أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أحمد دلباني - الدين والحداثة: في ظاهرة الأصولية وعودة المقدس الديني















المزيد.....


الدين والحداثة: في ظاهرة الأصولية وعودة المقدس الديني


أحمد دلباني

الحوار المتمدن-العدد: 3806 - 2012 / 8 / 1 - 01:26
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


1- في التجربة الأوروبية:
إن حضور الدين في المجتمع العربي – الإسلامي هو غيره في المجتمعات الأخرى، وبخاصة الأوروبية منها، أعني تلك التي تخلصت بفعل ثوراتها المعرفية والسياسية والاجتماعية من هيمنة المقدس الديني، وانسلخت من الفضاء العقلي والرمزي الذي ساد في العصور الوسطى المسيحية، لتؤسس لعالم جديد قام على أنقاض العوالم القديمة. إن هجمة الحداثة مثلت انبلاج فجر زمن تاريخي جديد بزغ كوكبه ببطء في غسق التاريخ الغربي، وعبر سيرورة حضارية عرفت – بلا شك – بعض الانتكاسات والارتدادات، ولكن القدر التاريخي كان قد حسم نهائيا انتصار العقل العلمي الوضعي وانتصار الأنسنة، معلنا بذلك سقوط الشرعيات القديمة التي بدأت تتهاوى منذ القرن الثامن عشر.
لقد مثلت الحداثة الظافرة في أوروبا، بالتالي، قدرا تاريخيا جديدا زحزح المقدس الديني عن المركز وبوَّأ الإنسان مركز دائرة المعرفة والفعل والقيم. وبذلك مثلت الحداثة ثورة تميزت بنوع من الاستمرارية الإيجابية في التجديد السيميائي للعالم الذي دشن القطيعة مع محددات الفكر والحياة القديمين. لقد أفلت المعنى النهائي للأشياء من النص المقدس، ولم يعُد للاهوت سطوة على العقول بعد انفجار بدايات المُنجز العلمي، وهو ما دعا العقل الفلسفي إلى محاولة إعادة تأسيس المعرفة بما يتوافق مع المعطى الجديد في الكشف عن العالم، وردم الهوَّة التي ارتسمت بين واقع المعرفة الجديدة والصروح الفلسفية – اللاهوتية القديمة التي ركنت إلى الكتاب المقدس والهرمينوطيقا العتيقة والفلسفة الأرسطية تجترّها وتبسط بها سلطتها في احتكار " الحقيقة "، وتبرير النظام السياسي القائم على الزواج المقدس بين السلطتين الروحية والزمنية.
لقد حصلت الخلخلة الكبيرة في التاريخ الأوروبي الحديث، بالتالي، مع إفلات المعنى من سماء اللاهوت بفعل التطور المعرفي واستقلال العقل الفلسفي عن العقل اللاهوتي، الشيء الذي كان بدوره مظهرا من مظاهر التطور الشامل بأوجهه الاجتماعية والاقتصادية، وهو ما دفع الكثير من مفكري الفكر والحضارة إلى قراءة الحداثة باعتبارها انبثاقا مشهديا للفردانية في المجتمع والتي كان استقلال العقل ونزعة الشك والفن من مظاهرها الجلية. وبالتالي، فكما قال هيغل بحق: " إن بومة مينرفا لا تطير إلا في الليل "، كان استقلال العقل وكانت الحكمة الأوروبية الجديدة تتويجا لتطور مستمر وبطيء بدأ مع النزعة الإنسانية والإصلاح الديني والانفتاح على الثقافة الإغريقية – الرومانية، وهذا ضمن محاولات تأنسن الثقافة – شيئا فشيئا – خارج السياج المنيع الذي أقامه النظام الثقافي اللاهوتي لقرون طويلة. من هنا شكل استقلال العقل العلمي والفلسفي أساسا لشرعيات جديدة شملت مناحي الحياة المختلفة، الاقتصادية منها والقانونية والسياسية، وهو ما تجلى في الثورات التي أرست دعائم المجتمع الحديث القائم على العقلنة والأنسنة والحركية والتعاقد الاجتماعي.
لقد ملأت " الأنوار " الوعي الأوروبي بأمل عظيم قدر له أن يحل محل الآمال الخلاصية التي كان يؤمّنها الدين، وهذا الأمل هو رجاء " التقدم " الذي يعني خلاص الإنسان من الجهل والظلام والارتهان للماضي، وانتصابَه في مفترق لحظة تاريخية عمَّدته مرجعا أنطولوجيا وأخلاقيا ومعرفيا بعد أن تقلص حضور المقدس في الفضاء التاريخي، ليبرز العالم أرضا بكرا ونصا انسلخ من القراءات القديمة وأصبح يُكتب إنسانيا في أفق الثورة والحرية.
ماذا كانت تعني تلك السيرورة المعقدة؟ ماذا كانت تعني تلك المجازات التي وضعت حكاية تأسيسية جديدة للتاريخ الأوروبي وهو يخرج من " الظلمات " إلى " الأنوار "؟ لقد أجاب فيلسوف الأزمنة الحديثة الكبير إ. كانط في نصه الشهير: "ما هي الأنوار؟" قائلا: " الأنوار هي خروج الإنسان من الوصاية...". إننا نجد هنا، بالفعل، مُحددا رئيسا من محددات الحداثة وهو مركزية الذات، أي اغتصاب الإنسان لمركز العالم وتموقعه – ضمن ثورة كوبرنيكية – في قلب عملية المعرفة والتشريع لنظام العالم الأنطولوجي والأخلاقي خارج كل تبعية لما يتجاوز العقل، وخارج كل أشكال الوصاية وبخاصة الدينية منها. لقد تأنسن العالم: هذا هو جوهر الحداثة. الحداثة مفهومة على أنها معنى وعلامة فارقة جسدت بداية انهيار سلطة التقاليد، وانحسار المرجعيات التي كانت تسند النظام القديم، أي نظام العالم ونظام المجتمع. إن انبثاق وجه الإنسان – بهذه الصورة – على مسرح المعرفة والفعل واحتلال العقل، بوصفع فاعلية، لمواقعه في الحياة الفردية والجماعية تدريجيا، إنما كان نتيجة لمسار معرفي وحضاري معقد عزز فاعلية النقد بوصفه حقا من حقوق العقل، وبوصفه جهدا مستمرا في تفتيت الوصاية والأبوية.
------
وماذا كان من أمر الدين؟ من الواضح أن الحداثة - مفهومة على أنها سيرورة حضارية موضوعية – قد همشت الدين وقلصت حضوره في المجتمع، وزحزحته عن مواقعه السابقة بعد أن كان مرجعا وسلطة ووصاية. فالنقد الفلسفي والفكر العلمي أسهما في بلورة رؤية مادية للعالم تتضارب مع الصروح المعرفية القديمة للاهوت ومع غائياته، وبذلك فقدت المؤسسة الدينية مرتكزاتها المعرفية والإيديولوجية، ونشأت تحالفات جديدة بين العلم والعقلانية السياسية أسست للمجتمع المدني الحديث. إن الحداثة، بهذا المعنى، مثلت نهاية شكل من أشكال حضور الدين في التاريخ وهو حضوره المؤسسي، وقوضت اركانه المعرفية التقليدية التي استنفدت ما عندها. من هنا لا يمكن، برأينا، فهم الحداثة من دون العلمنة. العلمنة مفهومة على أنها: أولا، معالم معرفية جعلت العالم والمجتمع يستقلان بقوانينهما الموضوعية عن الغائيات الماورائية؛ وعلى أنها ثانيا سيرورة تاريخية موضوعية مثلت اختفاء المقدس من فضاء العمل التاريخي للمجتمعات الأوروبية الغربية. إن العلمنة، بالتالي، وجه من أوجه الأنسنة التي أتينا على ذكرها باعتبارها مبدأ الحداثة، ولم تكن مجرد خيار سياسي في فصل الدين عن الدولة قانونيا.
من المعروف أن هذه المرجعية الفلسفية والتاريخية لعمل المجتمعات الأوروبية قادت – بعد أن خبا ضوء الألوهة والتعالي – إلى العدمية، أي إلى فقدان الأساس النهائي للقيمة وإلى تلاشي المعنى الذي كانت تسنده الحكايات التأسيسية الكبرى في الماضي. لقد علمت الحداثة في صيغتها الأنوارية أن الخلاص أصبح تاريخيا وأفلت من الأبدية، أي أصبح يجيء من المستقبل الذي يَعدُ بـ " الصباحات التي تغني ". وقد كان، كما هو معروف، لتحول التاريخ إلى تراجيديا عمياء مليئة بالصخب والعنف، أن تراجع التفاؤل الفلسفي الأنواري وأن فقد التقدم معناه الإيجابي. وهذا ما كان في أساس الشك العميق بالمصير الإنساني وبمسيرة التاريخ، وكان كافيا للاعتقاد العام بأن ما يلفع العالم اليوم، فعلا، هو تلك العدمية التي فغرت فاها وكانت تتويجا لانسلاخ العالم من المقدس ولعطلة الآلهة التي أدرك نيتشه فداحتها قبل أن تكون عيدا للأزمنة الحديثة. إنها أزمة المعنى.
نعتقد، بالتالي، أن ما يجعل العالم الحديث والمعاصر - من زاوية ما - تلك "الأرض الخراب" هو هذه الهاوية الفادحة التي خلفها اختفاء التعالي والمرجعيات المقدسة التي كانت تضيء كهف العالم وتخلع المعنى على الأشياء وعلى الوجود الإنساني. لقد أصبح الإنسان مع الحداثة يقف على الهاوية، وأصبح يعاني من دوار المسافر الأبدي إلى مكامن المعنى في رحلة مدهشة ومضنية لا تنتهي. العقل الذي حل محل المقدس تلاشى تحت معاول النقد وتجربة المعرفة المعاصرة وفتوحاتها التفكيكية. التاريخ الذي حل محل الأبدية بوصفه أرضا تحبل بالتقدم وبانعتاق الإنسان وتحرره الشامل، يكشف عن وجهه اللاإنساني الأعمى وعن ثقوبه السوداء التي تبتلع مجرات التفاؤل التي ابدعها الإنسان. والإنسان بوصفه ذاتا أنطولوجية مؤسسة ومستقلة شكلت مبدأ الأزمنة الحديثة، نراه يتزحزح عن المركز وينهار معه تأنسن العالم. كل شيء يتفتت. إن الحداثة التي حررت نص الكينونة والعالم من القراءة الدينية، وأناطت بالعقل العلمي والفلسفي مهمة الكشف عن إشاراته ورموزه ومهمة ابتكاره، تعجز اليوم بمحمولها الحضاري العظيم عن فك شفرة اللحظة الراهنة التي تشهد انفجار اللامعقول وانبجاس وجه العماء الفاجع وغياب " الثابت الكوني " الذي نصبته خلفا للإله الغائب: كالذات أو التاريخ...إلخ. إنها أزمة المعنى تتهددنا من جديد. هذا ربما، من زاوية ما، ما " يبعث الآلهة من قبرها " في عهد ما بعد الحداثة. لقد فتح دمار العقل الباب واسعا أمام شطط التجارب المعاصرة في اكتناه الأقاصي وفي توسل سبل الدخول من جديد في علاقة هارمونية مع الوجود من باب السحر أو التصوف والتجارب الغنوصية. وتجلى هذا الأمر سوسيولوجيا وحضاريا في تغير دلالة الهوية لتصبح انكماشا بعد أن كانت انفتاحا، وهذا كله كاستجابة عامة للقلق المصاحب للمرحلة الحضارية الراهنة.
------
لقد كان على الفكر الديني واللاهوتي أن يتجدد تحت ضغط التاريخ المتزايد في الغرب الحديث، وتحت ضغط الحداثة الفكرية والعلمية الظافرة التي أعادت النظر في كل شيء وأسست للوجود الإنساني في أفق الوعد بالحرية وانتصار العقل والخروج من شرنقة الأبوية القروسطية، ما قلص من حضور الدين – شيئا فشيئا – في الفضاء السوسيو- تاريخي، وحرر مسألة المعنى من المؤسسة الدينية المهيمنة لتصبح مساءلة لكينونة الإنسان العميقة وهي متلبسة بالتاريخ بما هو البعد الذي يكشف عن مطلق يتحقق ويجيء. كان على اللاهوت، بالتالي، أن يخرج من إسار المنظومات الفلسفية – اللاهوتية التي كانت متجذرة في النظام المعرفي القروسطي تعتمد تصوراته وجهازه المفاهيمي والرمزي، ليصبح اللاهوت بعد ذلك احتضانا للكينونة وللزمنية والتاريخ يؤولها من خلال المنجز المعرفي الحديث والهرمينوطيقا الحديثة في الكشف عن الأبعاد الروحية للوجود الإنساني وعن الرمزانية الأنطولوجية العميقة للحكايات التأسيسية، متجاوزا الإسهام القديم في ذلك، ومنفتحا على قضايا الإنسان الراهنة وعلى احتجاجات الحداثة ومساءلاتها وقلقها. لقد أصبح الدين يبدو شيئا فشيئا - ومن زاوية نقدية – شكلا من أشكال البحث عن المعنى استنفد ذاته معرفيا وتاريخيا، وشكلا من أشكال تنظيم توزيع القوة في المجتمعات الأبوية. هذا يعني أن الدين أصبح يُعتبر، باختصار، إيديولوجية بطريركية لا تستطيع بشكلها العتيق الإسهام جديا، اليوم، في المناقشات المفتوحة حول القيمة وحول حقوق الإنسان والمواطن، أو حول الحقيقة والتاريخ، أو طرح مسألة المعنى من جديد في أفق التجديد الإبستيمولوجي المعرفي الذي شمل مختلف حقول المعرفة الإنسانية.

2- التجربة العربية – الإسلامية:
وماذا عن الوضع في العالم العربي – الإسلامي؟
من نافل القول أن نقرر أن العالم العربي – الإسلامي لم يعرف حداثة بالمعنى الجذري للكلمة كتلك التي عرفها الغرب الأوروبي المسيحي، وأتاحت له غزو العالم في العصر الحديث وتشكيل وجهه، وإنما تعرَّف عليها عند هذا الغربي المستعمر وشكلت بالنسبة له إشكالية مركزية منذ أكثر من قرنين من أجل التجديد الفكري والاجتماعي والسياسي على درب دخول العالم الحديث وامتلاك أبجدياته. وقد كان هذان بالطبع، من أقوى أسباب تمركز النقاش حول مكانة التراث وضرورة مواكبة إلحاحات العقل الحديث المتحرر – في مغامراته المعرفية – من هيمنة الماضي ومن الشرعة التي تستند إلى المقدس في الأخلاق والسياسة والاجتماع. هنا نلتقي، بالطبع، مع أولى أشكال الجرأة والوعي في الفكر العربي الحديث، ونلتقي أيضا مع أولى أشكال المقاومة ضد اختراقات الحداثة لسياج التقاليد التي أبدت قداسة وضع سوسيو – ثقافي ونظام معرفي وقيمي احتكرا تأويلا استاتيكيا لرأس المال الرمزي الإسلامي. هذا طبعا لا يتعلق بالإسلام بوصفه دينا أو فضاء لعيش تجربة التعالي واحتضان الكينونة في عمقها الميتافيزيقي، وإنما يتعلق بالصراع من أجل الهيمنة على الفضاء السوسيو- تاريخي بدعوى احتكار الحقيقة، وهو ما مثلته المؤسسة الدينية التقليدية والفئات التي رأت أن شمسها أذنت بالأفول أمام الحداثة الفكرية، وأمام الدعوات المتجددة لاعتماد مرجعيات جديدة لعمل المجتمع كالعلم والعقل واحتضان وجيب العصر ومغامراته.
لقد دفع العالم العربي – الإسلامي غاليا ثمن عطالته التاريخية التي دامت قرونا منذ انقطاعه عن حركيته الحضارية لأسباب عديدة، تاريخية وسياسية واقتصادية وسوسيولوجية، الأمر الذي جعل زمنه الثقافي يسقط في ألية الاجترار والركود، وأدى بجذوة العقل إلى أن تخبو وتقنع بإنتاج الشروح والهوامش والحواشي. إن تراجع العقل العربي – الإسلامي شكل ظاهرة تاريخية معقدة فعلا ونعتقد أنها لا ترتبط، بالطبع، بالإسلام باعتباره دينا كما يحلو للبعض أن يلاحظ (الفكر الاستشراقي مُمثلا برينان Renan ). ولكن الغرب الكولونيالي في العصر الحديث – كما هو معروف – تعرَّف على هذا الإسلام المُنهك تاريخيا والمنقطع عن تراثه الإنساني والغارق في زمن ثقافي راكد. هذا ما أسهم في صنع الصورة الاستشراقية النمطية المعهودة عن شرق إسلامي سحري حسي غذى طويلا المخيال الرومانطيقي الأوروبي.
------
إن الحديث عن " الإسلام " بالصورة الفضفاضة السائدة اليوم يشكل، بكل تأكيد، عائقا كبيرا أمام فهم ما يحدث، ويعيق النظر إلى الأشياء من الزاوية النقدية الضرورية لتفكيك التصورات الرائجة وأشكال الوعي السائدة حول الذات والآخر وحول التاريخ والراهن الحضاري. إن الوعي الإسلامي، اليوم، غارق كليا في مناخ التبجيل الذاتي والأسطرة وغياب الحس التاريخي. وإذا كان نيتشه قد انتقد بشدة الفلاسفة الميتافيزيقيين المثاليين المحجوبين عن إدراك الصيرورة بوصفها جوهر الوجود بقوله: " إن غياب الحس التاريخي هو الخطيئة الأصلية لكل الفلاسفة "( إنساني، إنساني جدا)، نستطيع أن نقرر على غراره أن غياب الحس التاريخي هو الخطيئة الأصلية أيضا لكل للفكر الإسلامي الرائج والمُسوَّق إعلاميا عبر خطاب هو أبعد ما يكون عن مكتسبات المعرفة النقدية والتاريخية المعاصرة، أعني تلك المعرفة التي اجتهدت – منذ مدة طويلة – في إنجاز برنامج ضخم لإبستيمولوجيا تاريخية تحرر العقل والنظر من التمويه والإسقاطات، أي من الفكر التبريري وأشكال الارتهان المختلفة للماضي المُعاد إنتاجه أسطوريا ضمن وعي خلاصي لا يستطيع السيطرة على قدره التاريخي. تشهد على هذا الأدبيات الكثيرة التي تملأ الساحة الثقافية العربية – الإسلامية اليوم. إنها أدبيات مازالت حبيسة النقاشات القروسطية، ولم تنفتح على منجزات العصر المعرفية في حقول العلوم الإنسانية ومساءلاتها، ولم تستوعب – إلى اليوم – ضرورة فتح إضبارة الظاهرة الدينية الإسلامية الراهنة على المساءلة الفلسفية والأنتروبولوجية من أجل وعي نقدي بها، بدل التلهي باعتبارها " صحوة " ندرك الآن بمرارة انحرافاتها وتجذرها في لحظة تاريخية شهدت انتكاس مشاريع الدولة الوطنية العربية.
------
يقول بيير بورديو (Bourdieu) في درسه الافتتاحي في الكوليج دو فرانس (نشر عام 1982): " لن نذهب إلى القول مع دوركهايم بأن "المجتمع هو الإله"، ولكن لنقل بأنه ربما لم يكن القدسي إلا وليد المجتمع "(درس حول الدرس – ترجمة عبد السلام بنعبد العالي. دراسات عربية – العدد 3 يناير 1986 ص 93). هنا يكمن جوهر الوعي العلمي المعاصر المتخلص كليا من إيحاءات المعرفة المتجذرة في مناخ الوعي الأسطوري. وهنا تجد المقاربة السوسيولوجية مرتكزها بوصفها معرفة موضوعية وضعية تدرك البعد الرمزي للوجود الإنساني، وتقارب الشرط الاجتماعي بما هو ميدان يسوده: " الصراع من أجل احتكار الفهم المشروع للميدان الاجتماعي " كما يضيف بورديو أيضا. لقد اجتهد العلم الاجتماعي المعاصر – منذ مدة طويلة – في تفكيك بنية التصورات والقوى التي تتحكم في المصائر الجماعية، وتكرس فهمها للميدان الاجتماعي وللصراع من أجل احتكار المعنى الذي يبرر الهيمنة. إننا نعتقد أن ما نشهده اليوم من عودة المقدس الديني وهيمنة الحساسية الدينية على قطاعات واسعة من الجماهير العربية يشكل، فعلا، الظاهرة الأولى التي تنتصب أمام المثقف العربي النقدي وتدعوه بإلحاح إلى تعرية كل أشكال التمويه، والالتزام بإرادة الفهم البعيدة عن التواطؤ مع سيادة اللامعقول الذي يشكل، اليوم، قوة جبارة لإنتاج خطاب اجتماعي جديد للهيمنة.
ولكننا نتساءل هنا: هل استطاع الفكر الإسلامي المعاصر أن يكسر أطر الإدراك القديمة من أجل التجديد المعرفي المفهومي وفهم واقعه أكثر؟ هل استطاع أن يستوعب – بشكل كاف – المُنجَز العلمي في حقل العلوم الإنسانية واختراقاته الإبستيمولوجية وإلحاحه النقدي من أجل الخروج من سياج الأسطرة، وتوسيع حدود المعقولية لتشمل كل أشكال الانفجارات التي يجابهنا بها واقع غير مُسيطر عليه؟ إن النضال التقليدي الذي بدأ في القرن التاسع عشر من أجل تقليص البعد الإيديولوجي في كل خطاب يُرَاد له أن يكون علميا، لم يجد بعدُ سندا له في الخطاب الإسلامي الرائج اليوم: أعني ذلك الخطاب الذي يجد محدداته الكبرى ومرتكزاته في الوعي اللاهوتي القروسطي وفي "رؤية العالم" التي تقوم على مخيال وحكاية تأسيسية ونزعة تبديعية تعيد إنتاج التصورات العتيقة عن العالم والإنسان والذات والآخر والتاريخ، وتكرس منظورها الخلاصي المانوي الذي يخفي جوهر الصراع القائم اليوم بأبعاده المختلفة. من هنا، فإن هذا الخطاب يقنع حقيقة الصراع السوسيو- سياسي في المجتمع ولا يدرك القاعدة السوسيو- ثقافية والأنتروبولوجية لحضور المقدس في الفضاء الاجتماعي – التاريخي.
أعود إلى بورديو ودرسه الافتتاحي. إن السوسيولوجيا في تجليها الطليعي كما يكشف عن ذلك هذا المفكر، تهتم بالكشف عن ذلك الصراع المحتدم "من أجل احتكار الفهم المشروع للميدان الاجتماعي". فما هو الفهم المشروع للواقع العربي – الإسلامي اليوم؟ ما هو الفهم الذي يفرض ذاته أدبيا وإعلاميا؟ هو، بالطبع، أشكال الوعي المنتصرة جماهيريا، والتي يعبر عنها الخطاب الإسلامي الرائج، أي الخطاب الذي يقرأ ما حدث – أقصد الظاهرة الإسلامية – على أنه "صحوة". هنا بالتحديد نلتقي بأولى أشكال التواطؤ مع الأوضاع وأكثرها ابتعادا عن الصرامة الإبستيمولوجية من أجل اختراق كثافة الواقع وتعقيده. وإننا لواجدون في ذلك التمييز - الذي يقيمه الباحثون اليوم – بين الحقيقة السوسيولوجية والحقيقة العلمية الموضوعية قاعدة للفهم الصحيح للأمور. فمن المعروف أن الحقائق السوسيولوجية الضخمة تملأ الفضاء السيميائي للمجتمعات العربية – الإسلامية، وهي حقائق باعتبارها قوة مادية ومعنوية تعبوية ومحرضة على الفعل، ولها وجودها البسيكولوجي الموضوعي عند القطاعات الواسعة من الجماهير الفاقدة للأمل، ولكنها لا توفر العُدة المعرفية النقدية الكافية لإدراكها من حيث هي نتاج لشروط تتجاوزها.
إن الفكر الإسلامي المعاصر لم ينتج شيئا ذا بال في مجال مساءلة الظاهرة الدينية لأنه – بكل بساطة – أحد تجلياتها البارزة، وهو يعيد إنتاج أساطيرها ويتجذر في شرطها التاريخي والإبستيمي المعرفي المعقد. إنه، بالتالي، فكر لم يتح له أن يقطع المسافة العقلية الضرورية ولا أن يعرف القطائع الإبستيمولوجية الحديثة من أجل اختراق سمك اللحظة التاريخية التي تشهد عودة المقدس الديني في صورته الاحتجاجية المعروفة، بوصفه مؤشرا على انتكاس حداثة عربية لم تنجح في إحداث النقلة المرجوة إلى فضاء سوسيو-سياسي ومدني وثقافي يضمن المواطنة والكرامة للإنسان العربي. يتجلى هذا، بالطبع، في هيمنة قوالب الفكر والحساسية القروسطية، وعدم قدرة هذا الفكر على أنسنة طروحاته خارج مسبقات الوعي اللاهوتي التقليدي، وعدم قدرته أيضا على الإسهام الجدي في النقاشات ذات التوجه الأنتروبولوجي حول أبعاد الوجود الإنساني الرمزية، وركونه إلى تبرير الفشل الحضاري وأسطرة الوعي واعتماد الخطاطة الجاهزة في وصف عالم حديث جارف بآلته التدميرية للمناخ السيميائي القروسطي في الحياة والفكر. ألم يوصف القرن العشرون بأنه "جاهلية" جديدة؟ ألا تختزل الصراعات وأكثر الظواهر تعقيدا، اليوم، إلى مجرد صراع ابدي بين "الهلال" و"الصليب" أو بين الطائفة الناجية والطائفة الهالكة؟ ولكننا نرى أننا ملزمون، اليوم، بملاحظة أن الأوضاع الحالية في عالمنا العربي – الإسلامي غير مشجعة بالمرة على انبثاق المثقف النقدي أو تدخله في الشأن العام نظرا لغياب الأطر الاجتماعية التي تحتضنه، إضافة إلى تواطؤ السلطة السياسية مع المد الأصولي في إطار لعبة الحفاظ على شرعية نخرتها تاريخية عاصفة.



#أحمد_دلباني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حول الهوية: أقنوم أزلي أم سمفونية لا تكتمل؟
- في نقد العقل الثوري العربي: فولتير أولا، أم قطع رأس الملك؟
- ألبير كامي بعد أكثر من نصف قرن: الأفق الفلسفي وتراجيديا الهو ...
- أدونيس ناقدا ثقافيا
- في الذكرى الثالثة لغيابه: محمود درويش عدميا
- حول مشروع البروفيسور الراحل محمد أركون: الفكر النقدي سبيلا إ ...
- ميتافيزيقا الجلاد - أدونيس منتقدا الرؤية الوحدانية
- فصل عن العرب سقط من فصول - كتاب الموتى-
- متى ينتهي نشيد البجعة؟
- الكتاب الأسود
- الشرعية السياسية والزمن الثقافي
- في الطوطمية السياسية وحضور الوصاية: الحقيقة والسياسة
- رسالة إلى مستبد عربي
- في مشكلة السلطة العربية واللاشعور السياسي الجمعي: خريف البطر ...
- عن الثورة العربية وأسئلة العقد الاجتماعي الجديد: قد يعود الب ...
- قداس السقوط
- احتفاءً بالكوجيتو العربي الجديد: - أنا أثور، إذن أنا موجود -
- المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد: التفكير بوصفه قطفا للثمرة ال ...


المزيد.....




- -كان سهران عندي-.. نجوى كرم تثير الجدل بـ-رؤيتها- المسيح 13 ...
- موعد وقيمة زكاة الفطر لعام 2024 وفقًا لتصريحات دار الإفتاء ا ...
- أسئلة عن الدين اليهودي ودعم إسرائيل في اختبار الجنسية الألما ...
- الأحزاب الدينية تهدد بالانسحاب من ائتلاف نتنياهو بسبب قانون ...
- 45 ألف فلسطيني يؤدون صلاتي العشاء والتراويح في المسجد الأقصى ...
- استعدادا لذبحها أمام الأقصى.. ما هي قصة ظهور البقرة الحمراء ...
- -ارجعوا إلى المسيحية-! بعد تراكم الغرامات.. ترامب يدعو أنصار ...
- 45 ألفا يؤدون صلاتي العشاء والتراويح في المسجد الأقصى
- الأتراك يشدون الرحال إلى المسجد الأقصى في رمضان
- الشريعة والحياة في رمضان- مفهوم الأمة.. عناصر القوة وأدوات ا ...


المزيد.....

- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود
- فصول من فصلات التاريخ : الدول العلمانية والدين والإرهاب. / يوسف هشام محمد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أحمد دلباني - الدين والحداثة: في ظاهرة الأصولية وعودة المقدس الديني