|
أسطورة القوانين الوضعية والشرائع السماوية
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
الحوار المتمدن-العدد: 3752 - 2012 / 6 / 8 - 05:07
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
على مدار نحو 12 قرناً، منذ نشأة الخلافة الإسلامية في القرن السابع حتى سقوطها أمام الغزوات الأوروبية في الحرب العالمية الأولى مطلع القرن العشرين، كانت الشريعة الإسلامية هي المرجعية القانونية الوحيدة المنظمة لكافة نواحي حياة الأفراد، المسلمين وغير المسلمين، والمجتمع بشكل عام. هذه الشريعة، مع أنها تنسب في نهاية المطاف إلى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، إلا أنها كانت طوال تلك القرون من اجتهاد ووضع قيادات دينية وسياسية بعينهما مثل الخلفاء الراشدين الأربعة، وصحابة رسول الله، وأئمة مثل الشافعي، بن حنبل، مالك وأبو حنيفة، ومن صقل وشرح وتفسير ما لا يحصى من العلماء والفقهاء غيرهم حتى هذه الأيام. عندما سقطت الخلافة العثمانية، سقطت معها في نفس التوقيت الشريعة الإسلامية بصفتها المرجعية الحاكمة الوحيدة لحركة المجتمع ذو الأغلبية المسلمة، وحل محلها ما يسميه دعاة الشريعة "القانون الوضعي"، قاصدين به الدستور وكافة القوانين المنبثقة عنه، على اعتبار أنها من "وضع" البشر أنفسهم، وليست تنزيل من "السماء" مثل الشريعة الإسلامية. من هنا اصطنع دعاة الدين تمييزاً اسمياً مضللاً بين قوانين "وضعية" وأخرى "سماوية"، على الرغم من أن جوهر ومقصد الاثنين واحد: تيسير وتنظيم حياة البشر داخل حدود جغرافية وسياسية محددة.
في قول آخر، هزيمة الخلافة العثمانية أمام القوى الاستعمارية الغربية مطلع القرن العشرين لم تكن سياسية فقط، بل تجاوزت ذلك لتضيف هزيمة ثقافية وقانونية أيضاً. زوال ستر الخلافة عن البلدان العربية الواحدة تلو الأخرى واصطدامها فجأة بالدول الغربية المتقدمة المستعمرة مثل انجلترا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا وهولندا جعلها ترى وتلمس بنفسها وبسرعة فائقة مدى ما أصابها من جمود وتخلف عن الركب الحضاري العالمي في كافة المجالات سياسية واجتماعية واقتصادية...الخ. منذ تلك اللحظة فصاعداً، اختارت الدول العربية الناشئة لنفسها، بنفسها، أن تأخذ عن نفس هذه الدول الغربية القوية المستعمرة الكثير من أدوات تقدمها وقوتها، حتى لو استمرت في الحرب معها منعاً للاستعمار وطلباً للاستقلال. وكان من ضمن ما أخذته الدول العربية الحالية من مستعمريها الغربيين نظرية وتطبيق الدولة الوطنية، التي أقامتها على ومن أطلال الخلافة العثمانية المنقرضة. وكما توارت الخلافة آخذة معها الشريعة الإسلامية، السماوية، أطلت الدولة الوطنية على المشهد وفي كنفها الدستور والقانون الوضعي. من ذلك التاريخ، الفرد المسلم أصبحت له مرجعيتين متناقضتين يعيش بقلبه مع وحدة وبعقله مع الأخرى: الشريعة السماوية القديمة، دستور الخلافة الإسلامية التاريخية؛ والدستور الوضعي الحديث، الحاكم والمرجعية للدولة الوطنية، العلمانية المدنية.
الشريعة الإسلامية هي الوجه الآخر للخلافة الإسلامية كنظام للحكم؛ لا وجود للشريعة الإسلامية كما نشأت منذ النبي والخلفاء الراشدين وتطورت على أيدي الأئمة والعلماء والفقهاء والعلماء والمفكرين الإسلاميين إلى هذا اليوم دون وجود الخلافة الإسلامية كنظام سياسي يطبق ويوجه تلك الشريعة السماوية ذاتها. إذا كانت الشريعة الإسلامية هي الماء، لابد أن تكون لها قناة تمشي فيها حتى تصل الناس ويرتوون بها؛ الخلافة الإسلامية كانت قناتها الوحيدة، دونها تبعثرت الشريعة وضاعت فوق بحار من الرمال بلا حدود أو شطئآن. في قول آخر، حتى لو كان البعض يدعي أن هذه الشريعة إلهية ومنزلة من السماء وصالحة لكل زمان ومكان، لكن المؤكد أنها لا تساوي الكثير ولا يلتفت إليها أصلاً في غياب النظام السياسي البشري الذي نشأت وتأصلت تحته- الخلافة الإسلامية. حتى لو كان مصدرها إلهي، لكن المنتفع الوحيد بها هو الإنسان؛ وإذا لم يعرها اهتمامه وينتفع بها، تحولت إلى إيديولوجيا وثقافة عتيقة وباهتة أكثر منها ممارسة فعلية متجددة وأسلوب حياة. الشريعة والخلافة الإسلامية وجهان لعملة واحدة، ولدا وعاشا وسقطا واندثرا معاً.
النقطة التي أريد التأكيد عليها هنا هي وجود نظامين سياسيين خبرتهما وعاشتهما المنطقة العربية: نظام الخلافة القديم متلازماً بالشريعة الإسلامية، وقد سقط واندثر؛ ونظام الدولة الوطنية المعاصر متلازماً بالدستور الوضعي ولا يزال حي ومتطور في أغلب دول المنطقة، رغم تكاثر المتربصين به هذه الأيام. يجب التنويه أن لا أحد اضطر أبناء المنطقة في حينه سوى أنفسهم إلى التخلي عن الخلافة وشريعتها السماوية، وتبني الدولة الوطنية ودستورها الوضعي؛ إن كان ثمة ما اضطرهم إلى ذلك، لم يكن أكثر من ضعفهم وتخلفهم أمام بقية دول العالم من حولهم. في قول آخر، أبناء المنطقة في ذلك الزمان خلصوا إلى أن نظامهم السياسي القديم- الخلافة- ومنظومتهم الفكرية القديمة-الشريعة الإسلامية- لم تعد قادرة على المواكبة والمنافسة وكانت نتيجتها تسليمهم فريسة سائغة سهلة أمام كل غاصب ومستعمر. وخلال الصدام بمن هم أقوى وأكثر منهم تقدماً، عرفوا أن للقوة والتقدم أدوات ووسائل، ولم يترددوا في الأخذ بها وتبنيها، وفي مقدمتها الدولة الوطنية كنظام سياسي والدستور الوضعي كأرضية ومرجعية وحيدة لها.
الدولة الوطنية بنيت على الدستور والقوانين البشرية، ولا تعترف بغيرها مرجعية لها. أما هؤلاء الذين يريدون دولة وطنية (مدنية) بمرجعية الشريعة الإسلامية، إنكم قطعاً تقصدون خلافة إسلامية، لكنكم ربما تخافون من أن يستهزأ بكم أحد: "صحي النوم، الخلافة الإسلامية ماتت وشبعت موت من زمان!"
#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السيادة أين، للدستور، أم الشريعة؟
-
رحمة الله عليك يا مبارك، كيف تعدمون ميتاً؟!
-
في مصر، صراع وجودي بين الله والإنسان
-
شفيق ومرسي، بالكرسي...إلى الجحيم
المزيد.....
-
قطر تدين بشدة اقتحام مستوطنين باحات المسجد الأقصى
-
-العدل والإحسان- المغربية: لا يُردع العدو إلا بالقوة.. وغزة
...
-
وفاة معتقل فلسطيني من الضفة الغربية داخل سجن إسرائيلي
-
الخارجية الإيرانية تدين تدنيس المسجد الأقصى
-
شاهد/حاخام صهيوني يصدر فتوى بقتل أطفال غزة جوعًا: -لا رحمة ع
...
-
كاتبة إسرائيلية: من يتجاهل مجاعة غزة ينتهك التعاليم اليهودية
...
-
عاجل | بوليتيكو عن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود أولم
...
-
منظمة التعاون الإسلامي تدين اقتحام المتطرف بن غفير باحات الم
...
-
البرلمان العربي يدين اقتحام المستعمرين بقيادة بن غفير المسجد
...
-
منظمة التعاون الإسلامي تدين اقتحام -بن غفير- باحات المسجد ال
...
المزيد.....
-
علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب
/ حسين العراقي
-
المثقف العربي بين النظام و بنية النظام
/ أحمد التاوتي
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
المزيد.....
|