أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نبيل جديد - الكنز















المزيد.....

الكنز


نبيل جديد

الحوار المتمدن-العدد: 3788 - 2012 / 7 / 14 - 01:06
المحور: الادب والفن
    


...وبإخراج متاع الشيخ سعيد ، استطاع العم حبيب إخلاء القصر من آخر قاطنيه ، فشرع بتنفيذ مخططه التالي ،والذي لم يكن بالإمكان مروره دون اضطراب في مواقيت القرية التي امتطت صهوة الجبل ،وتوزعت بيادرها القمة ناعمة مستديرة كأنها أرغفة خبز نثرت لتبترد ،ثم انسكبت بيوتها على السفح الغربي متلاصقة كعنقود عنب ، في محاولة منها لإمساك الشمس الغاربة في خط البحر الواهي ، الذي يبدو من فرجة جبلين يقودان الوادي إلى نهايته البحرية .
كان العم حبيب مؤقت القرية ،الساعة التي تدق بانتظام ورتابة وعناد ، يحدد بتصرفاته الأعمال ، فيعرف الأهالي اقتراب الفجر عندما يشد إلى حماره الرمادي (الجلالة والشريزة )
وينزل بطن الوادي يملأ (دبليزين) بالماء البارد العذب ، ثم يشق درب الصعود ، دون شعور بثقل السنوات : حفظت الحصى والعثرات ، الأغصان اليابسة والخضراء ، التربة البيضاء والحمراء ، ثمار شجرة التين هذه ، وخرنوبات تلك ، وحبات ( المراب ) المختبئة مـن قاطفيها ....ومع الفجر تماما يصل ساحة القصر عائدا ،فيطلق حماره ، ويصلي ، ثم يقوم بجولة على حواكير التبغ ، يرى حاجتها من فلاحة أو شتل ، تفريع أو قطاف ، تقليب أو قلع ، وعند عودته في الضحى ، يحمل سلة عنب أو تين ، توت أو خرنوب ، يضعها على المصطبة الواسعة بعد نشرها في طبق القش المزركش ليستضيف منها الرائح والغادي ، و يحضر الإفطار ، ثم يباشر أعمال النظافة والترتيب ، ليتحسر على أيام المساعدين والمتطوعين وعمال السخرة : كانت أيام تستدعي الكثرة ، ولا يشبهها إلا حالات صيفية نادرة يأتي بها أولاد شقيقه وأطفالهم ،عدة ليال تحيا فيها الأيام الغابرات ، وتكتظ السهرات بطالبي المعونة من العميد مالك ساكن العاصمة ، أو المهندس محمد قاطن مركز المحافظة ؛ أما الآن فتتأثر _ معظم الأوقات _ بالزمن وخلو القصر من سكانه ، وهذا يزيد واجباته من تحضير للغداء ، وتنظيف الغرف ، ونثر الحبوب للحمام والدجاج ... والانتباه إلى حالة بعض الخرفان والعجول والأبقار وملاحقة ( شك ) أوراق التبغ ، وتعليقها وتقليبها ونقلها ، ثم قبيل المغرب يصف القناديل بأقفاصها الزجاجية إلى جانبه ، يحضّر قماش التنظيف وقطع القماش اللازمة ، يتربع الأرض ، يخرج القناديل من أقفاصها ، يفرك الزوايا النحاسية مزيلا بقايا الفراشات الميتة ، وينظف الأقفال الصغيرة بملح الليمون ، يدعك حلقات التعليق جيدا ، ثم يمسح ألواح البلور بقطعة قماش رطبة ، ويجففها بالورق ، ويلمعها بجلد غزال يحتفظ به منذ سنوات ؛ يرفع القفص مواجهة الشمس الحمراء ، يرقبه جيدا ، يزفر بقوة على أحد الألواح معيدا دلكه ومسحه وتجفيفه ؛ يضع القفص جانبا ، ويتناول حبابة القنديل البلورية الرقيقة والهشة محاذرا ، وبحرص يحرك قطعة قماش ملفوفة على ( مسلّة ) داخلها مزيلا الهباب ، ينفخ فيها ويمسحها ، مرة ومرة ، حتى لتكاد تذوب وتختفي من فرط الشفافية ، يقص الفتيل ، يضيف الكاز ، يوزع القناديل في أرجاء المصطبة معلقة في أماكنها التي اعتادتها ؛ يصف الكراسي متلاصقة بالقرب من حافة المضلّة ، وفي صدر المجلس يضع الطراريح ، ويزيد عدد المساند في المكان المخصص لكامل آغا ، ثم يتربع بجانبه ليتفحص إبريق الشاي الأزرق الضخم ، والكؤوس المصفوفة والمقلوبة على طبق القش المستدير والمتسع ؛ يصلي ؛ يزدرد لقيمات العشاء ؛ يتخفف من أثقال النهار ، ويختتم الأعمال المؤجلة ؛ يشعل القناديل و يعير اللهب بدقة محترف معلنا الدعوة إلى السهرة ... في أيام الكثرة سرعان ما تمتلئ المضلّة بالرواد ، بل و تمتد حلقات صغيرة بعيدا عن الإضاءة _ تحت السنديانة _ لمجموعات من المراهقين ، يدفعها الفضول لسماع الأحاديث والأخبار ، وبعض الأغاني والأراجيز ، وقد يشتركون بالمساجلات الغنائية عبر مطربهم الصغير سمير ، والذي غالبا ما كان ينتصر لولا مسحة الخجل التي جعلته هدفا سهلا لأي مطرب يدفعه الغضب و خشية الهزيمة ليرد بقصائد تحمل إيحاءات البذاءة فينسحب سمير إلى صمت الليل .
في وقت لاحق لأيام الكثرة ، وبعد موت كامل آغا ، وانشغال البقية بأعمالهم في عدة مدن ، لم يعد يعكر صمت ليالي الصيف سوى صرخات الأولاد الصغار ، يتراكضون عبر الحواكير المقلوعة ،يمارسون ألعاب : ( جيت ) و ( الضبعة ) والاستغماية ، ثم سرعان ما تتلاشى هذه الأصوات ، بينما العم حبيب يرتشف الشاي وحيدا على المضلّة المنارة ، تحت شجرة التوت ، يسهو مع الأوراق الخضراء ، ويحاول تمييز زول رجل يتحرك في العتمة ، بينما تصطف الكراسي تتذكر الأجساد ، وتترامى المساند على الأرض عطشى للمتكئين ؛ هنا مجلس كامل آغا بهيبته صاحب الاسم الوحيد الذي لم يقبل التصغير ،يليه مطرحه الخاص ، و إن كان شقيقه المرحوم كامل يناديه أحيانا : حبيّب ، غاضبا ، أو متحبّبا ، لكن الآخرين لا يجرؤ ون على ملامسة ذلك النداء ، إلا سرّا ، عدا زريقة زوجة المرحوم ، ... وهناك مقابلا له كرسي ديبو الذي صنع خصيصا ليتبع جسده ، والذي لا يمكن خلو السهرة منه لروحه الطريفة الحاضرة ، ونكتته اللاذعة ، يجاوره كرسي " سليطين " مهرب التبغ الوحيد ، وحكاياته عن المغامرات ، والهرب ، والدروب التي لا تخطر على بال الشياطين ، وأساليب المراوغة ، بل والمقاومة المسلحة لرجال ( الورديان ) ، ثم موقع الشيخ سعيد ، ومكان المختار الذي يعمل حدّادا وبنّاء" ، كما أنه صهر كامل آغا ... في الزاوية وتحت الربابة يتربع مطرب السهرات حميدان ، ويقابله بعيدا من يحضر لمساجلته ... ويكبو العم حبيب ، يغالب النعاس وحيدا ، لكنه يصر على المضي دوما في سهرته حتى وقتها المعلوم ، فهذه سلطته التي اكتسبها حتى على حياة كامل آغا : متى تبدأ السهرات ، ومتى تنتهي ، متى تكون خارجا ، ومتى تكون في المضافة ضمن القصر ، وعدد القناديل المضاءة في المضلّة ؛ أو في الطابق الثاني للضيوف والزوار ، أين يضع ( أكواز ) المياه ، وموعد الشاي والقهوة ، ومن يشرب هذه أو تلك ؛ لقد اعتاد على ممارسة ذلك غريزيا ، دون تفكير أو تحليل ؛ تكفيه نظرة متأنية إلى السماء والأفق وشجرة التوت ، ليحدد ما يريد ، وفي هذه السهرة ، كأنه غفا ، فرأى أكياس الذهب تدخل القصر ولا تخرج ، رأى النقود تتراكم بعيدا عن الأنظار ، ورأى وجها مألوفا ، فاستيقظ جافلا على نداء " ماريا " له ، بصوت خافت ، كانت همسة كالملامسة ، تعوّذ وحوقل وبسمل ، مبعدا " ماريا " _ التي كان من الممكن أن يتزوجها _ عن ذهنه ، و تذكر قسمه : لن أفكر فيها مطلقا ؛ فاسترسل يرقب الفراشات وهي تحترق بضوء القنديل وتهوي ، تصطدم بزجاج القفص ، لكنها تصر على الدخول حتى تحترق بضوء القنديل وتهوي ، نعم تحترق بضوء القنديل وتهوي ... ولمّا لم يكن معتادا على التفكير ، ولا ضبط ذهنه ، انقاد بسرعة لحلم سطع في داخله كنافذة مضيئة : لم أكن شريكا ولا أمين أسرار ، بل مرابعا حقيقيا ؛ صحيح أنه شقيق الآغا ، ولكن أي مرابع يستطيع الحلول محله ؛ يحفظ الأسرار ؟.. هه .. أية أسرار ؟ .. ومن يجرؤ البوح ؟ .. يجهز السهرة ؟.. يشرف على الطعام ؟ .. يحضر الحفلات ؟ ..يمسك بعض الحسابات ؟ ..يرافق الآغا بعض سفراته : سيرا على الأقدام ، خلف حصانه ؟ .. لماذا ..؟ .. انه الشقيق الذي لا يخون : عدا بعض السقطات في صغره ،كان يسرق قليلا من السمن وبعض الزيت والحبوب لأشقائه الآخرين ... و في النهاية ، ماذا نجم عن خدماته لهذا أو هؤلاء ؟ .. لقمة الطعام ؟ .. النوم .. ؟ .. بعض سلطة جوفاء ؟.. حتى أشقائه و أحفادهم لا ينظرون إليه كقريب بمقدار ما يرون فيه قيما على القصر وحارسا له ، وغدا لقب " العم " مجرد اسم لا يعبر عن درجة قرابة أو صلة دم .. وهكذا أحس تماما أن ما يقبل عليه مبرر بشكل كامل ، و حصوله على كنز الأموال المخفية لن يعادل أجر مجهوده عبر كل السنوات السابقات .
لم يحدث للعم حبيب أبدا أن فكر : ماذا عن الغد ، لذا كانت خطته التي وضعها هي الأولى في حياته ، وصمم على الانتهاء منها بشكل سريع ، قبل اشتداد الصيف وتزايد زوار القصر من سكان المدينة ؛ فتغيرت عاداته تماما ، الأمر الذي أثار الريبة لدى أهالي القرية ، ليس بالعم و إنما بصحته و صفاء ذهنه ، فهو الأكبر سنا _ إذا استثنينا الشيخ سعيد المستثنى أبدا _ بين الباقين على الحياة ، كما أنه دليل القرية ومرشدها ، فلقد اعتادوا على الانقياد خلفه ، من الاستيقاظ حتى مواعيد الزراعة والاصطياف والقطاف ، فاربكهم ذلك ، وأربكتهم ردوده الجافة عن همته و أحواله ؛ فقال أحد الراشدين : من يملك لسانا لا يضيع ؛ أما المتعلمين : في الكتب حل لكل الأسرار ؛ وهكذا توقفوا عن ملاحقته ، وسمحوا له بالعزلة التي طلبها عن طريق الجواب الوحيد على لسانه : لا أعرف .
عندما همّ العم حبيب بالتفتيش بحثا عن الذهب والأموال ، اكتشف لأول مرة كم كان القصر كبيرا ، وغرفه فسيحة ومتلاصقة و متعددة ، تنفتح كلها على ساحة عظيمة تبلطها صفائح حجرية متقاربة ، يشغل الجزء الشمالي منها المضلّة الواسعة : مطيّنة ومدحولة ؛ و نظرا لانحدار الجبل ، فان المضّلة تبرز من الأمام مرتفعة عن سطح الأرض ، فتم تجويفها ، و استعمل قسم غرفا للمؤونة ، وقسم آخر ( أقنان ) دجاج ، أما الجزء الأخير جعل زريبة لنوم الأبقار ... الطابق الثاني ينحسر قليلا ليترك أمامه مجالا لمضلة تستعمل للضيوف والزوار الأكابر ، بينما خلف القصر _ من الشرق _ حاكورة كانت ملعبا لخيول كامل آغا وضيوفه ، واحتلت جزءا منها بمحاذاة جدار المنزل مواقد ضخمة تستعمل في الولائم و الأعياد ، أما التنور فيستند على الغرفة القبلية ، وفي منتصف الساحة تبرز السنديانة العملاقة _ التي كانت معلما للقصر من بعيد _ لتفرش ظلالها على الساحة وأجزاء من القصر و المضلة ، بينما تقوم شجرة توت بتظليل الجزء الآخر من المضلة ؛ وبتعدد الأماكن المشكوك فيها كان عليه وضع أولويات ، تبدأ من غرفة كامل آغا الشخصية في الطابق الثاني، مرورا بغرفتي زوجتيه ، ولا تنتهي بجذع السنديانة الضخم والذي طالما توارى فيه المرحوم ، فأخذ يفتش الملابس و العرازيل والسمندرات ، بحث في قضبان الأسرّة النحاسية و التبّانة ،المخدات والفرش ، الطراريح والمساند ، صندوقي العرس والنمليات ، عنابر الحبوب ودسوت الطبخ ، نكش المواقد ، نقر على السواميك ونحت ما ظنه فراغا ، نبش الأرضيات واستخدم المعول ، تفحص الجدران ومسحها ، طرقها بالأزميل وكشف ما خمّنه مستودعا ، أزال الزوايا ورفع عضادات الأبواب ... لم يهتم بالإصلاح بل اندفع مهووسا ، وكلما أنهى مهمة ازداد تفاؤلا بفكرة جديدة ... نسي الطعام والشراب والدجاج والحمام والأبقار ، فدخلت هذه تبحث في الفوضى عن التبن والحبوب المنثورة والمدلوقة من عنابرها ؛ حتى أنه في لحظة التشقق الأولي لم يسمع شيئا ، ولم يع الطقطقة المتتالية في أرجاء القصر ، ولم ينتبه إلى فزع الحيوانات وفرارها ، ولم يلحق الصراخ عند انهدام كتلة على رأسه ... ثم لم يستطع رؤية أهل القرية يتنادون و يتراكضون نحو الخرابة التي خلفها الانهدام المفاجئ وهم يصرخون : العم حبيب ....



#نبيل_جديد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نبيل جديد - الكنز