى معتمداً على قرارات اجتماعية في المستقبل. و بينما الاتجاه اللاواقعي يقيّد المعنى في الاستعمال اللغوي في الحاضر أو الماضي , تحرر السوبر مستقبلية المعاني من قيود حاضرنا و ماضينا من خلال اعتبارها أن المعاني قرارات مستقبلية. و الفضيلة الأساسية للسوبر مستقبلية كامنة في أنها تجعلنا نحن البشر صانعي المعاني و أسياداً عليها بدلاً من أن نكون عبيداً لها , و ذلك من خلال اعتبار المعاني قرارات اجتماعية نشكّلها نحن بالذات. مَن لا يخلق معاني لغته يبقى عبداً لها.



#حسن_عجمي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السوبر سيميائية في مواجهة السوبر ديكتاتورية
- الفلسفة بين السوبر حداثة و السوبر مستقبلية
- العلاج الثقافي : السوبر ثوار في مواجهة السوبر إضطهاد
- السوبر طائفية : تفكيك الحداثة و الأصولية و الإرهاب
- فلسفة السخافة
- التراث بين السوبر حداثة و السوبر مستقبلية
- السوبر علمانية في مواجهة السوبر عقائدية
- السوبر فلسفة: تزاوج الفلسفة والعلوم
- صراع اليقين واللايقين: العلم أساس زوال الديكتاتورية
- هل الحياة والعقل والكون مجرد كومبيوترات؟
- السوبر تخلف
- السوبر حداثة : الحرية و النهضة
- خصخصة الثقافة خصخصة الإنسان


المزيد.....




- قصر باكنغهام: الملك تشارلز الثالث يستأنف واجباته العامة الأس ...
- جُرفت وتحولت إلى حطام.. شاهد ما حدث للبيوت في كينيا بسبب فيض ...
- في اليوم العالمي لحقوق الملكية الفكرية: كيف ننتهكها في حياتن ...
- فضّ الاحتجاجات الطلابية المنتقدة لإسرائيل في الجامعات الأمري ...
- حريق يأتي على رصيف أوشنسايد في سان دييغو
- التسلُّح في أوروبا.. ألمانيا وفرنسا توقِّعان لأجل تصنيع دباب ...
- إصابة بن غفير بحادث سير بعد اجتيازه الإشارة الحمراء في الرمل ...
- انقلبت سيارته - إصابة الوزير الإسرائيلي بن غفير في حادث سير ...
- بلجيكا: سنزود أوكرانيا بطائرات -إف-16- وأنظمة الدفاع الجوي ب ...
- بايدن يبدى استعدادا لمناظرة ترامب


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حسن عجمي - السوبر مستقبلية : فلسفة المعنى بين الواقعية و اللاواقعية