أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أحمد دلباني - الشرعية السياسية والزمن الثقافي















المزيد.....


الشرعية السياسية والزمن الثقافي


أحمد دلباني

الحوار المتمدن-العدد: 3315 - 2011 / 3 / 24 - 20:57
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


1

تمثل الشرعيَّة ُ ذلك النسغ الذي يُغذي شجرة السلطةِ السياسيَّة ويمنحُ وُجودَها قبولا ومعقوليَّة ً لدى الوعي العام. فقد يُصيبُ اليباسُ شجرة السلطة ويُوقعُها في أزمةِ شرعيَّةٍ تعصفُ بها وتفقدُها الحياة والقدرة على الاستمرار. إنها مسألة ٌ ثقافيَّة ٌ بالمعنى الشامل؛ أعني أنها تتجاوزُ الإطارَ السياسيَّ الضيق وتتعلَّقُ بتلك القوة الناعمة وسطوةِ المعنى الذي يمثلُ مرجعيَّة الوجود الاجتماعيّ والسياسيّ في حقبةٍ تاريخيةٍ مُحَدَّدة. الشرعيَّة مرجعية يتأسَّسُ عليها الوُجودُ المعقول ويتأسَّسُ عليها ما هو مقبولٌ بوصفهِ حقا. هذا ما يجعلُ منها مدارَ صِرَاع لا يهدأ في عمليَّةِ اقتناص السلطة. وإذا كانت السلطة السياسيَّة الفعليَّة احتكارًا للقوة المادية في الفضاءِ السوسيو- سياسي، فإنهُ لا يُمكنها الاستمرارُ ولا اكتسابُ الهيبةِ والاحترام بدون القوة الرَّمزية التي تمثلها الشرعيَّة. رُبَّما أتيحَ للشاعر الألمانيِّ العظيم هُولدرلين أن يقولَ إن الإنسانَ يعيشُ على هذه الأرض شِعريًّا. ونحنُ نقولُ، هنا، إن الإنسانَ لا يعيشُ – على كل المُستويات – إلا رمزيا. الوجُودُ الرمزيُّ يعني مدَّ جُسور الألفةِ إلى العالم الصَّامت وجعلَ الكون بيتا. ولكن قد يسألُ سائلٌ: ما العلاقة ُ بين الشرعيّة السياسيّةِ التي نتحدَّثُ عنها والوُجودِ الرمزيِّ؟ ونحنُ نجيبُ بأنَّ الشرعيّة لا تنتمي، فلسفيّا، إلى دائرة الوُجود أو الأنطولوجيا وإنما إلى دائرة القيم؛ والقيمُ شأنٌ رمزي بوصفها ابتكارًا لمصابيح المعنى في ليل الأزمنة وخلعًا لجبَّة الضوء على جسدِ العالم المُعتِم. ورُبما كان مُنطلقنا، هُنا، هُو اعتبار الإنسان " ذلك الكائن الذي بوساطتهِ تأتي القيمُ إلى العالم " كما كان يُعبِّر سارتر. فالشرعيّة قيمة ٌ تخلعُ المعنى على الوُجود والأفعال - سياسيّة ً كانت أو غير سياسيّة. وإذا كان الإنسانُ فعلا " حيوانا سياسيًّا " كما كان يقولُ أرسطو، فإنهُ لا يُمكنهُ أن يظلَّ كذلك دون أن يكونَ حيوانا رمزيًّا أيضا: تقفُ سياستهُ على أرضية المعنى الذي يهبُ الوجودَ قيمة ً وجدارة.

إن الشرعيَّة، بهذا المعنى، تتموضعُ ضمن دائرة الوُجود الرمزيّ للإنسان، وتتأسَّسُ على اعتباراتٍ ثقافية وعاطفيَّة وأنتروبولوجيَّة مُعقدة. وهي، فوق ذلك، تخفّفُ من وطأة القوة العمياء في الصِّراع الاجتماعي والسياسي بين البشر من خلال إسباغ المعقولية على نظام الأشياءِ في العالم الاجتماعيّ. إنها فنُّ استجداءِ القبول من طرفِ السلطة. وأكادُ أقولُ، هنا، إن الشرعيَّة – في كل مُجتمع - تعكسُ الوجهَ الحقيقيَّ لطبيعة الثقافة السَّائدة من خلال وجهها الرمزيِّ ومن خلال شبكةِ العلاقاتِ السَّائدة مع العالم والغيب معًا. من هنا تاريخيتها وارتباطها بأشكال الوعي في تطوُّرها. فالشرعيَّة نتاجٌ ثقافيٌّ يرتبط أوثقَ ارتباطٍ بآلياتِ الثقافة في حمايةِ نظام المعنى وفي إعادةِ إنتاجهِ. إنها مُقاوَمة ُ سفينةِ الوُجود الإنسانيّ الهشة لأمواج التفاهةِ الفادحة التي يُجابهُنا بها العالم في صيرُوراتِه ومآزقهِ. هذا، رُبَّما، ما يجعلُ منها - عند الكثير من الدَّارسين – عمليَّة تنضحُ برائحة الإيديولوجيَّة التي تبقى مُبرِّرًا لهيمنةِ الفئاتِ الأكثر سطوة ً في المُجتمع.

تتميَّزُ الشرعيَّة بوصفها قوة المعقوليَّة المُقنتصَة من أجل الهيمنة والسَّيطرة. هذا ما يُبيِّنُ ضرورَتها لكل سُلطةٍ في التاريخ. فهي ما يمنحُ المُبرِّرَ وما يقنِّعُ إرادة القوة من خلال فرض قراءةٍ للعالم وفرض تصوُّر للحق يربطهُ أنطولوجيًّا بالعلوّ أو بالحقيقة الأسمى أو بالعدالة. فالشرعيَّة ليست سلاحًا وإنما هي ما يُصادِقُ على استعمال السِّلاح. ليست قوة ً مادية وإنما هي ما يجعلُ من القوة الماديَّة وسيلة ً لحماية المعنى السَّائد من التشققاتِ والتصدُّع. الشرعيَّة أداة ٌ سلطويَّة ٌ معقدة، وهي لا ترتبط بإرادة فردٍ أو مجموعة وإنما بآلياتِ الثقافة السَّائدة في إعادة إنتاج نفسها وحماية عالمها الرمزيِّ من السُّقوط في السَّديم والفوضى.

ترتبط الشرعيَّة السياسيَّة بالزمن الثقافيِّ الذي يعني مُجملَ المُحدِّداتِ العامة التي تمنحُ الثقافة تمظهُراتِها ووجهَها الأبرز بوصفها طريقة ً في سُكنى العالم. هذا ما يتجلَّى بصورةٍ واضحةٍ من خلال تحوُّلاتها الكبرى التي عرَفتها: من زمن الثقافاتِ اللوغوسيَّة المُرتبطة بالمرجعية اللاهوتيَّة والتعالي إلى زمن الثقافة الحديثة التي انسلخت عن المُقدَّس الدينيّ التقليديِّ وأسبغت على الوُجود معنى إنسانيًّا. هكذا انتقلت الشرعيَّة من المرجعيَّة الرمزية إلى المرجعيَّة الشعبية والفضاءِ الديمقراطيِّ الحديث القائم على السيادة الشعبية ودولة القانون. كان ذلك تحوُّلا ثقافيا وحضاريا كبيرًا نقل البشريَّة من سلطة الماضي التدشينيِّ إلى سُلطة الإرادة العامة، ومن سلطة الزمن الملحميِّ المُرتبط بالولاداتِ المُقدَّسة إلى سلطة التعاقد الاجتماعيّ. هذا الكسرُ الكبيرُ جسَّدتهُ الحداثة الظافرة في الغرب منذ القرن السَّابع عشر. هذا يُبيّنُ أن الشرعيَّة غيرت من مواقعها وآلياتها ومرجعياتها. فبعد أن كانت طوطميَّة مُرتبطة ً بالماضي وباللحظاتِ التدشينيَّة الكبرى وبسلطة الآباء، أصبحت تجدُ مرجعيتها في الحاضر المُتخلص من كلّ أثر للمُقدَّس، وهذا – كما نعلمُ - منذ احتلَّ الإنسانُ مركز دائرةِ القيم.
2

ما نمط الشرعيَّةِ السائدُ في عالمنا العربيّ؟ هل تغيَّر في العُمق منذ أسَّسنا وُجودنا على ملاحم ولادة الأمة الواحدة ومنذ شرعنا نكتبُ تاريخنا انطلاقا من اللحظاتِ التدشينيَّة الكبرى؟ هل عرفنا ميلادَ زمن ثقافيّ مُغاير ومُختلفٍ يتيحُ الانتقالَ إلى نظام آخر للمعنى وللشرعيَّة السياسيَّة؟ أم ما زالت تتناسلُ في حياتنا الأزمنة ُ الثقافية القديمة ُ بآليَّاتها في إضفاءِ المعنى والشرعية على الأشياء؟ هل دخلنا عصرَ الشرعيَّة السياسيَّة الشعبية وأفقَ التعبير الديمقراطيّ أم ما زلنا نعيدُ إنتاجَ الشرعيّة الرمزية المُستندة إلى أساطير البداياتِ المُقدّسة وملاحم الآباء المُؤسّسين؟

من الواضح والجليِّ أننا لم ندخل بعدُ عصرَ الشرعيَّة السياسيَّة الديمقراطيَّة بمعناها الشامل. فلم يولد عندنا الإنسانُ بوصفهِ مرجعًا للقيم. ما زال الإنسانُ عندنا مَسحُوقا ومُدجَّنا في نظام الوصايةِ والقمع والرَّقابة والإخضاع في الدولة الأمنية. لم نحقق، بَعدُ، شرط الدُّخول في فضاءِ الزمن الثقافيّ الحديث القائم على مرجعياتٍ قطعت مع التعالي التقليديِّ ومع هيمنة المُقدَّس على المَجال السوسيو- سياسيّ. رُبما تعَلمنت حياتنا سياسيًّا ولكنها لم تُحدث قطيعتها الجذريّة مع مُناخ الزمن الثقافيّ التقليديّ الذي ظل ينبوعًا يرفدُ المَجرى العام لأداءِ النظام العربيّ القمعيّ ويمنحهُ شرعيّة يفتقدُها. فلقد تأسَّست الدولة العربية – منذ عقودٍ - على الشرعية الثورية أوعلى شخصيّة الزعيم المُلهَم، وبقيت بذلك حبيسة َ الزمن الثقافيّ الأسطوريّ الذي يربط الشرعيّة بالبداياتِ المُقدَّسة وبالبُطولة الفرديّة. إنها الشرعيّة التي تنهلُ من المِخيال ومن الزمن النبويّ. هذا ما يُبيّنُ كيف أن نظامَ الشرعيّة السياسيّة العربيّة بقيَ يتحصَّنُ بالمرجعية العاطفية / الأسطورية من أجل تجاوُز مآزقهِ الخاصَّة كلما جابهَ التحدياتِ والأسئلة الجديدة.

هذا كلهُ يعني أننا ما زلنا نُواجهُ أزمة الشرعيّة السياسيّة في عُمقها بوصفها أزمة ً ثقافية بالمعنى الواسع. فالشرعيَّة الديمقراطيّة تستندُ إلى زمن ثقافيّ حديثٍ يعرفُ ترسُّخَ قيم الأنسنة والعلمنة، والبُعدَ عن سلطة المِخيال الجمعيّ المُرتبط بإعادةِ تنشيط المُقدَّس. بينما ما زالت الشرعيّة عندنا تنهلُ من اللاشعُور ومن المكبوتِ التاريخيّ والحكاياتِ التأسيسيّة القائمة على الاعتقادِ بالبعث والخلاص وبعودةِ المُخلّص الكبرى. وفي كلمةٍ: ما زلنا نعيشُ في كنفِ زمن ملحميّ / سحريّ يُعيقُ نُموَّ دولة المُؤسّساتِ والقانون. إنهُ زمنُ الأنبياء والأبطال لا زمن المسؤولين السياسيّين الذين يخضعونَ للرقابة والمُساءلة. من هُنا اعتقادُنا أن الزمن الثقافيَّ العربيّ لم يتغيّر في العُمق وإنما عرف اهتزازاتٍ أعادت ترتيبَ بعض إحداثياتهِ بما يتفقُ مع رُوح العصر الحديث. والدَّليلُ هُو مسألة الشرعيّة السياسيّة التي بقيت أسيرة الزمن الأسطوريّ حتى وإن حاولت خداعنا بأقنعتها الجديدة. ولا داعيَ، هُنا، للتذكير بأن السلطة في تاريخنا الإسلاميّ كلّهِ لم تكن سلطة قانون وإنما سلطة أمر واقع واغتصابٍ للشرعية باسم المُقدّس الدينيّ وتأويل النص / المرجع الذي ظل مُتنازعًا عليه باعتبارهِ مصدر الشرعية العليا. كان الكلُّ يدّعي الانتماءَ إلى المرجعيّة المُقدّسة ذاتها من أجل خلع المشروعيّة على إرادة القوة وسطوة الفعل السياسيّ القائم على القهر وأشكال العصبيّات المُختلفة.

هل انقلبَ الزعيمُ العربيّ المُعاصرُ على هذا الأمر وأسَّسَ لشرعيّةٍ جديدة؟ هل خرجَ عن مُحدّدات الشرعية القديمةِ التي استندت إلى سلطة المرجعيّة ولحظة الحكاية التأسيسيّة؟ ألم يكن الزعيمُ العربيُّ مُخلّصًا جديدًا ظل يعِدُنا بأن يملأ الأرض عدلا بعد أن مُلِئت جُورًا وطغيانا؟ ألم يُدشّن بداية حكايةٍ تأسيسيّةٍ جديدة ترجعُ إلى لحظة الشرعيّة الثوريّة التي تفننت في قمع الإنسان العربيّ وفي تدجينهِ، بعدَ أن ظلت تعِدُ بتحريره من الاستعمار والاغتراب في آلة الزمن الكولونياليّ، وظلت تعِدُهُ ببناءِ دولة المُواطنة والمناعة السياسيّة والثقافيّة؟ ألا نرى في هذا استمرارًا لبنية الشرعيّة القديمة في لبُوس إيديولوجيّ / دُنيويّ؟ ألا نرى في هذا ترسيخا للواحدية القديمةِ ولسطوة الحاكميّة باسم الله في شكل الأحاديّة الحزبيّة المُعاصرة؟ ألا نرى في حضور فكرة الزعامة وصاية ً على الشعب وانخراطا في مُناخ الوعي الأسطوريّ / الخلاصيّ المُرتبط بفكرة المهدي المُنتظر؟ لقد ظلت الشرعيّة الثورية العربية والزعامة التاريخيّة – من مصر إلى الجزائر مُرورًا بليبيا والعراق - عائقين كبيرين أمامَ تحديث الحياة السياسيّة العربية وتخليصها من دوام استمرار البنية القمعيّة القديمة. ولكن ما المعنى الأنتروبولوجيُّ العميقُ لذلك؟ لماذا تمتعت الديكتاتوريَّات العربيّة بنوع من الشرعيّة العاطفيّة عند الجماهير رغم طابع الاستبداد والأحاديّة والقمع الذي لازمهَا؟ رُبّما لا نجدُ لذلك تفسيرًا إلا في ما يدعوهُ الباحثُ الفرنسيُّ مارسيل غوشيه " دَيْن المعنى ". كأنَّ الزعيمَ العربيَّ – مثل عبد الناصر - كان التجسيدَ الأمثل لمعنى يعلو بالحياة العربيّة ويُرمّمُ جراحَها التاريخيّة ويُنيط بها مهمّة ً ورسالة ً تاريخية تعيدُ لها الاعتبار والقيمة. كأنَّ التعلق بالزعيم العربيِّ، بالتالي، كان نوعًا من التماهي العاشق مع البطولةِ الغائبة عن تاريخنا منذ قرون.

3

في دراسةٍ شهيرةٍ كتبَها ميشال فوكو بعُنوان: " نحو نقدٍ للعقل السياسيّ "، استوقفني أمرٌ أعتقدُ أنهُ يمسُّ من قريبٍ العقلَ السياسيَّ الذي ظلَّ شغالا في تاريخنا. لقد توقفَ الفيلسوف الفرنسيّ، بصورةٍ خاصَّةٍ، عند مُحاولة نقد العقل السياسيِّ الغربيّ، وهذا من خلال إبراز بنيتهِ العميقة بصورةٍ حفريَّةٍ تكشفُ عن دوام سيادةِ الفكرة العبرانيّة القديمة حول العلاقة بين الرَّاعي والقطيع، وتميط اللثامَ عن امتداداتها في العقلانية السياسيَّة المُتجليّة في الدولة الحديثة. وقد رأى فوكو في ذلك مدعاة ً للهجوم على المعقوليّة السياسيّة الغربيَّة في جذورها التي أسَّست لمجتمع يقومُ على المُراقبة الفرديّة والرّعاية الأبوية وعلى الشموليّة، وهي نفسُ الصّفات التي ميَّزت الإله الرَّاعي والملك الرَّاعي في التراث الشرقيّ القديم. ولكن تجبُ الإشارة إلى أن فوكو – بنوع من المركزيَّة الغربيّة – أرادَ أن يُنبّهَ إلى أنَّ التراثَ اليونانيّ / الرومانيّ لم يعرف هذا الأمر على الشاكلةِ التي عرفها التراث العبراني السَّامي القديم والتي انتقلت، عبر المسيحيّة، إلى العقل السياسيِّ الحديث. ورُبّما أراد، بالتالي، أن يُخلّصَ العقل السياسيَّ الغربيَّ من أثر الشرق الذي ظل يُعتبرُ – في المخيال الغربيّ - ينبوعًا لما سُمّي " الاستبداد الشرقيّ ". ولكن هل اختلف الأمرُ عندنا في الماضي وهل يختلفُ اليوم؟ ألم تكن الرَّابطة السياسيّة بين الحاكم والمحكوم في تاريخنا تنهلُ من هذا المُتخيَّل القائم على اعتبار الحاكم راعيا والمحكُومين قطيعًا من الغنم؟ ألم تكن السياسة وصاية ً وفنا في إخضاع البشر وترويضهم؟ ألم يكتب ابن تيمية مُؤلفهُ الشهير في السياسة تحت عنوان: " السياسة الشرعيّة في إصلاح الرّاعي والرّعية "؟ وإذا كان فوكو في دراستهِ المُشار إليها يتحدّثُ، بصورةٍ نقديّةٍ، عن العقل السياسيّ في بُلدان حققت الكثير على مُستوى الشرعيّة الشعبية والحقوق الإنسانية والحريات الفردية والجماعيّة والمُواطنة – فماذا نقولُ نحن في عقلنا السياسيِّ الذي ما زالَ مُتجذرًا في نظام الشرعيّة القائم على رمزانيّة الكاريزما المُلهَمة والحكايات التدشينيّة الكبرى؟ ماذا نقولُ في المُمارسة السياسيّة العربيّة التي ظلت غريبة ً تمامًا عن الفكر الديمقراطيِّ، وظلت تعيدُ إنتاجَ زمن الواحديّة والوصاية الرَّعوية على قطيع البشر الذين لم يُتح لهم أبدًا أن يكونوا مُواطنين أو مصدرًا للشرعيّة السياسيّة؟ ألا يُعتبرُ هذا الأمرُ بذاتهِ كافيا من أجل العمل على نقد العقل السياسيِّ العربيّ بصورةٍ جذريةٍ تفضحُ بنيتهُ القمعيّة وتكشفُ عن تناسُل المُستبدّ القديم في الزعيم المُعاصر الذي أحكم القبضة على الرّعية في الدولة البوليسيَّة؟ هذا هُو الزمنُ الثقافيُّ الذي رأينا أنهُ لم يتغيّر في العمق وظلَّ يُؤسّسُ للشرعيّة انطلاقا من مخيال وفرهُ الزمنُ الملحميّ / الأسطوريّ.

قد تكونُ مُحاولة الأستاذ عابد الجابري في مُؤلَّفه الشهير: " العقلُ السياسيُّ العربيّ " مُهمَّة ً نسبيا – وقد رجعَ هُو نفسهُ إلى دراسةِ فوكو المذكورة -؛ إلا أن الأستاذ الجابري لم يذهب بعيدًا في نقدِ الجذور الدينيّة والأنتروبولوجيّة العميقة لتجلياتِ العقل السياسيِّ العربيِّ ومُمارساتهِ الفعليّة؛ وبقيَ فكرهُ توفيقيًّا وتصالحيًّا لا يرى تعارُضا بين الأصُول الدينيّة الإسلاميّة والفكر الديمقراطيّ الحديث الذي يدعُو إليه. ولكنَّ المُشكلة، في رأينا، لا تكمنُ في الكشف عن مُحدّدات العقل السياسيِّ العربيّ وتجلياته، بُغية الإشارة إلى أنها لا تُمثلُ الأصولَ الدينية الصافية التي لا تتعارضُ مع واقع الفكر السياسيّ الديمقراطيّ ولا معَ مؤسّسات الدولة الديمقراطيّة المدنيّة الحديثة. إذ إنَّ في هذا نوعًا من السُّقوط في اللاتاريخيَّة، ونوعًا من النزعة اللاهُوتيّة التي تعزلُ الدِّين عن مُمارساتهِ وعن تجذرهِ في لحظته وتعتبرهُ مُفارقا للتاريخ الذي يبقى مهدًا للمعنى والقيم كما تعلمنا الإبستيمولوجيا الحديثة. إن الأستاذ الجابري – وهُو يرى في الشورى، مثلا، أصلا يُمكنُ أن يرفدَ الفكر الديمقراطيَّ الحديث - لا يطرحُ الأسئلة التالية: هل الشورى الإسلاميّة آلية سياسيّة ديمقراطية؟ هل الشورى تمثلُ سيادة الشعب أم سيادة الطائفة المُؤمنة؟ هل الشورى انتخابٌ حرٌّ للحاكم أم هي مُجرَّد رأي لأهل الحل والعقد في شؤون الحُكم والخلافة؟ هل يمكنُ أن تكونَ الدولة الدينيّة دولة ً ديمقراطيّة بمُجرَّدِ اعتمادها الشورى؟ وهل يُمكنُ أن تقومَ دولة ٌ عربية مدنيّة ٌ حديثة على أصول دينية؟ ثم ما معنى البحث في التراثِ السياسيِّ الإسلاميّ عمَّا لا يتعارضُ مع هواجسنا الديمقراطيّة الحالية إذا كانت هذه الهواجسُ كونيّة الطابع وإذا كانت إرثا إنسانيا كما يقولُ الجابري؟ هل الحداثة السياسيّة تبحثُ عن شرعيتها – هي الأخرى – في تحدُّرها من أرُومة الماضي أم في راهنيَّتها وانخراطها في الإجابة عن مُشكلات الإنسان المعاصر؟ يبدُو أن مدارَ فكر الأستاذ الجابري التصالُحيّ مع الماضي ومع النصّ الدينيِّ المُقدَّس يتخذ – في عُمومه - من فكرة التأصيل أداة ً كبرى للتبرير لا للتجاوز والقطع مع البنية الماضويّة في التفكير. فهل علينا التذكيرُ دائما أنَّ الحداثة ليست بحثا عن وُجودٍ شرعيّ يُصادقُ عليه الماضي؟ هل علينا التذكيرُ أن الديمقراطيَّة قطيعة ٌ سياسيّة وثقافيّة ومعرفيّة دشنت مَرجعية الذات كردّ على مرجعيات الوصاية على الإنسان وعلى توقهِ الدائم إلى ابتكار وُجوده في ألق الحرية؟




4

إنَّ ما أتينا على ذكره حولَ دوام هيمنةِ الزمن الثقافيِّ المرجعيّ / الأسطوريّ وهيمنة امتداداتهِ السياسيَّة - في شكل بحثٍ عن الشرعيّة في لحظةٍ تأسيسيّة وفي حضور قائدٍ مُخلّص – لم يكن ليبقى بمعزل عن التصدُّعات وأشكال المُراجعة الاحتجاجيَّة رغم هيمنة النظام الثقافيّ الرمزي / التقديسيِّ على الفضاءِ الاجتماعي العربي. لقد عرفت هذه الشرعيّة المتآكلة بداية خريفها منذ انتفاضةِ الشبابِ الجزائريِّ في تشرين الأول ( أكتوبر) 1988. هكذا بدأت الشرعيّة الثوريّة تفقدُ وهجَها، شيئا فشيئا، لصالح تنامي الوعي بضرُورةِ دَمقرطةِ الحياةِ السياسيّة ومُحاربة الاحتكار الماديّ والرمزيّ الذي ميّز نظام الحكم منذ استقلال البلاد بداية الستينيات. بدأ الزعيمُ التاريخيّ ينسحبُ من المشهد ليحُلَّ محلهُ رئيسُ الحزب الباحث عن الشرعيّة من خلال الاقتراع العام. ورغم انهيار مشروعيّة " دَيْن المعنى " منذ عشرياتٍ في العالم العربيِّ، ورغم فشل الدولة الوطنيّة التاريخيِّ - في التحديث وفي التنمية وتحقيق دولة المُواطنة -، فإنَّ الأنظمة الفاسدة بقيت صامدة ً بفضل نظامها الأمنيّ وأجهزتها القمعيّة، وبفضل تحالفاتِها مع الخارج البراغماتيِّ المُهَرول وراءَ مصالحِه النفطيّة واستثماراتِه في بلداننا التي غرقت في ثقافة الاستهلاك والتبعيّة.

فهل نستطيعُ – مع ذلك - أن نتحدَّثَ اليوم عن الشرعيّة في العالم العربيّ؟ هل نستطيعُ أن نجدَ مُبرّرًا وجيهًا لبقاءِ الأنظمة العربيّة واستمرار هيمنتها؟ لقد تهاوت شرعيّة الزعيم الرمزية التي ارتبطت بزمن الملاحم الحديثة والآمال الكبرى وليدة الثورات وحُروبِ التحرير؛ وتهاوت شرعيَّة النظام السياسيّ الذي لم يحقق التنمية ولا الاستقلال الشامل، ولم يُحقق العدالة ولم يحترم حقوق الإنسان. إن مكرَ التاريخ أجهزَ على كل مُحاولات الدولة العربية في ترميم الشرعيّة المُتصدِّعة؛ فكانَ أن رأيناها تهرَعُ، أحيانا، إلى شرعيّة المُقدَّس من جديدٍ وتعقدُ معهُ تحالفاتٍ تكتيكيّة خائبة قد تجعلها تتماسكُ قبل أن يحلَّ يومُ دينونتِها الذي بدأت بَوادرهُ وتباشيرهُ تلوحُ مع الثورات العربية المُتوالية.

لقد حانت ساعة ُ التغيير في العالم العربيِّ، وحانت ساعة ُ خلخلةِ نظام الشرعيّة السياسيّة الذي بدأ يهجرُ الزمنَ الثقافيَّ القديم. لقد حانت ساعة ُ ميلاد الشرعيّة الشعبيّة على أنقاض الشرعيّات التي ظلت تنهلُ من زمن الوعي الأسطوريّ وزمن الملاحم المُرتبطة بالعهُود التدشينيّة ومغامراتِ البطل التي كلفتنا كثيرًا. وإذا كانت الحداثة، فعلا، تمثلُ في عُمومها " خيبة العالم " كما يُعبّرُ ماكس فيبر: أي زمنا ثقافيا تخلَّصَ من هيمنة رؤية العالم السحرية، فإننا بدأنا ندخلُ هذا العهدَ وهذا الزمن الثقافيّ بالثورة على أيقونات الزعامةِ المُنتصبة في مفازةِ حياتنا كأوثان فقدت صلاحيَّة التقرُّب بها زلفى إلى آلهةِ الخلاص من مآزقنا التاريخية. لقد وُلدت الآمالُ من جديدٍ بإمكان انبثاق معقوليّة الشرعيّة الشعبية بيننا: أعني تلك المعقوليَّة التي لم نعرفها في تاريخنا كلِّه وهُو يُحرَمُ من شمس الأنسنة تحتَ ظل شجرةِ الزمن الثقافيِّ القديم الآسِن.

هذا ما أردنا أن نقولَ: إنَّ مُشكلة الشرعيّة ليست مُشكلة ً سياسيّة فحسب؛ وإنما هي، بالأساس، مُشكلة ٌ ثقافية بالمعنى الواسع. إنها مُشكلة البنية الذهنية التي لم تلج، بَعدُ، فضاءَ الأنسنة والعلمنة وبقيت تسبحُ في مُناخ التقديس والوعي السّحريِّ الخلاصيّ للعالم. لن نكونَ اليوم – بوصفنا عربًا - في مُستوى الشعوبِ الحديثة الحُرَّة دونَ خلخلة نظام الشرعيّة القديم والخرُوج من زمنهِ الرَّاكد. لن نعرفَ انعتاقا من الوصايةِ التي جسَّدها نظامُ الحكم العربيِّ الأحاديّ دون الانعتاق من أساسِها الثقافيِّ والعقليّ / النفسيّ الذي ظلَّ يرفدُ المخيالَ الشعبيَّ ويُريهِ السِّياسة شأنا إنقاذيا. لن نعرفَ تقدُّما إلا بزحزحة الشرعيّة السياسيّة إلى دائرتها الإنسانيّة والشعبية بوصفها مرجعا للسِّيادة في كنف الحُرية والمُساواة. فليست السياسة ُ بَرَكة ً عُليا أو قدرًا رحيمًا يهَبُ القطيعَ راعيا بصيرًا، وإنما هي الإنسانُ مُتطلِعًا – تحت السّماء الفارغة - إلى العدالة والكرامةِ؛ وهي الإنسانُ مُتحقِقا في مُجتمع ناضج يحترمُ هُويَّتهُ بوصفهِ كائنا حُرًّا. لقد عانينا طويلا من زمن ثقافيّ أسطوريّ ظل فيه السياسيُّ قائدًا وزعيما مُلهَما لا مُكلفا باسم الشعب من أجل خدمتهِ. لقد عانينا من أهواءِ كاليغولا العربيِّ الذي لم يعمل يومًا في سبيل إرساءِ قواعد دولة المُؤسّسات والقانون المُعبِّر عن الإرادة العامة. وفي كلمةٍ: لقد عانينا من بقاء الحداثة السياسيّة واقفة ً أمام بابِ بيتِنا العتيق ولا تجدُ تقاليدَ الضيافة العربيّة في انتظارها.



#أحمد_دلباني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في الطوطمية السياسية وحضور الوصاية: الحقيقة والسياسة
- رسالة إلى مستبد عربي
- في مشكلة السلطة العربية واللاشعور السياسي الجمعي: خريف البطر ...
- عن الثورة العربية وأسئلة العقد الاجتماعي الجديد: قد يعود الب ...
- قداس السقوط
- احتفاءً بالكوجيتو العربي الجديد: - أنا أثور، إذن أنا موجود -
- المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد: التفكير بوصفه قطفا للثمرة ال ...


المزيد.....




- هل قررت قطر إغلاق مكتب حماس في الدوحة؟ المتحدث باسم الخارجية ...
- لبنان - 49 عاما بعد اندلاع الحرب الأهلية: هل من سلم أهلي في ...
- القضاء الفرنسي يستدعي مجموعة من النواب الداعمين لفلسطين بتهم ...
- رئيسي من باكستان: إذا هاجمت إسرائيل أراضينا فلن يتبقى منها ش ...
- -تهجرت عام 1948، ولن أتهجر مرة أخرى-
- بعد سلسلة من الزلازل.. استمرار عمليات إزالة الأنقاض في تايوا ...
- الجيش الإسرائيلي ينفي ادعاءات بدفن جثث فلسطينيين في غزة
- علييف: باكو ويريفان أقرب من أي وقت مضى إلى اتفاق السلام
- -تجارة باسم الدين-.. حقوقيات مغربيات ينتقدن تطبيق -الزواج ال ...
- لأول مرة.. الجيش الروسي يدمر نظام صواريخ مضادة للطائرات MIM- ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أحمد دلباني - الشرعية السياسية والزمن الثقافي