أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نبيل جديد - استمرار الهروب_قصة















المزيد.....

استمرار الهروب_قصة


نبيل جديد

الحوار المتمدن-العدد: 3791 - 2012 / 7 / 17 - 00:02
المحور: الادب والفن
    


.... عندما تأكد علماء اللغة و الاجتماع و التاريخ و الآثار ، أن عمر الشيخ سعيد يتجاوز الأربعة آلاف عام ، لم يستطع أيا منهم المغامرة و إبلاغ الصحافة أو وسائل الإعلام شيئا ، لأن ذلك يعني وضع مستقبل المصرح على كف عفريت ؛ لذا أصروا بالإجماع : استكمال فحوصا جسدية للشيخ ، تتجاوز الإمكانيات المتاحة في القرية ؛ فتم البدء بإجراء تحضيرات غاية في السرية لنقله إلى المدينة ، بالتوازي مع إجراءات إقناع الشيخ بالانتقال الإرادي ، لكن مقدار الأخطار التي أحس بها من الاستجوابات المتتالية السابقة ، والوجوه الغريبة التي تتصنع البسمة ، جعلته يعلن : عدم رغبته بالسفر ؛ فوضعت هذه الرغبة موضع التقديس من أهل القرية جميعا ، و باتوا لا يفارقونه لحظة واحدة ، يتمسكون بمجالسته والاستماع إلى حديثه المنساب بعذوبة وهدوء ، بينما يتأملون جسده النحيل الشاحب ، وذقنه البيضاء المسترسلة قطنا على قمبازه الناصع ، فعادت الحياة إلى سهرات القصر الليلية بعد فتور وانقطاع ؛ الأمر الذي كان سيسعد العم حبيب بشكل باهر لو تمّ في زمن أبكر ،إلا أن استغراقه في مشروع الانفراد بالقصر ،جعله يستقبل الزوار ببرودة ،و يعامل الشيخ بلا مبالاة ، كأنه يقول : تأخرت يا شيخنا في لمّ الشمل ؛ ووجد نفسه يتعاون لحدود التآمر مع ابن شقيقه المرحوم كامل آغا ، ليعلن في يوم اختفى فيه الشيخ سعيد : دعاه العميد مالك لزيارة العاصمة ، ثم شرع في اليوم التالي بنقل أمتعة الشيخ من مكان إقامته في القصر ، إلى غرفة تفتقد الضوء والإطلالة ، ينفتح بابها مباشرة على زقاق صاعد إلى مقام أحد الأولياء عبر بيادر القرية ، و لتعويضه عن (المضلّة ) أهداه كرسي " ديبو " الضخم ، بعد أن أضاف إليها مسندين جانبيين وآخر خلفي ليتناسب مع جسد الشيخ الضئيل ، مضيفا للغرفة كل وسائل الراحة و الاستقرار الممكنة ، فارضا الواقع الجديد ،مستغفرا ربه مرات عديدة ،مرددا ما أمكنه من آيات الغفران والرحمة .
لم يكن أحد في التربة أو القرى المجاورة يعرف للشيخ سعيد زوجة أو ولدا ، و لا أبا أو أما ، و أكثر المعمرين يؤكدون : هذا هو شكلا وهيبة منذ ولدنا ؛ ومع هذا فقد ترك عليه الزمن عليه آثار رجل ستيني ، وبقيت ملامح وقار تتنازع السلطة مع تجعدات تغزو الوجه الذي حافظ على اللون الأبيض الشاحب رغم الشمس التي ما فتئ يتعرض لها مذ كان صغيرا ، وتعبير ( كان صغيرا ) مجازي فلم يستطع أحد تحديد هذا الوقت ، حتى روايته التي لا تتوقف عن حياته ، أفلتت ميلاده وطفولته خارج الزمن ، وما عرفه الجميع : أنه كان ملاحقا باستمرار ، ما يكاد يستقر في مكان حتى تهاجمه الدوريات الباحثة عنه ، وكثيرا ما أشيع مقتله ، إلا أنه سرعان ما يظهر في بطن واد مقفر ، أو على رأس جبل موحش ، ليبدأ من جديد ، يداوي جروحه ، ويطمئن لعزلة المنطقة ، ويتفقد من بقي من مواليه ، لينطلق ثانية معهم ، مستعيدا شبابه وزمنه ، منقطعا للصلاة و العبادة والصيام الطويل والأحاديث التي لا تخرج عن: الدين والاستغراق في الله وسيرته الشخصية التي اكتست ملامح تاريخ متجذّر ،عايش من خلاله أر سطو و أفلاطون و أنبياء التوحيد ؛ بل أن بعض الأحداث أكدت تواجده في أمكنة متباعدة خلال نفس الوقت ، ولم يكن هذا ليشغل أحدا ، بل أنه كان يبدو الحالة الطبيعية لمريديه .
كثيرا ما استغرقت الشيخ طمأنينة الذكريات مع " آه " طويلة : ....ما أحلى الأيام الماضيات ؛ وهو يسهم بنظراته ، كأنه يرى الماضي السحيق ويعايش شبابه وحيويته ، مقدرته وحركته ... ثم تأبى الملامح إلا أن تتعكّر بعد صفاء ،فتنطلق تنهيدة حرّى ،ليعبر بعدها : عن طعنة سيف اخترقت ظهره أثناء الصلاة ، أو السم المدسوس بعشائه أو ضربة مقصلة تفصل الرأس الأشهب ، أو بيداء قاحلة تجفف الأعضاء حتى التذري ؛ مستفيضا بالحادثة التي أفقدته سمعه ، عندما تسلق " حجاب السنديانة " هاربا و مختبئا ، واستظل الشجرة الوحيدة منقطعا لعبادته ، فما شعر إلا والأرض تهتز أو تدور ، وكأن الليل والنهار يتعاقبان بسرعة الرمش ، وهو يحزم جذع السنديانة بيديه ، وتخرج من أضلاعه صرخة مستجيرة لا إرادية : يا الله ، حتى استقر " الحجاب " في بطن الوادي قاطعا مئات الأمتار تدحرجا ، وفي منطقة ارتكازه نبقت عين ماء ملأت حفرة السقوط ، كما ترك "الحجاب " عند السفح ، أسفل القرية ، ينبوعا صغيرا ، لازال يظهر ويغيب ليذكّر بالحادثة : ( ومن وقتها لاأسمع شيئا سوى نداء " يا الله " يتردد في ذهني بأشكال مختلفة : مستجيرة ، خائفة ، تائبة أو متوكلة ) ؛ ثم يتابع فيض الذاكرة المزدحمة ، بالرغم من إجادته القراءة والكتابة ، إلا أنه لم يعتمد مخطوطة ، بل حرّم كتابة مشافهته ، متذرّعا : الذاكرة أكثر حرية ونشاطا ، أما القرطاس فقد يتعرض للتزوير و التحريف مع ضمانة مصداقيته ، وتوكيدا لمقولته هذه كان لا يحاور إلا الموثوقين ، أو من يقدمهم موثوقون ، فالحوار مع الجهلة خطيئة لا تغتفر . وكان هذا حكما نهائيا تعوده المريدون والموالون ، وانصاعوا له ، كما فعلوا مع كل ما نهى عنه ، أو ذكر به ، أو حضّ عليه ، حتى لو تم ذلك في الواقع أو عبر أحلامهم ، فلا يجرؤ أحد على مخالفة أو نكران ، خاصة كبار السن ... وكان هذا الاحترام يتبدى تبجيلا لدى الشباب ، وخوفا عند الصغار ، فمكانة الشيخ أعلى من السؤال .
لم يتمتع الشيخ سعيد في العاصمة ، بالرغم من كون العميد مالك من الموثوقين الذين يطمئن للتعايش معهم ، إلا أن بهرجة الألوان وصخب الحركة وروائح المختبرات أفقدته التركيز والرغبة ، أضف إلى ذلك تعدد الزيارات و اللقاءات والفحوصات ، مع الصدمة الكبرى عند عودته إلى القرية ليجد نفسه أمام الأمر الواقع بتبديل مسكنه ، فكان متكدرا لدرجة أنه أحجم عن أي رد فعل ، بل استسلم بالطريقة ذاتها التي سلم بها جسده للآخرين منذ أشهر ، لكن يوم العودة هذا بات صدعا في حياته ، إذ بدأت صحته تسوء بشكل ملحوظ ؛ ومع أن البعض اعتبر : الإقامة الجديدة هي السبب ، إلا أن الأكثرية أكدت مسؤولية زيارة المدينة عن تدهوره الصحي ، فقد تم الاستيلاء على جسده هناك ، بغية الكشف عن سر العمر المديد ، و معرفة حالته بعد هذه السنوات الطويلة التي يقدرها البعض بالآلاف ، مما أثار دهشة الأطباء ، فأكثروا من التحاليل و الخز عات و التخطيط و التصوير الشعاعي ، لتحديد ولادة هذا الجسد العجيب والسليم ، فنجحوا بتذكير جسد الشيخ بالأمراض التي لم يكن يعرفها سابقا ، لدرجة أن بعض أهل القرية ادعى أنه التقط جراثيم المدينة وأمراض المشفى ، أما ذوي النوايا الأكثر سوءا بثوا إشاعة تفضي إلى أن الأطباء حقنوه بمسببات الأمراض لدراسة مناعته ، وكان أعظم ما أصابه نزول غشاوة _ بدت متعمدة _ على عينيه ، قصرت عنها كل العلاجات التالية ، ولما كان التواصل معه لا يتم إلا عبر إشارة متقنة أو كتابة سؤال ، فان الضعف البصري الحاد والمزمن جعل الحوار مستحيلا ، فشخصت عيناه في لحظات ابتهال مديدة ، و لم يعد حديثه إجابة على سؤال ، أو حلا لمعضلة ، أو تدخلا في مسار حدث ، بل بات استرسالا و تداعي خواطر ، مما أفضى إلى ثرثرة لا معنى لها ، أو دعوات متكررة لمن يقدم خدمة عابرة في غرفته الجديدة ، فتعمد أهل القرية حمايته من عيون الصحافة و التلفزيون و اللقاءات بإخفائه تماما ، بل حتى نكران وجوده أصلا .
قيم القصر كان المسؤول الوحيد سابقا عن تأمين متطلبات الشيخ ، حتى أثناء حياة كامل آغا ، والذي استفاد كثيرا من معيشة الشيخ في قصره ليدعم سلطته ، إلا أن معرفة كل ذكور القرية لعادات الشيخ و أسلوب معيشته ، وكيفية قضاءه لليوم ، جعلت من اليسير عليهم الاستمرار بتأمين متطلباته حتى مع وجود حواجز اللغة والرؤية ، فبقعة الشمس تعني التواجد خارجا ، والإفطار المبكر ، أما طعام الغداء فيأتي بعد وقت صلاة الظهر ، والعشاء في وقته كذلك ، بالإضافة للنظافة الشخصية ، وترتيب الغرفة وتهوئتها ، ولم يقتصر أحد بعينه على خدمة بذاتها ، خاصة بعد أن أصاب جسد الشيخ الوهن وآلام المفاصل ، مما أفقده إمكانية المبادرة بالخروج مللا ، أو الدخول بردا ، فقام أول العابرين بحمله من سريره ووضعه على الكرسي الثابت خارجا ، بينما يجتهد مار آخر _ حسبما يرى من حالة الطقس أو غياب الشمس _ بإعادته إلى سريره ، ويوجه الشيخ ذلك السلوك بدعوة مقتضبة بالخير للفاعل ، و مع مرور الزمن تحولت تلك الدعوة إلى همهمة لا تفصح عن رضا أو رفض ، ثم بدا عصيان الهمهمة فكأنه غرق فيصمت أبدي ، ومع افتقاده للحركة الذاتية لم يلاحظ أحد كمية ما تبقى من طعام في صحنه لأن من يحضر وجبة يختلف عن صاحب الوجبة التالية ؛ فبينما كان الوعاء يبقى شبه ممتلئ في الآونة الأخيرة ، إلا أن تطوع مراهق يتيم على ملازمته ، بات الوعاء يبدو فارغا دائما ومغسولا وجافا ، ينتظر الوجبة التالية ، ومع اشتداد البرد وهطول ثلوج غير متوقعة ، لم يلحظ الرجال تغيبه عن الكرسي معظم الوقت أولا ، وغيابه تماما تاليا ، بينما استمر الشاب المعافى بالتنظيف والترتيب والتهوئة ، وشعر الآخرون بالسعادة لوجود الشاب ، فما اعترضوا على مشاركته الشيخ غرفته للنوم ولا على وقوفه على الباب وحيدا يرد السلامات ويتلقى الأحاديث ويدعو للدخول ؛ فالشيخ بات بحاجة لخدمة مستمرة يؤمنها _ عنهم جميعا _ الشاب المتورد صحة ، والممتلئ شبابا و حيوية ...



#نبيل_جديد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكنز


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نبيل جديد - استمرار الهروب_قصة